الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في منافع اللباس

فصل في منافع اللباس

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

اللباس له منفعتان:

إحداهما: الزينة بستر السوءة.

والثانية: الوقاية لما يضر من حر أو برد أو عدو.

فذكر اللباس في سورة الأعراف لفائدة الزينة، وهي المعتبرة في الصلاة والطواف، كما دل عليه قوله: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [1]، وقال: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا } [2]، وقال: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [3]، ردًا علي ما كانوا عليه في الجاهلية من تحريم الطواف في الثياب الذي قدم بها غير الحُمْسِ [4]، ومن أكل ما سلوه من الأدهان.

وذكره في النحل لفائدة الوقاية في قوله: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [5]، ولما كانت هذه الفائدة حيوانية طبيعية لا قوَامَ للإنسان إلا بها جعلها من النعم، ولما كانت تلك فائدة كمالية قرنها بالأمر الشرعي، وتلك الفائدة من باب جلب المنفعة بالتزين، وهذه من باب دفع المضرة، فالناس إلي هذه أحوج.

فأما قوله: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، ولم يذكر: البرد، فقد قيل: لأن التنزيل كان بالأرض الحارة فهم يتخوفونه، وقيل: حذف الآخر للعلم به، ويقال: هذا من باب التنبيه؛ فإنه إذا امتن عليهم بما يقي الحر فالامتنان بما يقي البرد أعظم؛ لأن الحر أذى، والبرد بؤس، والبرد الشديد يقتل، والحر قَلَّ أن يقع فيه هكذا، فإن باب التنبيه والقياس كما يكون في خطاب الأحكام يكون في خطاب الآلاء وخطاب الوعد والوعيد، كما قلته في قوله: { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } [6] مثله من يقول: لا تنفروا في البرد فإن جهنم أشد زمهريرًا، «ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله علي النار»، فالوحل والثلج أعظم ونحو ذلك.

وفي الآية شرع لباس جنن الحرب؛ ولهذا قرن من قرن باب اللباس والتحلي بالصلاة؛ لأن للحرب لباسا مختصا مع اللباس المشترك، وطابق قولهم اللباس والتحلي قوله: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ

أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [7]. وأحسن من هذا أنه قد تقدم ذكر وقاية البرد في أول السورة بقوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [8]، فيقال: لم فرق هذا؟ فيقال والله أعلم: المذكور في أول السورة النعم الضرورية التي لا يقومون بدونها من الأكل، وشرب الماء القَرَاح [9]، ودفع البرد، والركوب الذي لا بد منه في النقلة، وفي آخرها ذكر كمال النعم: من الأشربة الطيبة، والسكون في البيوت وبيوت الأدم، والاستظلال بالظلال، ودفع الحر والبأس بالسرابيل، فإن هذا يستغني عنه في الجملة. ففي الأول الأصول، وفي الآخر الكمال؛ ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [10].

وأيضا، فالمساكن لها منفعتان: إحداهما: السكون فيها لأجل الاستتار، فهي كلباس الزينة من هذا الوجه. والثاني: وقاية الأذي من الشمس والمطر والريح ونحو ذلك، فجمع الله الامتنان بهذين فقال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هذه بيوت المدر [11] { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } [12] هذه بيوت العمود { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [13]، يدخل فيه أُهبة البيت من البسط والأوعية والأغطية ونحوها، وقال: { مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } ، ولم يقل: من المدر بيوتًا كما قال: { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا } ؛ لأن السكن بيان منفعة البيت، فبه تظهر النعمة، واتخاذ البيوت من المدر معتاد، فالنعمة بظهور أثرها؛ بخلاف الأنعام، فإن الهداية إلي اتخاذ البيوت من جلودها أظهر من الهداية إلي نفس اتخاذ البيوت.

