→ فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في قوله وجلت قلوبهم ابن تيمية |
فصل في معنى حديث خطبة الحاجة ← |
فصل في قوله وجلت قلوبهم
وأما قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [1] فهذه الآية أثبت فيها الإيمان لهؤلاء، ونفاه عن غيرهم، كما نفاه النبي ﷺ عمن نفاه عنه في الأحاديث مثل قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، فإياكم وإياكم» وكذلك قوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»، ومن هذا الباب قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآية [2]، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } الآية [3].
وهذه المواضع قد تنازع الناس في نفيها، والذي عليه جماهير السلف وأهل الحديث وغيرهم: أن نفي الإيمان لانتفاء بعض الواجبات فيه، والشارع دائمًا لا ينفي المسمي الشرعي إلا لانتفاء واجب فيه، وإذا قيل: المراد بذلك نفي الكمال فالكمال نوعان: واجب، ومستحب، فالمستحب؛ كقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، أي: كامل المستحبات، وليس هذا الكمال هو المنفي في لفظ الشارع، بل المنفي هو الكمال الواجب وإلا فالشارع لم ينف الإيمان ولا الصلاة ولا الصيام ولا الطهارة، ولا نحو ذلك من المسميات الشرعية لانتفاء بعض مستحباتها؛ إذ لو كان كذلك لانتفي الإيمان عن جماهير المؤمنين، بل إنما نفاه لانتفاء الواجبات، كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صيام لمن لم يبيت النية»، و«لا صلاة إلا بأم القرآن».
وقد رويت عنه ألفاظ تنازع الناس في ثبوتها عنه، مثل: قوله: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»، «ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، من ثبتت عنده هذه الألفاظ فعليه أن يقول بموجبها، فيوجب ما تضمنته من التبييت، وذكر اسم الله، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك. ثم إذا ترك الإنسان بعض واجبات العبادة، هل يقال: بطلت كلها، فلا ثواب له عليها؟ أم يقال: يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه؟ وهل عليه إعادة ذلك؟ هذا يكون بحسب الأدلة الشرعية، فمن الواجبات في العبادة ما لا تبطل العبادة بتركه ولا إعادة على تاركه، بل يجبر المتروك؛ كالواجبات في الحج التي ليست أركانًا، مثل: رمي الجمار، وأن يحرم من غير الميقات، ونحو ذلك.
وكذلك الصلاة عند الجمهور؛ كمالك وأحمد، وغيرهم، فيها واجب لا تبطل الصلاة بتركه عندهم، كما يقول أبو حنيفة في الفاتحة والطمأنينة. وكما يقول مالك وأحمد في التشهد الأول، لكن مالك وأحمد يقولان: ما تركه من هذا سهوًا فعليه أن يسجد للسهو، وأما إذا تركه عمدًا فتبطل صلاته، كما تبطل الصلاة بترك التشهد الأول عمدًا في المشهور من مذهبيهما، لكن أصحاب مالك يسمون هذا سنة مؤكدة، ومعناه معني الواجب عندهم.
وأما أبو حنيفة فيقول: من ترك الواجب الذي ليس بفرض عمدًا أساء ولا إعادة عليه، والجمهور يقولون: لا نعهد في العبادة واجبًا فيما يتركه الإنسان إلى غير بدل، ولا إعادة عليه، فلابد من وجوب البدل للإعادة. ولكن مع هذا اتفقت الأئمة على أن من ترك واجبًا في الحج ليس بركن، ولم يجبره بالدم الذي عليه لم يبطل حجه، ولا تجب إعادته، فهكذا يقول جمهور السلف وأهل الحديث: أن من ترك واجبًا من واجبات الإيمان الذي لا يناقض أصول الإيمان - فعليه أن يجبر إيمانه؛ إما بالتوبة، وإما بالحسنات المكفرة. فالكبائر يتوب منها، والصغار تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن لم يفعل لم يحبط إيمانه جملة.
وأصلهم أن الإيمان يتبعَّض، فيذهب بعضه ويبقي بعضه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»، ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
وأما الذين أنكروا تبعضه وتفاضله كأنهم قالوا: متى ذهب بعضه ذهب سائره، ثم انقسموا قسمين: فقالت الخوارج والمعتزلة: فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلًا بحال.
ثم قالت الخوارج: هو كافر، وقالت المعتزلة: ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو فاسق، ننزله منزلةً بين المنزلتين، فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم، وقالوا: إنه مخلد في النار، لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها. والحزب الثاني: وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال، وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فَرَّق بين الإيمان والأعمال في كتابه. ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق اللسان وقول القلب، وهذا المنقول عن حماد بن أبي سليمان ومن وافقه؛ كأبي حنيفة وغيره، وقال جَهْم والصَّالحي ومن وافقهما من أهل الكلام كأبي الحسن وغيره: إنه مجرد تصديق القلب.
