الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه

فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه

وقال رحمه الله:

قد كتبت قبل هذا في الجزء الثاني من المرتب: الكلام في قرب العبد من ربه، وذهابه إليه، وقرب الرب من عبده، وتجلي الرب له وظهوره وما يعترف به المتفلسفة من ذلك؛ ثم المتكلمة ثم أهل السنة وأن ما يثبته هؤلاء من الحق يثبته أهل السنة. ثم يثبت أهل السنة أشياء لا يعرفها أهل البدعة؛ لجهلهم وضلالهم؛ إذ كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. ثم المعاني الذي يثبتها هؤلاء من الحق ويتأولون النصوص عليها حسنة صحيحة جيدة؛ لكن الضلال جاء من جهة نفيهم ما زاد عليها وذلك مثل إثبات المتفلسفة لواجب الوجود، وأن الروح غير البدن، وأنها باقية بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة: نعيما وعذابا روحانيين. وكذلك ما يثبتونه من قوى البدن والنفس الصالحة وغير الصالحة: كل ذلك حق؛ لكن زعمهم أن لا معنى للنصوص إلا ذلك وأن لا حق وراء ذلك وأن الجنة والنار عبارة عن ذلك؛ وإنما الوصف المذكور في الكتب الإلهية أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني وأن الملائكة والجن هي أعراض وهي قوى النفس الصالحة والفاسدة وأن الروح لا تتحرك؛ وإنما ينكشف له حقائق الكون فيكون ذلك قربها إلى الله وأن معراج النبي هو من هذا الباب هذا النفي والتكذيب كفر. وكذلك ما يثبته المتكلمة: من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى الأماكن المفضلة التي يظهر فيها نور الرب كالسموات والمساجد وكذلك الملائكة فهذا صحيح؛ لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله وأن الله ليس على العرش؛ هذا باطل. وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص أيضا من قرب العبد إلى ربه وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم وأن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه. وقد تكلمت في دنو الرب وقربه وما فيه من النزاع بين أهل السنة. ثم بعض المتسننة والجهال: إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق: قد يفرون من التصديق به؛ وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته؛ بل الجميع صحيح. وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه؛ فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب ونفي حال أو اعتقاد كحال المبتدعة فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى متعلقة بإثبات ما نفته المبتدعة. وفيهم نفرة عن قول المبتدعة؛ بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه أو يكذبون به كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها؛ بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب. وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم كفر بكفر؛ وإيمان بإيمان. ومثال ذلك في باب الصفات أن العبد إذا عرف ربه وأحبه؛ بل لو عرف غير الله وأحبه وتألهه؛ يبقى ذلك المعروف المحبوب المعظم في القلب واللسان وقد تقوى به شدة الوجد والمحبة والتعظيم حتى يستغرق به ويفنى به عن نفسه. كما قيل إن رجلا كان يحب آخر؛ فوقع المحبوب في اليم. فألقى الآخر نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وهذا كما قيل:

مثالك في عيني وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟

وقال آخر:

ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره

ومولى قد رضيت به ** ونصيبي منه أوفره

ولقوة الاتصال: زعم بعض الناس أن العالم والعارف يتحد بالمعلوم المعروف وآخرون يرون أن المحب قد يتحد بالمحبوب. وهذا إما غلط؛ وإما توسع في العبارة فإنه نوع اتحاد: هو اتحاد في عين المتعلقات من نوع اتحاد في المطلوب والمحبوب والمأمور به والمرضي والمسخوط؛ واتحاد في نوع الصفات من الإرادة والمحبة والأمر والنهي والرضا والسخط بمنزلة اتحاد الشخصين المتحابين. وهذا له تفصيل نذكره في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا: أن المعروف المحبوب في قلب العارف المحب: له أحكام وأخبار صادقة؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه} [1] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [2] وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [3] وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [4]. وقوله في الاستفتاح: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك؛ ولا إله غيرك». ويحصل لقلوب العارفين به استواء وتجل لا يزول عنها يقر به كل أحد؛ لكن أهل السنة يقرون بكثير مما لا يعرفه أهل البدعة؛ كما يقرون باستوائه على العرش. ومثل قوله ﷺ: «عبدي مرضت فلم تعدني فيقول: أي رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده». فقد أخبر أنه عند عبده؛ وجعل مرضه مرضه والإنسان قد تكون عنده محبة وتعظيم لأمير أو عالم أو مكان: بحيث يغلب على قلبه ويكثر من ذكره وموافقته في أقواله وأعماله فيقال: إن أحدهما الآخر كما يقال: أبو يوسف أبو حنيفة. ويشبه هذا من بعض الوجوه: ظهور الأجسام المستنيرة وغيرها في الأجسام الشفافة كالمرآة المصقولة والماء الصافي ونحو ذلك. بحيث ينظر الإنسان في الماء الصافي السماء والشمس والقمر والكواكب. كما قال بعضهم:

إذا وقع السماء على صفاء كدر أنى يحركه النسيم؟ ترى فيه السماء بلا امتراء كذاك البدر يبدو والنجوم وكذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم وكذلك نرى في المرآة صورة ما يقابلها من الشمس والقمر والوجوه وغير ذلك. ثم قد يحاذي تلك المرآة مرآة أخرى فترى فيها الصورة التي رئيت في الأولى ويتسلل الأمر فيه. وهذه المرائي المنعكسة تشبه من وجه بعيد ظهور اسم المحبوب المعظم في الورق بالخط والكتابة سواء كان بمداد أو بتنقير أو بغير ذلك فإنه هنا لم يظهر إلا حروف اسمه في جسم لا حس له ولا حركة وفي الأجسام الصقلية ظهرت صورته؛ لكن من غير شعور بالمظهر ولا حركة فالأول مظهر اسمه وهذا مظهر ذاته. وأما في قلوب العباد وأرواحهم: فيظهر المعروف المحبوب المعظم وأسماؤه في القلب الذي يعلمه ويحبه. وذلك نوع أكمل وأرفع من غيره بل ليس له نظير. وإلى ذلك أشار بقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [5] وهو الذي قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه} [6] وقال: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [7] وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [8] وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِل} [9].

هامش

  1. [الزخرف 84]
  2. [الروم 20]
  3. [الجن 3]
  4. [الأعلى 1]
  5. [المجادلة 22]
  6. [المائدة 5]
  7. [البقرة 137]
  8. [الشورى 11]
  9. [البقرة 261]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار