الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/الجزء العاشر


☰ جدول المحتويات

[تتمة سورة الأنفال ]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنفال (8): الآيات 41 الى 44]

واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

تفسير المفردات

الغنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادي، وقولهم الغرم بالغنم: أي يقابل به، والفيء: كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس، والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها.

المعنى الجملي

لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.

الإيضاح

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين، فاجعلوا أوّلا خمسه لله تعالى ينفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوي القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء، وقد خص الرسول ﷺ ذلك ببني هاشم وبنى أخيه المطّلب المسلمين، دون بني عبد شمس ونوفل، ثم المحتاجين من سائر المسلمين، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.

روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بنى نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بنى عبد شمس) إلى رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله أعطيت بنى المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول الله ﷺ « إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ».

وسرّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بنى هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب لحمايتهم له ﷺ دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل - إلى ما كان من عداوة بنى أمية بن عبد شمس لبنى هاشم في الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي ﷺ ويؤكّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على علي وقاتله.

والحكمة في تقسيم الخمس على هذا النحو - أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من الملل لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله في الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوي القربى، ثم ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة، وهم الباقون.

ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به في كثير من الدول مع اختلاف شئون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل في موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية، ولا سيما الأمور الحربية، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه، ومنه ما هو لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.

ولكن اليتامى والمساكين وابن السبيل لا تجعل لهم الدول في هذا العصر حقّا في أموال الدولة، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين في وقت الحاجة فحسب.

وعن ابن عباس أنه قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أن لله سهما مفردا، لأن ما في السموات والأرض فهو لله، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي، فقد قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم.

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان، فاعلموا أن ما غنمتم من شيء قلّ أو كثر فأن لله خمسة لأنه هو مولاكم وناصركم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم، وارضوا بحكم الله في الغنائم، وبقسمة رسوله فيها.

ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين في الحرب والنزال، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله ﷺ.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيد رسوله وأنجز وعده له.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) العدوة - مثلثة العين - جانب الوادي، والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد.

والمعنى - إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا في ذلك اليوم في الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا في غيره والأعداء في الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.

(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي والعير التي خرج المسلمون للقائها في مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم، إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام.

(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم في الميعاد، كراهة للحرب لقلّتكم، وعدم إعداد العدة لها، وانحصار همكم في العير، ويأسا من الظفر بها، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله ﷺ، ولا يأمنون نصر الله له، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا) أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة في القتال ليقضى الله أمرا كان في علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفضى إلى خزيهم ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) البينة الحجة الظاهرة، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر، على حقية الإسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفى الشبهة، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا في الأعمال.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره، ويجازى كلّا بحسب ما يسمع ويعلم.

والخلاصة - إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي ﷺ، وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم الرسول ﷺ، ولا مجال في ذلك للمكابرة والتأويل.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا) أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا في الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوى آمالهم بالنصر، فيجترئون عليهم.

(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء في أمر القتال، إذ منهم القوي الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول ﷺ كما تقدم في قوله « يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ».

(وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث في النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا) الخطاب هنا للرسول ﷺ والمؤمنين، أي وفى الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا، بما أودع في قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم، ويقللكم في أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور (أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد في اليوم).

والخلاصة - إنه فعل ذلك ليقدم كل منكم على قتال الآخر، فهذا واثق بنفسه مدلّ ببأسه، وهذا متّكل على ربه، واثق بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم، وثبّطهم ليقضى بنصركم عليهم أمرا كان في علمه مفعولا، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ومن ثم هيأ الأسباب وقدرها تقديرا.

[سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 46]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر - قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم:

(1) الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.

(2) ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قلبه من ذكره في أشد الأوقات خرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدّولة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب في النصر والغلب بين الأفراد والجيوش، انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا، ولكن قد يخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة، فيكون له الفلج والفوز على خصمه، وهكذا في الحروب، فإن من أهم أسباب النصر فيها الثبات وعدم اليأس، بل الثبات نافع في كل أعمال البشر، فهو الوسيلة في الفوز والنجاح فيها.

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) أي وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شيء.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن الثبات وذكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز ويعدّان للفلاح في القتال في الدنيا، وفى نيل الثواب في الآخرة.

وفي ذلك إيماء إلى أنه يجب على العبد ألا يفتر عن ذكر الله أكثر ما يكون، همّا، وأشغل ما يكون قلبا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره.

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا الله فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح في القتال وفى غيره، وأطيعوا رسوله كذلك، فهو المبيّن لكلام ربه، والمنفّذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم في القتال، فطاعته هي جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهوالمشارك لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور.

(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة، فيتغلب عليكم العدو.

وأصل الريح الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة، لأنه لا يوجد في الأجسام ما هو أقوى منها، فهي تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال: ركدت رياحه إذا ضعف أمره وولّت دولته.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي واصبروا على الشدائد وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده، فالله مع الصابرين يمدّهم بمعونته وتأييده، ومن كان الله معينا له فلا يغلبه غالب.

[سورة الأنفال (8): الآيات 47 الى 49]

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

تفسير المفردات

الذين خرجوا: هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، والبطر: إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة، ويعرف ذلك في الحركات المتكلّفة والكلام الشاذ، والرئاء: أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به، وتراءت الفئتان: قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها ونكص: رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمنافق من يظهر الإسلام ويسرّ الكفر، والذين في قلوبهم مرض: هم ضعاف الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر في القتال، ونهاهم عن التنازع - قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.

الإيضاح

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ) أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول ﷺ، والإعراض عن تبليغ دعوته، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار.

(وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي والله عليم بما جاءوا لأجله، ومن ثم فهو يجازيهم عليه في الدنيا والآخرة بمقتضى سننه في ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس.

وفي هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء.

قال البغوي: نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغى وفخر، فقال رسول الله ﷺ: « اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني »

قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.

فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازة رسوله ﷺ.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه في روعهم، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.

(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يصطلى نار القتال معه - نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهي الجهة التي فيها العقبان، والمراد أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم.

(وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ) أي تبرأ منهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة.

(وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان، وقد تكون من كلامه تعالى.

والخلاصة - إن جند الشيطان كانوا منبثّين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يغريهم ويغرّهم، كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما فرّ الشيطان بجنوده من بين المشركين، لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان، ولو اجتمعا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما وهم الشياطين).

فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شيء.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن في حكمهم من مرضى القلوب: ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم - إلا غرورهم بدينهم، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حرم الإيمان الكامل والثقة بالله والتوكل عليه.

روي عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش، قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ويعلي بن أمية والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء أراده - يكفه ما يهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم، لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه بمقتضى سننه في نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.

[سورة الأنفال (8): الآيات 50 الى 54]

وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

تفسير المفردات

أدبارهم، أي ظهورهم وأقفيتهم، وعذاب الحريق: عذاب النار بعد البعث، والدأب: العادة المستمرة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم - قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت.

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة، فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضار بين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضى أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم) لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يردّ الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.

وقد روى أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سىء الأعمال في حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والعمل.

ونسب ذلك إلى الأيدي وإن كان قد يقع من الأيدي والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.

(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها، ولا لوم إلا عليها.

روى مسلم عن أبي ذر عن النبي ﷺ: « إن الله يقول يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ».

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين.

وكما كانت سنته تعالى في أولئك أن أخذهم بذنوبهم، فسنته في هؤلاء كذلك فقد نصر رسوله والمؤمنين في بدر، وأهلك هؤلاء بذنوبهم.

(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن الله قوي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شيء أجلا.

روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال « إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ».

(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها، إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم - فقد جرت سنة الله ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة.

وفي الآية إيماء إلى أن نعم الله على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشئون ثابتة لهم متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال، غيّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغنى فقيرا والعزيز ذليلا والقوى ضعيفا.

وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه الله عنهم بقوله « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ».

وكذلك لا يحابى الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة أو ما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم، إذ اتبعوا سنتهم واغتروا بدينهم وإن كانوا من أشد المخالفين له.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين.

والدأب الأول في بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفى تعذيب الله إياهم في الآخرة، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفى الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدىء بالموت وينتهى بدخول النار.

والدأب الثاني في تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المربي لهم، ويدخل في ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم، وفى الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم في الدنيا.

وخلاصة ذلك - إن مادوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها في الكفر والتكذيب والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها - جار على سننه تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي لكفرهم وظلمهم لأنفسهم.

وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوي فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك.

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 59]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)

تفسير المفردات

الدابة: لفظ غلب استعماله في ذوات الأربع، وأصله كل مادب على وجه الأرض، وهو المراد هنا، عند الله: أي في حكمه وعلمه، والذين عاهدت منهم: هم طوائف من يهود المدينة. وثقفه: أدركه وظفر به، فشرد بهم: أي نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضى العهد، من خلفهم: هم كفار مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم، والنبذ: الطرح، على سواء: أي على طريق واضح لاخداع فيه ولا خيانة ولا ظلم، سبقوا: أي أفلتوا من الظفر بهم، لا يعجزون: أي لا يجدون الله عاجزا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال مشركي قريش في قتالهم له ببدر - قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي ﷺ وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا في بلاد الحجاز.

قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد: نزلت في يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبى جهل في مشركي مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.

الإيضاح

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان:

(1) الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول ﷺ معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه: « يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ » وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات.

وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى في أمثالهم: « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ».

(2) نقض العهد، وقد كان النبي ﷺ عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده.

روي عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله ﷺ وأعانوا عليه بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله ﷺ يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي ﷺ.

وقوله: وهم لا يتقون، أي لا يتقون الله في نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.

وبعد أن بين سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد - أردف ذلك ذكر ما يجب أن يعاملوا به فقال:

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم في الحرب - فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.

وإنما أمر الله رسوله ﷺ بالإثخان في هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى: « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون في السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا في ذلك مخادعين.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.

روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ خطب في بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال: « أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف - ثم قال: اللهم منزّل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ».

وفي ذلك إيماء إلى شيئين:

(1) إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله، وإنما هي ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ».

(2) إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم - أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.

ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.

وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة - قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال:

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء.

والحكمة في هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا.

وخلاصة ذلك - لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.

روى البيهقي أن النبي ﷺ قال: « ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء - من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا ».

وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال:

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم، ونحو الآية قوله: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ».

(إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم في الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم، والآية بمعنى قوله تعالى: « وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ ».

وخلاصة ذلك - قطع أطماعهم في الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.

وفي الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين في الدين، وما حرّمه من الخيانة فيها - لم يكن عن ضعف ولا عن عجز، بل عن قوة وتأييد إلهي، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب).

[سورة الأنفال (8): الآيات 60 الى 63]

وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

تفسير المفردات

الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها، والإرهاب والترهيب: الإيقاع في الرهبة وهي الخوف المقترن بالاضطراب، وجنح للشىء وإليه: مال، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه، والسلم (بفتح السين وكسرها) والسلام: الصلح وضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام كما قال: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً » وحسبك الله: أي كافيك وناصرك عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي ﷺ وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم - قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء - أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين في معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.

الإيضاح

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.

ويكون ذلك بأمرين:

(1) إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر: صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله ﷺ في غزوة خيبر وغيرها.

روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ﷺ وقد تلا هذه الآية يقول: « ألا إن القوّة الرمي » قالها ثلاثا، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة في عصره ﷺ.

(2) مرابطة الفرسان في ثغور البلاد وحدودها، إذ هي مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.

والحكمة في هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير في الحرب في هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية في الدول الحربية.

(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر، إذ لا شيء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول:

وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم إن الدّم المغبّر يحرسه الدم

وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه:

(ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.

(ج) ربما حملهم ذلك على الدخول في الإسلام والإيمان بالله ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر - ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم الله وهو علام الغيوب.

والخلاصة - إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء - يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى في العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شيء قليلا كان أو كثيرا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة في سبيل الله - بالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.

(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوي المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.

وفي هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة في سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فحسب.

وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله:

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها، لأنك أولى بالسلم منهم.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم، فالله هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفي عليك.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغرّة التي تمكنهم من أهل الحق، أو الاستعداد للحرب، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم.

(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والمال في مناصرتك، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.

ونحو الآية قوله في سورة آل عمران: « وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا ».

وقد كاد يقع شيء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.

وفي الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال:

(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لو لا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هي أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان - لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة في الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم، وأشرافهم وعامتهم، على ما كان بينهم من فوارق في الجاهلية، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن، لم يكن مما ينال بالمال والآمال في المغانم ونحوها، على أن شيئا من ذلك لم يكن في يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار في يده شيء كثير منه في المدينة بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا.

وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول والسبق إلى الإيمان، والأنصار لهم ميزة المال والقوة وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركي مكة وإيواؤهم ومشاركتهم لهم في أموالهم، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع لو لا فضل الله وعنايته، ومن ثم قال:

(وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم.

ونحو الآية قوله: « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ».

وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان، ومن ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ: « لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ » الآية (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين، الحكيم في أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.

[سورة الأنفال (8): الآيات 64 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

تفسير المفردات

حسبك: أي كافيك ما يهمّك، والتحريض: الحث على الشيء، لا يفقهون: أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة في الدنيا والآخرة، والضعف (بالفتح والضم) يشمل المادي والمعنوي، وقيل هو بالضم لما يكون في البدن، وبالفتح لما يكون في الرأي والعقل والنفس.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه - قفّى على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم في حالى الحرب والسلم وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان في الصلح.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن الله تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم، وكاف لمن أيدك من المؤمنين.

ونحو الآية قوله: « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ».

وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا « حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولا سيما خاتم أنبيائهم.

والمراد بالمؤمنين جماعتهم من المهاجرين والأنصار ولا سيما من شهد منهم بدرا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشرى وسنة التنازع في الحياة والسيادة.

والخلاصة - حثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جرّدوا من هذه الصفات الثلاث، وهذا عدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده.

والخلاصة - ليصبرنّ الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية، سواء قلوا أو كثروا، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل في إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية.

وحالهم يخالف حالكم في كل ما تقدم، ولا سيما منكري البعث والجزاء منهم كمشركي العرب في ذلك العصر، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب

الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم لعدم اعتقادهم بسعادة أخروية، إلى أن أهل الكتاب يظنون أنهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.

وفي الآية إيماء إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.

وهكذا كان المسلمون في العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤددهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك.

وبعد أن بين المرتبة العليا التي ينبغي أن تكون للمؤمنين، قفّى على ذلك ببيان مادونها من مرتبة الضعف فقال:

(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: « الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين » قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.

وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.

والخلاصة - إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون لا يجدون ما يكفيهم من القوت ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي الإهبة والعدّة.

ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ في عهده ومن بعده القدوة في ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث ابن عمير الأزدى ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا.

وقوله بإذن الله: أي بمعونته وتوفيقه، وبمعنى الآية قوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ».

وفي ذلك إيماء إلى أن من سنن الله في الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم، وفى هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضى النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن الله في خلقه.

[سورة الأنفال (8): الآيات 67 الى 69]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

تفسير المفردات

الأسرى: واحدهم أسير، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القدّ من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر في الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشدّ، والإتخان في كل شيء: قوّته وشدته، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح، والثخانة الغلظ، فكل شيء غليظ فهو ثخين، والعرض: ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث، ومسكم: أي أصابكم، وفيما أخذتم: أي لأجل ما أخذتم من الفداء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها - قفى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع في وقعة بدر وكما يقع في كل زمان.

روى ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: « لما كان يوم بدر جىء بالأسارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنت في واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول: أقطعت رحمك؟ فدخل النبي ﷺ ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله ليلين قلوب زجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال « رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال: « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا » أنتم عالة فلا يفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضرب عنق - فقال عبد الله رضي الله عنه يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله ﷺ فما رأيتنى في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله ﷺ إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) إلى آخر الآيتين ».

وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: « لما أسروا الأسارى (يعنى يوم بدر) قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله ﷺ: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله ﷺ: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة منه - وأنزل الله عز وجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

وفي هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه ﷺ اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما.

وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادوهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.

الإيضاح

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

إلى أن كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغي، ومن ثم أمر الله به.

وخلاصة ذلك - أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل - ففي المعركة الواحدة يإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفى الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم، والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، ويدخل في ذلك الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة إرادة الإثخان في الأرض والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل.

وفي ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبي ﷺ إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضا.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا، ويطلق لهم أخذ الفداء، ولكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزّوا، ونحو الآية قوله: « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ».

ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم في عنفوان قوتهم وكثرتهم.

وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية في العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات.

ولكن الإسلام - وهو دين الرحمة والعدل - لا يبيح شيئا من ذلك.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولو لا كتاب من الله سبق في علمه الأزلى ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم - لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.

أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: « اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار النبي ﷺ أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر فادهم، وقال عمر اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله ﷺ وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.

فأخذ رسول الله ﷺ بقول أبي بكر ففاداهم فنزل (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول الله: إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر ».

وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول السورة فقال:

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا) أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم، طيبا في نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) في أن تعودوا إلى أكل شيء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحلّه لكم ربكم.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبت حزبه، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم، وأباح لكم الانتفاع به.

وخلاصة ما تقدم - إنه ليس من سنة الأنبياء، ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنّ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضى أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولو لا كتاب من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته - لمسهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم، الله غفور رحيم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

المعنى الجملي

لما أخذ الرسول ﷺ الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته ﷺ وبشارة للنبي ﷺ، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.

روي أن الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي فقال: أمّا شيء خرجت لتستعين به علينا فلا، قال: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث، فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله ﷺ: أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدرى ما يصيبني؟ فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس: وما يدريك؟ قال أخبرني ربي، قال فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، وإنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي قل للذين في أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء: إن كان الله تعالى يعلم أن في قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر في حينه - كما يدّعى بعضكم - يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم في المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها.

روى أبو الشيخ عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبي ﷺ: آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا) الآية.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار، والله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة في الدنيا والآخرة.

وفي ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال، فإنهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله في خلقه.

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) يقال مكنه من الشيء وأمكنه منه. أي فمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين.

وفي الآية من العبر:

(1) إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.

(2) إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة في كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم.

روى البخاري عن أنس « أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله ﷺ في ترك فداء عمه العباس رضي الله عنه وكان في أسرى المشركين يوم بدر فقالوا: ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه (كانت جدته أنصارية) فقال ﷺ: والله لا تذرون منه درهما ».

وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال: فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) الآية فقال العباس (بعد إسلامه) وددت لو كان أخذ مني أضعافها لقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) اهـ.

وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك.

وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال:

[سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 75]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

المعنى الجملي

قسم الله المؤمنين اربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها:

(1) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر - إلى صلح الحديبية.

(2) الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي ﷺ والمهاجرين عند هجرتهم إليهم.

(3) المؤمنون الذين لم يهاجروا.

(4) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

الإيضاح

(1) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله ﷺ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله: أي بذلوا الجهد بقدر الوسع، واقتحموا المشاق.

أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان:

(ا) ما ينفق في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ونصر دينه وحماية رسوله.

(ب) ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه في أوطانهم عند خروجهم منها.

وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان:

(ا) قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم.

(ب) ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سغب وتعب ونحو ذلك.

(2) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم وآثروهم على أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادوا من عاداهم، ومن جراء هذا جعل الله حكمهم حكم المهاجرين في قوله: (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة، ويجب عليهم كفاية المحتاج، وإغاثة المضطر منهم.

(3) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) الولاية بفتح الواو وكسرها، وقيل هي بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبالكسر في الإمارة وتولى الأمور العامة، لأنها من قبيل الصناعات والحرف، أي إن المؤمنين المقيمين في أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم، ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم.

أما من أسره الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا.

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق.

(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكرو اطلاعه على أعمالكم، وتتوخّوا فيها الحق والعدل وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.

وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر.

وإن أعظم دول المدنية في العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة، ولا سيما عهودها للضعفاء، وتتخذها خداعا مع الأقوياء، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل في التفسير إذا رأت في ذلك مصلحتها، حتى قال رئيس الدولة الألمانية: ما المعاهدات إلا قصاصات ورق، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة: المعاهدات حجة القوي على الضعيف، وأبرع الساسة في التفصي منها بالتأويل هم الإنكليز.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في النصرة والتعاون على قتال المشركين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين. وإن كانوا شيعا يعادى بعضهم بعضا، ولم يكن في الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي ﷺ والمؤمنين، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضى عهدهم وينبذوه على سواء - يقع من الفتنة والفساد في الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضى إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم في دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.

ثم فضل الله المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم.

ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال:

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات، ورزق كريم في دار الجزاء، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقربهم من ربهم في دار النعيم.

(4) (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم - فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء.

وفي جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله تعالى « لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » وقوله: « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

ولا يخفى ما في الآية من ترغيب في الإيمان والهجرة.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) أولو الأرحام: هم أصحاب القرابات، والأرحام واحدها رحم (بزنة قفل وكتف) وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد، سمى به الأقارب لأنهم من رحم واحد، أي وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر، وبالتوارث في دار الهجرة في ذلك العهد وفى كل عهد، وقوله: في كتاب الله، أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى.

والخلاصة - إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه في جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى: « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ »

وقال رسول الله ﷺ « ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ».

أي فللمستحق من الأجانب.

(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع والأحكام - عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية، ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ».

زادنا الله علما بفقه كتابه، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع المجيب.

موضوعات السور المكية والمدنية

تقدم أن قلنا في آخر سورة البقرة: إن أمهات المسائل التي ذكرت في السور المكية هي: أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله والتصديق بالوحي والرسالة والبعث والجزاء، وقصص الرسل مع أقوامهم، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة، وجاء في أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم.

وأمهات ما جاء في السور المدنية - قواعد التشريع التفصيلية، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم، فكثر في سورة البقرة محاجة اليهود، وكثر في سورة آل عمران محاجة النصارى، وكثر في سورة المائدة محاجة الفريقين، وكثر في سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين، وكثر في سورة التوبة فضائح المنافقين.

أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام

(1) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله: « وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقوله: « وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ».

(2) كفاية. الله تعالى رسوله مكر مشركي قريش في مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه من بلده أو قتله كما قال سبحانه: « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ »

(3) امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم كما قال: « وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ».

(4) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال: « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ »

(5) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال « يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ».

أما المجادلة والمراجعة في المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي ﷺ في مواطن كثيرة.

(6) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله، أي يكل إليه أموره وحده، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله، فكل المخلوقات سواء في الخضوع لسننه، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شيء من سببه خضوعا لسننه في نظام خلقه، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال: « وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » وبين فائدة ذلك بقوله: « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».

(7) إن الظلم في الأمم يقتضى عقابها في الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ».

(8) إن الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدى الدين وحسن التربية والتعليم كما قال: « وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ».

(9) إن تقوى الله في الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا ».

(10) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها في الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعي لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب « ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ».

(11) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها، وذلك يشمل السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى، ومرابطة الفرسان في ثغور البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ».

(12) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ».

(13) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم، وتحريم الخيانة سرا وجهرا: « وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ».

(14) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك « فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ».

(15) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ».

(16) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة، « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » وقد جرت على ذلك الدول في العصر الحديث، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي ﷺ، في غزوة بدر، وفرضت عليه في غزوة أحد « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ».

(17) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال في حال الضعف، وجواز ذلك حين الإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة، مع ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء.

سورة التوبة - سورة براءة

عدد آيها ثلاثون ومائة، وهي مدنية، ولها أسماء كثيرة: منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، والمدمدمة والمخزية.

وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهي آخر غزواته ﷺ، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.

وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي ﷺ عليا ليقرأها على المشركين في الموسم.

روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » وآخر سورة نزلت براءة.

ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها - أنها كالمتممة لها في معظم ما في أصول الدين وفروعه، وفى التشريع الذي جلّه في أحكام القتال والاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك، وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بدىء به في الأولى أتم في الثانية - وهاك أمثله على ذلك:

(1) تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب.

(2) ذكر في الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء في الثانية « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ » إلى آخر الآيات (3) ذكرت العهود في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.

(4) ذكر في سورة الأنفال الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه في براءة.

(5) جاء في الأولى ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض - وفصل ذلك في الثانية أتمّ تفصيل.

[تنبيه ] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة. وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه.

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 4]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

تفسير المفردات

البراءة: من بريء من الدّين إذا أسقط عنه، ومن الذنب ونحوه: إذا تركه وتباعد عنه، والمعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه في يمين الآخر ويوثقونها بالأيمان، ومن جراء ذلك سميت أيمانا في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم، والسياحة في الأرض: الانتقال والتجوال فيها، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال، وقوله: غير معجزى الله، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن والخزي: الذل والفضيحة بما فيه عار، والأذان: الإعلام بما ينبغي أن يعلم، ويوم الحج الأكبر: هو يوم النحر الذي تنتهى فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم، ثم لم ينقصوكم شيئا، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم، ولم يظاهروا: أي لم يعاونوا.

المعنى الجملي

بعث الله محمدا ﷺ خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحد يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا في دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف في ذلك العصر، وعاهد النبي ﷺ أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السّلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين في الحديبية على السّلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لاعن ضعف وقله، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة في عهده ﷺ كما دخلت بكر في عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خضدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم مازالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم في حالى القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولا سيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.

من جرّاء هذا جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي ﷺ وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام: « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ».

الإيضاح

(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة آتية من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما يقال: هذا كتاب من فلان إلى فلان. نسبه إلى الله ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه الله وأمر رسوله يتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها.

قال البغوي: لما خرج النبي ﷺ إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل « وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ » اهـ. قال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافا كثيرا، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت، لقوله تعالى: « فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ » ولما سيأتي في الحديث: « ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته »

وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه الله اهـ.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا خطاب من الله للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين بريء الله ورسوله من عهودهم، أي قولوا لهم: سيروا في الأرض وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بلّغوا فيه هذه الدعوة، وتنتهى في عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر.

والحكمة في تحديد هذه المدة أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر في عاقبة أمرهم، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي واعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تفوتوه فتجدوا مهربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله في الدنيا والآخرة كما جاء في مشركي مكة ومن نحا نحوهم: « كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ».

(وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي هذا إعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات شركهم وضلالهم في وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهى فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم في منى.

ثم أكد ما يجب أن يبلّغوه بلا تأخير بقوله:

(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي قولوا لهم: فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام، فذلك خير لكم في الدنيا والآخرة، لأن في هدايته سعادتكم فيهما.

(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال: « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ».

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم في الآخرة.

وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، واستعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم، فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم، كما عدت بنو بكر على خزاعة في غيبة رسول الله ﷺ فظاهرتهم قريش بالسلاح.

وفي ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أن من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا)

ويدخل في الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون نقض العهد وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس وفى ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل في حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.

وقد ورد في تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها: أي التبليغ العلنى أحاديث في الصحاح أشهرها « أن النبي ﷺ جعل أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام، ثم أردفه بعلي كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة، وهي نحو أربعين آية.

وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبي هريرة.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله ﷺ بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

[سورة التوبة (9): الآيات 5 الى 6]

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

تفسير المفردات

انسلاخ الأشهر: انقضاؤها والخروج منها، يقال: سلخ فلان الشهر وانسلخ منه، قال تعالى: « وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ » وقال شاعرهم:

إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله كفى قاتلي سلخي الشهور وإهلالي

والحرم: واحدها حرام، وهي الأشهر التي حرّم الله فيها قتالهم في الأذان والتبليغ بقوله: « فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » وقوله: وخذوهم، أي بالأسر، والأخيذ: الأسير، واحصروهم: أي امنعوهم من الخروج واحبسوهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال رصدت فلانا أرصده: إذا ترقبته، أي اقعدوا لهم على كل مرصد، واستجاره: طلب جواره، أي حمايته وأمانه، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه حتى يسمّون النصير: جارا، وأجره: أي، أمنه، ومأمنه: أي مسكنه الذي يأمن فيه، وهو دار قومه، وقوله: لا يعلمون أي ما الإسلام وما حقيقته، فلابد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطى لهم للضرب في الأرض.

الإيضاح

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين، فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها، لأن الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية:

(1) قتلهم في أي مكان وجدوا فيه من حلّ وحرم.

(2) أخذهم أسارى، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر في سورة الأنفال بقوله: « ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ » لأن الإثخان وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد.

(3) حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن، بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات حتى يسلموا وينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه أو بدون شرط.

(4) القعود لهم كل مرصد: أي مراقبتهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه، ورؤية تجوالهم وتقلّبهم في البلاد.

وهذه الآية تسمى آية السيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال وقد كان مؤجّلا ومنسا إلى أن يقوى المسلمون، وكان الواجب عليهم في حال الضعف الصبر على الأذى.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن تابوا عن الشرك الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ودخلوا في الإسلام بأن نطقوا بالشهادتين، وأقاموا الصلاة المفروضة كما تقيمونها في الأوقات الخمسة والصلاة مظهر الإيمان وأكبر أركانه، وهي مطلوبة من الغنى والفقير والأمير والمأمور. وهي حق الله على عباده تزكّى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » وآتوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء والمصالح العامة - فخلّوا سبيلهم واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين، والله يغفر لهم ما سبق من الشرك وغيره من سيئاتهم ويرحمهم فيمن يرحم من عباده، وقد جاء في الأثر « الإسلام يجبّ ما قبله ».

وفي الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضى حدا معلوما أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.

روى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعا « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ».

والخلاصة - إن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم في جماعة المسلمين بالفعل، والتزامهم شرائع الإسلام وإقامة شعائره، إذ مقتضى الشهادة الأولى ترك عبادة غير الله، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، واكتفى من أركان الإسلام بالصلاة التي تجب في اليوم والليلة خمس مرات، لأنها الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين، وبالزكاة لأنها الرابطة المالية الاجتماعية، فمن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا من طلب منكم الأمان ليعلم ما أنزل الله وأمر به من دعوة الإسلام، فإن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا مقنعا ولم يسمعوا شيئا من القرآن، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه، لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك، وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه.

والخلاصة - وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه، أو ليلقاك وإن لم يذكر سببا - فأجره وأمّنه على نفسه وأمواله لكي يسمع أو لكي يراك، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر.

والمراد بالسماع أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة ويتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول في تبليغه عن الله، فإنه إذا ألقى إليه السمع لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبيّة والعدوان للداعى، فإن لم يفعل ذلك كان له شأنه وكانت له حريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام وهو على هذه الحال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إن ما ذكر من إجارة المستجير من المشركين إلى أن يسمع كلام الله من جراء أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبية واغترار بالقوة وإصرار على الجفوة. فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم، وأعدّهم ذلك للعلم بما كانوا يجهلون، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله - أجيبوا إلى ذلك لأن هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم، والرسول صلوات الله عليه إنما أرسل مبشرا ونذيرا.

وفي الآية إيماء إلى أن التقليد في الدين غير كاف، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، لأنه لو كان كافيا لوجب ألا يهمل الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق ببحثه عن الدليل والتفكير فيه أمهل وترك، وإن ظهر أنه معرض عن الحق لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.

[سورة التوبة (9): الآيات 7 الى 8]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)

تفسير المفردات

ظهر عليه: غلبه وظفر به، ورقب الشيء رعاه وحاذره لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه، ومنه فلان لا يرقب الله في أموره: أي لا ينظر إلى عقابه، فيركب رأسه في المعصية، والإلّ: القرابة. قال ابن مقبل:

أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإلّ وأعراق الرحم

والذمة والذمام: العهد الذي يلزم من ضيّعه الذمّ، وكان خفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار، فاسقون: أي خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، من قولهم: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض أحرارا، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقّتت بها، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام الله فإنه يجار حتى يسمعه - قفى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو دونه.

