الرئيسيةبحث

رحلة ابن جبير/شهر ذي القعدة


شهر ذي القعدة

استهل هلاله ليلة الأربعاء، بموافقة الرابع عشر من شهر فبرير، بشهادة ثبتت عند القاضي في رؤيته. وأما الاكثر الاغلب من أخل المسجد الحرام فلم يبصروا شيئاً، وطال ارتفاعهم إثر صلاة المغرب، وكان منهم من يتخيله فيشير إليه فإذا حققه تلاشى عنده نظره وكذب خبره، والله أعلم بصحة ذلك. وهذا الشهر المبارك ثاني الاشهر الحرم وثاني اشهر الحج، أطلع الله هلاله على المسلمين بالامن والايمان والغفرة والرضوان، بعزته ورحمته.


مولد النبي

وفي يوم الاثنين الثالث عشر منه دخلنا مولد النبي، ﷺ الله عليه وسلم. وهو مسجد حفيل البنيان، وكان داراً لعبد الله بن عبد المطلب، أبي النبي، صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوقة بالفضة فتكون سعتها مع الفضة المتصلة بها شبراً. ومسحنا الخدود في تلك الموضع المقدس الذي هو مسقط لأكرم مولود على الأرض وممس لأطهر سلالة وأشرفها، ﷺ الله عليه وسلم، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. وبازائه محراب حفيل القرنصة، مرسومة طرته بالذهب. وقد تقدم الوصف لهذا كله. وهذا الموضع المبارك هو شرقي بالكعبة متصل بصفح الجبل. ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قبيس، وعلى مقربة منه أيضاً مسجد، عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه؛ وفيه تربى رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم، وكان داراً لأبي طالب عم النبي، ﷺ الله عليه وسلم، وكافله.


دار خديجة

ودخلت أيضاً في اليوم المذكور دار خديجة الكبرى، رضوان الله عليها، وفيها قبة الوحي، وفيها أيضاً مولد فاطمة، رضي الله عنها. وهو بيت صغير مائل للطول. والمولد شبه صهريج صغير وفي وسطه حجر أسود. وفي البيت المذكور مولد الحسن والحسين ابنيها، رضي الله عنهما، ومسقط شلو الحسن ولاصق بمسقط شلو الحسين وعليهما حجران مائلان السواد كأنهما علامتان للمولدين المباركين الكريمين. ومسحنا الخدود في هذه المساقط المكرمة المخصوصة بمس بشرات المواليد الكرام، رضوان الله عليهم.

وفي الدار المكرمة أيضاً مختبأ النبي، ﷺ الله عليه وسلم، شبيه القبة، وفيه مقعد في الأرض عميق شبيه الحفرة داخل في الجدار قليلاً وقد خرج عليه من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور، قيل: إنه كان الحجر الذي كان غطى النبي، ﷺ الله عليه وسلم، عند اختبائه في الموضع المذكور، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. وعلى كل واحد من هذه الموالد المذكورة قبة خشب صغيرة تصون الموضع غير ثابتة فيه. فاذا جاء المبصر لها نحاها ولمس الموضع الكريم وتبرك به ثم أعادها عليه.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر المذكور نفذ أمر الأمير مكثر بالقبض على زعيم الشيبيين محمد بن اسماعيل وانتهاب منزله ومصرفه عن حجابة البيت الحرام، طهره الله، وذلك لهنات نسبت اليه لاتليق بمن نيطت به سدانة البيت العتيق: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم، أعاذنا الله من سوء القضاء، ونفوذ سهام الدعاء، بمنه.


السرو

وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور تو مجيء السرويين اليمنين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الإدام والفواكه اليابسة فأرغدوا البلد؛ ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة، فهم رحمة لهذا البلد الامين. ثم توجهوا الزيارة المباركة، التربة المباركة، طيبة مدفن رسول الله، ﷺ الله عليه وسلم، ووصلوا في أسرع مدة، قطعوا الطريق من مكة المدينة في يسير أيام، ومن صحبهم من الحاج حمد صحبتهم. وفي اثناء مغيبهم وصلت طوائف أخر منهم للحج خاصة لضيق الوقت عن الزيارة فأقاموا بمكة، ووصل الزوار منهم فضاق بهم المتسع.

فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور فتح البيت العتيق، وتولى فتحه من الشيبيين ابن عم الشيبي المعزول، وهو أمثل طريقة منه على ما يذكر. فازدحم السرو للدخول على العادة، فجاموا بأمر لم يعهد فيما سلف، يصعدون أفواجاً حتى يغص الباب الكريم بها فلا يستطيعون تقدماً ولا تأخراً أن يلجوا على أعظم مشقة ثم يسرعون الخروج، فيضيق الباب الكريم بهم، فتتحدر الفوج منهم على المصعد وفوج أخرى صاعدة فيلتقيان وقد ارتبط بعضهم بعض، فربما جمل المنحدرون في صدور الصاعدين، وربما وقف الصاعدون للمنحدرين وتضاغطوا أن يميلوا فيقع البعض على البعض. فيعاين النظارة منهم مرأى هلائلاً: فمنهم سليم، وغير سليم، وأكثرهم انما ينحدرون وثباً على الرؤوس والأعناق.

