→ حديث الكرب اللهم إني عبدك | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل حديث المرء مع من أحب ابن تيمية |
وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا ← |
فصل حديث المرء مع من أحب
وقال شيخ الإسلام:
وأما قوله ﷺ: «المرء مع مَنْ أحب» فهو من أصح الأحاديث، وقال أنس فما فَرِحَ المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك: «أوثق عُرَي الإسلام الحب في الله، والبغض في الله» لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله، ومَنْ يحبه الله. فيحب أنبياء الله كلهم؛ لأن الله يحبهم، ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم؛ كالذين يشهد لهم النبي ﷺ بالجنة، وغيرهم من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان.
فمن شهد له النبي ﷺ بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة فقد قال طائفة من أهل العلم: لا يشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه. وقال طائفة: بل من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبدالعزيز، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والفضيل ابن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وعبد الله بن المبارك رضي الله عنهم وغيرهم، شهدنا له بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي ﷺ مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، ومرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا. فقال: «وجبت، وجبت». قالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت، وجبت؟. قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار». قيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن، والثناء السيئ».
وإذا علم هذا، فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء وهؤلاء في الجنة كالتجار والفلاحين، وغيرهم من الأصناف.
وإذا كان كذلك، فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالا، بل عليه أن يأخذ فيطلب بما يعلم أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: { وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [1]، وقال الله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [2].
وعلى هذا، فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا أدخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلالة والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وغيرهم. فمحبة هؤلاء من أوثق عُرَي الإيمان، وأعظم حسنات المتقين، ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله أثابه الله تعالى على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله، وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.
لكن كثيرا من الناس يدعي المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [3]. قال بعض السلف: ادعي قوم على عهد رسول الله ﷺ أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله، وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك كان أعظم درجة عند الله، وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل: أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يَتَأَكَّله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوي النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان.
وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير، وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله؟ وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله ﷺ، وسبيل الله؟ وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا وغيرهم، فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله، والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهرة، فأهل الشرك يتخذون أندادًا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون؛ وذلك أن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، ومن أحبه الله أحب الله، فمحبوب المحبوب محبوب لله، يحب الله، فمن أحب الله أحبه الله، فيحب من أحب الله.
وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا وشفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [4] وقال الله تعالى: { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإليه تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [5] وقال الله تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [6] وقال الله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبابا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [7].
والله تعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد». فالدين واحد، وإن تفرقت الشِّرْعَة والمنهاج، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [8]، وقال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [9]، وقال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [10]، ومن حين بعث الله محمدا ﷺ ما يقبل من أحد بَلَغْته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به. فإن دعوته عامة لجميع الخلائق، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [11]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
وقال الله تعالى: { وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عليهمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إليكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [12].
فعلى الخلق كلهم اتباع محمد ﷺ، فلا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بشريعة محمد ﷺ لا بغيرها، قال الله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [13]، ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ، أنه قال: «إن الله يَرْضَي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تَنَاصَحُوا مَنْ ولاه الله أمركم» وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله، وكمال الذل لله. فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه، ولا يكون لها إله سواه، والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام، ونحو ذلك.
والله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وبرجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به.
ولهذا كان وسط الفاتحة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }، قال: أثني على عبدي، وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، قال: مَجَّدني عبدي، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ } هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» فوسط السورة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، فالدين ألا يعبد إلا الله، ولا يستعان إلا إياه.
والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله، كما قال الله تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إليه جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا اليمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [14]، فالحب لغير الله؛ كحب النصاري للمسيح، وحب إليهود لموسي، وحب الرافضة لعلى، وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم، مثل: مَنْ يوالي شيخًا أو إمامًا وينفر عن نظيره، وهما متقاربان، أو متساويان في الرتبة، فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم، وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد الذين يوالون الشيوخ والأئمة دون البعض.
وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [15]، وقال النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه » وقال: «مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر» وقال عليه السلام: «لا تَقَاطَعُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكونوا عباد الله إخوانًا».
