الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/الجزء التاسع عشر


☰ جدول المحتويات

[تتمة سورة الفرقان ]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 24]

وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

تفسير المفردات

لا يرجون: أي لا يخافون كما جاء في قوله: « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا » واللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته، ولقاءنا: أي لقاء جزائنا، واستكبروا في أنفسهم: أي أوقعوا الاستكبار في شأن أنفسهم بعدّها كبيرة الشأن، والعتوّ: تجاوز الحد في الظلم تجاوزا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحي ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها، حجرا محجورا: كلمة تقولها العرب حين لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة هائلة، يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم والمكروه الذي يلمّ بدارهم: أي نسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا، وقدمنا: أي عمدنا وقصدنا، والهباء كما قال الراغب: دقاق التراب وما انبثّ في الهواء ولا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس من كوّة ونحوها، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه المرء في أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة، والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن، سمى بذلك لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبا.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه أباطيل المشركين السالفة بطعنهم في نبوة محمد ﷺ بقولهم « لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا » أردف ذلك بذكر سخافات أخرى لهم في هذا الصدد فقالوا: هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بصدقه، أو يرى ربنا فينبئنا بذلك، ثم بين أن هذا عتو عظيم منهم، ثم أعقب هذا ببيان أنهم سيرون الملائكة حين الهول يوم الجزاء والحساب حين يقولون لهم: لا بشرى لكم اليوم بل فيه منعكم من كل خير، فإن ما قدمتم من عمل صالح في الدنيا صار هباء منثورا، ثم أخبر بما يكون لأهل الجنة من خير المستقر، وحسن المقيل، في ظل ظليل، ونعم لا مقطوعة ولا ممنوعة، حين يقولون: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ » ولعل في ذكر هذا ما يكون حافزا لهم على مراجعة أنفسهم وتخمير الرأي، ليرشدوا إلى طريق السّداد، ويقلعوا عما هم فيه من هوى متّبع، وشيطان مطاع.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر ويطعنون في صدق الرسول فيما أوحى به إليه: هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بأن محمدا صادق فيما يدّعى، فإنا في شك من أمره، وفى ريب مما يخبر به، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا ونعلم أنه هو حقا بأمارات لا يعتريها لبس ثم يقول لنا: إني أرسلت إليكم محمدا من لدني بشيرا ونذيرا، فإن تم لنا ذلك صدّقناه وآمنا به، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي في الإنكار والعناد والعتوّ ومن ثم قال:

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم، وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزا بلغ أقصى الغاية، تكذيبا برسوله، وشموخا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه، ولم يأبهوا بباهر معجزاته، ولا كثرة آياته، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة في الطلب، وفى الحق إن شأنهم لعجب، وإن العقل ليحار في أمرهم، ويدهش لقصور عقولهم، وسذاجة آرائهم، وضعف أحلامهم، « أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ولله در القائل:

ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى

ونحو الآية قوله تعالى: « إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ».

ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة لا على الوجه الذي طلبوه، ولا على الصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم فقال:

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) أي يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلا بشرى لهم بخير، إذ يقولون لهم: حجرا محجورا أي محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة، أي جعلهما الله حراما عليكم، إذ هما لا يكونان إلا لمن اعترف بوحدانية الله وصدّق رسوله.

والخلاصة - لا بشرى يومئذ للكافرين وتقول لهم الملائكة: حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين.

ثم بين السبب في وبالهم وخسرانهم حينئذ فقال:

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا) أي فعمدنا إلى محاسن أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا كصلة رحم، وإغاثة ملهوف، ومن على أسير ونحو ذلك مما لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها - فجعلناه كالهباء المنثور لا يجدى ولا يفيد.

وخلاصة ذلك - إنه تعالى جعل مثل هؤلاء الكفار ومثل أعمالهم التي عملوها حال كفرهم - مثل قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقصد إلى ما بين أيديهم فأفسده وجعله شذر مذر، ولم يترك له أثرا ولا عينا.

وبعد أن بين حال الكافرين حينئذ ذكر حال أضدادهم المؤمنين فقال:

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أي إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم في الدنيا، وأحسن فيها قرارا حين القائلة من مثلها لهم في الدنيا، لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوّق والأبّهة والزّخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها في الدنيا في بيوت المترفين، ولما فيه من نعيم لا يشو به كدر ولا تنغيص بخلاف مقيل الدنيا.

[سورة الفرقان (25): الآيات 25 الى 29]

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْمًا عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29)

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه في سابق الآيات أن المشركين طلبوا إنزال الملائكة - أردف هذا ببيان أنهم ينزلون حين ينتهى هذا العالم الدنيوي، ويختلّ نظام الأفلاك، والأرض والسموات، ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب، فيعض الكافر على يديه نادما على مافات ويتمنى أن لو كان قد أطاع الرسول فيما أمر ونهى ولم يكن قد أطاع شياطين الإنس والجن الذين أضلوه السبيل وخذلوه عن الوصول إلى محجة الصواب.

الإيضاح

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي واذكر أيها الرسول لقومك أهوال هذا اليوم حين تكون شمسنا وكواكبنا والشموس الأخرى وسياراتها أشبه بالغمام، لأنها تصير هباء متفرقة في الجو وترجع سيرتها الأولى أي تتحلل وترجع في الجو كما كانت ويختلى نظام هذا العالم المشاهد كما قال تعالى: « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا ».

(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) بصحائف أعمال العباد، لتقدّم لدى العرض والحساب، وتكون شاهدة عليهم لدى فصل القضاء.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الحق في هذا اليوم ملك الرحمن، فله السلطان القاهر، والاستيلاء العام ظاهرا وباطنا، ولا ملك لغيره في هذا اليوم وهو الذي يقضى بين عباده بالعدل، ولا شفيع ولا نصير: « الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ».

ثم ذكر الهول الذي ينال الكافرين حينئذ فقال:

(وَكانَ يَوْمًا عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيرًا) أي وكان ذلك اليوم شديد الهول على الكافرين، لأنه يوم عدل وفصل للقضاء، وهو على المؤمنين يسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى، وفي الحديث « إنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلّاها في الدنيا ».

ونحو الآية قوله: « فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ».

ثم بين شدة ندم المشركين وعظيم حسرتهم في هذا اليوم:

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي وفى هذا اليوم يعضّ المشرك بربه على يديه ندما وأسفا على ما فرّط في جنب الله، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله ويقول: ليتني اتخذت مع الرسول طريقا إلى النجاة، ولم تتشعب بي طرق الضلالة.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا) أي يا هلكتي احضري فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني وصرفني عن طريق الهدى خليلا وصديقا.

ومن الأخلاء الشياطين، ولا فارق بين شياطين الإنس وشياطين الجن، ومن هؤلاء أبي بن خلف، فقد روى أن عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي ﷺ فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي صديقه فعاتبه، وقال له: صبأت، فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامى وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار النّدوة ففعل ذلك، فقال له النبي ﷺ: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله، وقتل أبي بن خلف بيده الشريفة يوم أحد، طعنه بحربة فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فجعل يخور كما يخور الثور، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور، فما لبث إلا يوما أو نحوه حتى ذهب إلى النار فأنزل الله الآية.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « يحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخال » أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي »

وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال: « مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ».

ثم بين علة هذا التمني بقوله:

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي لقد أضلنى عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءني من ربي.

ثم أخبر عن طبيعة الشيطان ودأبه فقال:

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) أي وكان من عادة الشيطان أن يخذل الإنسان فيصرفه عن الحق ويدعوه إلى الباطل ثم لا ينقذه مما يحل به من البلاء، ولا ينجيه منه.

[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]

وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا وَنَصِيرًا (31)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقالاتهم الباطلة، وتعنتهم الظالم في الرسول من نحو قولهم: لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، وقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وقولهم في القرآن: إن هو إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقولهم فيه: إن هو إلا أساطير الأولين اكتتبها - أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم، ورعاية لمصالحهم في دينهم ودنياهم، ثم سلاه سبحانه على ذلك بأن هذا ليس دأب قومك فحسب، بل إن كثيرا من الأمم قد فعلوا مع رسلهم مثل هذا، فاقتد بأولئك الأنبياء ولا تجزع، ثم وعده وعدا كريما بأن يهديه إلى مطلبه، وينصره على عدوه، وكفى به هاديا ونصيرا.

الإيضاح

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) أي وقال الرسول مشتكيا إلى ربه: رب إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك، وأمرتنى بإبلاغه إليهم، قد هجروا كتابك، وتركوا الإيمان بك، ولم يأبهوا بوعدك ووعيدك، بل أعرضوا عن استماعه واتباعه.

وفي ذكره ﷺ بلفظ (الرَّسُولُ) تحقيق للحق، ورد عليهم، إذ كان ما أورده قدحا في رسالته ﷺ.

ثم سلى رسوله على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال، بأن له في سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله:

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من التّرهات والأباطيل ويفعلون من السخف ما يفعلون - جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر - أعداء لهم من شياطين الإنس والجن، وكانوا لهم بالمرصاد، وقاوموا دعوتهم، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ».

فلا تجزع أيها الرسول فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا قال ابن عباس: كان عدو النبي ﷺ أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى.

ونحو الآية قوله: « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ».

ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه فقال:

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا وَنَصِيرًا) أي وكفاك ربك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال، وسينصرك على أعدائك، وستكون لك الغلبة عليهم آخرا، فلا يهولنك كثرة عددهم وعددهم، فإني لا محالة جاعل كلمة الله هي العليا وكلمة أعدائه هي السفلى، فاصبر لأمري، وامض لتبليغ رسالتي، حتى يبلغ الكتاب أجله.

[سورة الفرقان (25): الآيات 32 الى 34]

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

تفسير المفردات

جملة واحدة: أي دفعة واحدة، لنثبت به فؤادك: أي لنقوى به قلبك، ورتلناه: أي أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل من قولهم ثغر مرتّل: أي متفلج الأسنان، بمثل: أي بنوع من الكلام جار مجرى المثل في تنميقه وتحسينه، ورشاقة لفظه وصدق معناه، تفسيرا: أي إيضاحا، يحشرون على وجوههم إلى جهنم: أي يسحبون على وجوههم ويجرّون إليها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مطاعنهم في الكتاب الكريم كقولهم إن هو إلا إفك مبين، وقولهم هو أساطير الأولين - قفى على ذلك بذكر شبهة أخرى لهم وهي قولهم: لو كان القرآن من عند الله حقا لأنزله جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل جملة على عيسى والزبور على داود، فرد الله عليهم مقالتهم، وبين لهم فوائد إنزاله منجّما، فذكر منها تثبيت فؤاده ﷺ بتيسير الحفظ، وفهم المعنى، وضبط الألفاظ، إلى نحو أولئك، ثم وعده بأنهم كلما جاءوا بشبهة دحضها بالجواب الحق، والقول الفصل الذي يكشف عن وجه الصواب، وبعدئذ ذكر حال المشركين وأنهم حين يحشرون يكونون في غاية الذل والهوان ويجرّون على وجوههم إلى جهنم وهم مصفّدون بالسلاسل والأغلال.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال اليهود: هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك، وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة فقد أنزلت التوراة منجمة في ثماني عشرة سنة كما تدل على ذلك نصوص التوراة، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب الله على أنبيائه، وهو اعتراض بما لا طائل تحته، لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرقا.

فرد الله عليهم ما قالوا وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل منجما فقال:

(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنقوّى قلبك به بإعادته وحفظه كما قال: « وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ».

وخلاصة تلك الفوائد:

(1) إنه عليه الصلاة والسلام لما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه، وجاز عليه السهو والغلط.

(2) إنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل.

(3) إنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم.

ولا يخفى ما في ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجّما جاء التشريع رويدا رويدا فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل.

(4) إنه عليه الصلاة والسلام إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوى قلبه على أداء ما حمل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طوال حياته الشريفة.