ومن أعجب ماشاهدناه في يوم الاثنين المذكور أن صعد بعض من الشيبيين أثناء ذل الزحام يرومون الدخول البيت الكريم فبلم يقدروا على التخلص فتعلقوا بأستار حافتي عضادتي الباب ثم إن أحدهم تمسك بإحدى الشرائط القنبية الممسكة للأستار أن علا الرؤوس والأعناق فوطئها ودخل البيت، فلم يجد موطئاً لقدمه سواها لشدة تراصهم وتراكمهم وانضمام بعضهم بعض. وهذا الجمع الذي وصل منهم في هذا العام لم يعهد قط مثله فيما سلف من الأعوام، ولله القدرة المعجزة، لااله سواه.


إحرام الكعبة

وفي هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة نحو قامة ونصف من الجدر من الجوانب الأربعة، ويسمعون ذلك احراماً لها، فيقولون: أحرمت الكعبة. وبهذا جرت العادة دائماً في الوقت المذكور من الشهر. ولاتفتح من حين أحرامها الا بعد الوقفة.

فكأن ذلك التشمير ايذان بالتشمير للسفر وايذان بقرب وقت وداعها المنتظر، لاجعله الله آخر وداع، وقضى لنا اليها بالعودة وتيسير سبيل الاستطاعة بعزته وقدرته.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين قبل هذا اليوم المذكور كان دخولنا البيت الكريم على حال اختلاس وانتهاز فرصة أوجدت بعض فرجة من الزحام، فدخلناه دخول وداع اذا لايتمكن دخوله بعد ذلك لترادف الناس عليه ولاسيما الا عاجم الواصلون مع الأمير العراقي، فإنهم يظهرون من التهافت عليه والبدار إليه والازدحام فيه ماينسي أحوال السرو اليمنيين لفظاظتهم وغلظتهم، فلا يتمكن لاحد منهم النظر فضلاً عن غير ذلكن والله عز وجل لايجعله آخر العهد ببيته الكريم ويرزقنا العود ايه على خير وعافية بمنه ولطيف صنعه.

وفي يوم احرام الكعبة المذكور اقلعت من موضع المقام المقدس القبة الخشبية التي كانت عليه ووضعت عوضها قبة الحديد اعداداً للاعاجم المذكورين، لانها لو لم تكن حديداً لاكلوها اكلاً فضلاً عن غير ذلك، لماهم عليه من صحة النفوس شوقاً هذه المشاهد المقدسة وتطارحهم بأجرامهم عليها، والله ينفعهم بنياتهم، بمنه وكرمه.

وفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من الشهر المذكور جاء زعيم الشيبيين المعزول يتهادى بين بنيه زهواً واعجاباً ومفتاح الكعبة المقدسة بيده قد أعيد اليه، ففتح الباب الكريم وصعد مع بنيه السطح المبارك الأعلى بأمراس من القنب غليظة يوثقونها في أوتاد الحديد المضروبة في السطح ويرسلونها الأرض فيربط فيها شبيه محمل من العود ويجلس فيه أحد سدنة البيت من الشيبيين، فيصعد به على بكرة معدة لذلك في أعلى السطح المذكور، فيتولى خياطة مامزقته الريح من الأستار، فسألنا عن كيفية صرف هذا الشيبي المعزول خطته على صحة الهنات المنسوبة اليه، فأعلمنا أنه صودر عليها بخمس مئة دينار مكية استقرضها ودفعها. فطال التعجب من ذلك والاعتبار، وتحققنا أن إظهار القبض عليه لم يكن غيرة ولا أنفة على حرمات الله المنتهكة على يديه، مع كونها في خطة دونها الخلافة رفعة، والحال تشبه بعضها بعضاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، و الله المشتكى من فساد ظهر حنتى في اشراف بقاع الارض، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.


دار الخيزران

وفي يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي القعدة المذكور دخلنا دار الخيزران التي كان منها منشأ الاسلام، وهي بإزاء الصفا ويلاصقها بيت صغير عن يمين الداخل اليها كان مسكن بلال، رضي الله عنه، ويدخل اليها على حلق كبير شبيه الفندق قد أحدقت به البيوت للكراء من الحاج. والدار المكرمة دار صغيرة يجدها الداخل الحلق المذكور عن يساره، وهي مجددة البناء، أنفق في بنائها جمال الدين، المذكور أثره الكريم في هذا المكتوب، نحو الألف دينار نفعه الله بما أسلفه من العمل الصالح. وعن يمين الداخل الدار المباركة باب يدخلمنه قبة كبيرة بديعة البناء، فيها مقعد النبي، ﷺ الله عليه وسلم، والصخرة التي كان اليها مستنده، وعن يمينه موضع أبي بكر الصديق، وعن يمين أبي بكر موضع علي بن أبي طالب، والصخرة التي كان اليها مستنده هي داخلة في الجدار كشبه المحراب. وفي هذه الدار كان اسلام عمر بن الخطاب ومنها ظهر الاسلام على يديه، وأعزه الله به، نفعنا الله ببركة هذه المشاهد المكرمة والآثار المعظمة، وأماتنا على محبة الذين شرفت بهم نسبت اليهم، صلوات الله عليهم أجمعين.