وفصل الخطاب في هذا الباب أن اسم الإيمان قد يذكر مجردًا، وقد يذكر مقرونًا بالعمل أو بالإسلام. فإذا ذكر مجردًا تناول الأعمال كما في الصحيحين: «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذي عن الطريق»، وفيهما أنه قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم»، وإذا ذكر مع الإسلام كما في حديث جبريل أنه سأل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان فَرَّق بينهما، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»، إلى آخره. وفي المسند عن النبي ﷺ: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب»، فلما ذكرهما جميعًا ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر من الأعمال.
وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب؛ لأنه متى ثبت الإيمان في القلب، والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أَسَرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفَلَتَات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر.
ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أولياء } [4]، وقوله: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ } الآية [5]، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيمًا إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «ألا إن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»، وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وفي الحديث: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه».
ولهذا كان الظاهر لازمًا للباطن من وجه وملزومًا له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزومًا، لا من جهة كونه لازمًا؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه، والدليل يَطَّرِدُ ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس.
وتنازعوا في العلة هل يجب طردها، بحيث تبطل بالتخصيص والانتقاض؟ والصواب أن لفظ العلة يعبر به عن العلة التامة، وهو مجموع ما يستلزم الحكم، فهذه يجب طردها، ويعبر به عن المقتضي للحكم الذي يتوقف اقتضاؤه على ثبوت الشروط، وانتفاء الموانع، فهذه إذا تخلف الحكم عنها لغير ذلك بطلت.
وكذلك تنازعوا في انعكاسها، وهو أنه هل يلزم من عدم الحكم عدمها؟ فقيل: لا يجب انعكاسها؛ لجواز تعليل الحكم بعلتين. وقيل: يجب الانعكاس؛ لأن الحكم متى ثبت مع عدمها لم تكن مؤثرة فيه، بل كان غنيًا عنها، وعدم التأثير مبطل للعلة. وكثير من الناس يقول بأن عدم التأثير يبطل العلة، ويقول بأن العكس ليس بشرط فيها، وآخرون يقولون: هذا تناقض.
والتحقيق في هذا أن العلة إذا عُدِمت عُدِم الحكم المتعلق بها بعينه، لكن يجوز وجود مثل ذلك الحكم بعلة أخري، فإذا وجد ذلك الحكم بدون علة أخرى علم أنها عديمة التأثير وبطلت، وأما إذا وجد نظير ذلك الحكم بعلة أخرى كان نوع ذلك الحكم معللا بعلتين، وهذا جائز، كما إذا قيل في المرأة المرتدة: كفرت بعد إسلامها، فتقتل قياسًا على الرجل؛ لقول النبي ﷺ: «لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدي ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زني بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فقتل بها». فإذا قيل له لا تأثير لقولك: كفر بعد إسلامه، فإن الرجل يقتل بمجرد الكفر، وحينئذ فالمرأة لا تقتل بمجرد الكفر، فيقول: هذه علة ثابتة بالنص، وبقوله: «من بَدَّل دينه فاقتلوه» وأما الرجل فما قتلته لمجرد كفره، بل لكفره وجراءته؛ ولهذا لا أقتل من كان عاجزًا عن القتال؛ كالشيخ الهرم، ونحوه. وأما الكفر بعد الإسلام فعلة أخرى مبيحة للدم؛ ولهذا قتل بالردة من كان عاجزًا عن القتال كالشيخ الكبير.
وهذا قول مالك وأحمد، وإن كان ممن يري أن مجرد الكفر يبيح القتال كالشافعي؛ قال: الكفر وحده علة، والكفر بعد الإسلام علة أخري.
وليس هذا موضع بسط هذه الأمور، وإنما ننبه عليها.
والمقصود أن لفظ الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والاقتران، فإذا ذُكِر مع العمل أريد به أصل الإيمان المقتضي للعمل، وإذا ذُكر وحده دخل فيه لوازم ذلك الأصل.
وكذلك إذا ذكر بدون الإسلام كان الإسلام جزءًا منه، وكان كل مسلم مؤمنًا، فإذا ذكر لفظ الإسلام مع الإيمان تميز أحدهما عن الآخر، كما في حديث جبريل، وكما في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [6]، ولهذا نظائر كلفظ المعروف والمنكر، والعدل والإحسان، وغير ذلك، ففي قوله: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [7]، يدخل في لفظ المعروف كل مأمور به، وفي لفظ المنكر كل مَنهي عنه، وفي قوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [8]، جعل الفحشاء غير المنكر، وقوله: { وَيَنهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [9] جعل الفحشاء والبغي غير المنكر.