وأما فائدة الوقاية فقال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ } [14]، فالظلال يعم جميع ما يظل من العرش والفساطيط والسقوف مما يصطنعه الآدميون، وقوله: { مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ؛ لأن الجبل يكن الإنسان من فوقه ويمينه ويساره وأسفل منه، ليس مقصوده الاستظلال؛ بخلاف الظلال فإن مقصودها الاستظلال؛ ولهذا قرن بهذه ما في السرابيل من منفعة الوقاية، فجمع في هذه الآية بين وقاية اللباس المنتقل مع البدن، ووقاية الظلال الثابتة علي الأرض؛ ولهذا كانوا في الجاهلية يسوون بينهما في حق المحرم، فكما نهي عن تغطية الرأس، نهوه عن الدخول تحت سقف حتي أنزل الله: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [15]. وجاز للمحرم أن يستظل بالثابت من الخيام والشجر، وأما الشيء المنتقل معه المتصل كالمحمل، ففيه ما فيه لتردده بين السرابيل وبين المستقر من الظلال والأكنة.

كما أنه قبل هذه الآيات ذكر أصناف الأشربة من اللبن والخمر والعسل، وذكر في أول السورة المراكب والأطعمة، وهذه مجامع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب.

هامش

  1. [الأعراف: 31]
  2. [الأعراف: 62]
  3. [الأعراف: 32]
  4. [الحُمْسُ: قريش؛ لأنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم، وقيل: كانوا لا يستظلون أيام مني ولا يدخلون البيوت من أبوابها]
  5. [النحل: 81]
  6. [التوبة: 81]
  7. [الحج: 23]
  8. [النحل: 5]
  9. [القَرَاح: الخالص من الماء الذي لم يخالطه كافور ولا حنوط]
  10. [النحل: 81]
  11. [المدر: القرى]
  12. [النحل: 80]
  13. [النحل: 80]
  14. [النحل: 81]
  15. [البقرة: 189]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس عشر
سورة الأعراف | فصل في حجة إبليس | تفسير قوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله | تفسير قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا | تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية | تفسير قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة الأعراف | تفسير قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون | فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة | سورة الأنفال | فصل في تفسير قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم | فصل في تفسير قوله تعالى فلم تقتلوهم | فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم | سورة التوبة | تفسير في قوله لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان | تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله | تفسير قوله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون | تفسير قوله تعالى لقد تاب الله على النبي | سورة يونس | فصل تفسير قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء | تفسير آيات مشكلة في سورة يونس | سورة هود | فصل تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في أن المؤمن على أمر من الله | فصل في تفسير قوله تعالى كتاب أحكمت آياته | سئل عن تفسير قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة | سورة يوسف | فصل في تفسير قوله تعالى هيت لك قال معاذ الله | فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي | فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد | قال شيخ الإسلام لم يفعل يوسف ذنبا الذي نسي ذكر ربه هو الفتى | سئل عن قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله | فصل في تفسير قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل | سورة الرعد | فصل في تفسير قوله تعالى وجعلو لله شركاء قل سموهم | سورة الحجر | فصل في تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى | سورة النحل | فصل في منافع اللباس | تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق | سورة الإسراء | تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | سورة الكهف | فصل في تفسير قوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلا | سورة مريم | فصل في بيان مضمون سورة مريم | سئل عن تفسير قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف | سورة طه | فصل في بيان مضمون سورة طه | فصل في طريقتي العلم والعمل | فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران | فصل في نكتة الإعراب في قوله تعالى إن هذان لساحران | سورة الأنبياء | فصل في بيان منزلة سورة الأنبياء | سورة الحج | فصل في بيان المكي والمدني من السورة | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف | سورة المؤمنون | تفسير قوله تعالى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما | سورة النور | فصل في معاني مستنبطة من سورة النور | فصل في ضرورة امتحان من يراد الزواج منه وغيره | فصل في تعظيم الفاحشة بالباطل | فصل في تفسير قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء | تفسير قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم | فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون | سئل عن تفسير قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم | سورة الفرقان | فصل في بيان أكبر الكبائر | فصل في تقسيم الأمم | فصل في تقسيم الفضائل | فصل في تفضيل الإسلام على سائر الأديان الأخرى | فصل في بيا ن أجناس الناس | فصل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية | سورة النمل | تفسير بعض الآيات المشكلة في سورة النمل | سورة الأحزاب | تفسير قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم | فصل في لفظ الطلاق