→ فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | مجموع فتاوى ابن تيمية الرسالة العرشية ابن تيمية |
سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز ← |
الرسالة العرشية
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام العالم الرباني والعابد النوراني ابن تيمية الحراني أيده الله تعالى:
ما تقول في العرش هل هو كرى أم لا؟ وإذا كان كريًا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته، فيقصد العلو دون غيره، ولا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو، وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصدًا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها.
وابسط لنا الجواب في ذلك بسطًا شافيًا، يزيل الشبهة ويحقق الحق إن شاء الله أدام الله النفع بكم وبعلومكم آمين.
فأجاب رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذا السؤال بثلاث مقامات:
أحدها:
إنه لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل، لا بدليل شرعي، ولا بدليل عقلي.
وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين، الذين نظروا في علم الهيئة وغيرها من أجزاء الفلسفة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها، مستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة المشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر كرسيه، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن: إن العرش هو: الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقًا وإما أنه ليس وراءه مخلوق.
ثم إن منهم من رأى أن التاسع هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث فيه ما يقدره في الأرض، أو يحدثه في النفس التي زعموا أنها متعلقة به، أو في العقل الذي زعموا أنه الذي صدر عنه هذا الفلك، وربما سماه بعضهم الروح، وربما جعل بعضهم النفس هي: الروح، وربما جعل بعضهم النفس هي: اللوح المحفوظ، كما جعل العقل هو: القلم.
وتارة يجعلون الروح هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر، والنفس المتعلقة به، وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق سبحانه كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان، يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون، إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها، وبينا فسادها في غير هذا الموضع.
ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة، ويكون كاذبًا فيما يدعيه وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليدًا لهم، أو موافقة لهم على طريقتهم الفاسدة، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم.
وقد يتمثل في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفًا، كما يتخيل النصراني التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفًا، وإنما هو تخيل لما اعتقده، وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفسوهم، فتتمثل لهم اعتقاداتهم، فيظنونها كشفًا، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن ما ذكروه من أن العرش هو الفلك التاسع قد يقال: إنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي، ولا شرعي.
أما العقلي: فإن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء آخر، بل ولا قام عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة، والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا، بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه في فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة، على أن الأفلاك مختلفة، حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره.
فأما ما كان موجودًا فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته: فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم.
وكذلك قول القائل: إن حركة التاسع مبدأ الحوادث خطأ، وضلال على أصولهم، فإنهم يقولون: إن الثامن له حركة تخصه بما فيه من الثوابت، ولتلك الحركة قطبان غير قطبي التاسع، وكذلك السابع، والسادس.
وإذا كان لكل فلك حركة تخصه والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية، وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية كانت حركة التاسع جزء السبب، كحركة غيره. فالأشكال الحادثة في الفلك لمقارنة الكوكب الكوكب، في درجة واحدة. ومقابلته له إذا كان بينهما نصف الفلك، وهو مائة وثمانون درجة. وتثليثه له إذا كان بينهما ثلث الفلك وهو مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما ربعه تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما سدس الفلك ستون درجة، وأمثال ذلك من الأشكال إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عين الأخرى، إذ حركة الثامن التي تخصه ليست عين حركة التاسع، وإن كان تابعًا له في الحركة الكلية، كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها.
وكذلك حركة السابع التي تخصه، ليست عن التاسع ولا عن الثامن، وكذلك سائر الأفلاك. فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك، فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع ! كما زعمه من ظن أن العرش كثيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء، لا اختلاف فيه أصلا، فكيف يكون سببًا لأمور مختلفة، لا باعتبار القوابل وأسباب أخر؟
ولكن هم قوم ضالون، يجعلونه مع هذا ثلاثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى، لا باختلاف القوابل، كمن يجىء إلى ماء واحد فيجعل لبعض جزئيه من الأثر ما يخالف الآخر، لا بحسب القوابل؛ بل يجعل أحد أجزائه مسخنًا، والآخر مبردًا، والآخر مسعدًا، والآخر مشقيًا، وهذا مما يعلمون هم وكل عاقل أنه باطل وضلال.
وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل هو أن العرش هو الفلك التاسع رجمًا بالغيب، وقولا بلا علم.