(5) إنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان في ذلك زيادة بصر لهم في دينهم.

(6) إنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته - كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق في نظر الرأي الحصيف.

(7) إن بعض أحكام الشريعة جاء في بدء التنزيل وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم بهدى رسوله تغيرت بعض أحوالهم واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، ولو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شيء من هذا.

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) أي وأنزلناه عليك هكذا على مهل، وقرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث وعشرين سنة.

وبعد أن أبان فساد قولهم بالدليل الواضح أعقبه بما يقوّى قلبه إزاء المشركين، وأنه قد كتب له الفلج عليهم، فهم محجوجون في كل آن، وقولهم مدفوع على كل وجه فقال:

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) أي ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح في نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانا مما يقولون.

ونحو الآية قوله: « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ».

والخلاصة - إنهم لا يقترحون اقتراحا من فاسد مقترحاتهم، إلا أتيناك بما يدفعه، ويوضح بطلانه.

وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرا له - سلاه على ذلك، وطلب إليه أن يقول لهم.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي إني لا أقول لكم كما تقولون ولا أصفكم بمثل ما تصفوننى به، بل أقول لكم: إن الذين يسحبون إلى جهنم ويجرّون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانا وأضل سبيلا، فانظروا بعين الإنصاف، وفكّروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم؟ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا.

وهذا على نسق قوله تعالى: « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».

ويسمّون هذا الأسلوب في المناظرة بإرخاء العنان للخصم، ليسهل إفحامه وإلزامه.

روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف. صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم، قيل يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك »

والمراد أن الملائكة عليهم السلام تسحيهم وتجرّهم على وجوههم إلى جهنم، أو يكون الحشر على الوجوه عباوة عن الذلة والخزي والهوان، أو هو من قول العرب مرّ فلان على وجهه إذا لم يدر أين يذهب.

قصص بعض الأنبياء مع أممهم

[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 40]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذابًا أَلِيمًا (37) وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيرًا (39) ولَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

تفسير المفردات

قال الزجاج: الوزير من يرجع إليه للاستعانة برأيه، والتدمير: كسر الشيء على وجه لا يمكن معه إصلاحه، وأعتدنا. هيّأنا وأعددنا، الرس: البئر غير المطوية (غير المبنية) والجمع: رساس. قال أبو عبيدة: والمراد بهم كما قال قتادة أهل قرية من اليمامة يقال لها الرسّ والفلج فتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح، والتتبير: التفتيت والتكسير قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتّته فقد تبرّته ومنه التّبر لفتات الذهب والفضة، والقرية: هي سذوم أعظم قرى قوم لوط، لا يرجون: أي لا يتوقعون، والنشور: البعث للحساب والجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن تكلم في دلائل وحدانيته ونفى الأنداد، وفى النبوة وأجاب عن شبهات المنكرين لها، وفى أحوال يوم القيامة وأهوالها التي يلقاها الكافرون، وفى النعيم الذي يتفضل به على عباده المتقين، أردف ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذّبوهم فحل بهم النكال والوبال، ليكون في ذلك عبرة لقومه المشركين الذين كذبوا رسوله حتى لا يحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم إذا هم تمادوا في تكذيبهم وأصرّوا على بغيهم وطغيانهم.

وقد ذكر من ذلك خمس قصص: قصة موسى مع فرعون وقومه. وقصة نوح وقومه. وقصة هود مع قومه عاد. وقصة صالح مع قومه ثمود. وقصة أصحاب الرس.

قصة موسى وهارون عليهما السلام

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيرًا) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان، وجعلنا معه أخاه هرون معينا وظهيرا له، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله: « وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا » فإنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسطانه.

ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرا على أعدائهما.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا) أي فقلنا لهما اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق، فلما ذهبا إليهم كذبوهما فأهلكناهم أشد إهلاك.

ونحو الآية قوله: « دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ».

وفي ذلك تسلية لرسوله وأنه ليس أول من كذّب من الرسل، فله أسوة بمن سلف منهم.

قصة نوح عليه السلام

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحا عليه السلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويحذّرهم نقمته « وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » فأغرقناهم ولم نترك منهم أحدا إلا أصحاب السفينة وجعلناهم عبرة للناس كما قال: « إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ » أي أبقينا لكم السفينة، لتذكروا نعمة الله عليكم بإنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدّق بأمره.

وفي قوله: كذبوا الرسل وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا وهو نوح - إيماء إلى أن من كذّب رسولا وأخذا فقد كذب جميع الرسل، إذ لا فرق بين رسول وآخر، إذ جميعهم يدعو إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان قاله الزجاج.

ثم ذكر مآل المكذبين فقال:

(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذابًا أَلِيمًا) أي وأعددنا لكل من كفر بالله ولم يؤمن برسله عذابا أليما في الآخرة.

وفي ذلك رمز إلى أن قريشا سيحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة مثل ماحل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيّهم.

قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم

(وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) أي ودمّرنا عادا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية، وثمود قوم صالح بالصيحة، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة وقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج وسيأتي ذكر قصصهم.

(وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا) أي وأمما كثيرة أهلكناهم لما كذّبوا رسلنا.

ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين وحذرهم قبل أن أوقع بهم فقال:

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيرًا) أي وكل هؤلاء أوضحنا لهم حججنا، وبينا لهم أذلتنا، وأزحنا عنهم الأعذار، فتمادوا في كفرهم وطغيانهم، فأهلكناهم أفظع الإهلاك وأشده.

ثم ذكّر مشركي مكة بما يرونه من العبر في حلّهم وتر حالهم وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات فقال:

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وتالله لقد مرّ هؤلاء المكذبون في رحلة الصيف على سذوم أعظم قرى قوم لوط وقد أهلكها الله بأن أمطر عليها حجارة من سجيل، لأن قومها كانوا يعملون الخبائث، وحذّرهم لوط، فما أغنت عنهم الآيات والنذر.

ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه فقال:

(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟) أي أفلم يروا ما نزل بتلك القرية من عذاب الله بتكذيب أهلها رسول ربهم فيعتبروا ويتذكروا ويراجعلوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله.

ثم أبان أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية، بل منشؤه إنكار البعث والنشور فقال:

(بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا) أي إنهم ما كذّبوا محمدا ﷺ فيما جاءهم به من عند الله، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورا بعد الممات، ولا يوقنون بعقاب ولا ثواب فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصى الله.

[سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 44]

وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مطاعن المشركين في النبي ﷺ وأورد شبهاتهم في ذلك - أردف هذا بيان أن ذلك ما كفاهم، وليتهم اقتصروا عليه، بل زادوا على ذلك الاستهزاء به والحطّ من قدره حتى لقد قال بعضهم لبعض: أهذا الذي بعث الله رسولا؟ بل لقد غالوا في ذلك فسمّوا دعوته إضلالا، فرد الله عليهم مقالهم وأبان لهم أنه سيظهر لهم حين مشاهدة العذاب من الضالّ ومن المضلّ؟ ثم عجّب رسوله من شناعة أحوالهم بعد حكاية أقوالهم وأفعالهم القبيحة، وأرشد إلى أن مثل هؤلاء يبعد أن يزدجروا عما هم فيه من الغي بنصحك وإرشادك، فإن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون وما هم إلا كالأنعام أو أضل منها سبيلا.

روي أن الآية الأولى نزلت في أبى جهل ومن معه فإنه كان إذا مر رسول الله ﷺ مع صحبه قال مستهزئا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا).

الإيضاح

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أيوإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم - اتخذوك موضع هزؤ وسخرية وقالوا احتقارا لشأنك هذه المقالة.

ثم ذكر ما زاد قبحه في زعمهم فقال:

(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي ويقولون إنه قد كاد يصدّنا عن عبادة آلهتنا لو لا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا.

وفي هذا إيماء إلى وجوه من الفائدة:

(1) إنه ﷺ قد بلغ من الاحتفال في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات، وإقامة الحجج والبينات، مبلغا شارفوا به أن يتركوا دينهم لو لا فرط عنادهم وتناهى عتوهم ولجاجهم.

(2) الدلالة على تناقضهم واضطرابهم، فإن في استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له، وفى آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته، ورجاحة عقله، فذكره تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.

وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة:

(1) (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم سيعلمون من الضال ومن المضل؟

وفي هذا رد لقولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا، كما أن فيه وعيدا شديدا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.

(ب) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟) أي انظر في حال هذا الذي جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة، والبرهان الجلى الواضح، واعجب ولا تأبه به، فإنك لن تكون حفيظا على مثل هذا تزجره عما هو عليه من الضلال وترشده إلى الصراط السوي.

وخلاصة ذلك - كأنه سبحانه يقول لرسوله: إن هذا الذي لا يرى معبودا له إلا هواه، لا تستطيع أن تدعوه إلى الهدى، وتمنعه من متابعة الهوى، إن عليك إلا البلاغ.

ونحو الآية قوله: « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله: « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ » وقوله: « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ».

وفي هذا الأسلوب تعجيب لرسوله من سوء أحوالهم بعد أن حكى قبيح أقوالهم وأفعالهم، وتنبيه له إلى سوء عاقبتهم.

قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول فأنزل الله الآية.

(ح) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي بل أتظن أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق، حتى تجتهد في دعوتهم، وتحتفل بإرشادهم وتذكيرهم، وتطمع في إيمانهم فما حالهم إلا حال البهائم في تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج، بل هم أضل منها سبيلا، هي قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهّدها، وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمراعيها ومشاربها، وتأوى إلى معاطنها ومرابضها، لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات - إلى أنهم لا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا، إلى أن جهالة الأنعام مقصورة عليها، وجهالة هؤلاء تؤدى إلى وقوع الفتنة والفساد، وصدّ الناس عن سنن السّداد، ووقوع الهرج والمرج بين العباد، إلى أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق، إلى أنها لم تعطّل قوة من القوى المودعة فيها، فلا تقصير من قبلها عن الكمال، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قالوا الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس وهوى، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار، فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.

وتخصيص الأكثر بالذكر، لأنه قد كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق وكابر، استكبارا وخوفا على الرياسة.

[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 54]

أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا وَالنَّوْمَ سُباتًا وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعامًا وَأَناسِيَّ كَثِيرًا (49) ولَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

تفسير المفردات

ألم تر: أي ألم تنظر، إلى ربك: أي إلى صنعه، مد: بسط، الظل: ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها، ساكنا: أي ثابتا على حاله في الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس، دليلا: أي علامة، قبضناه: أي محوناه، يسيرا: أي على مهل قليلا قليلا بحسب سير الشمس في فلكها، والسبات: الموت لما في النوم من زوال الإحساس، والنشور: البعث، بشرا: (تخفيف بشر بضمتين) واحدها بشور كرسل ورسول: أي مبشرات، والرحمة: المطر، بين يديه: أي قدامه، طهورا: أي يتطهر به، والبلدة: الأرض، والميت: التي لا نبات فيها، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومعاش أكثر أهل المدر منها، وأناسي: واحدهم إنسان (أصله أناسين أبدلت النون ياء وأدغمت في الياء) وصرفناه: أي حولناه في أوقات مختلفة إلى بلدان متعددة، ليذكروا: أي ليعتبروا، كفورا: أي كفرانا للنعمة وإنكارا لها، نذيرا: أي نبيا ينذر أهلها، والمرج: من قولهم مرج فلان دابته إذا تركها وشأنها، فرات: أي مفرط العذوبة، أجاج: أي شديد الملوحة، برزخا: أي حاجزا، حجرا محجورا: أي تنافرا شديدا فلا يبغى أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب، نسبا وصهرا: أي ذكورا ينسب إليهم، وإناثا يصاهر بهن.

المعنى الجملي

لما بين سبحانه جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد، وسخيف مذاهبهم وآرائهم أعاد الكرة مرة أخرى، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانا، وتتوارد علينا ليلا ونهارا، وتكون دليلا على وجود الإله القادر الحكيم.