الإيضاح

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) المراد من المشركين الناكثون للعهد، لأن البراءة إنما هي في شأنهم، أي بأى حال يكون لهؤلاء المشركين عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله يستحق أن يراعى ويحافظ عليه إلى إتمام المدة بحيث لا يتعرض لهم على حسبه قتلا وأخذا، وحالهم ما بين في الآية التالية - إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهود إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم بنو كنانة وبنو ضمرة، لأنهم ممن كان قد أقام على عهده ولم يدخل في نقض ما كان بين رسول الله ﷺ وبين قريش يوم الحديبية من العهد.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فهؤلاء تربصوا بهم ولا تقتلوهم ما استقاموا لكم على العهد، إذ لا يجوز أن يكون نقضه من قبلكم.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الغدر ونقض العهد، وهؤلاء المعاهدون المذكورون هنا: هم المذكورون أولا بقوله: إلا الذين عاهدتم من المشركين إلخ، وإنما أعيد ذكرهم هنا، لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعيّة من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته، وبيان استباحة نبذ عهد الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهده أو نقصوا منه كما فعلت قريش في نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بنى بكر على خزاعة أحلاف رسول الله ﷺ.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم - عهد مشروع عند الله مرعي الوفاء عند رسوله - وحالهم المعروفة من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم في القوّة والغلب، لا يرقبوا الله ولا القرابة في نقض العهد والميثاق.

والخلاصة - إنه لا عهد لمن كان له عهد وغدر فيه، وكذا من لا عهد له منهم لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يقيّدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا مؤقت.

ثم بين ما تنطوى عليه جوانحهم من الضغينة للمؤمنين فقال:

(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي هم يخادعونكم حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسول يرون أنه يرضيكم سواء أكان عهدا أم وعدا أم أيمانا مؤكدة، وقلوبهم مملوءة ضغنا وحقدا « يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود وحنثوا بالإيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون.

وإنما يفعلون ذلك لأن أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، فليس لهم مروءة رادعة، ولا عقيدة وازعة، ولا يتعفّفون عن الغدر وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض.

وإنما وصف الأكثر، لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفون الذين استثناهم الله تعالى وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 9 الى 10]

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يمدح عندهم - أردف ذلك بذكر السبب في هاتين الآيتين.

الإيضاح

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي استبدلوا بآيات الله الدالة على توحيده بالعبادة، وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية للناس، وعلى البعث والجزاء على الأعمال - ثمنا قليلا من حطام الدنيا، وهو ما هم فيه من رخاء العيش وكثرة الأموال، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وما يقتضيه من الوفاء وصدوا غيرهم أيضا، وجعله قليلا لأنه زائل غير باق وما عند الله باق دائم وهو خير وأبقى، لأن ما عندهم قليل بالنظر إلى ما عند غيرهم.

روي أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إلى ما طلب.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح عملهم الذي يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصد عن دين الله وما جاء به رسوله من البينات والهدى.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي ومن أجل هذا الكفر لا يرعون في مؤمن يقدرون على الفتك به قرابة تقتضى الود، ولا ذمة توجب الوفاء بالعهد، ولا ربّا يحرّم الخيانة والغدر، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدا ولا يستحل غدرا ولا يقطع رحما.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون للغاية القصوى من الظلم، والعلة في هذا رسوخهم في الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر والاعتصام بالإيمان والتمسك بفضائل الأخلاق وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.

[سورة التوبة (9): الآيات 11 الى 12]

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين - أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلها في هاتين الآيتين.

الإيضاح

(1) (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه، فأقاموا الصلاة أي أدّوها بشروطها وأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم به، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف في المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغنى للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي وإنا نبين حجج الله وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.

(2) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) يقال نكث الغزل والحبل: حلّ الخيوط التي تألّف منها وأرجعها إلى أصلها، والأيمان العهود وقد كان كل من العاقدين للعهد يضع يمينه في يمين الآخر.

أي وإن نكث هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم واستهزءوا به وصدّوا الناس عنه، ومن ذلك الطعن في القرآن وفى النبي ﷺ كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي ﷺ دماءهم فقاتلوهم فهم أئمة الكفر وحملة لوائه المقدّمون على غيرهم بزعمهم، فهم الأجدر بالقتل والقتال.

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي إن عهودهم لا قيمة لها. فهي مخادعة لسانية لا يقصد الوفاء بها كما قال سبحانه « يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة.

(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الأيمان ونقض العهود والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه.

وفي ذلك إيماء إلى أن القتال لا يكون اتباعا لهوى النفس، أو إرادة منافع الدنيا من السلب والنهب وإرادة الانتقام، وهذه ميزة الإسلام، إذ جعل الحرب ضرورة لإرادة منع الباطل وتقرير الحق.

[سورة التوبة (9): الآيات 13 الى 15]

أَلا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه يقتال أئمة الكفر - ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله قد علم أن في نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك، والله يريد أن تطهر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية، ويمحّص المؤمنين من النفاق ومثالبه، من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.

الإيضاح

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟) أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة:

(1) إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي ﷺ وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بنى بكر على خزاعة حلفاء النبي ﷺ ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولما علم بذلك رسول الله ﷺ قال: « لا نصرت إن لم أنصركم »

وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.

(2) إنهم هموا بإخراج الرسول ﷺ من وطنه أو حبسه حتى لا يبلغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبة من بطون قريش ليتفرق دمه في القبائل، فتتعذر المطالبة به، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ».

(3) إنهم بدءوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه ونقيم في بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رءوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما.

وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم قال:

(أَتَخْشَوْنَهُمْ؟) أي أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفا منكم وجبنا؟.

(فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله، لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فان خشى غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع، فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجّح خشيته تعالى على خشية غيره.

وهذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلو أن يكون بينهم جماعة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يكرهون القتال إذا لم توجبه الضرورة كما قال: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » أو رجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك.

وخلاصة ما سلف - إنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها، لم يبق من سبب يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم وقلّتكم وكثرة عديدهم.

وفي الآية إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ولا يخشى إلا الله وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم، وفنّد الشبه المانعة من ذلك - أمرهم به أمرا صريحا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم، وهذه العدة من أخبار الغيب في وقعه معينة، وقد صدق الله وعده فقال:

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي قاتلوهم كما أمرتكم، فإنكم إن فعلتم ذلك يعذبهم الله بأيديكم ويمكّنكم من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، ويخزهم بذلّ الأسر والقهر والفقر لمن لم يقتل منهم، وينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذا، فلا يعودون إلى قتالكم كما كان شأنهم بعد وقعة بدر، ويشف صدوركم مما نالوا منكم من الأذى ولم تكونوا تستطيعون دفعه - وقد كان في صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم - وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة وغيرها ممن كانوا في دار الشرك عاجزين عن الهجرة.

وروي عن ابن عباس أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا إلى مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول الله ﷺ يشكون إليه فقال ﷺ « أبشروا فإن الفرج قريب ».

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي كان قد وقر فيها من غدر المشركين وظلمهم، ومن طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه وأكملها فإنه يعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة النفس وصدق العزيمة.

وهذا الخزي والتعذيب الذي سينزله بهم لا يعمهم، بل هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر، فلم يبق فيهم استعداد للإيمان.

(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي وأما غيرهم فسيتوب الله عليهم من شركهم ويوفقهم للإيمان ويتقبله منهم، وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم في الحال والاستقبال، الحكيم فيما يشرع لهم من الأحكام لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله.

ومن سننه تعالى تفاوت البشر في العقائد والأخلاق والأعمال، وقابلية التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع.

[سورة التوبة (9): آية 16]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

تفسير المفردات

الوليجة: ما يلج في الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدّخيلة، ويطلق على الواحد والكثير، ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين.

المعنى الجملي

كان الكلام في الآيات التي قبل هذه في بيان حال المشركين من مواصلتهم ما بدءوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم، وقتال المؤمنين لهم على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق في هذا القتال والكلام الآن في بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة في حقوق الإسلام.

الإيضاح

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الخطاب هنا لجماعة المسلمين الذين من بينهم منافقون ومرضى القلوب يثبّطون عن القتال.

والمعنى - هل جاهدتم المشركين حق الجهاد، وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدءوكم أول مرة، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن في دينكم وصدّ الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلّفوا عن الخروج مع رسول الله ﷺ إلى تبوك من أعذار ملفّقة كاذبة، وما كان من تثبيط من خرج منهم معكم عن القتال؟ أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير فتنة ولا امتحان، ولم يتبين الخلّص من المجاهدين منكم الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين الذين يحادون الله تعالى بالشرك به، ويحادون الرسول بالصدّ عن دعوته، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله - من المنافقين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة ويقفونهم على سياسة الأمة كما يفعل المنافقون في كل زمان.

ونحو الآية قوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ».

وقد عبر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان - بعدم علمه بهم، لأن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وجوده.

ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد كما جاء في قوله: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ».

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الآن وبعد ذلك وقبله، محيط بكل شيء علما، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحصّ ما في القلوب ويطهّر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها.

وخلاصة المعنى - أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين في جهادهم والكاذبين فاسدى السريرة ومتّخذى الوليجة، وهو لم يعلم الصادقين في الجهاد لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له، إذ لا يخفى عليه شيء من أمركم، وهو الخبير بكل ما تعملون.

[سورة التوبة (9): الآيات 17 الى 18]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

تفسير المفردات

المساجد: واحدها مسجد، وهو مكان السجود ثم صار اسما للبيت الذي يعبد فيه الله وحده كما قال: « وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا » وعمارة المسجد: تطلق تارة على لزومه والإقامة فيه للعبادة، أو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه أو نحو ذلك، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه، ومنها النسك المخصوص المسمى بالعمرة.

المعنى الجملي

بعد أن فتح المسلمون مكة وأدال الله للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول ﷺ مما كان فيه من الأصنام، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام، فنادى علي وأعوانه في يوم النحر بمعنى: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين، كان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام - إلى أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال في أرض الحرم، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلا بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم في الطواف فيه.

لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا.

روي عن ابن عباس أنه قال: لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له على في القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال علي كرم الله وجهه: ألكم محاسن؟ فقال نعم: إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فأنزل الله: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) الآية.

الإيضاح

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي ما كان من شأن المشركين ولا مما ينبغي لهم أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر قولا وعملا بعبادتهم للأصنام والاستشفاع بها والسجود لما وضعوه منها في البيت عقب كل شوط من طوافهم، وقولهم حينئذ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.

إذ في عملهم هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية بعبادته تعالى وحده، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحّد لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه في العبادة.

وخلاصة ذلك - إنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان.

وقوله: شاهدين على أنفسهم، أي إنهم كفروا كفرا صريحا معترفا به لا تمكن المكابرة فيه.

والمراد بالعمارة الممنوعة عن المشركين للمساجد الولاية عليها والاستقلال بالقيام بمصالحها كأن يكون الكافر ناظرا للمسجد وأوقافه، أما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة والبناء والنجارة فلا يدخل في ذلك.

وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدا بناه كافر أو أوصى ببنائه أو ترميمه إذا لم يكن في ذلك ضرر ديني ولا سياسى، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان قد تداعى من بنائه، أو بذلوا لذلك مالا لم يقبل منهم، لأنهم يطمعون في الاستيلاء على هذا المسجد، فربما جعلوا ذلك ذريعة لادعاء حق لهم فيه.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله قد بطلت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وقرى الضيف وصلة الرحم ونحو ذلك مما كانوا يعملونه في دنياهم، فلم يبق له أثر ما في صلاح أنفسهم ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده.

ونحو الآية قوله: « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وقوله: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ».

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلود وبقاء لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسّى أنفسهم حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم في دار الكرامة والنعيم.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) أي إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الذي بيّنه في كتابه من توحيده واختصاصه بالعبادة والتوكل عليه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده ويجزى كل نفس ما كسبت، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله خوفا من ضرره أو رجاء نفعه.

(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسا ومعنى بحسب سننه تعالى في أعمال البشر وتأثيرها في نفوسهم، وبذا يستحقون عليها الجزاء في جنات النعيم، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام.

هذا، وقد ورد في عمارة المساجد أحاديث كثيرة.

فقد روى الشيخان والترمذي عن عثمان رضي الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله ﷺ ولامه الناس قال إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة ».

وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا « من بنى لله مسجدا ولو كمفحص (الموضع الذي تفحص التراب عنه وتكشفه لتبيض فيه) قطاة لبيضها - بنى الله له بيتا في الجنة ».

وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه: أن امرأة كانت تقمّ المسجد - تكنسه - فماتت، فسأل عنها النبي ﷺ فقيل له ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلّى عليها دلّونى على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها.

وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وتلا (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ) » الآية.

[سورة التوبة (9): الآيات 19 الى 22]

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

تفسير المفردات

السقاية: الموضع الذي يسقى فيه الماء في المواسم وغيرها، وسقاية العباس: موضع بالمسجد الحرام يستقى فيه الناس، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم لا تزال ماثلة إلى الآن، وقد يراد بالسقاية الحرفة كالحجابة وهي سدانة البيت، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش وقد أقرّهما الإسلام.

وفي الحديث: « كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت ».

وقد كانت قريش تسقى الحاج الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام.

المعنى الجملي

هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.

روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال: « كنت عند منبر رسول الله ﷺ في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ - وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله ﷺ لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ - إلى قوله - وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ».

الإيضاح

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟) الخطاب في الآية للمؤمنين الذين تنازعوا - أي الأعمال أفضل - والمراد - إنه لا ينبغي أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فإن السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال البر والخير فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد في علو المرتبة وشرف المقدار، وقد صرح بهذا في قوله:

(لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) أي لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني لا في صفته ولا في عمله في حكم الله ولا في مثوبته وجزائه عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركي قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهديهم إلى الحق في أعمالهم ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم، إذ ليس من سننه تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدى الظالم إلى شيء من ذلك، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم ويحبب إليها الحق والعدل، ويرغّبها في الخير وعمل البر ابتغاء مرضاة الله لا للفخر والرياء، وعلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ثم بين سبحانه مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) أي هم أعظم درجة وأعلى مقاما في مراتب الفضل والكمال في حكم الله وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القربات بعد الإسلام.

فالذين نالوا فضل الهجرة والجاد بنوعيه النفسي والمالى أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنا من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية وإن فرض فيها حسن النية.

ثم فصل سبحانه ذلك الفوز العظيم وبينه بقوله:

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) أي يبشرهم ربهم في كتابه على لسان رسوله، وعلى لسان ملائكته حين الموت، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشو به سخط، وجنات تجرى من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا.

(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن ما عند الله من الأجر على الإيمان وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد عظيم لا يقدر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده المكرمين، ولا سيما على الإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل والسكن، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شيء إلى النفس، وعلى بذل النفس التي هي أعز شيء على الإنسان.

فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء ما بين روحى وجسماني فالأول الرحمة والرضوان. والرضوان هو نهاية الإحسان وهو أعلى النعيم وأكمل الجزاء كما يدل على ذلك قوله: « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».

وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون، لبّيك ربّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون ربّنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوإني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ».

والثاني: هو النعيم المقيم في جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.

[سورة التوبة (9): الآيات 23 الى 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

تفسير المفردات

استحب كذا وأحبه: بمعنى، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والعشيرة: ذوو القرابة الأدنون الذين من شأنهم التعاون والتناصر، والاقتراف: الاكتساب، وكساد التجارة: ضد رواجها، والتربص: الانتظار، وأمره: عقوبته إن عاجلا أو آجلا.

المعنى الجملي

لما أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم - عزّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطّلقاء الذين أعتقهم النبي ﷺ يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّون إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم.