هذا كله بتقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة، إذ في ذلك من النزاع والاضطراب، وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير، وأيضا: فالأفلاك في أشكالها، وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد؛ فنسبة السابع إلى السادس، كنسبة السادس إلى الخامس، وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع.
وأما العرش فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}الآية [1]، وقال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[2]، فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون ويستغفرون للمؤمنين.
ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها، فحكمه حكم نظيره، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}الآية [3].
فذكر هنا أن الملائكة تحف من حول العرش، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله، فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}
وأيضا، فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}[4].
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن عمران بن حُصَيْن عن النبي ﷺ أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض»، وفي رواية له: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء» وثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وهو سبحانه وتعالى متمدح بأنه ذو العرش، كقوله سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا}[5]، وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[6]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[7]، وقد قرئ {الْمَجِيدُ} بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفة للعرش. وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ّ} [8]، فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم، وقال تعالى: {فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[9]، فوصفه بأنه كريم أيضا.
وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم»، فوصفه في الحديث بأنه عظيم، وكريم أيضا.
فقول القائل المنازع: إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، لو كان العرش من جنس الأفلاك، لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر، كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء، وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء، وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر، كما تمتاز السماء العليا عن الدنيا، بل نسبة السماء إلى الهواء، ونسبة الهواء إلى الماء والأرض. كنسبة فلك إلى فلك، ومع هذا فلم يخص واحدًا من هذه الأجناس عما يليه بالذكر، ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة.
وقد علم أنه ليس سببًا لذواتها ولا لحركاتها، بل لها حركات تخصها، فلا يجوز أن يقال: حركته هي سبب الحوادث، بل إن كانت حركة الأفلاك سببًا للحوادث، فحركات غيره التي تخصه أكثر، ولا يلزم من كونه محيطًا بها أن يكون أعظم من مجموعها، إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذا كان متقاربًا، فمجموع الداخل أعظم من المحيط، بل قد يكون بقدره أضعافًا، بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر، لكن حركته تشملها كلها.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث، أن النبي ﷺ دخل عليها، وكانت تسبح بالحصى من صلاة الصبح إلى وقت الضحى، فقال: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضي نفسه، سبحان الله مداد كلماته»، فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون: إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل، بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به، كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ قد لُطِمَ وجهه، فقال: يا محمد، رجل من أصحابك لطم وجهي، فقال النبي ﷺ: «ادعوه» فدعوه، فقال: «لم لطمت وجهه؟» فقال: يا رسول الله، إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر ! فقلت: يا خبيث ! وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي ﷺ: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذًا بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته» فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم، وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق، والأقوال متشابهة في هذا الباب.
وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» قال: فقال رجل لجابر: إن البراء يقول: اهتز السرير، قال: إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن، سمعت نبي الله ﷺ يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي ﷺ قال وجنازة سعد موضوعة: «اهتز لها عرش الرحمن».
وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم، فلابد له من دليل على ما قال، كما ذكره أبو الحسن الطبري وغيره، مع أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها». قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة».
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة» فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل، قال: «وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
وفي صحيح البخاري: أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سُرَاقة أتت النبي ﷺ فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سَهْمُ غَرْبٍ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال: «يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» [10].
فهذا قد بين في الحديث الأول: أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها. والحديث الثاني: يوافقه في وصف الدرج المائة. والحديث الثالث: يوافقه في أن الفردوس أعلاها.
وإذا كان العرش فوق الفردوس، فلقائل أن يقول: إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لا يعلم بالهيئة، إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة، وعندهم أن التاسع ملاصق للثامن، فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس، الذي هو أوسط الجنة وأعلاها.
وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي»ثم قال: «يا أبا ذر، ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحَلَقَة ملقاة بأرض فَلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة »، والحديث له طرق، وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وأحمد في المسند وغيرهما.
وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: «ويحك ! أتدري ما تقول؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة » وفي لفظ: «وإن عرشه فوق سمواته، وسمواته فوق أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة».