الإيضاح

(1) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي انظر أيها الرسول إلى صنع ربك، كيف أنشأ الظل لكل مظلّ من طلوع الشمس حتى غروبها، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها.

(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا) أي ولو شاء لجعله ثابتا على حال واحدة لا يتغير، لكنه جعله متغير في ساعات النهار المختلفة، وفى الفصول المتعاقبة، ومن ثم اتّخذ مقياسا للزمن منذ القدم، فاتخذ المصريون (المسلات) وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة، وطرق حكيمة منوّعة، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة فقالوا: يجب الظهر عند الزوال: أي إذا تحول الظل إلى جانب المشرق، والعصر حين بلوغ ظل كل شيء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة الذي قال: لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شيء مثليه.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهور الظل ومشاهدته للحس والعيان، والأشياء تستبين بأضدادها، فلو لا الشمس لما عرف الظل، ولو لا الظلمة ما عرف النور.

(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا) أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرا يسيرا، ومحوناه على مهل جزءا فجزءا بحسب سير الشمس.

(2) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا وَالنَّوْمَ سُباتًا وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا) أي ومن آثار قدرته، وروائع رحمته الفائضة على خلقه، أن جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، وجعل النوم كالموت لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » وقال: « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت.

وخلاصة ذلك - جعلنا موتكم بالنوم في الليل، وجعلنا نشوركم: أي انبعاثكم من النوم الذي يشبه الموت بالنهار، إذ ينشر الخلق للمعاش كما ينشرون بعد الموت للحساب. قال لقمان لابنه كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.

ونحو الآية قوله: « وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » الآية.

(3) (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي والله الذي أرسل الرياح مبشّرات بقدوم الأمطار.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا) الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار والوضوء لما يتوضأ به، أي وأنزلنا من السحاب ماء تتطهرون به في غسل ملابسكم وأجسامكم، وتنتفعون به في طبخ مطاعمكم، وتشربونه عذبا فراتا.

روي أن النبي ﷺ قال في البحر « هو الطّهور ماؤه، والحل ميتته » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي وأنزلناه لنحيى به أرضا طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها، وبذلك الماء تزدهر بالشجر والنبات والأزهار، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان.

ونحو الآية قوله: « فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » وقوله: « فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعامًا وَأَناسِيَّ كَثِيرًا) أي وليشرب منه الحيوان والإنسان، وأخر ذكر الإنسان عن النبات والحيوان لحاجته إليهما في حياته، ولأنهم إذا ظفروا بماء يسقى أرضهم ومواشيهم لم يعدموا ما يكون منه سقياهم.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي ولقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة في ليل ولا نهار إلا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم كما صرفنا الليل والنهار، فالشمس تجرى من عند قوم وتذهب إلى آخرين: « صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ».

إلى أن الماء يكون جامدا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينا بخاريا يشبه الهواء، وهو أيضا غاد ورائح في الجوّ وفى الأنهار وفى الغدران وفى أجسام النبات والحيوان والإنسان.

(لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) أي صرّفناه بينهم، ليعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا، ولكن أكثر الناس أبوا إلا جحودا للنعمة، وكفرانا بخالقها.

ثم بين منته على رسوله وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة ليزداد شرفا ويعظم قدرا فقال:

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا) أي ولو أردنا أن نرسل رسولا إلى أهل كل قرية لفعلنا وخفّت عنك أعباء النبوة، ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة، لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة، فقابل ذلك بشكر النعمة، وبالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق كما قال: « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا »

وجاء في الصحيحين « بعثت إلى الأحمر والأسود » أي إلى العجم والعرب.

والخلاصة - إنّا عظّمناك بهذا الأمر، وجعلناك مستقلا بأعبائه، لتحوز ما ادّخر لك من عظيم جزائه، وكبير مثوبته فعليك بالمجاهدة والمثابرة، ولا عليك من تلقّيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا) أي فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم، وجاهدهم بالشدة والعنف، لا بالملاينة والمداراة لتكسب ودّهم ومحبتهم، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره.

ونحو الآية قوله تعالى: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ».

والخلاصة - إنك مبعوث إلى الناس كافة، لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، فاجتهد في دعوتك، ولا تتوان فيها، ولا تحفل بوعيدهم، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.

(4) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) أي ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين وجعلهما لا يمتزجان، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه، وحجزه عنه بقدرته، فكأن بينهما حاجزا يمنع أحدهما من إفساد الآخر، وكأن بينهما ساترا يجعله لا يبغى عليه.

والخلاصة - إنه تعالى جعل البحرين مختلطين في مرأي العين، منفصلين في التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده.

ونحو الآية قوله في سورة الرحمن: « مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ».

(5) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) أي وهو الذي جعل الماء جزءا من مادة الإنسان، ليقبل الأشكال المختلفة، والأوضاع المنوّعة وقسمه قسمين ذوي نسب ينسب إليهم وهم الذكور، وذوات صهر يصاهر بهن وهن الإناث كما قال: « فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » وكان الله قديرا، إذ خلق من مادة واحدة بشرا عجيب الصنع، بديع الخلق، كبير العقل، عظيم التفكير، سخّر ما على ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته « وَسَخَّرَ لَكُمْ... ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ».

[سورة الفرقان (25): الآيات 55 الى 62]

ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا (62)

تفسير المفردات

الظهير والمظاهر: المعاون فهو يعاون الشيطان على ربه: أي على رسوله بالعداوة، وسبح بحمده: أي ونزّهه وصفه بصفات الكمال، ويقال كفى بالعلم جمالا: أي حسبك، فلا تحتاج معه إلى غيره، والخبير بالشيء: العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به، والبروج: منازل السيارات الاثني عشر المعروفة التي جمعها بعضهم في قوله:

حمل الثور جوزة السرطان ورعى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدّى نزح الدلو بركة الحيتان

فهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت، وهي منازل الكواكب السيارة السبعة وهي: المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة: ولها الثور والميزان، وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة، والقمر: وله السرطان، والشمس: ولها الأسد، والمشترى: وله القوس والحوت، وزحل: وله الجدي والدلو. وهي في الأصل القصور العالية. فأطلقت عليها على طريق التشبيه، والسراج: الشمس خلفة: أي يخلف أحدهما الآخر ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه.

المعنى الجملي

بعد أن بسط سبحانه أدلة التوحيد، وأرشد إلى ما في الكون من باهر الآيات، وعظيم المشاهدات، التي تدل على بديع قدرته، وجليل حكمته - أعاد الكرة مرة أخرى، وبين شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم، إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيّهم، بل هم عن ذكر ربهم معرضون، فلا يعظّمون إلا الأحجار والأوثان وما لا نفع فيه إن عبد، وما لا ضرّ فيه إن ترك، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان، ويناوثون أولياء الرحمن وإن تعجب لشيء فاعجب لأمرهم، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم وهو الرسول الذي يبشّرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه، ثم هو على ذلك لا يبتغى أجرا.

ثم أمر رسوله بألا يرهب وعيدهم، ولا يخشى بأسهم، بل يتوكل على ربه، ويسبح بحمده، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد، وهو الخبير بأفعال عباده، فيجازيهم بما يستحقون.

الإيضاح

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله: « أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ » إلى آخر الآيات.

ثم ذكر لهم جرما آخر فقال:

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا) أي وكانوا مظاهرين الشيطان، على معصية الرحمن، وذلك دأبهم وديدنهم، فهم يعاونون المشركين، ويكونون أولياء لهم على رسوله وعلى المؤمنين، بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفير منها كما قال: « وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ».

وقد يكون المعنى - وكان الكافر على ربه هيّنا ذليلا لا قدر له ولا وزن له عنده من قول العرب: ظهرت به، أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى: « وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا » أي هينا، وقول الفرزدق:

تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها

قال ابن عباس نزلت الآية في أبى الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله ﷺ أبا جهل بن هشام.

ثم بين عظيم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم ودفع الأذى عنهم فقال:

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله والله قد أرسل رسوله لنفعكم، إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات، وينذركم على فعل المعاصي، فتستحقوا الثواب وتبتعدوا عن العقاب.

وخلاصة ذلك - لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء من يرجو نفعه في دينه ودنياه.

وفي هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم.

ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغى لنفسه نفعا فقال:

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل لمن أرسلت إليهم: لا أسألكم على ما جئت به من عند ربي أجرا، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له في أموالنا مطمع.

(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد وغيره، ويتخذ ذلك سبيلا إلى رحمته ونيل ثوابه فليفعل.

وخلاصة ذلك - لا أسألكم عليه أجرا لنفسى، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته.

وبعد أن بين له أن الكافرين متظاهرون على إيذائه - أمره بالتوكل عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع فقال:

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شيء ومليكه، واجعله ملجأك وذخرك، وفوّض إليه أمرك، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان فهو لا كفء له ولا ند: « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ».

وقد علمت قبل أن التوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها.

ونحو الآية قوله: « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».

وفي قوله: (الْحَيِّ) إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن، ولا على من لا بقاء له ممن يموت، لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه.

وحكى عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال: لا ينبغي لذي لب أن يثق بعدها بمخلوق.

ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم، ومجازيهم عليها يوم القيامة فقال:

(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا) أي وحسبك بالحي الذي لا يموت خبيرا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن، فهو لا يخفى عليه شيء منها، وهو محصيها عليهم ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.

وفي هذا ساوة لرسوله، ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم، وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء، وكأنه قيل: إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.

ثم وصف نفسه بذكر أفعاله التي تجعله حقيقا أن يتوكّل عليه فقال:

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم إيضاح هذا في سور يونس وهود وطه، ولكن يلاحظ هنا أنه تعالى وصف نفسه بالأبدية والعلم الشامل، ثم بخلق السموات والأرض ليقرر وجوب التوكل عليه ويؤكده، فإن من أحدث هذه الأجرام العظيمة على ذلك النمط البديع وجعلها مرفوعة بغير عمد في تلك الأيام، وقد كان قديرا على إبداعها دفعة واحدة بقدرته التي لا تقف على كنهها العقول - جدير بأن يتوّكل عليه ويفوّض أمره إليه.

(الرَّحْمنُ) أي عظيم الرحمة بكم، والحدب عليكم، فلا تعبدوا إلا إياه ولا تتوكلوا إلا عليه.

وخلاصة ذلك - توكلوا على من لا يموت وهو رب كل شيء وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو، وخالق الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ويقضى بالحق.

(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا) أي فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرا به يخبرك بحقيقته وهو الله سبحانه، لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، فالأيام التي ثم فيها الخلق إنما هي أطوار ستة سار عليها طورا بعد طور وحالا بعد أخرى كما يرشد إلى ذلك قوله: « وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » والاستواء على العرش لا يراد به الجلوس عليه بل تمام التصرف فيه.

فمن كان محدود الفكر فليقف عند ظاهر اللفظ ويترك البحث فيه، ومن كان حصيف الرأي طليق الفكر فليجدّ في البحث والدرس وسؤال أهل الذكر من العلماء ليعلم المراد من ذلك على قدر ما تصل إليه طاقة البشر.

وبعد أن ذكر سبحانه إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من الكفر في موضع الشكر فقال:

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصا دون الآلهة والأوثان، قالوا على طريق التجاهل: وما الرحمن؟ أي نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له.

ونحو هذا قول فرعون: « وَما رَبُّ الْعالَمِينَ » حين قال له موسى عليه السلام: « إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » وهو قد كان عليما به كما يؤذن بذلك قول موسى له: « لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ».

ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك وأنكروه عليه بقولهم:

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟) أي أنسجد للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه.

ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادا واستكبارا فقال:

(وَزادَهُمْ نُفُورًا) أي وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وبعدا مما دعوا إليه، وقد كان من حقه أن يكون باعثا لهم على القبول ثم الفعل.

وكان سفيان الثّورى يقول في هذه الآية: إلهي زدنى لك خضوعا، ما زاد عداك نفورا.