وإذا قيل: هذا من باب عطف الخاص على العام، والعام على الخاص فللناس هنا قولان: منهم من يقول: الخاص دخل في العام وخص بالذكر، فقد ذكر مرتين. ومنهم من يقول: تخصيصه بالذكر يقتضي أنه لم يدخل في العام، وقد يعطف الخاص على العام، كما في قوله: { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [10]، وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ } الآية [11]، وقد يعطف العام على الخاص، كما في قوله تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا } [12].
وأصل الشبهة في الإيمان أن القائلين: أنه لا يتبعض قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها، فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء، والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة، والأعمال الواجبة الباطنة والظاهرة هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية. تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: «لا يزني الزاني» إلخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآيات [13]، ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه. كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال هذا الكمال ولم يزل سائر الحج.
وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل.
وكذلك لفظ الشجرة والباب والبيت والحائط، وغير ذلك، يتناول المسمي في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه.
وبهذا تزول الشبهة التي أوردها الرازي ومن اتبعه، كالأصبهاني وغيره على الشافعي؛ فإن مذهبه في ذلك مذهب جمهور أهل الحديث والسلف، وقد اعترض هؤلاء بهذه الشبهة الفاسدة على السلف.
والإيمان يتفاضل من جهة الشارع، فليس ما أمر الله به كل عبد هو ما أمر الله به غيره، ولا الإيمان الذي يجب على كل عبد يجب على غيره، بل كانوا في أول الإسلام يكون الرجل مؤمنا كامل الإيمان، مستحقًا للثواب إذا فعل ما أوجبه الله عليه ورسوله، وإن كان لم يقع منه التصديق المفصل بما لم ينزل من القرآن، ولم يصم رمضان، ولم يحج البيت، كما أن من آمن في زمننا هذا إيمانًا تاما، ومات قبل دخول وقت صلاة عليه مات مستكملًا للإيمان الذي وجب عليه، كما أنه مستحق للثواب على إيمانه ذلك.
وأما بعد نزول ما نزل من القرآن وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله من الواجبات وتمكن من فعل ذلك فإنه لا يكون مستحقًا للثواب بمجرد ما كان يستحق به الثواب قبل ذلك، فلذلك يقول هؤلاء: لم يكن هذا مؤمنا بما كان به مؤمنا قبل ذلك، وهذا لأن الإيمان الذي شرع لهذا أعظم من الإيمان الذي شرع لهذا، وكذلك المستطيع الحج يجب عليه ما لا يجب على العاجز عنه، وصاحب المال يجب عليه من الزكاة ما لا يجب على الفقير، ونظائره متعددة.
وأما تفاصيله من جهة العبد؛ فتارة يقوم هذا من الإقرار والعمل بأعظم مما يقوم به هذا. وكل أحد يعلم أن ما في القلب من الأمور يتفاضل، حتى إن الإنسان يجد نفسه أحيانًا أعظم حبًا لله ورسوله وخشية لله، ورجاء لرحمته وتوكلًا عليه، وإخلاصًا منه في بعض الأوقات.
وكذلك المعرفة والتصديق تتفاضل في أصح القولين، وهذا أصح الروايتين عن أحمد، وقد قال غير واحد من الصحابة، كعمر بن حبيب الخَطْمِي وغيره: الإيمان يزيد وينقص، فإذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
ولهذا سُنَّ الاستثناء في الإيمان، فإن كثيرًا من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم استثنوا في الإيمان، وآخرون أنكروا الاستثناء فيه، وقالوا: هذا شك. والذين استثنوا فيه منهم من أوجبه، ومنهم من لم يوجبه، بل جَوَّز تركه باعتبار حالتين، وهذا أصح الأقوال، وهذان القولان في مذهب أحمد وغيره، فمن استثني لعدم علمه بأنه غير قائم بالواجبات كما أمر الله ورسوله فقد أحسن، وكذلك من استثني لعدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثني تعليقًا للأمر بمشيئة الله تعالى لا شكا، ومن جزم بما هو في نفسه في هذه الحال كمن يعلم من نفسه أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فجزم بما هو متيقن حصوله في نفسه فهو محسن في ذلك.
وكثير من منازعات الناس في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام هي منازعات لفظية، فإذا فصل الخطاب زال الارتياب. والله سبحانه أعلم بالصواب.
هامش
- ↑ [الأنفال: 2]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [النور: 62]
- ↑ [المائدة: 81]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [الأحزاب: 35]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [النحل: 90]
- ↑ [البقرة: 98]
- ↑ [الأحزاب: 7]
- ↑ [الأحزاب: 27]
- ↑ [الحجرات: 15]