→ فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين ابن تيمية |
فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة ← |
فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
وأما عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين فلفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمي متواترًا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلًا بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا قول ضعيف.
والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، يحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة.
وأيضا، فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقًا له أو عملًا بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معني المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى: متواتر، ومشهور، وخبر واحد، وإذا كان كذلك، فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق، وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ، كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ، لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ.
ثم هذه الأحاديث التي أجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض، وقد يحصل العلم بصدقها لبعضهم؛ لعلمه بصفات المخبرين، وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم، كمن سمع خبرًا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار، وقد كانوا شهدوا منه ما شهد، وهم مصدقون له في ذلك، وهم مُقِرُّون له على ذلك، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» هو مما تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، وليس هو في أصله متواترًا، بل هو من غرائب الصحيح، لكن لما تلقوه بالقبول والتصديق صار مقطوعًا بصحته.
وفي السنن أحاديث تلقوها بالقبول والتصديق، كقوله ﷺ: «لا وصية لوارث» فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه، وهو في السنن ليس في الصحيح.
وأما عدد ما يحصل به التواتر، فمن الناس من جعل له عددًا محصورًا، ثم يفرق هؤلاء، فقيل: أكثر من أربعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: غير ذلك. وكل هذه الأقوال باطلة؛ لتكافئها في الدعوي.
والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشبع عقيب الأكل والرِّي عند الشرب، وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح، أو غضب، أو حزن، ونحو ذلك.
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر، تارة يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم، وإن كانوا كفارًا. وتارة يكون لدينهم وضبطهم. فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين، لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثا طويلًا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه. وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمن له مثل ذلك. وتارة يحصل العلم بالخبر؛ لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم، ولم يكذبه أحد منهم؛ فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان، كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوي بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطًا عظيمًا؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى: عام، وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة؛ كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك.
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع، الذين أجمعوا على صحته، كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم؛ فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله، بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم.
وقال أيضا:
في الرد على بعض أئمة أهل الكلام لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث وذموهم بقلة الفهم، وأنهم لا يفهمون معاني الحديث، ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه، ويفتخرون عليهم بحذقهم، ودقة علومهم فيها، فقال رحمه الله تعالى:
لا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول، وآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وقد رأيت من هذا عجائب، لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم، وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها، تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد: ضعيف الحديث خير من الرأي.
وقد أمر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحرًا في الفنون الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلامًا، وأمثلهم اعتقادًا، ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقًا أو باطلًا؛ إيمانًا أو كفرًا - لا تدرك إلا بذكاء وفطنة؛ فلذلك يستجهلون من لم يشركهم في عملهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان منه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } الآيات [1]. فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم، منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافرًا زنديقًا، منافقًا، جاهلًا، ضالًا، مضلًا، ظلومًا، كفورًا، ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة، من الذين قال الله فيهم: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ } [2].
وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتدًا؛ إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردة نفاق وإما ردة كفر، وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال.
وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل إليهود والنصاري والمشركون يعلمون أن محمدا ﷺ بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوي الله؛ من الملائكة والنبيين، وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة إليهود والنصاري والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك.
ثم تجد كثيرًا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون؛ كرؤوس القبائل مثل: الأقرع وعيينة، ونحوهم، ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قَلَّ أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة.
وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفًا في أول مختلف الحديث، وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبو عبد الله الشهرستاني، وغيرهم.
وأبلغ من ذلك، أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام؛ كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله، فضلًا أن يكون موصلًا لنعيم الآخرة، قال الله تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي على اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } الآيتين [3]، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } إلى آخر السورة [4]، فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، وأن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وَحَّدوا الله وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك، وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد والرسالة أنه لما أدركه الغرق: { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ } الآية [5]. وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } الآيتين [6].
وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه، وأن أهل السعادة هم أهل التوحيد، وأن المشركين هم أهل الشقاوة، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون، فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر، فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينهما في مثل قوله: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [7]
وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم، فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله والإيمان برسله، وباليوم الآخر أمور متلازمة؛ ولهذا قال سبحانه: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } إلى قوله: { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [8]، فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن يغرون به، والغرور: التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال: { وَلِتَصْغَى إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } [9]، فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغي إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فصلنَاهُ على عِلْمٍ } إلى قوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [10] فأخبر أن الذين تركوا الكتاب وهو الرسالة يقولون إذا جاء تأويله وهو ما أخبر به: جاءت رسل ربنا بالحق.
وهذا كما قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } الآيتين [11]، أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكر. فقد تبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح. وهذه الأمور ليست في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له. ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا.
فتدبر هذا فإنه نافع جدًا. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة؛ أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك؛ فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، وهو: أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لابد أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلهًا دون ما سواه، وهذا معنى قول: لا إله إلا الله فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟ فإذا كان ما تحصل به السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلًا كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [12]، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والقوم، وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القول لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة، وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن والإرادة، فالذي يؤتي فضائل علمية وإرادية - بدون هذه الأصول - بمنزلة من يؤتي قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول، وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة، وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله واليوم الآخر.
ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل، وقد يتابعونهم ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح وعاد، وغيرهم، وذكر قول علمائهم كقوله: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [13]، وقال: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } [14]، إلى قوله: { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [15]، إلى قوله: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ } الآية [16] والسلطان: هو الوحي المنزل من عند الله. وقد ذكر في هذه السورة [17] من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء ومجادلتهم ما فيه عبرة، مثل قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } [18]، ومثل قوله: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّي يُصْرَفُونَ } [19]، إلى قوله: { ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [20].
وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب المقاييس والأمثال لهم، وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم؛ ولهذا قال سبحانه: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } الآية [21]. فأخبر بما مكنوا فيه من أصناف الإدراكات والحركات، وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم شيئًا حيث جحدوا بآيات الله والرسالة؛ ولهذا حدثني ابن الشيخ الفقيه الخضري عن والده شيخ الحنفية في زمنه قال: كان فقهاء بخاري يقولون في ابن سينا: { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الآية [22]، والقوة تَعُمُّ قوة الإدراك النظرية، وقوة الحركة العملية، وقال في الآية الأخري: { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } [23] فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض.
وقد قال - سبحانه - عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } إلى قوله: { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [24]، وقال تعالى: { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ } [25]، ومثل هذا في القرآن كثير، يذكر فيه قول أعداء الرسل وأفعالهم، وما أوتوه من قوي الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل.
وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى اتباع الرسل من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } الآية [26]، و { وَيَصُدُّونَ } يستعمل لازمًا، يقال: صَدَّ صدودًا أعرض، كقوله: { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [27]، ويقال: صد غيره يصده، والوصفان يجتمعان فيهم. ومثل قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } الآية [28].
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأَتْرُجَّة، طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها»، فبين أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين، وإذا كان سعادة الأولين والآخرين هي اتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، والرسل عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين.
وخاتم الرسل ﷺ أنزل إليه كتابًا مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فهو الأمين على جميع الكتب، وقد بلغ أَبْيَنَ البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، بلغ الرسالة وأدي الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيمًا وأعلاهم درجة، أعظمهم اتباعًا له وموافقة علمًا وعملًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [المطففين: 29، 30]
- ↑ [الفرقان: 31]
- ↑ [الأعراف: 37]
- ↑ [غافر: 83: 85]
- ↑ [يونس: 90]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الأنعام: 150]
- ↑ [الأنعام: 112، 113]
- ↑ [الأنعام: 113]
- ↑ [الأعراف: 52، 53]
- ↑ [طه: 124]
- ↑ [الروم: 7]
- ↑ [غافر: 83]
- ↑ [غافر: 4]
- ↑ [غافر: 5]
- ↑ [غافر: 35]
- ↑ [حم غافر]
- ↑ [غافر: 56]
- ↑ [غافر: 69]
- ↑ [غافر: 75]
- ↑ [الأحقاف: 26]
- ↑ [غافر: 21]
- ↑ [غافر: 82]
- ↑ [الأحزاب: 66: 68]
- ↑ [غافر: 47]
- ↑ [التوبة: 43]
- ↑ [النساء: 61]
- ↑ [النساء: 51]