روى الضحاك أن رسول الله ﷺ وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين.

وبعد أن حكى عنهم مزيد النفرة من السجود له، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود لمن له تلك الخصائص فقال:

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) أي تقدس ربنا الذي جعل في السماء نجوما كبارا عدها المتقدمون نحو ألف وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديثة (التلسكوبات) أكثر من مائتى ألف ألف ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدا، وجعل فيها شمسا متوقدة وقمرا مضيئا.

ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته وفيها الدليل على وحدانيته فقال:

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا) أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتعظ باختلافهما ويتذكر آلاء الله فيهما ويتفكر في صنعه، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجنى ثمار كل منهما، إذ لو جعل أحدهما دائما لفاتت فوائد الآخر، ولحصلت السآمة والملل، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلى الكبير.

وفي الحديث الصحيح: « إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ».

وعن الحسن: من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب، ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب. وروى أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه! فقال: إنه بقي علي من وردى شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية: « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ » إلخ.

[سورة الفرقان (25): الآيات 63 الى 77]

وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا (67) والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا (72) والَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا (77)

تفسير المفردات

الهون: الرفق واللين والمراد أنهم يمشون في سكينة ووقار، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا، الجاهلون: أي السفهاء، سلاما: أي سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية كقول إبراهيم لأبيه: « سَلامٌ عَلَيْكَ » ويبيتون: أي يدركهم الليل ناموا أو لم يناموا كما يقال بات فلان قلقا، غراما: أي هلاكا لازما، قال الأعشى:

إن يعاقب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي

والإسراف: مجاوزة الحد في النفقة بالنظر لنظرائه في المال، والتقتير: التضييق والشح، قواما: أي وسطا وعدلا لا يدعون: أي لا يشركون، والآثام: الإثم والمراد جزاؤه، مهانا: أي ذليلا مستحقرا، لا يشهدون الزور: أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة والمراد أنهم لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، واللغو ما ينبغي أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه، كراما: أي مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه، والخرور: السقوط على غير نظام وترتيب، وقرة العين: يراد بها الفرح والسرور، والإمام: يستعمل للمفرد والجمع والمراد الثاني أي أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين، والغرفة: كل بناء عال مرتفع ويراد بها الدرجات الرفيعة، ما يعبأ بكم: أي لا يعتدبكم، دعاؤكم: أي عبادتكم، لزاما: أي لازما يحيق بكم حتى يكبكم في النار.

المعنى الجملي

بعد أن وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته، والنفور من طاعته، والسجود له عز اسمه - ذكر هنا أوصاف خلص عباده المؤمنين، وبين ما لهم من فاضل الصفات، وكامل الأخلاق، التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم، وأكرم لأجلها مثواهم وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئب إليها أعناق العاملين، وتتطلع إليها نفوس الصالحين، الذين يبتغون المثوبة ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال، وأتوا به من جليل الأعمال.

الإيضاح

وصف الله سبحانه عباده المخلصين الذين استوجبوا المثوبة منه وجازاهم على ذلك الجزاء بصفات تسع:

(1) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) أي وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم كبرا، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا.

روي أن عمر رضي الله عنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) فاقصد في مشيتك.

وقال ابن عباس: هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوي وقار وعفة.

وفي الحديث إن النبي ﷺ قال: « أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس في الإيضاع » (السير السريع)

وفي صفته ﷺ: إنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب (التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن القصد، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطا) أي إنه كان يرفع رجله بسرعة في مشيه ويمد خطوه خلاف مشية المختال وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ومن ثم قيل كأنما ينحط من صبب قاله القاضي عياض في الشفاء.

وخلاصة هذا - إنهم لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا.

(2) (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا) أي وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا، وكان رسول الله ﷺ لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما.

وعن الحسن البصري: هم حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفّوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، يطلبون إلى الله جل ثناؤه فكاك رقابهم.

قال ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية المشركين ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم.

ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه فقال:

(3) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا) أي والذين يبيتون ساجدين قائمين لربهم أي يحيون الليل كله أو بعضه بالصلاة، وخص العبادة بالبيتوتة، لأن العبادة بالليل أحمص وأبعد عن الرياء، وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا قائما: وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا قائما.

ونحو الآية قوله: « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » وقوله: « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » وقوله: « أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ».

(4) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يدعون ربهم أن يضرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها.

وفي هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له، يخافون عذابه ويبتهلون إليه في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال في شأنهم: « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ».

ثم بين أن سبب سؤالهم ذلك لوجهين:

(ا) (إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا) أي إن عذابها كان هلاكا دائما، وخسرانا ملازما.

(ب) (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا) أي إنها بئس المنزل مستقرا وبئس المقيل مقاما: أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا فهم أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النّجح.

قال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم، وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأخذ ثمنه بإدخالهم النار.

(5) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا) أي والذين هم ليسوا بالمبذّرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصّرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون عدلا وسطا، وخير الأمور أوسطها، وقد قيل:

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم

وقيل:

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل

قال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد ﷺ كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقوّيهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويكفهم من الحر والبرد، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية، وقال لابنه عاصم: يا بني كلّ في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم.

(6) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون في عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق.

(وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: « سألت رسول الله ﷺ: أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك » فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) الآية.

وقد نفى عنهم هذه القبائح مع أنه وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس ومزيد خوفهم من الله وإحياء الليل يقتضى نفيها عنهم، تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وتنبيها إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين، فكأنه قيل: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون وأنتم تزنون.

روى مسلم عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا ﷺ فقالوا، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا)

ونزل: « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا » الآية: وقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير إن هذه نزلت في وحشي قاتل حمزة.

ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب فقال:

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا) أي ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة، يلق في الآخرة جزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة ويجعله خالدا أبدا في النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمى والعذاب الروحي.

وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار في التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين فيفوزون بجنات النعيم فقال:

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي لكن من رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات فألئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته.

قال الحسن: قال قوم هذا التبديل في الآخرة وليس كذلك.

وقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.

وروى أبو ذر عن النبي ﷺ « إن السيئات تبدل بحسنات ».

وروى معاذ أنه ﷺ قال: « أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ».

والخلاصة - إنه يعفو عن عقابه، ويتفضل بثوابه، والله واسع المغفرة لعباده، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب، ويبعد عنه شديد العقاب.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا) أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحا، مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير.

وفي هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها.

(7) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا) أي والذين لا يؤدون الشهادات الكاذبة، ولا يساعدون أهل ال باطل على باطلهم، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيه كاللغو في القرآن وشتم الرسول والخوض فيما

لا ينبغي، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، (يطليه بمادة سوداء) ويحلق رأسه ويطوف به السوق.

ونحو الآية قوله: « وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ».

(8) (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانًا) أي والذين إذا ذكّروا بها أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين بعيون راعية.

وفي هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صمّ لا يسمعون، وعمى لا يبصرون.

(9) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا) أي والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له - وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه، وسر قلبه، وتوقّع نفعهم له في الدنيا حيا وميتا، وكانوا من اللاحقين به في الآخرة ويسألون أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية ».

والخلاصة - إنهم طلبوا من ربهم أمرين - أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه فتقربهم أعينهم في الدنيا والآخرة وأن يكونوا هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.

ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين ذكر إحسانه إليهم بقوله:

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا) أي أولئك المتصفون بصفات الكمال، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب، يجزون المنازل الرفيعة، والدرجات العالية، بصبرهم على فعل الطاعات، واجتنابهم للمنكرات، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقّون التوفير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام.

ونحو الآية قوله: « والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار ».

ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع فقال:

(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا) أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا.

ونحو الآية قوله: « وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ».

ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم أمر رسوله أن يقول لهم:

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون، إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن، ولولاها لم يعتد بهم ربهم، ومن ثم لا يعبأبكم إذا لم تعبدوه، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه ويطيعه وحده لا شريك له كما قال: « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ».

(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا) أي أما وقد خالفتم حكمى، وعصيتم أمري، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل وكذبتم رسولي، فسوف يلزمكم أثر تكذيبهم، وهو العقاب الذي لا مناص منه، فاستعدوا له، وتهيئوا لذلك اليوم، فكل آت قريب.

وخلاصة ذلك - لا يعتد بكم ربى لو لا عبادتكم إياه، أما وقد قصر الكافرون منكم في العبادة، فسيكون تكذيبهم مفضيا لعذابهم وهلاكهم في الدنيا والآخرة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصل ربنا على محمد وآله.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام

اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد:

(1) إثبات النبوة والوحدانية، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها في النبي ﷺ وفى القرآن ثم تفنيدها.

(2) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

(3) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين: العذب الفرات، والملح الأجاج، وجعل البروج في السماء، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.

(4) الأخلاق والآداب من قوله: وعباد الرحمن إلى آخر السورة.

سورة الشعراء

هي مكية نزلت بعد سورة الواقعة إلا آية 197 ومن 224 إلى آخر السورة فمدنية وآيها 227.

وعن البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال: « إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضّلنى بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبي قبلي ».

ومناسبتها ما قبلها من وجوه:

(ا) إن فيها بسطا وتفصيلا لبعض ما ذكر في موضوعات سالفتها.

(ب) إن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم.

(ح) إن كلتيهما ختمت بإبعاد المكذبين.

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]

بسم الله الرحمن الرحيم

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

تفسير المفردات

لعل: هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار، وقال العسكري: إنها للنهى، وباخع نفسك: أي مهلكها من شدة الحزن، قال ذو الرمة:

ألا أيها الباخع الوجد نفسه لشيء تحته عن يديه المقادر

وأصل البخع: أن تبلغ بالذّبح البخاع (بكسر الباء) وهو عرق مستبطن فقار الرقبة، وذلك يكون من المبالغة في الذبح، والأعناق: الجماعات، يقال جاءت عنق الناس: أي جماعة منهم، وذكر: أي موعظة، والمراد بالأنباء ما سيحل بهم من العذاب، وزوج: أي صنف، والكريم من كل شيء: المرضي المحمود منه.

الإيضاح

(طسم) تقدم أن بيّنا أن المراد بمثل هذه الحروف المقطعة في أوائل السور التنبيه، فهي أشبه بألا ونحوها من حروف التنبيه، ويا التي للنداء، وتقرأ بأسمائها فيقال طا - سين - ميم.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن البين الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أقاتل نفسك أسفا وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك وخوفك ألا يؤمنوا؟

وقد يكون المعنى - لا تبخع نفسك ولا تهلكها أسى وحسرة على إيمانهم.

ونحو الآية قوله: « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » وقوله: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ».

ثم بين سبب النهي عن البخع بقوله:

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو شئنا أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظّلّة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها - لفعلنا، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريا لا قسريا كما قال: « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ».

ومن ثم نفذ قدرنا، ومضت حكمتنا، وقامت حجتنا، على الخلق بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.

والخلاصة - إن القرآن وإن بلغ في البيان الغاية غير موصّل لهم إلى الإيمان، فلا تبالغ في الأسى والحزن، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئا، فحزنك عليهم لا يجدى نفعا، وقد كان في مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعا لا كرها، ومن جراء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل، لكنهم ضلوا وأضلوا، وما ربك بظلام للعبيد.

ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيد الصرف رسول الله ﷺ عن الحرص على إسلامهم فقال:

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي وما يجىء هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون ما أتيتهم به - ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلا أعرضوا عن استماعه وتركوا إعمال الفكر فيه ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك وهم أهل الذّكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون.

وخلاصة ذلك - إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.

ثم أكد إعراضهم بقوله:

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله في الدنيا والآخرة كما قال: « وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » وقال: « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

ونحو الآية قوله: « يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ».

وقصارى ذلك - إنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق، وإنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل بلا تدبر ولا تفكير في العاقبة.

وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم - ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها في الآفاق فقال:

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟) أي أهم أصروا على ما هم عليه من الكفر بالله وتكذيب رسوله ولم يتأملوا في عجائب قدرته ولم ينظروا في الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلى الكبير؟

والخلاصة - كيف اجترءوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه، وإلهه هو الذي خلق الأرض وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين وتسترعي أنظار الغافلين.

ثم بين أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر، وعدموا التأمل والنظر في الأكوان، ومن ثمّ فهم جاحدون فقال:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولى الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها وجعل فيها الحدائق الغناء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم، ويعيدهم سيرتهم الأولى، ولكن أكثر الناس غفلوا عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله در القائل:

تأمل في رياض الورد ونظر إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

والخلاصة - إن في هذا وأمثاله لآية عظيمة، وعبرة جليلة، دالة على ما يجب الإيمان به، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان، بل تمادوا في الكفر والضلالة، وانهمكوا في الغي والجهالة.

وفي هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم.

ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال:

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته.

والخلاصة - إن ربك عزّ كل شيء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.

قصص موسى عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 22]

وإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم - سلى رسوله ﷺ على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم وأنه ليس بالأوحد في الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات، وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم في اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات، وما ربك بظلام للعبيد.

الإيضاح

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبني إسرائيل باستعبادهم وذبح أبنائهم - قوم فرعون ذي الجبروت والطغيان، والعتوّ والبهتان، ليكون لهم في ذلك عبرة لو تذكروا، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا.

ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل.

ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله فقال:

(أَلا يَتَّقُونَ؟) أي قال الله لموسى: ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به.

فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه:

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى: رب إني أخاف تكذيبهم إياي، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك، كما يرى أن كثيرا من ذوي اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.

وفي هذا تمهيد العذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال:

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون، واجعله نبيا، وآزرنى به واشدد به عضدى، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه.

ثم ذكر سببا آخر في الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال:

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علي تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك - وهذا اختصار لما بسط من القصة في موضع آخر.

ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل، فقد كان النبي ﷺ يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى: « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».

وفي هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم.

والخلاصة - إن موسى طلب من ربه أمرين: دفع الشر عنه، وإرسال هرون معه، فأجابه إليهما.

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له: لا تخف من شيء من ذلك، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما، وإني ناصركما ومعينكما عليه، وهذا كقوله: « إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى ».

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك لتطلق سبيل بني إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا الله بها على ألسنة رسله، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة.

قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة في الدخول عليه ا هـ.

ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء في قوله: « إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ » لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول

كما يستعمل كذل عدوّ وصديق كما جاء في قوله: « فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ».

فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه:

(1) (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين؟) أي أبعد أن ربيناك في بيوتنا ولم نقتلك في جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل ا لإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة؟.

روي أنه لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة.

(2) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك.

وخلاصة ما سلف - إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله.

فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية، لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها في توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم، سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا.

(قالَ فَعَلْتُها إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه، فإني إنما تعمدت الوكز للتأديب، فأدى ذلك إلى القتل.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لي: « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ » فوهب لي ربى علما بالأشياء على وجه الصواب، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.

وخلاصة ما قال - إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لي، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى، وإن أنتم أسأتم إلي فقد أحسن إلي ربى فوهب لي فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين.

ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال:

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام: أي وما أحسنت إلي وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل جملة، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.

وخلاصة ذلك - أفيفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت به إلى مجموعهم؟ فهو ليس بشىء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع، وكأنه قال: إن هذا ليس بنعمة، لأن الواجب عليك ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص، وتنسى استعباد الشعب كله.

[سورة الشعراء (26): الآيات 23 الى 31]

قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)

الإيضاح

لما دخل موسى وهرون على فرعون وقالا له: إنا رسولا رب العالمين أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق وإرشادك إلى طريق الرشد، وغلباه بالحجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ».

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) أي قال لموسى: إنك تدّعى أنك رسول من رب العالمين فما هو؟ إذ كان قد قال لقومه: « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ».

فأجابه موسى عن سؤاله:

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال: رب العالمين هو خالق العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلى وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونبات وما بين ذلك من هواء وطير، إن كانت لكم قلوب موفقة، وأبصار نافذة.

حينئذ عجب فرعون من كلام موسى والتفت إلى الملأ حوله معجّبا لهم من ذلك المقال.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟) أي التفت فرعون إلى الملأ والرؤساء من حوله وقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تعجبون من مقالته وزعمه أن لكم إلها غيري؟

ثم زاد موسى وصف إلههم إيضاحا وبيانا.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي قال: إنه هو خالقكم وخالق من قبلكم من آبائكم وأجدادكم.

وقد انتقل بهم موسى من النظر في الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر في الأنفس وما فيها من عجيب الصنع، فإن التناسل المستمر في النبات والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر في الآفاق.

ولما لم يستطع ردا لما جاء به أورد ما يشككّ قومه في حسن تقديره للأمور وفهمه لما يقول:

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم لا عقل له، إذ يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، فهو يدّعى أن ثمّة إلها غيري.

ثم وصف موسى الإله بأنه. خالق الأكوان، ورب الزمان والمكان.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى: إن ربكم هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها مع انتظام مداراتها، وتغير المشارق والمغارب كل يوم، إن كان لكم عقول تفقهون بها ما يقال لكم، وتسمعون بها ما تسمعون، إذ في كل ذلك أدلة على أن هناك إلها مصوّرا صوّر هذه العوالم كلها وأبدعها وزيّنها ورتبها ونظّمها على أحسن النظم.

وقد لاينهم أوّلا وعاملهم بالرفق حيث قال لهم: إن كنتم موقنين، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ لهم في الرد وعارضهم بمثل مقالهم بقوله إن كنتم تعقلون، لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه.

ولما قامت الحجة على فرعون عدل إلى القهر واستعمال القوة ولبس لموسى جلد التمر كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال له: لأجعلنّك في زمرة الذين في سجونى على ما تعلم من فظاعة أحوالها، وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل، لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوّة عميقة تحت الأرض وحده، وفى توعده بالسجن ضعف منه، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعا شديدا.

وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريّا، ويلجأ إلى المعجزات، وخوارق العادات.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) أي أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة على صدق دعواى، وهي المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته، وعلى صدق دعوى من ظهرت على يديه.

وحين سمع فرعون هذا الكلام من موسى.

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعوى الرسالة، فإن من يدّعى النبوة لا بد له من حجة على صدق ما يدعى، وقد أمره بذلك ظنا منه أنه يقدر على معارضته.

[سورة الشعراء (26): الآيات 32 الى 37]

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

تفسير المفردات

مبين: أي ظاهر أنه ثعبان بلا تمويه ولا تخييل كما يفعل السحرة، الملأ: أشراف القوم، عليم: أي خبير بفن السحر حاذق في تلك الصنعة، فماذا تأمرون؟ أي فبم تشيرون، أرجه وأخاه: أي أخر أمرهما ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة، حاشرين: أي اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة.

الإيضاح

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي فبعد أن قال له فرعون مقالته ألقى عصاه فإذا هي ثعبان واضح لا لبس فيه، ولا تخييل ولا تمويه، وقد روd أنها لما صارت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال: بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.

وقد جاء في آية أخرى « كَأَنَّها جَانٌّ » والجان الصغير من الحيات، تشبيها لها به من جراء الخفة والسرعة.

ولما أتى موسى بهذه الآية قال له فرعون: هل هناك غيرها؟ قال نعم.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها فإذا هي تضىء الوادي من شدة نورها، وكأنها فلقة قمر، قال ابن عباس: أخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يعشى الأبصار ويسدّ الأفق.

ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد وذكره لأشراف قومه أمورا ثلاثة:

(1) (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروّج عليهم بطلان ما يدّعيه موسى: إن هذا الرجل لبارع في السحر حاذق في الشعوذة، ومراده من هذا أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر لا من وادي المعجزات.

ثم هيّجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به والتنفير منه بقوله:

(2) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر، فيكثر أعوانه وأتباعه، ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم.

(3) (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي فأشيروا علي ماذا أصنع؟ وبم أدافعه عما يريد؟ ومثل هذا القول يوجب جذب القلوب والتضافر في مكافحة العدو والتغلب عليه جهد المستطاع.

قال المفتي أبو السعود: بهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه من ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده في زعمه، والامتثال لأمرهم، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا بالرأي والتدبير، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه، ونسبه إلى إخراجهم من الأرض لتنفيرهم منه.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قالوا: أخّر البت في أمرهما، ولا تعاجلهما بالعقوبة، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك، وأقاليم دولتك، كل سحار عليم، ثم تقابلهم به وجها لوجه ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة وقرعت الدليل بمثله، ويكون لك النصر والتأييد عليه، وتجتذب قلوب الشعب إليك.

وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له، ليجتمع الناس في صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه للناس في وضح النهار جهرة.

روي أن فرعون أراد قتله فقال له الملأ: لا تفعل. فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة في أمره، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم، ظنا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره، وتم لفرعون الغلب.

فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم.

[سورة الشعراء (26): الآيات 38 الى 51]

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

تفسير المفردات

الميقات: ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام، واليوم المعلوم: هو يوم الزينة الذي حدده موسى في قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، وعزة فرعون: أي قوته التي يمتنع بها من الضيم، تلقف: أي تبتلع بسرعة، يأفكون: أي يقلبونه عن وجهه وحقيقته بكيدهم وسحرهم، من خلاف: أي بقطع الأيادى اليمنى والأرجل اليسرى، لا ضير: أي لا ضرر علينا فيما ذكرت، منقلبون: أي راجعون.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه هذه المناظرة بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف وسورة طه وفى هذه السورة.

وخلاصتها - إن فرعون وقومه أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك شأن الإيمان والكفر والحق والباطل ما تقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ » ومن ثم لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم مصر العليا وكانوا أبرع الناس في فن السحر وأشدهم خداعا وتخيلا، وكانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا أحضروا مجلس فرعون، فطلبوا منه الأجر إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا، وزادهم عليه أن سيجعلهم من بطانته ومن المقربين إليه، ولكن المناظرة انتهت بغلبة موسى لهم وهزيمة من استنصر بهم، وإيمانهم بموسى، وحينئذ عاد إلى المكابرة والعناد، وشرع يتهدد السحرة ويتوعدهم ويقول: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ولكن ذلك لم يردّهم إلا إيمانا وتسليما، لعلمهم ما جهله قومهم من أن هذا لا يصدر عن بشر إلا إذا أيده الله وجعله حجة على صدق ما يدّعى، ومن ثمة قالوا له بعد أن توعدهم بقطع الأيدي والأرجل: إن ذلك لا يضيرنا، وإن المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، وإنا لنرجو أن يغفر لنا خطايانا، لأنا سبقنا قومنا من القبط إلى الإيمان، ويروى أنه قتلهم جميعا.

الإيضاح

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت في أمر موسى، وبان من الخير له أن يجمع السحرة، ليظهر عند حضورهم فساد قوله - رضى بما أشاروا به واستقر عليه الرأي وأحب أن تقع المناظرة في يوم عيد لهم، لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس، ويتم الله نوره ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي وقيل للناس حثا لهم على المبادرة إلى الاجتماع ومشاهدة ما يكون من الجانبين: هل أنتم مجتمعون في ذلك الميقات لتروا ما سيكون في ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وقد طلب أن يكون ذلك بمجمع من الناس لئلا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفى ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، وقهر للمبطلين.

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي إنا نرجو أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم ولا نتبع دين موسى.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فلما جاء السحرة مجلس فرعون طلبوا منه الإحسان ببذل المال والتقرب إليه إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا وزاد على هذا أن وعدهم بأنهم سيكونون من جلسائه وخاصة بطانته.