ومما يبين الحب لله والحب لغير الله، أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يحب النبي ﷺ مخلصًا لله، وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَي الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّي وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَي إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعلى وَلَسَوْفَ يَرْضَي } [16]. وأما أبو طالب فلم يتقبل منه، فأبو بكر لم يطلب أجره وجزاءه من الخلق؛ لا من النبي ﷺ، ولا غيره، بل آمن به وأحبه وكَلأَهُ وأعانه بنفسه وماله، متقربًا بذلك إلى الله، وطالبًا الأجر من الله، ورسوله، يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده، قال الله تعالى: { فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ وَعلينَا الْحِسَابُ } [17].
والله هو الذي يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع، ويخفض، ويرفع، ويعز ويذل، وهو سبحانه مسبب الأسباب، ورب كل شيء ومليكه، والأسباب التي تفعلها العباد منها ما أمر الله به وأباحه، فهذا يَسْلك، ومنها ما نهي عنه نهيًا خالصًا، أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها، فهذا لا يسلك. قال الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [18].
بَيَّن سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شِرْكَة لهم، ثم بين أنه لا عَوْنَ له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: اسْتَوْحِ الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات، وناد: يا شيخ، تقضي حاجتك، وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يري صورة المدعو أحيانًا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير، ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عَدِي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده.
والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ، وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفي، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه.
وما من سبب من الأسباب إلا دَائِر موقوف على أسباب أخري، وله معارضات، فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا، فلا تحرق السَّمَنْدَل، وإذا شاء الله منع أثرها، كما فعل بابراهيم عليه السلام وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره، ولا مانع لها، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها، يحسن إليهم، ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم، وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [19]، فنفي الرب هذا كله، فلم يبق إلا الشفاعة فقال: { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [20]، وقال: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [21] فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها، فالجميع منه وحده.
وكلما كان الرجل أعظم إخلاصًا لله، كانت شفاعة الرسول أقرب إليه قال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله».
وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى، ويتعلقون بفلان، فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى، قال الله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [22]، وقال الله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَي على الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [23]، وقال: { ثُمَّ اسْتَوَي على الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [24]، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله تعالى أن هؤلاء الأنبياء والملائكة عباده، كما أن هؤلاء عباده، هؤلاء يتقربون إلى الله، وهؤلاء يرجون رحمة الله، وهؤلاء يخافون عذاب الله، فالمشركون اتخذوا مع الله أندادًا يحبونهم كحب الله، واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله، ففيهم محبة لهم، وإشراك بهم، وفيهم من جنس ما في النصاري من حب المسيح، وإشراك به.
والمؤمنون أشد حبًا لله، فلا يعبدون إلا الله وحده، ولا يجعلون معه شيئًا، يحبونه كحبه لا أنبياءه ولا غيرهم، بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله، وأخلصوا دينهم لله، وعلموا أن أحدًا لا يشفع لهم إلا بإذن الله، فأحبوا عَبْدَ الله ورسوله محمدا ﷺ لحب الله، وعلموا أنه عبدالله المبلغ عن الله، فأطاعوه فيما أمر، وصدقوه فيما أخبر، ولم يرجوا إلا الله، ولم يخافوا إلا الله، ولم يسألوا إلا الله، وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله، ولا ينفع رجاؤنا للشفيع، ولا مخافتنا له، وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله، وتوكلنا عليه، فهو الذي يأذن للشفيع.
فعلى المسلم أن يفرق بين محبة النصاري والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان، ويخرج عن مشابهة المشركين وعَبَدَةِ الصُّلْبَان. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار». { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [25]، وقال الله تعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عليمٌ } [26]، وهذا باب واسع، ودين الإسلام مَبْنِي على هذا الأصل، والقرآن يدور عليه.
هامش
- ↑ [التحريم: 4]
- ↑ [المائدة: 55، 56]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [الأنعام: 94]
- ↑ [يس: 22: 25]
- ↑ [الأنعام: 51]
- ↑ [آل عمران: 79، 80]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [سبأ: 28]
- ↑ [الأعراف: 156 158]
- ↑ [الجاثية: 18، 19]
- ↑ [النساء: 172، 173]
- ↑ [الحجرات: 10]
- ↑ [الليل: 17 21]
- ↑ [الرعد: 40]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الزمر: 43، 44]
- ↑ [السجدة: 4]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [المائدة: 54]