وهذا الحديث وإن دل على التقبيب، وكذلك قوله عن الفردوس أنها أوسط الجنة وأعلاها، مع قوله: إن سقفها عرش الرحمن، وأن فوقها عرش الرحمن، والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير، فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل: إنه محيط بالأفلاك، أو قال: إنه فوقها وليس محيطًا بها، كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض، وإن لم يكن محيطًا بذلك.
وقد قال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو، ولا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل.
ولفظ الفلك يدل على الاستدارة مطلقًا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[11]، وقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [12]، يقتضى أنها في فلك مستدير مطلقًا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: في فلكة مثل فلكة المغزل.
وأما لفظ القبة، فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلو، كالقبة الموضوعة على الأرض.
وقد قال بعضهم: إن الأفلاك غير السموات، لكن رد عليه غيره هذا القول، بأن الله تعالى قال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [13]، فأخبر أنه جعل القمر فيهن، وقد أخبر أنه في الفلك، وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا.
وتحقيق الأمر فيه، وبيان أن ما علم بالحساب علما صحيحًا لا ينافى ما جاء به السمع، وإن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافى معقولا صحيحًا، إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع، فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس، حيث يرون ما يقال: إنه معلوم بالعقل، مخالفًا لما يقال: إنه معلوم بالسمع، فأوجب ذلك إن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه، حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إلى أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة، لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك الكلام من نصر الشريعة، وكان ما جحدوه معلومًا بالأدلة الشرعية أيضا.
وأما المتفلسفة وأتباعهم، فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات، ولا يعلمون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحابًا، وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت، ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم، لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة، والمنافع المختلفة، على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب.
وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء، أو البخار منعقدًا سحابًا مقدرًا بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به؟ وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا؟ وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر، أو تمطر مطرًا لا يغنيها كأرض مصر إذ كان المطر القليل لا يكفيها، والكثير يهدم أبنيتها قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}[14].
وكذلك السحاب المتحرك، وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية. وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه فيطلب عوده إليه، أو إرادية، وهي الأصل، فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى، التي هي {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}[15]، و{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[16]، وغير ذلك مما أخبر الله به عن الملائكة، وفي المعقول ما يصدق ذلك.
فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا.
والمقصود هنا أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير، فيكون الكلام في الجواب مبنيًا على حجج علمية لا تقليدية، ولا مسلمة، وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير كما سنوضحه لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع وإن كنا نعلم ذلك لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير، وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا؛ فإن الجواب إذا كان حاصلا على كل تقدير كان أحسن وأوجز.
المقام الثاني:
أن يقال: العرش سواء كان هو الفلك التاسع، أو جسمًا محيطًا بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[17].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ».
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟» [18].
وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مِقْسَم: أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي ﷺ قال: «يأخذ الله سمواته وأرضه بيده، ويقول: أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها: أنا الملك»، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله ﷺ؟.
وفي لفظ قال: رأيت رسول الله ﷺ على المنبر وهو يقول: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئًا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟» وفي لفظ: «أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» ويميل رسول الله ﷺ على يمينه، وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله ﷺ؟.
والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضًا، وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}الآية [19]. قال: «مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة » وفي لفظ: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد!».
وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده، وفي لفظ عنه: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم»، وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي ﷺ رجل من اليهود فقال: يا محمد، إن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: «{وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}» الآية [20].
ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى، أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.
قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجَشُون الإمام نظير مالك في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خالفها ومن أول كلامه قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلفًا، فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه، بأن قال: لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمت الرب عما لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[21]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[22]، وقد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينضرون.
إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة، رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدًا. وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله ﷺ: «هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟»قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم ترون ربكم كذلك».
وقال رسول الله ﷺ: «لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط، قط، وينزوي بعضها إلى بعض »، وقال لثابت بن قيس: «قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة»، وقال فيما بلغنا عنه: «إن الله يضحك من أزْلِكُم وقنوطكم وسرعة إجابتكم»، وقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: «نعم» قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. في أشباه لهذا مما لم نحصه.
وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[23]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[24]، وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}[25]، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[26]، وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [27].
فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ماسواه، لا هذا، ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف انتهى. وإذا كان كذلك، فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة، وهذا قبضه لها ورميه بها، وإنما بين لنا من عظمته وصف المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا.
ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك في يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها.
ومن المعلوم أن الواحد منا ولله المثل الأعلى إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته، فهو في الحالتين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أو قيل: إنه فوقها وليس محيطًا بها، كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك.
فعلى التقديرين، يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت، وتمام هذا ببيان:
المقام الثالث:
وهو أن نقول: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطًا بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا، فإن كان الأول، فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هو المركز، وليس للأفلاك إلاجهتان: العلو والسفل فقط.
وأما الجهات الست فهي الحيوان، فإن له ست جوانب، يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذى يمينه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا.
لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات، والجبال والأنهار الجارية.
فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحدًا لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبى، ولا بالعكس.
وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه.
وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض، أو الفلك أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان، ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة.
واستدارة الأفلاك كما أنه قول أهل الهيئة والحساب فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسن بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[28]، قال ابن عباس: فلكة مثل فلكة المغزل.
والفلك في اللغة: هو المستدير، ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار، وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب، ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها، وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه، وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو، لا من جهاته الباقية أصلا.
ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو، كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.
وأما قول القائل: إذا كان كريًا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته؟ فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدًا يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولايسرة، فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، وقد فطرنا عليها.
فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقًا، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقًا.
وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقى من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعًا في المركز، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك، كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض، لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين:
أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء، أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل: إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا إنه يذهب يمينًا أو شمالا، أو أمامًا أو خلفًا، إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد؛ لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه، وكان الفلك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبًا من غير فائدة.
ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب، فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بمن هو فوق كل شيء دائمًا لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟
وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب، إلى طريق منحرف طويل، والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة، إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها.
الوجه الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز وأن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره، من غير قصد العلو، كان منتهى قصده أجزاء الهواء، فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها.
ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو، كان هذا بمنزلة من يقول: أريد أن أحج من المغرب، فأذهب إلى خراسان، ثم أذهب إلى مكة، بل بمنزلة من يقول: أصعد إلى الأفلاك، فأنزل في الأرض، ثم أصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكنًا في المقدور، لكنه مستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق، لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه، وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوسًا معكوسًا.
وأيضا، فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات، بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر عنه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعًا بين قصدين متناقضين، فلا يكون قصده له تامًا، إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة.
فإن الشخص إذا كان يحب النبي ﷺ محبة تامة ويقصده أو يحب غيره ممن يحب سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة متى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه، بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة مثل: أن يحب ما تكره محبته في الدين، فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده، وعقله ينهاه عن ذلك، فتراه يقصده من طريق بعيد، كما تقول العامة: رجل إلى قدام، ورجل إلى خلف.
وكذلك إذا كان في دينه نقص، وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصدًا لذلك من طريق بعيد متباطئًا في السير، وهذا كله معلوم بالفطرة.
وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك، فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها، وينال به مقصوده إذا كان القصد تامًا.
ولو كان رجل في مكان عال، وآخر يناديه؛ لتوجه إليه وناداه، ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكنًا، لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة، ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه.
وحديث الإدلاء الذي روى من حديث أبي هريرة وأبى ذر رضي الله عنهما قد رواه الترمذي وغيره، من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبى ذر المرفوع، فإن كان ثابتًا فمعناه موافق لهذا، فإن قوله: «لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله » إنما هو تقدير مفروض، أي لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئًا؛ لأنه عال بالذات وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخري، لكن بتقدير فرض الإدلاء، يكون ما ذكر من الجزاء.
فهكذا ما ذكره السائل: إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة. كان هو سبحانه يسمع كلامه، وكان متوجهًا إليه بقلبه، لكن هذا مما تمنع منه الفطرة؛ لأن قصد الشيء القصد التام ينافى قصد ضده، فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافى قصده من أسفل، وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه، يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز، فإن قدر أن الدافع أقوى كان صاعدًا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله، وإنما يسمى هبوطًا باعتبار مافي أذهان المخاطبين أن ما يحاذى أرجلهم يكون هابطا، ويسمى هبوطًا مع تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيًا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل، والدلو، لا إدلاء له، لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان.