بعدئذ عادوا إلى مقام المناظرة وقالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قال لهم موسى ألقوا ما تريدون إلقاءه، مما يكون حجة لكم على إبطال ما أدعيه من المعجزات فألقوا ما معهم من الحبال والعصى وقد كانت مطليّة بالزئبق، والعصي مجوّفة مملوءة به، وقالوا بقوة فرعون وجبروته: إنا لنحن الغالبون، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها وصارت كأنها حيات تدبّ من كل جانب، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.

وجاء في سورة طه: « فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ».

وقد استفرغوا الوسع وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية بل ما فوقها وأن النصر قد كتب لهم.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون صورته وحاله الأولى بتمويههم وتخييل الحبال والعصى أنها حيات تسعى.

وجاء في آية أخرى: « فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ».

وقد قامت الحجة لموسى عليهم واستبان لهم أن هذا ليس من متناول أيديهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخروا سجد الله، لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحرى، فلما ابتلعت الحية ما زّوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى، حينئذ خروا سجدا لله القوى القاهر فوق عباده.

وفي التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا.

ثم فاهوا بما يجيش في صدورهم، وتنطوى عليه جوانحهم.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا: آمنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون.

وفي هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهرون من المعجزات.

وبعد أن حصحص الحق، وو صح الصبح لذي عينين، لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة وشرع يهدّد ويتوعد، ولكن ذلك لم يجد في السحرة شيئا، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما، إذ كان حجاب الكفر قد انكشف، واستبان لهم نور الحق، وعلمهم ما جهل قومهم، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية قد أيده الله بها، وجعلها دليلا على صدق ما يدّعي.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) أي قال لهم: أتؤمنون به قبل أن تستأذنو، وقد كان ينبغي أن تفعلوا ذلك، وألا تفتاتوا علي، فإني أنا الحاكم المطاع؟

ثم التمس لإيمانهم عذرا آخر غير انبلاج الحق، ليعمّى على العامة، ويصرفهم عن وجه الحق فقال:

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه.

ولا شك أن هذا تضليل لقومه، ومكابرة ظاهرة البطلان، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر.

ثم توعدهم فقال:

(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم، وسوء عاقبة ما اجترحتم.

ثم بين ذلك بقوله:

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأقطعنّ اليد اليمنى من كل منكم والرجل اليسرى، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك.

فأجابوه غير مكترثين بقوله، ولا عابثين بتهديده، بأمرين في كل منهما دليل على اطمئنان النفس وبرد اليقين:

(1) (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قالوا لا ضرر علينا في تنفيذ وعيدك، ولا نبالى به، لأن كل حي لا محالة مائت.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

ونحو ذلك قول علي كرم الله وجهه: لا أبالى أوقعت على الموت أم وقع الموت علي؟

(2) (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ؟) أي ولأنا نؤمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من السحر، واعتقدناه من الكفر، من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا الموقف، انقياد للحق، وإعراضا عن زخرف الدنيا وزينتها.

[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 68]

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

تفسير المفردات

أسرى: سار ليلا، متبعون: أي يتبعكم فرعون وجنوده، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، غائظون: أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، حاذرون: أي من دأبنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور، كنوز: أي أموال كنزوها وخزنوها في باطن الأرض، ومقام كريم: أي قصور عالية ودور فخمة، أورثناها: أي ملكناها لهم تمليك الميراث، مشرقين: أي داخلين في وقت الشروق، تراءى الجمعان: أي تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر، لمدركون: أي سيدر كوننا ويلحقون بنا، كلا: أي لن يدركوكم، انفلق: انشق، الفرق: الجزء المنفرق منه، والطود: الجبل، وأزلفنا: أي قرّبنا. وثمّ: أي هناك، لآية: أي لعظة وعبرة توجب الإيمان بموسى.

المعنى الجملي

أقام موسى بين ظهراني المصريين يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا واستكبارا، يرشد إلى ذلك قوله في سورة الأعراف: « وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ » الآيات، ثم أمره الله أن يخرج بني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضى بهم حيث يؤمر، ففعل ما أمر به وخرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليّا كثيرة.

فلما وصل علم ذلك إلى فرعون أرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجند، ثم قوّى نفسه ونفس أصحابه، بأن وصف بني إسرائيل بالقلة، وأن أفعالهم تضيق بها الصدور، وتوجب الغيظ، وهو مستعد أن يبيدهم بما لديه من قوة وجند، ثم تبعهم هو وجنوده وقت الشروق، فلما تقارب الجمعان خاف أصحاب موسى وقالوا إن فرعون وقومه لاحقون بنا لا محالة. فقال لهم موسى لن يدركوكم وإن ربى سيهديني إلى طريق النجاة وحينئذ أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق حتى صار شكل الماء المتراكم كالجبل العظيم، فسار هو وقومه في اليبس حتى جاوزوا البحر من الجانب الآخر، ودخل فرعون وجنوده من الجانب الأول فانطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعون.

وهذه آية كان من حقها أن توجب الاعتبار والعظة فيؤمن به من بقي من المصريين لكنهم لم يفعلوا.

الإيضاح

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي وأوحينا إليه أن سر بعبادي ليلا حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم فلا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على إثركم حين تلجونه، فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فيغرقون.

وقد جاء في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الحادي عشر: إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة، وأن الله سيميت كل بكر في أرض مصر من الإنسان والحيوان، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة في اليوم الرابع عشر من شهر الخروج، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف، وهذا هو (فصح الرب) وهذا الدم علامة على بيوت بني إسرائيل حتى يحفظ كل بكر منهم ويتخطاهم الموت إلى أبكار المصريين، ويكون أكل الفطير سبعة أيام، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارا بالخروج من مصر من يوم 14 من شهر أبيب إلى 21 من هذا الشهر كل سنة.

وهكذا أمر موسى قومه بذلك، ففعلوا كل هذا ونجا أولادهم، وصار ذلك سنة أبدية.

ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان في جميع بلاد مصر في نصف الليل اشتغل الناس بالأموات، وأخذ بنو إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم، وفعلوا ما أمرهم به الرب، فارتحلوا من رعمسيس إلى سكوت وكانوا ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملّة (فطيرا) ا هـ.

وكانت إقامة بني إسرائيل في مصر 430 سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أسرى بهم موسى وأخبر فرعون بما صنعوا، أرسل في مدائن مصر رجالا من حرسه، ليجمعوا الجند فيتبعوهم ويردّوهم إلى مصر، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا.

ثم قوّى فرعون جنده في اقتفاء آثارهم بأمور:

(ا) (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم وكبح جماحهم في الزمن الوجيز.

(ب) (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن، فيحدثون الشغب والاضطراب في البلاد - إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها.

(ج) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم ويصعب رأب صدعهم، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر، واستعمال الحزم في الأمور.

والخلاصة - إنه أشار أولا إلى عدم الموانع التي تمنع اتباعهم من قلة وجود الشّوكة لهم، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم لهم، ووجوب التيقظ في شأنهم حثا منه عليه.

وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه.

وخلاصة مقاله - إن هؤلاء عدد لا يعبأ به، وإن في مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم ورددناهم على أعقابهم خاسئين، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب في البلاد، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة في الأمور.

والذي نجزم به أن بني إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون، لكنا لا نجزم بعدد معين، وما في كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها ولا ينبغي التعويل عليها، فخير لنا ألا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها، وقد فنّد ابن خلدون في مقدمة تاريخه هذه الروايات وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.

وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بني إسرائيل فأهلكوا جميعا كما قال:

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ) أي فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم، وتركوا المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله، وقد كان الأمر حقا كما قلنا.

ثم بين ما آل إليه أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر:

(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وملّكنا بني إسرائيل جنات وعيونا مماثلة لها في أرض الميعاد التي ساروا إليها، وفى هذا بيان لأن حالهم تحوّل من الاستعباد والرقّ إلى الترف والنعيم في الجنات والعيون والمقام الكريم.

ونحو الآية قوله: « وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ».

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فخرجوا من مصر في حفل عظيم وجمع كثير من أولى الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند، فوصلوا إليهم حين شروق الشمس.

ثم ذكر ما عرا بني إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من الفريقين صاحبه قال بنو إسرائيل: إن فرعون وجنوده سيلحقوننا ويقتلوننا، وكانوا قد قالوا لموسى من قبل: إنا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، فقد كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا يدركوننا ويقتلوننا.

والخلاصة - إنا لمتابعون وسنهلك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد لأناقد انتهى بنا السير إلى سيف البحر (ساحله) وقد أدركنا فرعون وجنوده.

فأجابهم موسى وطمأنهم وقوّى نفوسهم.

(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي قال لهم موسى: إنه لن يصلكم شيء مما تحذرون، فإن الله هو الذي أمرني أن أسير بكم إلى هنا، وهو سبحانه لا يخلف وعده، فهو:

(1) سيهديني إلى طريق النجاح والخلاص.

(2) سينصرنى عليهم ويتكفّل بمعونتي.

ثم ذكر سبحانه كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه فقال:

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي وصار فيه اثنا عشر طريقا، لكل سبط منهم طريق وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض كما قال في آية أخرى: « فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخافُ دَرَكًا وَلا تَخْشى ».

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم منه.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي وأنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرقنا: فرعون وجنوده ولم نبق منهم أحدا.

والخلاصة - إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في الذي حدث في البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، من حيث كان معجزة له، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله وأمر رسوله ﷺ.

ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات.

وفي ذلك تسلية لرسوله ﷺ فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه في البحر وغيره، وتكذيب بني إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.

ثم توعدهم وقال:

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.

وفي هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له، والفوز سيكون حليفه كما قال: « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ».

قصص إبراهيم عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 82]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) والَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

المعنى الجملي

لما ذكر في أول السورة شدة حزنه ﷺ على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون في ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع في الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات، وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير - أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء، وخليل الرحمن، وكليم الله، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمض، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا، فهي لا تسمع دعاءهم « وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ » ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغي أن يعبد وفصلها أتم التفصيل.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده لا شريك له والتبري من الشرك وأهله، وقد أوتى الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.

روي أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل، المزهوّ بجميل ما يصنع.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟) أي قال لهم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة؟.

ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته؟.

وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج، وتقليد الآباء والأجداد، وتلك هي حجة العاجز المغلوب على أمره، الذي أظلم وجه الحق أمامه، ولم يهتد لحجة ولا دليل.

فزاد في تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدوّ لها، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها، ولكن رب العالمين هو ولى في الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلا علي فيهما.

ونحو هذا قول نوح عليه السلام « فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ » وقول هود: « إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد:

(1) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى، وهو الذي يهديني إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.

(2) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.

(3) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علي بالشّفاء إذا حصل لي مرض، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن « وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ».

والخلاصة - إني إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك.

(4) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو، فهو الذي يبدئ ويعيد، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.

(5) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب في الآخرة إلا هو كما قال: « وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ » وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل - هو خلاف الأولى - خطيئة، استعظاما له.

وخلاصة مقاله - إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هي من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شيء منها.

وفي صحيح مسلم عن عائشة « قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتى يوم الدين ».

[سورة الشعراء (26): الآيات 83 الى 89]

رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

تفسير المفردات

الحكم: هو العلم بالخير والعمل به، واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام في زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، لسان صدق: أي ذكرا جميلا بين الناس بتوفيقى إلى الطريق الحسنة حتى يقتدى بي الناس من بعدي، وهذا هو الحياة الثانية كما قال: قد مات قوم وهم في الناس أحياء، من ورثة جنة النعيم: أي من الذين يتمتعون بالجنة وسعادتها فيكون ذلك غنيمة لهم كما يتمتع الناس بالميراث في الدنيا، والخزي: الهوان، والقلب السليم: هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة.

المعنى الجملي

بعد أن أثنى إبراهيم على ربه بما أثنى عليه - ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه، ليستغرق في معرفة ربه ومحبته، ويصير أقرب شبها بالملائكة الذين

يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به في دينه ودنياه، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدى إلى ما يريد، ومن ثم جاء في الأثر حكاية عن الله تعالى: « من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ».

