الفصل السابع عشر | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الثامن عشر. الشاعر يعود من الأسر، وما ترتّب من ذلك على حاجي بابا المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل التاسع عشر |
الفصل الثامن عشر. الشاعر يعود من الأسر، وما ترتّب من ذلك على حاجي بابا
سلكت طريقي نحو بيت الشاعر آملاً بأن أعرف شيئاً من أخباره. ومن رأس الشارع رأيت حشداً متجمعاً عند باب بيته، فعرفت من الناس أنه وصل بالكاد ومرّ بطقس العودة إلى البيت إذ دخل إليه من سقفه لا من بابه، كما هي العادة عندما يرجع رجل كان يعتقد أنه قد مات إلى بيته وهو حي يرزق.
انطلقت أشق سبيلي عبر الحشد وتوجهت مباشرةً إلى الغرفة التي كان الشاعر يجلس فيها، فهنأته على عودته وحمدت الله على سلامته وأنا في غاية من السرور. لم يتعرف علي، وحتى بعد أن شرحت له من أنا لم يصدق إلا بصعوبة أن هذا الرجل الوسيم هو نفس ذاك الهمجي القذر ذو الملابس البالية الذي عرفه عند التركمان.
كان الغرفة تمتلئ بكل ألوان الناس، بعضهم يفرح لعودته وبعضهم الآخر تملؤهم الخيبة والإحباط. وبين هؤلاء، ممن أكثر عليه بالإطراء والتهاني، كان الميرزا فضل الذي سماه الشاه ليحل محل الشاعر في البلاط، والذي بقي يردد «مكانك بقي خالياً، والآن اكتحلت عيوننا» ما دام جالساً في القاعة. ثم سُمِعت ضجة كبيرة وانفتحت الأبواب وأعلن عن وصول مراسل من الشاه أمره بالمثول بين يدي جلالته، فانطلق وهو بملابس وحذاء السفر والغبار يغطي رأسه.
وهنا انفضّ الحضور فغادرت المنزل مصمماً على العودة في اليوم التالي؛ وعندما كنت أجتاز الباحة صادفت الناظر مقلوب الوجه. لم يكن يبدو أنه بين الفرحين. وقلت له: «بالله عليك! أترى أن كلامي كان حقاً، والخان حي؟»
فأجابني وهو يتنهد: «الحق معك، إنه حي؛ وأطال الله في عمره! الله أكبر! وإنا لله وإنا إليه راجعون!» وأردف هذا بعبارات مماثلة ثم تركني وعلامات الهم والشقاء تبدو عليه.
قضيت ما بقي من النهار وأنا أتسكع في الشوارع وأبني قصوراً في الهواء. تجولت في الأسواق وذهبت إلى المساجد وتسكعت بين المتسكعين الذين يكثرون عند باب قصر الشاه. وكان خبر اليوم هو عودة الشاعر والاستقبال الذي لقاه عند الشاه. وقال البعض أن الشاه، عندما سمع بوصوله قضى بأن هذا مستحيل، وأنه ميت ويجب أن يبقى ميتاً، وكان البعض الآخر يقول أنه الشاه سرّه الخبر للغاية حتى أنه أمر بعشرة تومانات للبشير. أما الحقيقة فكانت كالتالي: كان الشاه مزعوجاً من قيامة الشاعر من الموتى لأنها أفسدت الترتيبات التي أمر بها فيما يتعلق ببيته وممتلكاته؛ إلا أن عسكر الذي كان يعلم مدى ولع الشاه بالشعر، ولا سيما بالمديح، حضّر نفسه للقاء فارتجل قصيدة ألفها بالفعل وهو أسير التركمان، وأنشدها في اللحظة المناسبة، وبذلك استطاع أن يعكس تيار عواطف الشاه الذي كان ضده ليصبح لصالحه تماماً، إذ أمر جلالته بأن يملأ فم الشاعر بالذهب وأنعم عليه بثوب رفيع وأعاد إليه منصبه في البلاط وممتلكاته كافة.
لم أقصِّر أبداً في العودة إلى صديقي بالتهانئ، ولم أفوِّت صباحاً إلا وحضرت الاستقبالات في مضافته. ولما رأيت أنه يعاملني بودٍّ ومحبةٍ أخبرته عن أحوالي وتوسلت إليه أن يعطيني مكاناً في بيته أو أن يزكيني لمعارفه لأخدمهم. لقد اكتشفت أن قلق الناظر من عودة سيده كان يعود إلى خوفه من انكشاف بعض المخالفات التي ارتكبها بحق أمواله، وكنت آمل أن آخذ منصبه يوماً، فأظهرت أعظم اهتمام بمصالح الشاعر وكشفت له كل ما كنت أعرفه عن آثام خادمه، ولكن جهودي لم تتكلل بالنجاح: فإما أن الشاعر كان يعرف قلوب الرجال أفضل مما توقعت، أو أن الناظر استطاع إقناعه ببراءته ويلقي الشبهات عليّ، لا أدري. ولكن الحقيقة كانت أنه بقي في منصبه، أما أنا فبقيت أحضر الاستقبالات.
وأخيراً جاء صباح ناداني عسكر إليه وقال: «يا صديقي، يا حاجي. أنت تعرف مدى الامتنان الذي كنت أكنّه دائماً لك وللطفك إلي عندما كنا سويةً في أسر التركمان، والآن سأردّ لك الجميل. لقد أوصيت بك خير وصية إلى الميرزا أحمق، وهو حكيم باشي، أي كبير أطباء الشاه، وهو بحاجة إلى خادم. ولا شك في أنه، لو نلت رضاه، سيعلمك مهنته فيصبح لديك ما تكسب رزقك منه. ليس عليك إلا أن تأتي إلى حضرته وتقول أنك جئت من عندي، فسيعطيك عملاً في الحال.»
لم يكن عندي أي ميل لمهنة الطبيب، وكنت أحتقر هذه الحرفة بعد ما سمعته عن الطب والأطباء من صاحب الدرويش صفر. ولكن حالي كان بائساً، إذ كنت قد أنفقت آخر دينار في جيبي ومن ثم لم يبق أمامي إلا أن أقبل العمل عند الطبيب. وإذن، انطلقت في الصباح التالي إلى بيته الواقع على مقربة من القصر، ودخلت باحةً مظلمة مهملة فوجدت فيها عدداً من المرضى، بعضهم يجلس القرفصاء سانداً ظهره بالجدار، وبعضهم الآخر يدعمه أصدقاؤه، وآخرون يحملون قوارير في أيديهم بانتظار أن يخرج الطبيب من بيت حريمه ويبدأ باستقبال المرضى. توجهتُ إلى نافذة مفتوحة كان يقف عندها من لا يسمح له بدخول الغرفة فوقفت معهم أنتظر حتى أنادى. وكان في الغرفة عدد من الرجال جاؤوا ليسلموا على الطبيب (فكل رجل يعمل في البلاط يفتح مضافة لاستقبال الناس)، ومن مراقبة هؤلاء أدركت أن الترقي في الحياة يتطلب استغلال كل فرصة للوصول إلى آذان أولي النفوذ. كنت أتذكر المصائب التي توالت علي حتى الآن، وحاولت تقدير الزمن الذي علي أن أمضيه في التذلل والتملق حتى أصل إلى مثل هذه المكانة بنفسي، حين شعرت من الحركة حولي أن الطبيب جلس عند النافذة وبدأ عمله اليومي.
كان الحكيم عجوزاً، غائر العيني حاد الوجنتين خفيف اللحية، وكان في ظهره حدبة، وعند الجلوس كان رأسه يغور بين كتفيه وذقنه يبرز إلى الأمام ويداه على نطاقه ومرفقاه يشكلان مثلثين على جانبيه. كان يطرح أسئلة قصيرة نزقة ويغمغم وهو يستمع إلى الجواب ويبدو عليه أنه يفكر بأي شيء عدا الشخص الماثل أمامه.
وبعد أن استمع الحكيم إلى شكاوى مراجعيه وتبادل بضع كلمات مع الحلقة الصغيرة من مجالسيه نظر إليّ، وبعد أن أخبرته أنني الشخص الذي كلمه الشاعر عنه سمّر عينيه الحادتين الصغيرتين بوجهي لحظةً أو لحظتين ثم طلب مني الانتظار لأنه أراد أن يتكلم معي على انفراد. ومن ثم، قام بعد بضعة دقائق وخرج من الغرفة، ثم دعيت لمقابلته في باحة منفصلة صغيرة محاطة بالجدران من كل جوانبها عدا الجدار الذي تطل عليه الخلوة، أي الغرفة الخاصة، التي كان الطبيب يجلس فيها.