من أجل هذا بين الله في هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته - لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ الزوج والعشيرة والمال والسكن.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال وتظاهرون لأجلهم الكفار أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين وما يستعدون به لقتال المشركين إن أصرّوا على الكفر وآثروه على الإيمان، فإن في ذلك قوة للمشركين على قتال المؤمنين وحضدا لشوكتهم وقد حدث ذلك منذ ظهور الإسلام إلى نزول هذه السورة، فقد كتب حاطب بن أبي بلتعة وهو من أهل بدر وقد استخفّته نعرة القرابة إلى مشركي مكة خفية يعلمهم بما عزم عليه النبي ﷺ من قتالهم، ليتخذ له بذلك يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفى ذلك نزلت سورة الممتحنة للنهى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن يتولهم وهم على تلك الحال فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم بوضعهم الموالاة في غير موضعها، فهم قد وضعوا الولاية في موضع البراءة، والمودّة في محل العداوة، وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحميّة الجاهلية.

ونحو الآية قوله في سورة الممتحنة: « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ».

وبعد أن بين ما وصل إليه حالهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال:

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي قل لهم وإن كنتم تفضّلون حظوظ الدنيا وشهواتها من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي أمر الله: أي عقوبته التي تحل بكم عاجلا أو آجلا.

وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها في أربعة:

(1) مخالطة الأقارب وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة.

(2) الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.

(3) الرغبة في تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة.

(4) الرغبة في الأوطان والدور التي بنيت للسكنى.

وخلاصة ذلك - إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة.

ولا يخفى ما في ذلك من الوعيد والتهديد، ومن الإيماء إلى أنه إذا وقع التعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم نبذ الثانية وإلقاؤها وراءه ظهريا.

وبتفصيل ما تقدم في الآية نجد أنها حوت أمورا ثمانية من أفضل ما يحب.

(ا) حب الأبناء للآباء وهو غريزى في النفوس فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه من جسمية وخلقية، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفى معاهد الحج كما قال تعالى حاثا على ذكره: « فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ».

(ب) حب الآباء للأبناء وهو غريزى أيضا، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه كثيرا من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب، ويقوم بتربيته وتعليمه، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة كما قال تعالى: « الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ».

(ج) حب الإخوة وهو يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون في الكفاح في الحياة، والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم، ويوقّرون كبيرهم، ويرحمون صغيرهم، ويكفلون من يتركه أبوه صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم.

(د) حب الزوجة وبالزوجية يتحد بشران يتمم وجود كل منهما وجود الآخر وينتجان بشرا مثلهما، ومن ثم امتن الله علينا به فقال: « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ».

(ه) حب العشيرة، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر في مواطن القتال والنزال والذّود عن الحمى والحريم، وهو يكون على أشده في أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر.

(و) حب الأموال المقترفة: أي المكتسبة، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة، لأن عناء النفس في جمعها يجعل لها في قلبه منزلة لا تكون لما يجىء من المال عفوا.

(ز) حب التجارة التي يخشى كسادها في حال الحرب، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها في ذلك الحين، لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب في موسم الحج، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة.

(ح) حب المساكن الطيبة المرضية، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة في مكة كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكنى لما فيها من المرافق وأسباب الراحة.

فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروها مبغوضا لدى النفوس فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته كما قال تعالى: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ».

أما حبه تعالى فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام وتسخير منافع الدنيا للناس، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان في آلاء الله في خلقه وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان: « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ».

وكذلك حب رسوله يجب أن يكون فوق هذه أيضا، فإنه ﷺ كان المثل الأعلى في أخلاقه وآدابه، وقد أرسله الله هداية للعالمين إلى يوم الدين.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد.

وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدى إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله.

هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل حب الله ورسوله، منها ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعا « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار »

وعنه أيضا « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين »

وما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال: « كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك التي بين جنبيك. فقال عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال له النبي ﷺ: الآن يا عمر ».

والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع.

والذكر الحق هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد وتأمل سنن الله وآياته في الخلق وأن تذكر حين رؤية كل شيء من صنع الله، وسماع كل صوت من مخلوقات الله، أنه يسبح بحمده تعالى ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.

ومن أقام فرائض الله كما أمر، وترك معاصيه كما نهى، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه في الحديث القدسي « وما تقرب إلي عبدي بشىء أحبّ إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها » رواه البخاري.

[سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 27]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

تفسير المفردات

المواطن: واحدها موطن، وهو مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن والمراد بالموطن هنا مشاهد الحرب ومواقعها، وحنين: واد على ثلاثة أميال من الطائف، وغزوته تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن، والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، والرّحب: السعة، ومدبرين: أي هاربين لا تلوون على شيء، والسكينة: الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها، وهي ضد الانزعاج، وقد تطلق على الرزانة والوقار.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهى والوعيد وأن الخير ولمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولى القربى من الكافرين، وفى إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب - إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها.

الإيضاح

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم في صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهارا لدينه.

روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته ﷺ إحدى وعشرون، قاتل بنفسه في ثمان: بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف.

وبعوثه وسراياه ست وثلاثون، واختار جمع من العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع في بعضها قتال، ونصرهم في كل قتال، إما نصرا كاملا وهو الأكثر وإما نصرا مشوبا بشىء من التربية على ذنوب اقترفوها كما في أحد، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم في أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم، وكما في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة والنصر التام في آخرها.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ونصركم أيضا في يوم حنين وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثنى عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائل منكم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي ﷺ فكانت الهزيمة: أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعجب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة مرة أخرى، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر.

ومعنى قوله: فلم تغن عنكم شيئا إلخ - أن تلك الكثرة التي غرتكم لم تكن بكافية لانتصاركم ولم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة، وضاقت عليكم الأرض على رحبها وسعتها، فلم تجدوا وسيلة للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو فولّيتموه ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي ثم أفرغ الله سكينة من لدنه على رسوله (بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه حين وقوع الهزيمة لهم) فما ازداد إلا ثباتا وشجاعة وإقداما - وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته الشهباء - وعلى سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم وأزال حيرتهم وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم، وخصوصا حين سمعوا نداءه ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره - وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم، بل وجدتم أثرها في قلوبكم بما عاد إليها من رباطة الجأش وشدة البأس - وعذب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه.

ونحو الآية قوله: « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ » (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب، وهو غفور لهم يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي، رحيم بهم يتفضل عليهم ويثيبهم بالأجر والجزاء.

وفد هوازن وإسلامهم وغنائهم

روى البخاري عن المسور بن مخرمة « أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول الله ﷺ وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، (وقد سبى يومئذ ستة آلاف وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى) فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي من ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي ﷺ فقال: هؤلاء جاءونا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه، قالوا رضينا وسلّمنا، فقال ﷺ: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ». [سورة التوبة (9): آية 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

تفسير المفردات

النجس: من نجس الشيء إذا كان قذرا غير نظيف والاسم النجاسة، وقال الراغب: النجاسة: القذارة، وهي ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة، وهذا ما وصف الله به المشركين فقال إنما المشركون نجس، ويقال نجّسه، إذا جعله نجسا، ونجّسه: أزال نجسه ومنه تنجيس العرب، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له اهـ. والعيلة: الفقر، يقال عال الرجل يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر فهو عائل، وأعال: كثر عياله، وهو يعول عيالا كثيرين: أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم، والفضل: العطاء والتفضل.

المعنى الجملي

لما أمر النبي ﷺ أبا بكر حين أمّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلّغ الناس أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك، ثم أمر عليا أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله بريء من المشركين ورسوله - قال ناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة لا نقطاع السبل وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة فقال سبحانه « وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ».

قال ابن عباس: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتّجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله « وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً » الآية. قال فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم، وأسلم أهل اليمن وجاءهم الناس من كل فجّ.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهي أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهي أرجاس معنوية - من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.

وبلاد الإسلام في حق الكفار أقسام ثلاثة:

(1) الحرم، ولا يجوز لكافر أن يدخله بحال لظاهر الآية، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم لا يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وأبو حنيفة - يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.

(2) الحجاز، وهو ما بين عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا، ويجوز للكافر دخولها بالإذن. ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام.

روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول « لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما »

وفي رواية لمسلم، وأوصى فقال: « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب » فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته، وأخرج مالك في الموطأ « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ».

وعن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ».

(3) سائر بلاد الإسلام، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي وإن خفتم فقرا بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع في الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف وأرباب المتاجر - فسوف يغنيكم الله من فضله، وفضله كثير، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد، وصدق الله وعده فأسلم أهل اليمن وصاروا يجلبون لهم الطعام، وأسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليهم من البلاد فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج، ومهد الله لهم سبل الرزق من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة، وكان نصيب مكة من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة.

وقيد هذا الغنى بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول ما تتعلق به، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده وإن كانوا مأمورين به، لأنه من سننه في خلقه، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم فهو الذي نصرهم وأغناهم وسيزيدهم نصرا وغنى.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إنه عليم بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهى كأمركم بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان.

[سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)

تفسير المفردات

يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينا وعقيدة، ودين الحق: هو الدين الذي أنزله الله على أنبيائه، والجزية ضرب من الخراج يضرب على الأشخاص لا على الأرض، وجمعها جزى (بالكسر) واليد: السعة والقدرة، والصّغار والصغر: ضد الكبر ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، وللمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحكام المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفى إظهار البراءة منهم في أنفسهم، وفى وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام - قفّى على ذلك بحكم قتال أهل الكتاب وبيان الغاية منه، وفى ذلك توطئة للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم وتمحيص المؤمنين، وإن كان النبي ﷺ لم يقاتل فيها الروم لما سيأتي بعد.

روى ابن المنذر عن ابن شهاب قال: أنزلت في كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت في أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ - إلى قوله - حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.

روى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال: « قاتل رسول الله ﷺ أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد على هذه الآية في شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الآية، وعلى الجملة فالقتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه الدعوة إلى الإسلام.

والناظر إلى غزواته ﷺ يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة، وكذلك كانت حروب الصحابة في الصدر الأول، ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة، ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل

الإيضاح

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي قاتلوا أهل الكتاب، إذ هم جمعو أربع صفات هي العلة في عداوتهم للاسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا في داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي ﷺ لهم، وجعلهم حلفاء له، وأجاز لهم الحكم فيها بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم في حدود البلاد العربية.

وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هي أصول كل دين إلهي، ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهي:

(1) إنهم لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يشرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم، وبذا أشركوهم في الربوبية، ومنهم من أشرك به في الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله، أو هو الله.

(2) إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد.

ولا يوجد فيما بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة في البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة في ذلك.

(3) إنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فاليهود لا يحرمون ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حرّم، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين في القتال والنفي ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حرّم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت في كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وحرّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.

(3) إنهم لا يدينون دين الحق، إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدى وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية، لا دين الحق الذي أو حاه الله إلى عيسى وموسى عليهما السلام.

فاليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، إلى أن عاقبهم الله بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبوا بقية السيف منهم وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم.

ولما أعادوهم إلى أوطانهم وكانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض - كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا (عزير) ثم هم بعد ذلك حرّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة، وذلك هو دين الله الحق.

وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية.

وإلى ما تقدم في أهل الملتين الإشارة بقوله: « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، ولا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ».

من هذا النص يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسى حظا مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم.

ولقب - أهل الكتاب - والذين أوتوا الكتاب - وإن كان عاما - خص به اليهود والنصارى، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركي العرب « أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ ».

(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضى القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك - إلى أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأي العين.

فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم في دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين « لهم ما لنا وعليهم ما علينا ».

ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويسمّون حينئذ أهل الذمة، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله.

أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطرفان فيسمّون المعاهدين أو أهل العهد.

وأول من سن الجزية كسرى أنو شروان، قال أبو حنيفة الدّينورى: إنه وظّف الجزية على أربع طبقات، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين.

وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها.

وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان: « هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة. على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغيّر شيء من ذلك. شهد بذلك سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس ».

وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب قال: « هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة (أرسل لميدان القتال) وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك ».

والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعون.

[سورة التوبة (9): الآيات 30 الى 33]

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

تفسير المفردات

عزير: هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا، وينتهى نسبه إلى العازار بن هارون عليه السلام، ويضاهئون: أي يشابهون ويحاكون، وقاتلهم الله: جملة أصلها الدعاء ثم كثر استعمالها حتى قيلت على وجه التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، والإفك: صرف الشيء عن وجهه، يقال أفك فلان أي صرف عقله عن إدراك الحقائق، ورجل مأفوك العقل، والأحبار واحدهم حبر (بالفتح والكسر) وهو العالم من أهل الكتاب، والرهبان: واحدهم راهب، وهو لغة الخائف، وعند النصارى هو المتبتل المنقطع للعبادة، والإرادة: القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضى إليه وإن لم يرده فاعله فيقال في الرجل المسرف المبذّر: يريد أن يخرب بيته أي أن تبذيره يفضى إلى ذلك فكأنه يقصده، لأن فعله فعل من يقصد ذلك، ونور الله: هو دين الإسلام، وأظهره على الشيء: جعله فوقه مستعليا عليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح - قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.

الإيضاح

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) عزير كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل حوالى سنة 457 ق م أسس المجمع الكبير وجمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا من العبرانية القديمة، وألف أسفار الأيام، وعزرا، ونحميا وعلى الجملة فعصره هو ربيع الدين اليهودي، وهو جدير أن يكون ناشر الشريعة اليهودية، فقد أحياها بعد أن نسيت، ومن أجل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب (ابن الله).

وإسناد هذا القول إليهم جملة وإن كان قد صدر من بعضهم - مبنى على أن الأمة تعدّ متكافلة في شئونها العامة، فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم كما قال تعالى: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ».

وما مثل ذلك إلا مثل الأوبئة التي تحدث في الشعب بكثرة الأقذار وإهمال مراعاة القواعد الصحية - لا يعدى بها من تلبس بها فحسب، بل تنتشر العدوى في الشّعب جميعه.

روى ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله ﷺ سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس ابن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟

والمشهور عند المؤرخين حتى مؤرخى أهل الكتاب أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام، فانه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين الذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما جاء في سفر الملوك الأول، وأن عزرا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ممزوجة ببقايا اللغة العبرانية التي نسى اليهود معظمها، ويقول أهل الكتاب إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله.

وخلاصة ما سلف - إن جميع أهل الكتاب يدينون لعزير في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم، وإن كان هذا المستند ضعيفا، فقد جاء في ترجمة عزرا من دائرة المعارف البريطانية: إنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فحسب، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية (أبوكريف) ثم قال كاتب الترجمة: وإذا كانت هذه الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا اهـ.

(وقالت النصارى المسيح ابن الله) وهذا قول للقدماء منهم كانوا يريدون به المحبوب أو المكرّم، ثم سرت إليهم وثنية الهنود فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقة وعلى أن ابن الله بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس) إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة، وهذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون - وقد خالف في ذلك خلق كثير منهم يسمّون الموحدين أو العقليين، ولكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدّ بنصرانيتهم ولا بدينهم.

وكلمة (ثالوث) تطلق عندهم على وجود أقانيم ثلاثة معا في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا هو تعليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية والبروتستانتية وهو المطابق لنصوص الكتاب المقدس.

وعقيدة التثليث وألوهية المسيح مع مخالفتهما للعقل ليس لهما أصل في كتب الأنبياء لا قطعى ولا ظنى، وكتب العهد الجديد كذلك ليست نصا فيهما على أن هذه لا يوثق بها، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره، ثم رفضت مجامعهم الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات واعتمدت أربعا منها فحسب، وهذا مصداق قوله تعالى « وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ».

(ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي هذا الذي قالوه في عزير والمسيح قول تلوكه الألسنة في الأفواه، لا يؤيده برهان ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دالّ على عكسه لاستحالة إثبات الولد لمن هو بريء عن الحاجة واتخاذ الصاحبة.

وفي معنى الآية قوله: « وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ».

(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي يشابهون فيها قول الذين كفروا من قبلهم وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول، إذ قالوا: الملائكة بنات الله.

وقد علم من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة والبوذيين في الهند والصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومانيين، فبيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة التي لم يكن أحد من العرب ولا ممن حولهم يعرفها - بل لم تظهر إلا في هذا الزمان - معجزة من معجزاته الكثيرة التي تظهر على مر الزمان، وتصدّقها المشاهدة والعيان.