الإيضاح

دعا إبراهيم ربه أن يؤتيه من فضله أجمل الأخلاق وأكمل الآداب، فطلب إليه أمورا هي:

(1) (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) أي ائتني معرفة بك وبصفاتك، ومعرفة للحق لأعمل به.

(2) (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي ووفقني للعمل في طاعتك، لأنتظم في سلك المقربين إليك، المطيعين لك، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: « وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ».

روي أن النبي ﷺ قال في دعائه: « اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين ».

(3) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي وخلّد ذكرى الجميل في الدنيا بتوفيقى لصالح العمل، فأكون قدوة لمن بعدي إلى يوم القيامة، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: « وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ».

ومن ثم لا نرى أمة إلا محبة لإبراهيم وتدّعى أنها على ملته، وقد جاء من ذريته كملة الأنبياء وأولو العزم منهم.

وختم ذلك بمجدّد دينه، وداعية الناس إلى التوحيد وهو محمد ﷺ.

وبعد أن طلب سعادة الدنيا طلب ثواب الآخرة فقال:

(4) (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلنى ممن يدخلون الجنة ويتمتعون بنعيمها كما يتمتع المالك بما يملكه ميراثا ويئول إليه أمره من شئون الدنيا.

وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأقرب الناس إليه وهو أبوه فقال:

(5) (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي واغفر له ذنوبه، إنه كان ضالا عن طريق الهدى، وهذه الدعوة وفاء بما وعده من قبل كما جاء في آية أخرى: « وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ».

ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة فقال:

(6) (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي ولا تخزنى بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص مرتبتى عن بعض الوارثين.

ثم بين حال هذا اليوم وما فيه من شديد الأهوال فقال:

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي يوم لا يقى المر، من عذاب الله المال ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعا، ولكن ينفعه أن يجىء خالصا من الذنوب وأدرانها، وحب الدنيا وشهواتها، وخص الابن بالذكر لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى.

قال النسفي: وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين، حيث سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى، فعظم شأنه، وعدّد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأدب، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعذابه وما يفعل المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ا هـ.

أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت: « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ » الآية. وقال بعض أصحاب رسول الله لو علمنا أي المال خير اتخذناه، فقال رسول الله ﷺ: « أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه ».

[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 104]

وأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

تفسير المفردات

أزلفت: أي قرّبت، برزت: أي جعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها، والغاوين: الضالين عن طريق الحق، فكبكبوا: أي ألقوا على وجوههم مرة بعد أخرى من قولهم كبّه على وجهه: أي ألقاه، يختصمون: أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، نسويكم: أي نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة، والصديق: هو الصادق في وده، والحميم: هو الذي يهمه ما أهمك، والكرة: الرجعة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه لا ينفع في هذا اليوم مال ولا بنون، وإنما ينفع البعد من الكفر والنفاق - ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورا تبين شديد أهواله، وعظيم نكاله.

الإيضاح

ذكر ما يحدث في هذا اليوم مما يبشر بثواب المتقين ونكال الكافرين، ثم قرّعهم على ما اجترحوا من السيئات فقال:

(1) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي إن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها، ويفرحون بأنهم سيحشرون إليها كما جاء في آية أخرى: « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ».

وفي هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها.

(2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي وتكون النار بارزة مكشوفة للأشقياء، بحيث تكون بمرأى منهم، يسمعون زفراتها التي تبلغ منها القلوب الحناجر، ويوقنون بأنهم مواقعوها، لا يجدون عنها مصرفا.

وفي هذا تعجيل للغم والحسرة، إذا نسوا في دنياهم هذا اليوم كما جاء في قوله: « وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ».

ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعا لهم.

(3) (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟) أي أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا - إنهم وآلهتهم وقود النار.

والخلاصة - ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئا، ولا هي بدافعة عن نفسها شيئا، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.

ثم ذكر مآلهم بعدئذ فقال:

(4) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فألقى الآلهة والغاوون الذين عبدوها في النار، والشياطين والداعون إلى عبادتها - على رءوسهم أو ألقى بعضهم على بعض.

وتأخير الغاوين في الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم.

ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة.

(5) (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين: تالله إننا كنا في ضلال واضح لا لبس فيه حين سويناكم برب العالمين في استحقاق العبادة وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وما أضلّنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء كما جاء في آية: « رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ».

وخلاصة ذلك - إنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها.

ثم أكّدوا ندمهم على ما فرط منهم وحسرتهم على ما صنعوا.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما نحن فيه من ضيق أو ينقذنا من هلكة، ولا صديق شفيق بعنيه أمرنا ويودنا ونوده.

ونحو الآية ما جاء في آية أخرى حكاية عنهم: « فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ».

وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع، وقد نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته، ثم ترقّوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم.

والخلاصة - إن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع.

ثم حكى الله عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله يعلم إنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقال:

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)/ 103 أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم في التوحيد - لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره، ولا معبود سواه، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم.

وفي هذا تسلية للرسول ﷺ على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم - لهو القادر على الانتقام منهم، الرحيم بهم إذ لم يهلكهم، بل أخّر ذلك وأرسل إليهم الرسل ونصب لهم الشرائع، ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.

قصص نوح عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

تفسير المفردات

القوم: اسم لا واحد له من لفظه كرهط ونفر يذكّر ويؤنث، أخوهم: أي أخوّة نسب، كما يقال يا أخا العرب ويا أخاتيم، يريدون يا من هو واحد منهم قال الحماسي:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

الأرذلون: واحدهم أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة، وقد استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة حظوظهم من الدنيا، من المرجومين: أي من المقتولين رميا بالحجارة، فافتح: أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفلك: يستعمل واحدا وجمعا، المشحون: أي المملوء

المعنى الجملي

بعد أن قص على رسوله ﷺ قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات - أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد: « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة.

وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله في سورتى الأعراف وهود، وسيأتي بسطه أتم البسط في سورة نوح.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون الله فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله؟.

وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف فهي في كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع.

وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله: ألا تتقون؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا، والمقلد إذا خوّف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.

وقد وصف نوح نفسه بأمرين:

(1) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها، ولا أنقص منها.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب الله وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد، وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن التقوى هي ملاك الأمر كله في هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة في جميع الأعمال، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.

(2) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم، بل أطلب ثواب ذلك من عند الله.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني الله به وائتمنى عليه، وسبب التكرير ما علمته من قبل، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟.

وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هي أوهى من بيت العنكبوت.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا وهذه شبهة لا ينبغي لعاقل أن يركن إليها، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا بارق بين غنى وفقير، وصعلوك وأمير، ولا بين ذوي البيوتات والحسب، وذوي الوضاعة والخسة في النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم:

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) أي وأي شيء يعلمنى ما كان يعمل أتباعي؟ إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا، ومن أظهر السوء ظنت به ذلك، ولم أكلّف العلم بأعمالهم، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة.

ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال:

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوي الشعور والعقل.

ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال:

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني وصدق بما جئت به من عند الله.

ثم بين وظيفة الرسول فقال:

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطعنى كان مني وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا، جليلا كان أو حقيرا.

ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له: لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن في آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها.

ولما طال مقامه بين ظهرانيهم، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا في عتوّهم واستكبارهم - استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومي كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك، فاحكم بيني وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.

وجاء في آية أخرى « فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ».

وفي ذلك إيماء إلى طلب إنزال العذاب بهم كما يرشد إلى ذلك قوله: (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

فأجاب الله دعاءه كما قال:

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أي فأنجينا نوحا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره.

وفي قوله - المشحون - إيماء إلى كثرتهم وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وقد روى أنهم كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك المصدقين منهم والمكذبين، على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم، وكذلك هي سنتى فيك وفى قومك.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل، وفى هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين لما عوجلوا بالعقاب.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته.

قصص هود عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

تفسير المفردات

عاد: اسم أبى القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة باسم الأب أو بيني فلان أو آل فلان، والريع (بالفتح والكسر) المكان المرتفع، ويقال كم ريع أرضك أي ارتفاعها، آية: أي قصرا مشيدا عاليا، تعبثون: أي تفعلون العبث، وما لا فائدة فيه، مصانع: أي قصورا مش يدة وحصونا منيعة، ولعل هنا معناها التشبيه أي كأنكم تخلدون، والبطش: الأخذ بالعنف، والجبار: المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة، أمدكم: أي سخر لكم، والوعظ: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد، خلق الأولين: أي عادتهم التي كانوا بها يدينون، ونحن بهم مقتدون: نموت ونحيا بلا حساب ولا بعث.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص نوح وقومه وأن نوحا دعاهم وحذرهم عقاب الله وطال عليه المطال ولم يزدهم ذلك إلا عتوّا ونفورا، فدعا ربه فأخذهم الطوفان وهم ظالمون - أردف هذا قصص هود عليه السلام مع قومه عاد، وكانوا بعد قوم نوح كما قال في سورة الأعراف « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ». يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال، وجنات وأنهار وزروع وثمار، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فبعث الله فيهم نبيّا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ويحذّرهم نقمته وعذابه، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت هذه المقالة على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه إلى أن بعثة الأنبياء أسّها الدعاء إلى معرفة الله وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب، وأن الأنبياء مجمعون على ذلك وإن اختلفوا في تفصيل الأحكام تبعا لاختلاف الأزمنة والعصور، وأن الأنبياء منزّهون عن المطامع الدنيوية لا يأبهون بها، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم، ومحط رحالهم.

ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه فقال:

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟) أي أتبنون في كل مرتفع عال قصرا مشيدا للتفاخر والدلالة على الغنى.

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي وتتخذون الحصون والقلاع كأنكم مخلّدون في الدنيا.

روى ابن أبي حاتم أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستجيبون، ألا تستجيبون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأكلون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان، خيلا وركابا، فمن يشترى مني ميراث عاد بدرهمين؟.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذوو جبروت وعتوّ، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة.

وخلاصة ما قال - إن أفعالكم تدل على حب الدنيا وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف.

ولما نهامم عن حب الدنيا والاشتغال بالسّرف والجبروت، دعاهم إلى العمل للآخرة زجرا لهم عما هم فيه فقال:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاحذروا عقاب الله، واتركوا هذه الأفعال الذميمة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإن ذلك أجدى لكم وأنفع.

ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم، وفواضله التي عمّتهم، وذكرها أوّلا مجملة ثم فصلها ليكون ذلك أوقع في نفوسهم فيحتفظوا بها ويعرفوا عظيم قدرها فقال:

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد في الأرض، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار تتمتعون بها كما شئتم، حتى صرتم مضرب الأمثال في الغنى والثروة والزخرف والزينة، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها وتعظيمه وحده.

ثم بين السبب في أمرهم بالتقوى فقال:

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إني أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم ولم تشكروا هذه النعم، عذاب يوم شديد الهول تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وترى الناس فيه سكارى حيارى وما هم بكارى، ولكن عذاب الله شديد.

وبعد أن بلغ الغاية في إنذارهم وتخويفهم، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك بقوله:

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي هوّن عليك وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد في غير عدوّ، وضرب في حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى سبحانه قولهم في سورة هود: « وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ».

ثم ذكروا السبب في أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم:

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي فاستمروا في تكذيبهم ومخلفة أمر رسوله، فأملكناهم بريح صرصر عاتية: (ريح عظيمة ذات برد شديد) كما جاء في قوله: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ » وقوله: « وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عادًا الْأُولى »:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها - لعبرة لقومك المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علمنا.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو الشديد في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.

قصص صالح عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) ولا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

تفسير المفردات

الطلع: أول ما يطلع من الثمر وبعده يسمى خلالا ثم بلحا ثم بسرا ثم رطبا ثم تمرا، والهضيم: هو النضيج الرّخص اللين اللطيف، والنحت: النجر والبرى، والنّحاتة: البراية، والمنحت: ما ينحت به، والفره: النشاط وشدة الفرح، من المسحّرين: أي الذين سحروا حتى ذهبت عقولهم، الشرب: (بالكسر) النصيب والحظ، فعقروها: أي رموها بسهم ثم قتلوها.