فإنه قال: لو أدلى لهبط؛ أي لو فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطًا، وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف، ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب، وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يدلي ولا يتصور أن يهبط على الله شيء لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوطًا عليه.
كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلي جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، أو من جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض، فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر، مع خرق المركز، وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاء ولا هبوطًا.
وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط، فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطًا على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا، والمقصود به بيان إحاطة الخالق سبحانه وتعالى، كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات.
ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [29]. وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله، وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل، وهو أنه حال بذاته في كل مكان، وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
والتحقيق: أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتًا، فإن قوله: «لو أدلى بحبل لهبط» يدل على أنه ليس في المدلى ولا في الحبل، ولا في الدلو ولا في غير ذلك، وإنها تقتضي أنه من تلك الناحية، وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة.
والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة، وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، ومالا نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمة دليله مشكوكَا فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه، حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لم يعلم.
وإذا تبين هذا، فكذلك قاصده يقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه لكنا قاصدين له على هذا التقدير، لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا؛ لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان.
ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب؟ بينا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة، بل يكون هما، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه، فإن تركها لله كتبت له حسنة.
ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز، كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات وهم إصرار. فيوسف عليه السلام هم هما تركه لله فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب.
والذين قالوا: يعاقب بالإرادة، احتجوا بقوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه»، وفي رواية: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه». فهذا أراد إرادة جازمة، وفعل ما يقدر عليه، وإن لم يدرك مطلوبه، فهو بمنزلة امرأة العزيز، فمتى كان القصد جازمًا، لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه من حصول المقصود، فإذا كان قادرًا على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس من بعيد.
فلهذا امتنع في فعل العباد عند ضرورتهم، ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له ألا يتوجهوا إليه إلا توجهًا مستقيمًا، فيتوجهوا إلى العلو دون سائر الجهات؛ لأنه الصراط المستقيم، القريب. وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه، فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد، والسائل المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه، فهذا هذا، والله أعلم.
وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديل الفطرة وتغييرها، قال ﷺ في الحديث المتفق عليه: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمْعَاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟».
وقال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [30]، فجاءت الشريعة في العبادة والدعاء بما يوافق الفطرة، بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم، فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعًا وخالفوا العقل والنقل، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن النبي ﷺ قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، وفي رواية: «إنه أذن أن يبصق في ثوبه».
وفي حديث أبي رزين المشهور، الذي رواه عن النبي ﷺ: لما أخبر النبي ﷺ أنه ما من أحد إلا سيخلوا به ربه. فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد، ونحن جميع؟ فقال: «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله! هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليًا به، فالله أكبر».
ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه إذا قدر أن يخاطبه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه، فهو مستقبل له بوجهه مع كونه فوقه، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له، وإن كان ذلك ممكنًا، وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته، كما يفعل من ليس مقصوده التوجه إلى شخص بخطاب، فيعرض عنه بوجهه ويخاطب غيره، ليسمع هو الخطاب، فأما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه، فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل، كما إذا قدر أنه يخطاب القمر.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم»، واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى أحمد عن محمد بن سيرين: أن النبي ﷺ كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [31] فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده، فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة؛ لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع وهو الذل والسكوت لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله بل يناسب حاله الإطراق، وغض بصره أمامه.
وليس نهى المصلي عن رفع بصره في الصلاة ردًا على أهل الإثبات الذين يقولون: إنه على العرش، كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر، فالجميع سواء، ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى، لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
وأيضا، فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملا لجميع أحوال العبد، وقد قال تعالى: {نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [32]، فليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقًا، وإنما نهى في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [33]، وقال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [34].
وأيضا، فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله، لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات، ولو كان مقصوده أن ينهي الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له ولا مباين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقيض قولهم، وهم يقولون:
إن ظاهر ذلك كفر، فنؤول، أو نفوض، فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره الكفر، وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء، والسلب الذي يزعمون أنه الحق الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم لم ينطق به رسول، ولا نبي، ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين، والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق، بل هو مخالف للحق في الظاهر، بل وحذاقهم يعلمون أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن.
لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن، فلبسوا وكذبوا لمصلحة العامة، فيقال لهم: فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء الفضلاء إن كان ما يزعمونه حقًا؟
وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضا وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم، كما يقال عن عمر: أن النبي ﷺ وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما، وهذا مختلق باتفاق أهل العلم، وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته: أن عندهم علمًا باطنًا يخالف الظاهر الذي عند جمهور الأمة، وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله عنه أنه لم يكن عندهم من النبي ﷺ سر ليس عند الناس، ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة، وفيها: الديات، وفِكَاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر.
ثم إنه من المعلوم أن من جعله الله هاديًا مبلغًا بلسان عربي مبين، إذا كان لا يتكلم قط إلا بما يخالف الحق الباطن الحقيقي، فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان، وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا. والمقصود أن ماجاء عن النبي ﷺ في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضًا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله ﷺ
وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئًا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي ﷺ، ويكون كذبًا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على شيء ولا يكون دالا عليه، كما ذكروه في قوله ﷺ: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه»؛ حيث ظنوا أن هذا وأمثاله يحتاج إلى التأويل، وهذا غلط منهم لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي ﷺ فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر ليس هو من صفات الله، إذ قال: «هو يمين الله في الأرض»، فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا يكون اليد الحقيقية، وقوله: «فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحًا لله ولا مقبلا ليمينه؛ لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله: «فكأنما»، وهي صريحة في التشبيه، وإذا كان اللفظ صريحًا في أنه جعل بمنزلة اليمين، لا أنه نفس اليمين كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين.
فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كرى الشكل، سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع، قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات، وهو العالي عليها من جميع الجوانب، وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش بهذا التقدير إنما يقصد إلى العلو، لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست، بل هو أيضا يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه، كما ضربه النبي ﷺ مثلا من المثل بالقمر ولله المثل الأعلى وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر وهو آية من آيات الله تعالى فالخالق أعلى وأعظم.
وأما إذا قدر أن العرش ليس كرى الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا نتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات.
فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مباينًا لها، فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش، لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة، وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين.
أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريًا والله فوقه، وجب أن يكون الله كريًا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري سواء كان هو التاسع أو غيره لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرا بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة. بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك، في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله ولله المثل الأعلى أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [35].
وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكًا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل، الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.
لقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو، لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، سواء كان محيطًا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريًا، سواء كان الخالق سبحانه محيطًا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا، دون الجهة الأخرى.
فعلى أي تقدير فرض، كان كل من مقدمتي السؤال باطلة، وكان الله تعالى إذا دعوناه، إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك.
وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله أعلم.
هامش
- ↑ [غافر: 7]
- ↑ [الحاقة: 17]
- ↑ [الزمر: 75]
- ↑ [هود: 7]
- ↑ [الإسراء: 24]
- ↑ [غافر: 15، 16]
- ↑ [البروج: 14 16]
- ↑ [المؤمنون: 86، 87]
- ↑ [المؤمنون 116]
- ↑ [وقوله: سَهم غَرْب أي لا يعرف راميه]
- ↑ [الأنبياء: 33]
- ↑ [يس: 40]
- ↑ [نوح: 15، 16]
- ↑ [السجدة: 27]
- ↑ [النازعات: 5]
- ↑ [ الذاريات: 4]
- ↑ [ الزمر: 67]
- ↑ [في المطبوعة تكرر لفظ الحديث عن عبد الله بن عمر، وهو خطأ، لأنه لم يرو في الصحيحين بهذا الإسناد، ولعله ناتج عن اضطراب في الطباعة ولذلك حذفناه]
- ↑ [ الزمر: 67]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [ القيامة: 22، 23]
- ↑ [القمر: 55]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الطور: 48]
- ↑ [طه: 39]
- ↑ [ص: 75]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [ الأنبياء: 33]
- ↑ [الحديد: 3]
- ↑ [الروم: 30]
- ↑ [المؤمنون: 1، 2]
- ↑ [البقرة: 144]
- ↑ [القمر: 7]
- ↑ [الشورى: 45]
- ↑ [الزمر: 67]