(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) تعجب من شناعة قولهم، وقد شاع استعمالها في ذلك، وتستعمل في المدح أيضا فيقال: قاتله الله ما أفصحه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد لعنهم الله.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يصرفون توحيد الله وتنزيهه، وبه تجزم العقول، وبلّغه عن الله كل رسول - إلى قول لا يقبله عقل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله الذي خلق هذا الكون العظيم ودبّر أمره، ولا ينبغي لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شئونه ولدا من جنسه، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ».

ثم فصل قوله قبل يضاهئون قول الذين كفروا من قبل بقوله:

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وإطاعتهم فيه، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم: أي عبادّهم الذين يخضع لهم العوام أربابا كذلك.

والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابا يقتضى بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون، سواء قالوه تبعا لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم لثقتهم بدينهم.

وانفرد النصارى باتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم، ويتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة.

واليهود لم يقتصروا في دينهم على أحكام التوراة، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم من قبل أن يدوّنوه في المشنة والتّلمود، ثم دونوه فكان هو الشرع العام وعليه العمل عندهم.

والنصارى غيّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية واستبدلوا بها شرائع أخرى في العبادات والمعاملات جميعا، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاءوا وحرمان من شاءوا من رحمة الله وملكوته، والله يقول: « وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ » وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول ﷺ فرّ إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول الله عليها وأعطاها فرجعت إلى أخيها ورغبته في الإسلام وفى القدوم على رسول الله ﷺ، فقدم عدى المدينة وكان رئيسا في قومه طىء (وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم) فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله ﷺ وهو يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلّوا الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).

وقال رسول الله ﷺ يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ما يضرك؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا) أي اتخذوا رؤساءهم أربابا من دون الله، والربوبية تستلزم الألوهية، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده، والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به من عند الله، إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلها واحدا بما شرعه لهم وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه.

ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال:

(لا إله إلا هو) أي لا إله غيره في حكم الشرع وفى نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأي والهوى جهلا بصفات الألوهية، إذ ظنوا أن لبعض المخلوقات سلطانا غيبيا وقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب للمسخرة للخلق مثل مالله إما بالذات وإما بالوساطة والشفاعة لديه.

(سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفى ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه.

وأمره تعالى بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام جاء في مواضع من التوراة، منها أول الوصايا العشر التي جاءت في سفر الخروج (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورا مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من تحت، ولا مما في الماء تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك له غيور) إلخ.

وأمره بعبادته على لسان عيسى كثير أيضا، من ذلك ما رواه يوحنا في إنجيله (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله وهو دين الإسلام الذي أرسل به جميع رسله، وأفاضه على البشر بما أوحاه على موسى وعيسى وغيرهما من رسله، وأتمه وأكمله ببعثه خاتم النبيين محمد ﷺ - بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح، وبما ابتدعه لهم الرؤساء من التشريع حتى صار التوحيد الذي به هو محض الشرك عندهم، وصار المربوب ربا على تفاوت بين فرقهم في ذلك.

وهكذا عادى أهل الكتاب الإسلام منذ البعثة المحمدية، وقصدوا إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال ناحية، وبالطعن وإفساد العقائد من ناحية أخرى، وكل من الأمرين أرادوه لإطفاء نوره.

(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ببعثة محمد خاتم النبيين الذي أرسله إلى الخلق أجمعين

وجعل آيته الكبرى وهي القرآن علمية عقلية وكفل حفظها إلى آخر الزمان، وبين لهم فيه ما يحتاجون إليه من عقائد يؤيدها البرهان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلا عن الأصنام الأوثان، وعبادات تتزكى بها النفس وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ويبطل ثوابها المنّ والأذى، وآداب تطبع في الأنفس الفضائل، وتشريع يجمع بين الرحمة والعدل والمساواة بين جميع الناس في الحق.

وخلاصة ما سلف - إنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده وركنه الركين، وأساسه المتين توحيد الربوبية والألوهية، فتحوّلوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر فيجعله بدرا كاملا يعم نوره الأرض كلها.

(وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك بعد تمامه كما كانوا يكرهونه من قبل حين بدء ظهوره، فهم يكيدون له ويفترون عليه ويطعنون فيه، وفيمن جاء به ويحاولون إخفاءه.

أما اليهود فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله، فهم في ذلك كمشركي العرب سواء.

ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي ﷺ قصدوا إطفاء نوره ببثّ البدع فيه وتفريق كلمة أهله كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيّع لعلي كرم الله وجهه والغلوّ في ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين، ثم في الفتنة بين علي ومعاوية، ولو لا ذلك لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة في تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ.

وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدى المشركين عليهم، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فتودد اليهود للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم، وصار نصارى أوربة المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد، لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضّلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم - إلى أن جاءت الحروب الصليبية فغلا نصارى أوربا في عداوة المسلمين ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر كما هو العصر كما هو مشاهد معروف.

ثم بين إتمام نوره فقال:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) أي إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق الذي لا يغيّره دين آخر ولا يبطله شيء آخر.

ثم ذكر الغاية من إرسال محمد خاتم النبيين بدين الحق فقال:

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلى هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والسيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي.

روى أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: « دخلت على رسول الله ﷺ فقال يا عدى أسلم تسلم، قلت إني من أهل دين، قال أنا أعلم بدينك منك، فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال نعم. ألست من الرّكوسية (دين بين الصابئة والنصرانية) وأنت تأكل مرباع قومك (والمرباع ما كان يأخذه رئيس القوم من الغنائم وهو من عادات الجاهلية) قلت بلى (قال فإن هذا لا يحل لك في دينك) قال فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام؟ تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها ولكن سمعت بها. قال فوالذي نفسي بيده ليتمّن الله هذا الدين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى ابن هرمز. قلت كسرى بن هرمز؟ قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد ». قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله ﷺ قالها.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك الإظهار، وقد وصفهم بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه، والشرك بالله.

وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره جميع الأديان سيكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم وغير المشركين.

[سورة التوبة (9): الآيات 34 الى 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

تفسير المفردات

أكل الأموال: يراد به أخذها والتصرف فيها بسائر وجوه الانتفاع، والصد: المنع، وسبيل الله. هي طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة، وأساس ذلك التوحيد والتنزيه، والكنز هنا: خزن الدنانير والدراهم في الصناديق، أو دفنها في التراب مع الامتناع عن الإنفاق فيما شرعه الله من البر والخير، ويحمى عليها: أي تضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه في الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه - قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين في معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك الشهوات.

ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة في صناديقهم ولا ينفقونها في سبل البر والخير - بالعذاب الأليم في نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم: هذا جزاء صنيعكم في الدنيا، صنعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تكتوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به في دين ولا دنيا.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي إن كثيرا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حبّ المال والجاه، فمن أجل حب الأول أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الثاني صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد ﷺ وصحة دينه لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون في المنع من متابعته وصد الناس عنه.

وأكل الأموال بالباطل: أخذها بغير حق شرعي ويقع ذلك على صور مختلفة منها:

(1) أخذها رشوة لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت أو غير رسمية.

(2) أخذها بالربا وهو فاش عند اليهود، ومنه ما يحلّه رجال الدين، وإن كانوا يحرمونه في الفتوى وكتب التشريع، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين ويأكلونه معهم مستحلين له بنص توراتهم المحرفة بدلا من نهيهم عنه وهو (لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا شيء مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرضه بربا، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها).

وكذلك عند النصارى، وقد وضع لهم الأساقفة أحكاما للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبى، فأباحوا فيه بعض الربا دون بعض.

(3) أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم - هدايا ونذورا، والوقف على الدير أو الكنيسة قربة عندهم كالوقف على المسجد عندنا، فأخذ المال وإعطاؤه لبناء المعابد مشروع في كل دين، لكن البدعة الوثنية أن يوضع في المعبد قبر أو صورة أو تمثال فيه صاحبه مع الله تارة ومن دونه أخرى، وينذر له وحده حينا ومع الله آخر، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء جميعا، والنفقة فيها من الباطل، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

(4) بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد في الدنيا ليدعوا لهم ويشفعون عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم، اعتقادا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يردّ شفاعنهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفا في الكون يقضون به الحاجات من دفع الضر عمن شاءوا وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون وقالوا إنها لا تنافى التوحيد الذي جاء به الرسل.

(5) أخذها جعلا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتي الرجل أو المرأة لدى القسيس أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له، وهم يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله.

وهذا الجعل يتفاوت ثروة المشترين من الملوك والأمراء وكبار الأغنياء فمن دونهم، ويعطون بالمغفرة صكوكا يحملونها ليلقوا بها الله تعالى.

وتلك الطقوس خاصة بالأرثوذكس والكاثوليك، وكانت هذه من الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح (البر وتستانت) إذ ترتب على هذه العقيدة فساد كبير في استباحة الفواحش والمعاصي، وقد كان الاعتراف أولا بلا ثمن، ولكن رجال الدين جعلوه وسيلة لسلب الأموال والغنى بغير وجه صحيح.

(6) أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام وتحريم الحلال إرضاء لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم، أو بظلم رعاياهم، فهم يعملون ضروبا من الحيل والتأويلات يصورون بها الوقائع بغير صورها ومن ثم خاطب الله أحبار اليهود خطاب احتجاج وتوبيخ بقوله: « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ».

(7) أخذها من أموال مخالفيهم في الجنس أو الدين خيانة وسرقة ونحو ذلك كما قال تعالى: « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ».

وفي سرد ما خالف اليهود فيه الحق وادعوا أنه مشروع لهم يقول البوصيري:

وبأن أموال الطوائف حللّت لهم ربا وخيانة وغلوّا

وصدهم عن سبيل الله هو منعهم الناس عن معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين كما علمت مما سلف، فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر، واليهود قد كفروا بالمسيح وهو المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين، وجلّ عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن في عهد المسيح. ومن أنكى طرقهم في الصد الطعن في النبي الأعظم والكتاب الكريم، وإفسادهم عقائد النشء في المدارس التي يتعلمون فيها، ولا يخفى ما لذلك من سوء الأثر في الدين والأخلاق والاجتماع.

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وكل من يكنز الذهب والفضة، ولا يخرج منهما الحقوق الواجبة، سواء أكان من الأحبار والرهبان أم كان من المسلمين، ويؤيد هذا أن يزيد بن وهب قال: مررت بأبى ذر بالرّبذة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد، فقال: كنت بالشام فقرأت: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال معاوية هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، فقلت إنها فينا وفيهم، فصار ذلك سببا للوحشة بيني وبينه، فكتب إلي عثمان أن أقبل إلي، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عنى كأنهم لم يرونى من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي تنحّ قريبا، فقلت إني والله لن أدع ما كنت أقول.

ومعنى قوله: ولا ينفقونها في سبيل الله أي ولا يؤدون ركاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا.

وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز »

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: « لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا ألا يبقى لولده ما لا بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم فانطلق وتبعه ثوبان فأتى النبي ﷺ فقال يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم، فكبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له النبي ﷺ: ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته ».

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم، أي بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.

وفي الآية إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها، والله قادر على إعادتها، وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها ولا صفتها، فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.

روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا « ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره »

وروي عنه « من آتاه الله ما لا فلم يؤدّ زكاته مثل له شجاع (ذكر الحيات) أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (العظمان الناتئان تحت الأذنين) يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا ﷺ (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ».

(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وخصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة، ويستقبلون الفقراء، ووجوههم منقبضة من العبوس، لينفروا ويحجموا عن السؤال ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات، فلا يكون لهم في جهنم استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على الوجوه كما قال: « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ».

(هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم: هذا ما كنزتم لمنفعة أنفسكم فكان سبب مضرتها وتعذيبها، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفردوا بالتمتع به.

(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله.

وخلاصة هذا - إن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفسكم لا يشارككم فيها أحد، قد كان لكم ضرا وعليكم ضدا، فقد صار في الدنيا لغيركم، وعذابه في الآخرة لأحقابكم.

وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه في المسلمين عامة حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم - بخل أغنيائهم، إذ لو وجهوا همهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل لتعليم النشء والعلوم الدينية والدنيوية من فنون الحرب وصنع الأسلحة لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالا يحفظون الدين والملك ويعيدون إليها مجدها الزائل، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام ويدخلونهم فيه أفواجا أفواجا.

[سورة التوبة (9): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

تفسير المفردات

الشهور: واحدها شهر، وهو اسم للهلال سميت به الأيام، والكتاب: هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى « عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » والحرم: واحدها حرام، من الحرمة بمعنى التعظيم، والدين: الشرع، والقيم: أي الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه، وكافة: أي جميعا، والنسيء من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة: إذا أخره، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه: أي أخر عن موضعه.

المعنى الجملي

هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام في أحوال المشركين، وقد كان الكلام في قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية - من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.

الإيضاح

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن.

والمراد بقوله: يوم خلق السموات والأرض، الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته في جملته وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما.

وقوله: في كتاب الله، أي في نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه، أو في حكمه التشريعي كحرمة الأشهر الحرم، وكون الحج أشهرا معلومات، وكون ما يتعلق بالشهور من الفرائض والسنن: كالحج والصيام وعدة المطلقات والرضاع، فالمعتبر فيه الأشهر القمرية، ومن حكمة ذلك أنه يجعل الصيام والحج يدور في جميع أجزاء السنة، ومنها ما يشقّ فيه أداؤهما، ومنها ما يسهل فيه ذلك.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي منها أربعة فرض الله احترامها وحرّم فيها القتال على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي وإن كانت قد أخلت بذلك أحيانا اتباعا لأهوائها، وهذه الأشهر منها ثلاثة متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب.

روى أحمد عن أبي بكرة أن النبي ﷺ خطب في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق قال: « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: ألا أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال أليس يوم النحر، قلنا بلى. ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى، ثم قال: أي بلد هذا، قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم - وأحسبه قال - وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلّغت؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه ».

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ما ذكر من عدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها - هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء.

وقد يكون المعنى - ذلك هو الشرع الصحيح الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره، وما يتعلق بالأشهر من الأحكام، وقد تمسكت العرب به وراثة منهما حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له بسوء على شدتهم في أخذ الثأر وضراوتهم بسفك الدماء.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها وعظم حرمتها.

وقد خصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضى ترك المحرمات فيها تنشيطا للنفوس على زيادة العناية بما يزكّيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس، وخصّ يوم الجمعة بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرا وموعظة حسنة تقوّى في المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وخص أياما معدودات من ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها في جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدّى في كل وقت، وحرم رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وكونوا يدا واحدة على دفع عدوانهم وكفّ أذاهم كما يقاتلونكم كذلك، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال كما هو دأبهم في قتال قويّهم لضعيفهم، فأنتم حينئذ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى، والله عزيز حكيم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، فمن يتق الظلم والعدوان في الأرض وأسباب الفشل والخذلان في القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء ومخالفة سنن الله في الاجتماع - يكن الله معه، ومن كان الله معه فلا يغلبه أحد.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ) المراد بالنسيء تأخير حرمة شهر إلى آخر.

بيان هذا أن العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك وفى تحريم الأشهر ولا سيما المحرم، إذ كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارة ثلاثة أشهر متواليات، فأحلوا شهر المحرم وأنسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت، وفى ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم.

وقد كان من عادتهم في ذلك أن يقوم رجل من كنانة في أيام منى حيث يجتمع الحجيج فيقول: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون صدقت، فأخّر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل، فتتغير أسماء الشهور كلها.

وبذلك يعلم أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم اتباعا للهوى وسوء التأويل، ومن ثم سماه الله زيادة في الكفر، أي إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على شركهم بالله وكفرهم به، إذ حق التشريع له وحده، فمنازعته في ذلك شرك في ربوبيته، وهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم، إذ واطئوا عدة ما حرم الله من الشهور في ملته ولم يزيدوا ولم ينقصوا وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد في ذلك العدد والتخصيص لا مجرد العدد، وإذ لم يفعلوا ذلك فقد استحلوا ما حرم الله.

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة، إذ اكتفوا بالعدد ولم ينقصوا منه شيئا ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الحكمة في أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس في دينهم ودنياهم أفرادا وجماعات، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ».

وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان فيوقعهم في الشقاء والخسران.

[سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 40]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

تفسير المفردات

النفر والنفور: الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، يقال نفرت الدابة والغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الملك العسكر إلى القتال وأعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا، والتثاقل: التباطؤ، وهو من الثقل المقتضى للبطء، والمتاع: ما يتمتع به من لذات الدنيا، والغار: النقب العظيم في الجبل والمراد به هنا غار جبل ثور. والصاحب: هو أبو بكر رضي الله عنه، والسكينة: سكون النفس واطمئنانها وهو ضد الانزعاج والاضطراب، وكلمة الله: هي التوحيد، وكلمة الذين كفروا: هي الشرك والكفر.

المعنى الجملي

الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك وما لا بسا من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين جاءتا في آخرها وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به.

ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.

وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن الأولى 610 ك وعن الثانية 692 ك وكان السبب في هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة - من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقاء بإمرة قائد عظيم منهم يدعى قباذ وعدد جنده أربعون ألفا، فندب النبي ﷺ الناس للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.

وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي ﷺ « لا يضر عثمان ما عمل بعدها » ثم خرج لمقابلتهم، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان ذلك في رجب سنة تسع.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)؟ الخطاب للمؤمنين في جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من منافقيهم وضعفائهم - أي يا أيها الذين آمنوا ما الذي عرض لكم مما يخل بالإيمان أو بكماله من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم، وإخلادكم إلى الراحة واللذة، حين قال لكم الرسول انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو سبيل سعادتكم؟.

فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال في سبيل الله كما قال: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ».

وكان من أسباب تثاقلهم أمور:

(ا) إن الزمن كان وقت حر شديد.

(ب) إنهم كانوا قريبى عهد بالرجوع من غزوتى الطائف وحنين.

(ح) إنهم كانوا في عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.

(د) إن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر، لأن رجبا وافق أكتوبر في تلك السنة.

روى ابن جرير عن مجاهد قال: أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين وبعد الطائف، أمروا بالنفير في الصيف حين اخترفت النخل (اجتنى ثمرها) وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فقالوا منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله.

وكان من دأب النبي ﷺ إذا خرج إلى غزوة أن يورّى بغيرها لما تقتضيه المصلحة من الكتمان إلا في هذه الغزوة فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر.

وكانت حكمة الله في إخراجهم - وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا - تمحيص المؤمنين وخزى المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرّون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين.

(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية؟ ومن يفعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي فما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا مشوبا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما في الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان من المولى إلا شيء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلا منه.

روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي ﷺ قال: « والله ما في الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها، فلينظر بم يرجع »؟

أي إن نعيم الدنيا في قلته وقلة زمنه إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله.

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أي إن لم تخرجوا إلى ما دعاكم الرسول ﷺ للخروج إليه - يعذبكم عذابا أليما في الدنيا يهلككم به كقحط وغلبة عدو، ويستبدل بكم قوما غيركم يطيعونه ويطيعون رسله، لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله (ولن يخلف الله وعده).

وقد جرت سنته بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها ولا تحمى ذمارها، لابقاء لها، وتكون طعاما للآكلين، وغذاء شهيا للمستعمرين.

(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا) أي ولا تضروا الله شيئا من الضرر في تثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه، فهو الغنى عنكم في كل أمر، وهو القاهر فوق عباده، وكل من في السموات والأرض مسخر بأمره، ولكن قد جعل للبشر شيئا من الاختيار ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي والله قادر على كل شيء، فهو يقدر على إهلاككم والإتيان بغيركم (إن أصررتم على عصيان رسوله وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه) ممن يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولا يخشون في الحقلومة اللائمين كما قال: « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ».

ثم رغبهم ثانية في الجهاد فأبان لهم أنه تعالى المتوكل بنصره - على أعداء دينه - أعانوه أو لم يعينوه وهو قد فعل ذلك به وهو في قلة من العدد والعدو في كثرة، فكيف وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة فقال:

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) أي إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله وأعداء رسوله - فسينصره الله بقدرته وتأييده، كما نصره حين أجمع المشركون على الفتك به واضطروه إلى الخروج والهجرة حال كونه أحد اثنين وثانيهما أبو بكر في غار جبل ثور حين كان يقول لصاحبه إذ رأى منه أمارة الحزن: لا تخف ولا تحزن إن الله معنا بنصره ومعونته وحفظه وتأييده فلن يعلم بنا المشركون ولن يصلوا إلينا.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس قال: « حدثنى أبو بكر قال: كنت مع النبي ﷺ في الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما »

وخلاصة ذلك - إلا تنصروه بالنّفر لما استنفركم له، فإن الله قد ضمن له النصر فهو ينصره كما نصره في الوقت الذي اضطره المشركون إلى الهجرة، حين كان ثاني اثنين في الغار وكان صاحبه قد ساوره الحزن فقال له: لا تحزن إن الله معنا، ونحن لا نكلّف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء.

(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي فأنزل الله طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأحد، وقيل بل هم ملائكة أيده بهم في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما، فقد خرج والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا) أي وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى، وكلمة الله وهي دينه المبنى على أساس توحيده تعالى والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة، والخالي من شوائب الشرك وخرافات الوثنية - هي العليا بظهور نور الإسلام وإزالة سيادة المشركين في تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم: « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ».

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله غالب على أمره، حكيم إذ يضع الأشياء في مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل من ناوأه من المشركين.

[سورة التوبة (9): آية 41]

انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

المعنى الجملي

بعد أن توعد من لم ينفروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم - أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذر لأحد في التخلف وترك الطاعة.

الإيضاح

(انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالًا) الخفاف واحدها خفيف، والثقال واحدها ثقيل، وهما يكونان في الأجسام وصفاتها من صحة ومرض ونحافة وسمن ونشاط وكسل، وشباب وكبر، ويكونان في الأسباب والأحوال كالقلة والكثرة في المال، ووجود الراحلة وعدم وجودها، ووجود الشواغل أو انتفائها.

أي انفروا على كل حال من يسر أو عسر وصحة أو مرض وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة في الجملة.

فإذا أعلن النفير العام وجب الامتثال إلا حال العجز التام، وهو ما بينه الله تعالى في قوله: « لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ».

ويؤيد هذا التعميم في عموم الأحوال قول أبى أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة: قال الله (انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالًا) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا، وروى عن أبي راشد الحرّإني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله ﷺ جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص - وقد فضل عنها من عظمه - يريد الغزو، فقلت قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث (يريد براءة) انفروا خفافا وثقالا.

وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدى النبي وعمله ففتحوا البلاد وسادوا العباد، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه ذلوا وضعفوا واستكانوا وسادتهم الشعوب الأخرى وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين وصاروا عبيدا لأعدائهم.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ويفسدون في الأرض، وابذلوا أموالكم وأنفسكم في إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق.

فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان في مقدرته.

وقد كان المسلمون في الصدر الأول ينفقون على أنفسهم من أموالهم ويبذلونها لغيرهم إن استطاعوا كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة، وكما فعل غيره من ذوي اليسار من الصحابة.

ولما أصبح في بيت المال فضلة من المال بكثرة الغنائم صار الملوك والسلاطين يجهزون الجيوش من بيت المال، وكذلك تفعل الآن الدول المتمدينة، فتخصص جزءا من المال كل عام للنفقات الحربية من برية وبحرية، ويزداد هذا المال إذا دعت الحاجة إلى زيادته، بل قد يجعلون أموال الدولة كلها ومرافقها وقفا على المصالح الحربية، وقد كان المسلمون أحق منهم بذلك وأجدر.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة في حفظ كيان الأمم وعلو كلمتها - خير لكم في دينكم ودنياكم أما في الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق ويقيم العدل باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم.

وأما في الدنيا فإنه لا عز للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هي وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك علما يبعث على العمل، فانفروا وجاهدوا، وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه.

ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل الله في أثناء السفر قوله:

[سورة التوبة (9): الآيات 42 الى 43]

لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

تفسير المفردات

العرض: ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع مما لا ثبات له ولا بقاء وليس في الوصول إليه كبير عناء، ويقال سير قاصد وسفر قاصد: أي هين لا مشقة فيه من القصد وهو الاعتدال. والشقة: الطريق لا تقطع إلا بعناء ومشقة، والعفو: التجاوز عن التقصير وترك المؤاخذة عليه.

المعنى الجملي

بعد أن رغبهم سبحانه في الجهاد في سبيل الله، وبين أن فريقا منهم تباطئوا وتثاقلوا - قفى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه ﷺ في القعود والتخلف ليأذن لهم.

الإيضاح

(لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ) أي لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس في الوصول إليها كبير عناء، وسفرا هينا لا تعب فيه، لا تبعوك وأسرعوا بالنفر إليه، إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعي في الإنسان، ولا سيما إذ كانت سهلة المأخذ قريبة المنال وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم كأولئك المنافقين.

(وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد وكلفتهم سفرا شاقا، لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ، وحين الحاجة إلى الكنّ، فتخلفوا جبنا وحبّا للراحة والسلامة.

(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي وسيحلفون لك عند رجوعك من غزوة تبوك كما قال: « يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ » قائلين لو استطعنا الخروج إلى الجهاد وانتفت الأعذار المانعة منه لخرجنا معكم، فما كان تخلفنا إلا اضطرارا.

(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يهلكون أنفسهم بإيقاعهم في العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدا للباطل بالباطل، وتقوية للإجرام بالإجرام.

روي أنه ﷺ قال: « اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ».

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم بالله وقولهم لو استطعنا لخرجنا معكم، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوي يسرة في المال.

ثم عاتب الله نبيه ﷺ في إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم فقال:

(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) أي عفا عنك ما أدى إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار.

(لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) أي لأي شيء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا، وهلا تريثت في الإذن لهم وتوقفت عنه حتى ينجلى أمرهم وينكشف حالهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله:

(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى يتبين لك الفريقان، فتعامل كلّا بما ينبغي أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون، أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك أن تتلبّث في الإذن أو تمسك عنه اختبارا لحالهم.

روي عن مجاهد في قوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) هم ناس قالوا استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وعن قتادة في قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.

[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 46]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

المعنى الجملي

تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لم يكن رسول الله ﷺ يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شئونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.

وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال.

الإيضاح

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال، وباليوم الآخر الذي يوفى فيه كل عامل جزاء ما عمل، أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا جدّ ما يدعو إلى ذلك، بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان كما قال: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل.

وهم بالأولى لا يستأذنوك في التخلف عنه بعد إعلان النفر العام، وأقصى ما قد يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدا.

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: « من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنة يبتغى القتل والموت في مظانّه إلخ ».

والمراد أن خير أعمال الرجل أن يعدّ فرسه رباطا في سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال، أو فزعة (أي دعوة للإغاثة) طار على فرسه يبتغى القتل والموت في مظانه، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل فيها.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته في غزو عدوه وجهادهم بماله ونفسه، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف وإغاثة الملهوف وسائر أعمال المعروف.

ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة في التوكيد والتقرير فقال:

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي إنما يستأذنك في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر من لا يصدّقون بالله ولا يقرّون بتوحيده ولا باليوم الآخر، فهؤلاء يرون بذل المال مغرما يفوّت عليهم بعض المنافع، وهم لا يرجون ثوابا عليه كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب، وقد وقع لهم الريب والشك في الدين من قبل، فلم تطمئنّ به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم، فهم متحيّرون في أمرهم مذبذبون في عملهم، يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام من صلاة وصيام، ويلتمسون الخلاص فيما يشق عليهم من تكاليفه، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشيء منها.

وقد جاء في بعض الروايات أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي ولو صحت بيتهم للخروج لاستعدوا له وأخذوا الأهبة من زاد وراحلة ونحو ذلك مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا.

(وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) الانبعاث: توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة كبعث الرسل وبعث الموتى، والتثبيط: التعويق عن الأمر والمنع منه.

أي كره الله نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف التي هي مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها، ومن ثم لم يعدّوا للخروج عدته، لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان.

(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي وقال لهم الرسول ﷺ ذلك بعبارة تدل على السخط لا على الرضا، أي اقعدوا مع الأطفال والزّمنى والعجزة والنساء وهم قد حملوه على ظاهره لموافقته لما يريدون.

[سورة التوبة (9): الآيات 47 الى 48]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)

تفسير المفردات

الخبال: الاضطراب في الرأي والفساد في العمل، كضعف القتال والخلل في النظام، ويقال وضع الرجل إذا عدا مسرعا، وأوضع راحلته إذا حملها على الإسراع، وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والفتنة: التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء، وسماعون لهم: أي ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم، وتقليب الشيء: تصريفه في كل وجه من وجوهه والنظر في كل ناحية من أنحائه والمراد أنهم دبروا الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في كل وجه لإبطال دينك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم في التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم - قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها في أمور ثلاثة:

(1) الاضطراب في الرأي وفساد النظام

(2) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة.

(3) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.

الإيضاح

(1) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا) أي لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود معكم، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن في القوى المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل زادوكم اضطرابا في الرأي وضعفا في القتال ومفسدة للنظام، كما حدث مثل ذلك في غزوة حنين، فقد ولّى المنافقون الأدبار في أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن في مثل هذه الأحوال.

(2) (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا في الدخول فيما بينكم سعيا في النميمة وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب في قلوبكم.

(3) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم يسمعون كلامهم، فإذا ألقوا إليهم شيئا مما يوجب ضعف العزائم قبلوه وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي. ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم - أنهم لو قعدوا بغير إذن منه لظهر نفاقهم بين المسلمين بادىء ذي بدء، فلم يستطيعوا مخالطتهم ولا السعي فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها، وتسوء عاقبتها.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) علما يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع ومما لم يقع، فأحكامه فيهم على علم تامّ لاظن فيه ولا اجتهاد كالجتهاد الرسول ﷺ في الإذن لهم، والذي تثبت هذه الآية أنه شر لا خير فيه وهو ضعف لا قوة، ولكنه ﷺ لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم، فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.

وقد كان من حكمة الله في تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها لتكون أوقع في نفسه ونفس أتباعه فيحرصوا على العمل بها، ولا يحكموا أهواءهم فيها، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه، ويهتدون بهديه.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين وتفريق شملهم من قبل هذه الغزوة في غزوة أحد حين اعتزلهم عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد، وطفق يقول للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأى له، فعلام نقتل أنفسنا؟، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد فرجع بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون ولكن عصمهما الله من الفتنة.

وكان دأب المنافقين أن يدبروا له الحيل والمكايد ليبطلوا أمره، فكان لهم ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين في كل ما فعلا من عداوته وقتال المؤمنين - حتى جاء النصر الذي وعده ربه وظهر دين الله وعلا شرعه بالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود، والنصر على المشركين بفتح مكة ودخول الناس في الإسلام أفواجا وهم كارهون لذلك، حتى لقد كانوا يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين في حنين وعودة الشرك إلى قوته.

وفي الآيتين تسلية لرسوله ﷺ والمؤمنين عن تخلف المنافقين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله، وفيه هتك أستارهم وإزاحة أعذارهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 49 الى 52]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

المعنى الجملي

هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه في أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشئون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي ومن المنافقين ناس يستأذنونك في التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا بنساء الروم.

روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لجد بن قيس « يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر؟ قال جدّ، وكان من شيوخ المنافقين: أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بنى الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله ﷺ وهو معرض عنه (قد أذنت لك) فنزلت الآية ».

وقد ردّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها بقوله:

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا وتردّوا في هاوية الفتنة، حين اعتذروا بالمعاذير الكاذبة، من حيث يزعمون اتقاء التعرض للإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم، وشغل القلب بمحاسنهن (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذّب رسله، جامعة لهم يوم القيامة، وكفى بها نكالا ووبالا.

وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردّوا فيها، وبيان لأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم حتى لا رجاء في توبتهم منها كما قال تعالى « بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ».

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الحسنة ما يسرّ النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما: أي إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة كما حدث يوم بدر - يورثهم كآبة وحزنا لفرط حسدهم وعداوتهم.

(وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) أي وإن تصبك شدة كانكسار جيش كما حدث يوم أحد - يقولوا معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا، قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحذر والحزم كما هو دأبنا، إذ تخلفنا عن القتال ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك، وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول وهم فرحون فرح البطر والشماتة.

روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يشيعون أخبار السوء عن النبي ﷺ وأصحابه ويقولون إنهم جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم بعد ذلك كذب خبرهم وعافية النبي ﷺ وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الآية.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) أي قل أيها الرسول لأولئك المنافقين الذين يفرحون بمصابك وتسوءهم نعمتك: لن يصيبنا إلا ما خطّ لنا وكتب في اللوح المحفوظ بحسب سننه تعالى في خلقه من نصر وغنيمة أو تمحيص وشهادة، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم، فالأمور كلها بقضائه تعالى.

(هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي هو ناصرنا ومتولى أمورنا بتوفيقنا ونصرنا، ونحن نلجأ إليه ونتوكل عليه، فلا نيأس عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، كما قال سبحانه في بيان سننه تعالى في خلقه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

ومن حق المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه في شرعه، ويهتدى بسننه في خلقه، من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية كإعداد العدّة واتقاء التنازع الذي يولّد الفشل ويفرّق الكلمة، ثم بعد ذلك يكل الأمر إليه فيما لا تصل إليه الأيدي من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح.

ويقابل التوكل بهذا المعنى اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر وأدركهم اليأس حين حلول البأس، واتكال ذوي الأوهام الذين يتعلقون بالأماني والأحلام، حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم نكصوا على أعقابهم وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين، وهو إنما وعد أولياءه لا أولياء الشيطان، وذوي الخرافات والأوهام.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي قل لهم: أيها الجاهلون، هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة، ونحن نتربص بكم إحدى السّوءيين أن يصيبكم ربكم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها، كما فعل بالأمم المكذّبة لرسلها، أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم، فتربصوا بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم، فنحن على بينة من ربنا ولا بينة لكم، فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه، لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا.

والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة.

[سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 55]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول ﷺ والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر - قفى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء الناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا من أموالكم ما شئتم في الجهاد أو في غيره من النفقات التي أمر الله بها وحث في شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس، وكرها وخوفا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يتقبّل منكم ما دمتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، لأنكم قوم فاسقون أي خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من الهدى والبينات.

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ولا يصلون إلا رياء وتقيّة، لا إيمانا بوجوبها، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه الله لأجلها، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولا ينفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا في الدنيا وهو واضح ولا في الآخرة، إذ لا يؤمنون بها.

ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله كثرة المال وطغيان الغنى بين سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال:

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه.

أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي من أكبر النعم وأجلها، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم - وقد حرموا ثوابها في الآخرة - صفا لهم نعيمها في الدنيا، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه:

(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة.

أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصب والتعب في جمعها واكتسابها، ويلاقون ما هو أشد من ذلك في حفظها وصونها من الهلاك، فالمشغوف بالمال يكون أبدا في تعب الحفظ والصون، وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام « مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ».

وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشئوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم، فهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وربما ماتوا في الغزو - فيجزعون أشد الجزع، إذ لا يعتقدون شهادتهم، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويموتون ويهلكون وهم كافرون، فيعذبون بها في الآخرة إثر ما عذّبوا بها في الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

تفسير المفردات

الفرق (بالتحريك) الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه، والملجأ: المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة في بحر أو قنّة في جبل، والمغارات: واحدها مغارة وهي الكهف في الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر والمدّخل (بالتشديد) السرب في الأرض يدخله الإنسان بمشقة، والجماح: السرعة التي تتعذر مقاومتها.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنّون أن تدور الدوائر على المؤمنين قفّى على ذلك بذكر غلوّهم في النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للبعد عن المؤمنين، فيلجئوا إليها مسرعين.

الإيضاح

(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي ويحلفون بالله لكم كذبا إنهم منكم في الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي إنهم لشدة كرمهم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش في مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم، فلو استطاعوا السكنى في الحصون والقلاع، أو في كهوف الجبال ومغاراتها، أو في أنفاق الأرض وأسرابها - لولّوا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شيء.

وإنما وصفهم الله سبحانه بتلك الأوصاف، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله ﷺ مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفى دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان، وفى أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله ﷺ ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

ومِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

تفسير المفردات

اللمز: العيب والطعن في الوجه، والهمز: الطعن في الغيبة، ورغبه ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا في ذلك طريقا لخدعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كى يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدّون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا - أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهي أنهم يتمنّون الفرص للطعن على النبي ﷺ حتى يواقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولجوا هذا الباب وقالوا ما شاءوا أن يقولوا.

روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « بينما النبي ﷺ يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله ﷺ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فنزلت فيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية ».

وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: « أتى النبي ﷺ بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.

ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقى المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي ﷺ في منى.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وهي أموال الزكاة المفروضة، إذ يزعمون أنك تحابى فيها وتؤتى من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعى العدل في ذلك.

ثم بين سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال:

(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا، أو أعطوا لتأليف قلوبهم - رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك.

(وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي وإن لم يعطوا منها فاجئوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لاهمّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره الله، وقالوا الله يكفينا في كل حال، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات، لأن فضله لا ينقطع، ورسوله لا يبخص أحدا منا شيئا يستحقه في شرع الله، وقالوا إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم - لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع في غير مطمع ومن همز الرسول ولمزه.

والخلاصة - إنهم لو رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم في مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل في القسمة لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.

وفي ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.

[سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

تفسير المفردات

الصدقة: هي الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، والفقير، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته، والعامل عليها: هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء، والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه، وفى الرقاب: أي وللإنفاق في إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق، والغارمين: أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها، وفى سبيل الله: أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى في طاعة الله وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء، وابن السبيل: هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شيء من ماله فهو غنى في بلده، فقير في سفره، فريضة من الله: أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأي.

الإيضاح

مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية:

(1) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.

(2) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى: « أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ » أي ألصق جلده بالتراب في حقرة استتر بها مكان الإزار، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.

(3) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منهاعمالتهم على عملهم لا على فقرهم.

روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال: خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله ﷺ فعمّلنى (أعطاني العمالة) فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله ﷺ « إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق ».

(4) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كفّ شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم، وهم أصناف ثلاثة:

(ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي ﷺ الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره وأعطاه إبلا محمّلة، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر، وروي أنه قال: والله لقد أعطاني وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إلى، وقد حسن إسلامه.

(ب) صنف أسلم على ضعف، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته في الجهاد كالذين أعطاهم النبي ﷺ العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.

(ح) صنف من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.

ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله الإسلام، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.

(5) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق في فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء في فك رقابهم من لرق، أو لشراء العبيد واعتقاقهم، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.

روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال: « جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار، فقال: أعتق النّسمة وفكّ الرقبة، فقال يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها ».

(6) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.

فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: « تحملت حمالة فأتيت رسول الله ﷺ أسأله فيها، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا » رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.

(7) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.

والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.

(8) (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده في سفر لا يتيسر له فيه شيء من ماله إن كان له مال، فهو غنى في بلده، فقير في سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.

وفي ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره في غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

وسهولة طرق الوصول في العصر الحاضر ونقل الأخبار في الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله في أي وقت أراد، وإلى أي مكان طلب.

(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من الله لهم أوجبها عليكم.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم، حكيم فيما يشرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال: « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ».

[سورة التوبة (9): آية 61]

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

تفسير المفردات

الأذى: ما يؤلم الحي المدرك في بدنه أو في نفسه ولو ألما خفيفا، يقال أذى بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير، والأذن: هو الذي يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه، ويقولون رجل أذن: أي يسرع الاستماع والقبول، ويؤمن للمؤمنين: أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن في أفعاله ﷺ كإيذاء الذين لمزوه في قسمة الصدقات - قفى على ذلك بذكر من طعن في أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا.

روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: « كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله ﷺ فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه فأنزل الله الآية ».

وروي أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشّ بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي ﷺ فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، وقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) الآية.

الإيضاح

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول الله ﷺ ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة: أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغي قبوله، وهذا عيب في الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن خير لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن في سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه.

ثم بين سبحانه المراد من أذن الخير بقوله:

(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق بالله وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير غيركم، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به.

وفي هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم في أخبارهم وإن وكدوها بالإيمان اغترار بلطفه وأدبه ﷺ، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.

(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا، إذ هو نقمة عليه في الدارين.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام.

وفي هذه الآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول ﷺ كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته، لأن ذلك ينافى الإيمان. وأما إيذاؤه في شئونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث في بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل: « إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ » وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ».

وإيذاؤه ﷺ بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه في حال حياته كالخوض في أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا، فالإيمان به ﷺ مانع من تصدى المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله عليه إيذاء ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.

[سورة التوبة (9): الآيات 62 الى 63]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

تفسير المفردات

المحادّة من الحد: وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق (بالكسر) وهو الجانب، ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة (بالضم) وهي جانب الوادي لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما في شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفى نقيض، وهكذا المنافقون يكونون في الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح.

المعنى الجملي

روى ابن المنذر عن قتادة قال: « ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى نبي الله ﷺ فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: (ما حملك على الذي قلت؟) فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية ».

الإيضاح

(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي ﷺ ليرضوكم، وقد كان من دأبهم أن يتكلموا بما لا ينبغي أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم.

وفي كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضوهم فلا يخبروا الرسول ﷺ - دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم.

(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فيوحى إلى رسوله ﷺ من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين.

وفي التعبير بيرضوه دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به.

(إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون - فليرضوا الله ورسوله وإلا كانوا كاذبين.

وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا وفى كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضى ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل.

ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله:

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فِيها) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد الله ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن - فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخلص له منها.

(ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خزى وذل في الحياة الدنيا.

[سورة التوبة (9): الآيات 64 الى 66]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

تفسير المفردات

الحذر: الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه، والإخراج: إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض، والخوض: الدخول في البحر أو في الوحل، وكثر استعماله في الباطل لما فيه من التعرض للأخطار، والاعتذار: الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبى يعذره أي ختنه تطهيرا له بقطع عذرته أي قلفته، والطائفة: الجماعة من الناس والقطعة من الشيء: يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يفشى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

الإيضاح

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشى أسرارهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، إذ هم كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشىء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين.

والخلاصة - إنهم يحذرون أن تنزل سورة في شأنهم وبيان حالهم، فتكون في ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي قل لهم: استهزئوا فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم.

ونحو الآية قوله: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ ».

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد على فعلهم، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبئات سرائرهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلى والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى: « فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ » وقال: « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ».

ويدخل في عموم الآية المبتدعون في الدين، والذين يخوضون في الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.

أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: « بينما رسول الله ﷺ في غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك، فقال: (احبسوا على هؤلاء الركب) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ».

(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟) أي قل لهم: إن الخوض واللعب في صفات الله وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به، وكل مستخف به فهو مستهزأ به.

وقصارى ذلك - ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سبل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتدلون بها بلا خوف ولا خجل.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما يقال: عذر أقبح من الذنب.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشّ بن حمير نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.

وخلاصة ذلك - إن من تاب من كفره ونفاقه عفى عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.

[سورة التوبة (9): الآيات 67 الى 70]

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

تفسير المفردات

بعضهم من بعض: أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا، والمنكر: إما شرعي وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطرى: وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة، وضده المعروف في كل ذلك، وقبض الأيدي: يراد به الكف عن البذل، وضده بسط اليد، نسوا الله: أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ، فنسيهم: أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك في الآخرة، والفاسقون: أي الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن فضائل الإيمان، والوعد: يستعمل في إعطاء الخير والشر والنافع والضار، والوعيد خاص بالشر.

واللعن: الإبعاد من الرحمة والإهانة والمذلة، والمقيم: الثابت الذي لا يتحول، بخلاقهم: أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وخضتم: أي دخلتم في الباطل، وحبط العمل: فسد وذهبت فائدته، والخسارة في التجارة: تقابل الربح فيها، وأصحاب مدين: قوم شعيب، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك: وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهي قرى قوم لوط.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.

الإيضاح

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران « ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » وقال الشاعر:

تلك العصا من هذه العصيّه هل تلد الحيّة إلا حيّه

ثم بين ذلك التشابه فقال:

(يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما جاء في الحديث: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان » رواه الشيخان عن أبي هريرة.

وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال كما حكى الله عنهم بقوله « هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ».

واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى دلائل الإيمان.

(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل، حتى من الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم في الفسوق والخروج من طاعة الله والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة.

ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال:

(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي وعد الله هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ما كثين فيها أبدا.

وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام - شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب.

(هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسّموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال: « كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ».

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله ﷺ. والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء فتنثم بأموالكم وأولادكم وغررتم بدنياكم كما فتنوا وغرّوا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشىء من الاسترشاد بكلام الله وهدى رسوله، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكى النفوس وتجعلها أهلا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.

والخلاصة - إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم مع توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون.

(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي ودخلتم في الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضى أن تكونوا أهدى منهم سبيلا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم في الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية في الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها في الآخرة الإيمان والإخلاص، فهم خسروا في مظنة الربح والمنفعة.

ونحو الآية قوله: « هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا؟ ».

ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال:

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا في عهد النبي ﷺ خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والعذاب الذي هلك به النّمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.

وما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم.

وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته ﷺ والمنافقين، ليبين لهم أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلابد أن يحلّ بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا.

وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.

وبهذا التمحيص كانت أمة محمد ﷺ خير أمة أخرجت للناس.

نشر الله بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه.

[سورة التوبة (9): الآيات 71 الى 72]

والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.

الإيضاح

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الولاية ضد العداوة، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي ﷺ ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان:

تظلّ جيادنا متمطّرات تلطّمهن بالخمر النساء

وقال في وصف المؤمنين: بعضهم أولياء بعض، وفى وصف المنافقين بعضهم من بعض - لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي ﷺ جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة الله.

أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا في الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكذب الله منافقى المدينة في وعدهم لليهود حلفاتهم بنصرهم على النبي ﷺ والمؤمنين إذا قاتلوهم في قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ».

(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وصف الله المؤمنين في هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها في المنافقين.

(ا) إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.

(ب) إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل.

(ح) إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس.

(د) إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وفّقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون، لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه: « وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ».

(ه) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الطاقة، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.

ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال:

(أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) أي إنه تعالى يتعدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.

(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما في غير موضعه.

وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا - بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تقصيلا فقال:

(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الجنات: البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها: أي تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة في جنات عدن هي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن: الإقامة والاستقرار، يقال عدن في مكان كذا إذا أقام فيه وثبت، فجنات عدن هي جنات الإقامة والخلود كقوله: « جَنَّةُ الْخُلْدِ - جَنَّةُ الْمَأْوى » وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها.

روي عن أبي هريرة « إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن ».

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) رضوان الله هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله هو أعلى النعيم الروحاني.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم الذي يجزى به المؤمنون المخلصون، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون.

وقد ورد في وصف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع، وبعضها منكر، ومن ذلك ما روى عن أبي هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما: على الخبير سقطت، وأنهما سألا عنها رسول الله ﷺ وذكرا وصفا طويلا، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت في كل منها ألوف من الحور العين، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم: لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل.

[سورة التوبة (9): الآيات 73 الى 74]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)

تفسير المفردات

الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه كلها قوله تعالى: « وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ - وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »

وقال ﷺ « جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم »

وقال « جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم »

والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان، والجهاد باليد: الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية والغلظة: الخشونة والشدة في المعاملة، وهي ضد اللين. ونقم منه الشيء: أنكره وعابه عليه.

المعنى الجملي

بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات - أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافى الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم في إنكارهم. وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي ابذل أيها النبي جهدك في مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانيك بمثل ما يبذلان من جهد في عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما.

وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان: أي بالحجة والبرهان.

وكان كفار اليهود يؤذون النبي ﷺ حتى بتحريف السلام عليه بقولهم (السام عليكم)، والسام الموت فيقول: (وعليكم) ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر، فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم (هُوَ أُذُنٌ) فأمره الله في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبى لهم، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال:

ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال: « أذلّوهم ولا تظلموهم ».

وفي هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا في هداية من لم يطبع الكفر على قلبه وتحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه ﷺ في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه.

وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا مأوى لهم يلجئون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة، وبئس المصير هي « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا ».

والخلاصة - إنهم قد اجتمع لهم عذابان: عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم.

ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهي أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يغرى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله ﷺ، وقد أظهره الله عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً » ويخوضون في آيات الله وفى رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال:

(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي يحلفون بالله إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغي ذكرها، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها مارواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ﷺ جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله فقال له: علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم فأنزل الله: يحلفون بالله ما قالوا » الآية.

أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله ﷺ في العقبة منصرفه من تبوك - ذاك أنه لما رجع رسول الله ﷺ قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله ﷺ ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله ﷺ أخبر خبرهم فقال: من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول الله ﷺ العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله ﷺ فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله ﷺ حذيفة ابن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله ﷺ وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله ﷺ فرجع ومعه محجن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله ﷺ، فلما أدركه قال: « اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها » فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي ﷺ لحذيفة « هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟ » قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله ﷺ « هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ » قالوا: لا والله يا رسول الله، قال: « فإنهم مكروا ليسيروا معى حتى إذا طلعت في العقبة طرحونى منها » قالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم؟ قال « أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده في أصحابه » فسماهم لهما وقال: « اكتماهم ».

والصحيح في عددهم ما رواه مسلم أن رسول الله ﷺ قال: « في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة (خرّاج ودمّل كبير يظهر في الجوف يقتل صاحبه كثيرا) سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم » أي كأنه سراج من النار.

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول ﷺ فيهم شيئا يقتضى الكراهة والهم بالانتقام - إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هي عندهم أحب الأشياء لديهم في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم الله ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده، ومن ثم قال ﷺ للأنصار « كنتم عالة فأغناكم الله بي ».

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوى الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيرا لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة في الآخرة ومعاشرة الرسول ﷺ ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.

وأما في الآخرة فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة.

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوى الخلقية والنفسية - يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه « لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ » وقال: « يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ » فهم في جزع دائم وهمّ ملازم.

وأما في الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة.

(وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لهم في الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره.

أما في الدنيا فقد أغلقت في وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصرة بالمؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب في الحجاز بالقتل والجلاء.

وأما في الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لاولي ولا ظهير للكفار والمنافقين.

[سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

المعنى الجملي

هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجئون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق - ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكرنّ له نعمته بالصدقة منها، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق في سبيل الله: كإعداد العدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يرقى بها في مختلف شئونها.

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا - بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشىء، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا الله عليه، ولم يكن ذلك التولي عارضا طارئا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسي ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث: يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي:

أودى بني وأعقبونى حسرة بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع

أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا في قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب في الآخرة لأنه لا رجاء معه في التوبة.

ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين - إخلاف الوعد والكذب فقال:

(بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة الله في البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق في القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا في النفس، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.

فهؤلاء لما كان قد رسخ في نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب - مكّن ذلك النفاق في قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.

أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) الآية: أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن اهـ.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول - أن الله يعلم السر الكامن في أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به ممن هو مشارك لهم في النفاق، وأن الله يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.

[سورة التوبة (9): الآيات 79 الى 80]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

تفسير المفردات

لمزه: عابه، والمطّوّع: أي المتطوع، وهو من يؤدى ما يزيد على الفريضة، والصدقات: واحدها صدقة، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة: وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، وسخر منه: استهزأ به احتقارا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه بخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله - أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا في جرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء في إيمانهم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي مسعود البدري قال: « لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض بالأجر) فجاء أبو عقيل (اسمه الحبحاح) بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) الآية ».

وروى ابن جرير عن عكرمة قال: « حثّ رسول الله ﷺ على الصدقة في غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال « بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت » وتصدق يومئذ عاصم بن عدى بماثة وسق (ثلاثمائة وعشرين رطلا) من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، الحديث.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم في أمر الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان، ويذمونهم في أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه الله وإنما فعلوها رئاء الناس، فلمزهم هنا في مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك في قسمتها.

وقد جاء في بعض الروايات « أن النبي ﷺ حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه ».

(وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم: أي الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاءوا به وعدّا له من الحماقة والجنون.

وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين في المتطوعين، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.

(سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم في هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم بيانه في هذه السورة بهذا اللفظ وغيره.

ثم بين سبحانه عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال:

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر الله عليهم ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

ويراد بالسبعين في مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان ﷺ يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله فيتوب عليهم ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ويقول « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » رواه ابن ماجه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من أجل جحودهم وحدانية الله وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله ﷺ وبما أوجبه من اتباعه، وجحودهم بعثه للموتى وجزاءهم على أعمالهم - لم يعف عن ذنوبهم ولا غما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن سنة الله قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا في نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم - أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.

[سورة التوبة (9): الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

تفسير المفردات

الفرح: الشعور بارتياح النفس وسرورها، والخلاف والمخالفة بمعنى، ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال جلست خلاف فلان وخلفه: أي بعده، ومنه: « وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا » والمخلفون من خلّف فلانا: أي تركه خلفه، ويفقهون: أي يعقلون، والخالف: المتخلف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين من اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم في قسمة الصدقات وفى إعطائها، عاد إلى الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك وظلّوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.

الإيضاح

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول الله ﷺ عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من أحر عظيم لا تذكر معه راحة القعود في البيوت شيئا.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي وقالوا لإخوانهم في النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين: لا تنفروا في الحر، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه وينضج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه في الآخرة من وزر، وما يلاقونه في الدنيا من خزى وضرّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان.

ونحو الآية

قوله ﷺ « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا: يظهر النفاق، وترتفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم الشّرف الجون (الشرف بضمتين جمع أشارف وهي الناقة الكبيرة السن، والجون السود) الفتن كأمثال الليل المظلم ».

ثم بين ما يجب أن يعاملوا به في الدنيا قبل الآخرة مما يقتضى تركهم للفرح والغبطة في دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال:

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي فإن ردك الله من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، فاستأذنوك ليخرجوا معك في غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله، فقل لهم: لن تخرجوا معى أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معى للجهاد في سبيل الله ما دمت ودمتم، ولن تقاتلوا معى عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم للمؤمنون في عقر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب.

ثم بين سبب النهي عن صحبتهم فقال:

(إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذ طلب إليكم أن تنفروا فلم تنفروا وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة الله.

[سورة التوبة (9): الآيات 84 الى 85]

ولا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات - قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهي منع الرسول أن يصلى على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفى مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول ﷺ.

الإيضاح

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.

روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال « استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنه الآن يسأل ».

ثم بين سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال:

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه.

روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول لما توفّى عبد الله بن أبي: دعى رسول الله للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدّد أيامه ورسول الله ﷺ يبتسم حتى إذا أكثرت قال: « يا عمر أخّر عنى، إني قد خيّرت: قد قيل لي - استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم - فلو أعلم إني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها » ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لي ولجراءتى على رسول الله ﷺ والله رسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان « ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فما صلى رسول الله ﷺ على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.

وقد حكم كثير من العلماء كالقاضى أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه:

(1) جعل الصلاة على ابن أبي سببا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.

(2) قول عمر للنبي ﷺ: وقد نهاك ربك أن تصلى عليه - يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي - وقوله بعده - فصلى عليه رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية - صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.

(3) قوله إنه ﷺ قال: إن الله خيره في الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فأوفيها للتسوية لا للتخيير.

وهناك روايات أخرى في الصلاة على ابن أبي من طريق ابن عمرو من طريق جابر.

وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل لما ذكروا من الأسباب - لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره، وقل أن تجد من يشير إلى شيء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته.

ثم أكد ما تقدم من النهي عن الاغترار بالأموال والأولاد لأن الأمر جدّ خطير يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال:

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة (لا) في الآية السابقة للنهى عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهى في هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.

[سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 89]

وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

تفسير المفردات

الطّول (بالفتح): الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة، وذرنا: أي دعنا واتركنا، والخوالف: واحدها خالفة ومثله خالف، وهو من لا خير فيه ولاغناء عنده، والطبع على القلوب: الختم عليها وعدم قبولها لشيء جديد.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله ﷺ والقعود عن الغزو - قفى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله ﷺ: دعنا نكن مع الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال.

الإيضاح

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله ﷺ - استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم - في التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.

ونحو الآية قوله: « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ».

وفي هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة.

ثم بين العلة في قبولهم هذا الذل فقال:

(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه في كل المهامّ الدينية لا يفارقونه - جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر الله في القرآن.

(وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وأولئك المجاهدون في سبيل الله لهم الخيرات التي هي ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة الله وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة في الأرض، دون المنافقين الجبناء الذين ألفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر في الأثر في أخلاقهم وأعمالهم.

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم شرح هذا في آيات سابقة.

[سورة التوبة (9): آية 90]

وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

تفسير المفردات

المعذّر: من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوإني ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر، والمعتذر إما صادق أو كاذب، والأعراب: هم سكان البدو، وكذبوا الله ورسوله: أي أظهروا الإيمان بهما كذبا، يقال: كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال منافقى الحضر في المدينة - أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن.

الإيضاح

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي وجاء الذين يطلبون من النبي ﷺ أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولى التعذير.

قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا يا نبي الله: إنا إن غزونا معك أغارت طيىء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله ﷺ قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم.

واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم في الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون في اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو بن العلاء: كان كلا الفريقين مسيئا، قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله بقوله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله:

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين في قلوبهم مرض - عذاب أليم في الدنيا والآخرة.

[سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم - قفى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة:

(1) الضعفاء وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوي العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج.

(2) المرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهى إذا شفوا منها.

(3) الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفى عيالهم.

وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغنى ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته كما فعلوا في غزوة تبوك.

والخلاصة - إن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم: أي لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا لله ورسوله: أي يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث على البر ومقاومة الخائنين في السر والجهر.

روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله ﷺ قال: « الدين النصيحة - قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».

وروى البخاري ومسلم عن جابر قال: « بايعت رسول الله ﷺ على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم ».

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) السبيل: الطريق أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.

وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا في الكتاب الكريم، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى كما قال تعالى: « بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ».

وقد تفضل الشارع الحكيم فجازى المحسن بأضعاف إحسانه ولم يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته.

والخلاصة - إن كل ناصح لله ورسوله فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج.

ثم قفّى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال:

(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم في أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده.

أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا في ارتكاب هذه الآثام.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) يقال حمله على البعير أو غيره أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنّ الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلب منه: احملني.

أي لا حرج على من ذكروا أولا ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه، وهؤلاء وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل - قد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل.

(تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلىء دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: « أمر رسول الله ﷺ الناس أن ينبعثوا غازين، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا يا رسول الله احملنا فقال: (والله لا أجد ما أحملكم عليه) فأنزل الله (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية، وكانوا يسمون البكائين.

وفي رواية أنهم ما سألوه إلا الحملان على البغال، وفى رواية أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل هذا في هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الذين في الآية هم طلاب الرواحل.

وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل البرية والبحرية والهوائية في هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده.

ولما بين من لا سبيل عليهم في تلك الحال - ذكر من عليهم السبيل فقال:

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي إنما الطريق الموصل للمؤاخذة والمعاقبة بالحق على من يطلبون الإذن في القعود عن الجهاد والتخلف عن الغزو وهم أغنياء يستطيعون إعداد العدة من زاد وراحلة ونحو ذلك.

ثم ذكر السبب في استحقاقهم المؤاخذة فقال:

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والأطفال والمعذرين من المفسدين.

(وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم بحسب سنن الله في أمثالهم، فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضوا بالمهانة في الدنيا بانتظامهم في سلك النساء والأطفال - إلا أنّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق.

وأما سوء عاقبتهم فيكفي فيه فضيحتهم في هذه السورة كفاء إحجامهم عن الجهاد في سبيله. وما أعده لهم من العذاب العظيم والخزي والنكال في نار الجحيم.

اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا لدى هول الموقف والحساب، واجعلنا ممن أخلصوا العمل في السر والنجوى، واحشرنا في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء في الحادي عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وله الحمد أولا وآخرا.

فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

4 الغنيمة. الفيء. النفل

5 الحكمة في تقسيم الخمس

9 الثبات قوة معنوية

10 التنازع مدعاة الفشل

13 الملائكة يلهمون المؤمنين ما يثبت قلوبهم

17 الله لا يحابي بعض الشعوب بنسبها وفضل أجدادها

18 عقاب الله جار على سننه المطردة فيها

21 استعمال القسوة مع ناقضى العهود لا بد منه للعظة والاعتبار

24 الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله

25 الاستعداد للحرب يمنع الحرب

28 التآلف من أقوى وسائل التعاون والتناصر

30 حث المؤمنين على القتال

32 من سنن الله أن يكون الغلب للصابرين

35 عتاب الله لنبيه على أخذ الفداء يوم بدر

38 أخذ الفداء من عمه العباس يوم بدر

40 ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم عاقبة الخيانة

43 امتازت الشريعة الإسلامية بحفظ العهود والمواثيق

53 أمر الله نبيه بنبذ عهود المشركين

55 الوفاء بالعهود من فرائض الإسلام

67 الأمر بقتال المشركين لأسباب ثلاثة

75 ما ورد في عمارة المساجد

80 الأمور الداعية إلى مخالفة الكفار

84 محبة الله ورسوله

86 بعوث النبي ﷺ وسراياه

90 بلاد الإسلام في حق الكفار أقسام ثلاثة

93 الأمور التي دعت إلى قتال المشركين

98 من عزير؟

100 عقيدة التثليث

105 حديث بين عدي بن حاتم والنبي ﷺ

107 أكل أموال الناس بالباطل على صور

110 كل مال أديت زكاته فليس بكنز

114 ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

116 إنما النسيء زيادة في الكفر

118 غزوة تبوك

119 أسباب تثاقلهم عن القتال في غزوة العسرة

122 إنزال الملائكة مدد للمؤمنين يوم بدر

124 الأمر بجهاد الأعداء بالأموال والأنفس

126 عتاب الرسول في إذنه لمن تخلف من المنافقين في غزوة تبوك

128 ليس من شأن المؤمن أن يستأذن الرسول في أمر الجهاد بالأنفس والأموال

130 المفاسد التي تنجم من وجود المنافقين في الجيش

132 من تربية الله لرسوله أن يبين الحقائق بعد اجتهاده

134 كان المنافقون يشيعون قالة السوء عن الرسول والمؤمنين

135 التوكل على الله حقا يقوم بما أوجبه عليه في شرعه

137 أوصاف المنافقين

140 لمزهم للنبي ﷺ في قسمته الصدقات

142 مصارف الزكاة

147 كان المنافقون يؤذون النبي ﷺ ويقولون هو أذن

148 إيذاء الرسول في شأن الرسالة كفر وفى غيرها حرام

150 من يحاد الله ورسوله فله نار جهنم خالدا فيها أبدا

152 كانوا يستهزئون بالله ورسوله ويقولون إنا كنا لاعبين هازلين

159 أقسام الولاية

163 المنافقون يعاملون بأحكام الشريعة كالمؤمنين الصادقين

164 طلب إلى النبي ﷺ الغلظة في معاملة الكفار والمنافقين تربية لهم وعبرة لغيرهم

165 همّ المنافقين باغتيال الرسول عند منصرفه من تبوك

168 من المنافقين من عاهد الله لئن أيسر ليتصدق ثم أخلف

171 حث رسول الله ﷺ على الصدقة في غزوة تبوك

176 ما صلى رسول الله على منافق بعد ابن أبي

180 استئذان المعذرين من الأعراب

182 لا حرج على الضعفاء ولا على المرضى في القعود عن القتال