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص عاد وهود - قص قصص ثمود وصالح وقد كانوا عربا مثلهم يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام، ومساكنهم معروفة تتردد عليها قريش في رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام.

دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم، لآيات المصدّقة لرسالته، فأخذهم العذاب وزلزلت بهم الأرض ولم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كذبت ثمود أخاهم صالحا حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره، بطاعتكم أمر المفسدين في الأرض؟ إني لكم رسول من عند الله أرسلنى إليكم بتحذيركم عقوبته، أمين على رسالته التي أرسلها معى إليكم، فاتقوه وأطيعونى، وما أسألكم على نصحى وإنذاري جزاء ولا ثوابا، ما جزائى إلا على رب السموات والأرض وما بينهما.

ثم خاطب قومه واعظا لهم ومحذرا نقم الله أن تحل بهم ومذكّرا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة والجنات والعيون والزروع والثمرات، والأمن من المحذورات فقال:

(1) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟) أي لا نظنوا أنكم تتركون في دياركم آمنين متمتعين بالجنات والعيون والزروع والثمار اليانعة، وأن لا دار للجزاء على العمل. بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعيم، وأمن من عدوّ، لن يدوم وأنكم عائدون إلى ربكم، مجازون على أعمالكم خيرها وشرها.

(2) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي وتتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام في بنائها، فاتقوا الله وأقبلوا على ما يعود عليكم نفعه في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وتسبيحه بكرة وأصيلا.

(3) (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا في معصية ربكم واجترءوا على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون وهم لنذكورون في قوله: « وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ » أي يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته.

وخلاصة هذا - لا تطيعوا رؤساءكم وكبراءكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.

ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة.

(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي أنت ممن سحر كثيرا حتى غلب على عقله، فلا يقبل لك قول، ولا يسمع لك نصح.

(2) (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحى إليك دوننا؟ كما حكى عنهم في آية أخرى: « أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟ » فأجابهم إلى ما اقترحوا من الآيات الدالة على صدقه فيما جاء به من عند ربه.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقة: يا قوم هذه ناقة الله آية لكم، ترد ماءكم يوما وتردونه أنتم يوما، فلها حظ من الماء يوما ولكم مثله يوما آخر.

قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولا تشرب في يومهم ماء.

روي أنهم اقترحوا عليه عشراء (الحامل في عشرة أشهر) تخرج من صخرة عيّنوها، ثم تلد سقبا، فقعد عليه الصلاة والسلام يتذكر، فقال له جبريل عليه السلام: صلّ ركعتين وسل ربك، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم.

وإن أمثال هذه الروايات لا يجب علينا التصديق بها إلا إذا ثبتت بصحيح الأخبار.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ولا تمسوها بسوء كضرب أو عقر فيحل بكم عذاب لا قبل لكم به.

ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم فقال:

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي فعقروا الناقة بعد أن مكثت بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل المرعى، ثم ندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم، إذ أنظرهم ثلاثة أيام وفى كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله فندموا حيث لا ينفع الندم، فأخذهم العذاب وزلزلت أرضهم زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت منها قلوبهم، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تقسيرها

قصص لوط عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

تفسير المفردات

أخوهم: أي في البلد والسكنى، لا في الدين ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم وهما من أرض بابل، والذكران: واحدهم ذكر ضد الأنثى من كل حيوان، عادون: أي متعدون الحدود التي رسمها العقل والشرع، من المخرجين: أي ممن نخرجهم من أرضنا وننفيهم من قريتنا، من القالين: أي المبغضين لفعلكم، والقلي: البغض الشديد كأنه يقلي الفؤاد، يقال قليته أقليه قلى وقلاء، الغابرين: أي الباقين فهي لم تخرج مع لوط ومن مضى معه.

المعنى الجملي

قص الله علينا في هذه الآيات قصص لوط بن هارون بن آزر بن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بعثه الله في حياته إلى أمة عظيمة تسكن مذوم وما حولها من المدائن من بلاد الغور بالقرب من بيت المقدس، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته وارتكاب ما كانوا ابتدعوا من الفواحش مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، فكذّبوه فأهلكهم الله، فأرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء فاحترقت قريتهم وأحدث بها زلزالا جعل عاليها سافلها كما جاء في قوله: « فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ».

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم تفسير هذا في سالف القصص.

وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره وبخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله:

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أأنتم دون الناس جميعا تفعلون هذه الفعلة الشنعاء، تعشون الذكور وتتركون النساء اللاتي جعلهن الله حلّا لكم تستمتعون بهن ويستمتعن بكم.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول وتبيحها الشرائع، بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال أحد ممن قبلكم.

ولما اتضح لهم وجه الحق وانقطعت حجتهم لجئوا إلى التهديد واستعمال القوة:

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من إنكارك ما تنكره من أمرنا لننفينّك من قريتنا، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف واحتباس الأموال: (كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم).

حينئذ أجابهم بأن إبعاده لا يقف به عن الإنكار عليهم.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي إني بريء مما تعملون، مبغض له، لا أحبه ولا أرضاه، ولا يضيرنى تهديدكم ولا وعيدكم، وإني لراغب في الخلاص من سوء حواركم.

وقال (مِنَ الْقالِينَ) دون (قالَ) إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه، كما يقال فلان من العلماء فإنه أشد مدحا من قولك فلان عالم، إذ الأولى تدل على أنه في عداد زمرة العلماء المعروفين بمساهمته لهم في العلم.

ثم أعرض عنهم وتوجه إلى الله أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله قال:

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي رب نجّنى من شؤم أعمالهم وأبعدنى من عذابك الدنيوي والأخروي.

فأجاب الله دعاءه وأغاثه بعد أن استغاثه قال:

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه وأهله جميعا مما حل بأهل القرية من العذاب، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم ما نزل، إلا عجوزا قد بقيت ولم تخرج معه وهي امرأته كما جاء في سورة هود: « إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ » وكانت عجوز سوء لم نتبع لوطا في الدين ولم تخرج معه.

والخلاصة - فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزا قدر الله بقاءها لسوء أفعالها وقبح طويّتها، ولما لها من ضلع في استحسان أفعالهم.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار.

وبئس المطر هذا وما أشد وطأته، وما أقسى وقعه، فقد أحدث بأرضهم زلزالا جعل عاليها سافلها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سبق تفسير ذلك.

إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون

كتبت مجلة السياسية الأسبوعية فصلا قالت فيه: روت الكتب المنزلة أن الله أهلك مدينتى سذوم وعمورة وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته ولوط وابنتيه ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن، بل نزح إليها من الشمال طلبا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحّل في ذلك الزمن.

وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه قصة خرافية، وبعضهم يقول إنها قصة واقعية كما يشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط).

وقد قام الدكتور (أو لبرابط) بمباحث واسعة في وادي نهر الأردن وعلى سواحل البحر الميت حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها، وعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام انحدر حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين ومعه أهل بيته وابن أخيه لوط وأهله ومعهما أنعام كثيرة، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة فرأى لوط حفظا للسلام أن يفترق عن إبراهيم واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها سذوم وعمورة وأقام بسذوم، واختار إبراهيم المرتفعات التي في الشمال وضرب خيامه هنالك.

وكشف الدكتور آثارا تدل على صدق هذه القصة، إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمسمائة قدم وبجواره (المذبح) هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة يرجح أن الوثنيين في ذلك الزمن كانوا يقدّمون عليها قرابينهم، ويرجح أن البحر الميت طغا على المدن الخمس التي كانت في منطقة الأردن ا هـ.

وبعض علماء الجيولجيا (طبقات الأرض) يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادا كانت آهلة بالسكان.

وفي التوراة: إن إبراهيم كان ذات يوم جالسا بباب خيمته في حرّ النهار إذ أقبل إليه ثلاثة ملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة واحتفى بهم، وفى أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم وانغماسهم في شهواتهم البهيمية ولا سيما المحرمة منها، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توّا إلى منزل لوط ابن أخي إبراهيم ليبيتوا عنده، وعلم أهل سذوم بقدومهم فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقا، ولكن لوطا دافع عنهم وعرّض أن يضحى بشرف ابنتيه لينقذهم، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء، وقد تمكن الضيوف من الفرار، وأقنعوا لوطا وأهل بيته بالفرار، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط (صوعر) فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وجميع سكانها ونظرت امرأة لوط إلى الوراء فصارت عمود ملح: (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت إما بحدوث زلزلة أو بسقوط صاعقة من الجو).

وفي التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات هيو لوجية شبيهة بحادثة (سذوم وعمورية) فقد يثور بركان ويتدفق حممه على البلاد المجاورة فيغمرها ويهلك أهلها، وقد تغور بلاد واسعة فيطمو عليها البحر وتزول هي وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان، وقد تنشقّ الأرض فتبتلع مدنا بأسرها:

والخلاصة - إن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين وكانت ذات رياض غناء وغياض غنيه بوفرة مائها وحيراتها وشمل أهلها الفساد ورتعوا في شهواتهم البهيمية ولم يبق فيها برّ إلا لوط وأهله، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فألهب البراكين النارية التي فيها، فعجلت دمارهم، وخسفت الأرض بهم، وظهرت البحيرة على ما يراه الآن.

قصص شعيب عليه السلام

[سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191]

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

تفسير المفردات

الأيكة: غيضة كثيرة الشجر قرب مدين بعث الله إلى أهلها شعيبا كما بعثه إلى أهل مدين ولم يكن منهم نسبا، من المخسرين: أي المطففين الآخذين من الناس أكثر ممّا لكم، والقسطاس: الميزان، والمستقيم: أي العدل، ولا تعثوا: أي لا تفسدوا، والجبلة: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضمهما وتشديد اللام: الخلقة والطبيعة، ويقال جبل فلان على كذا: أي خلق، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة، كسفا: واحدها كسفة كقطعة (وزنا ومعنى) والظلة: السحابة التي استظلوا بها.

المعنى الجملي

قص الله تعالى علينا في هذه الآيات قصص شعيب مع قومه أهل مدين، وقد بعثه إليهم فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان وألا يعثوا في الأرض فسادا فكذبوه، فسلط الله عليهم الحر الشديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أحر من غيرها فيخرجون، ثم أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا.

الإيضاح

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) سبق تفسير هذا.

وبعد أن نصحهم بتلك النصائح وعظهم بعظة أخرى، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم وهي التطفيف في الكيل والميزان فقال:

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملا ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصا، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.

وخلاصة ذلك - خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان السوي العدل، وقد جاء في سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه فقال: « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا، عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ».

ثم عمم النهي عن البخس في كل حق فقال:

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقهم في كيل أو وزن أو غيرهما كالمذروعات والمعدودات كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير وهكذا.

ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنا وأشد خطرا، وهو الفساد في الأرض بجميع ضروبه وأشكاله فقال:

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تكثروا فيها الفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق والسلب والنهب ونحوها.

وبعد أن نهاهم عن ذلك خوّفهم سطوة الجبار الذي خلقهم وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشا وعتوّا فقال:

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخافوا بأس الله الذي خلقكم من العدم للإصلاح في الأرض، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأكثر مالا، كقوم هود الذين قالوا من أشد مناقوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وقد تمخض هذا النصح عن شيئين: القدح في رسالته أولا، واستصغار الوعيد ثانيا.

(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ما أنت إلا ممن سحر عقله مرة بعد أخرى، فصار كلامه جزافا لا يعبّر عن حقيقة، ولا يصيب هدف الحق.

(وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما وجه تفضيلك علينا وإرسالك رسولا إلينا.

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:

(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا لنعتقد أنك ممن يتعمد بالكذب فيما يقول، ولم يرسلك الله نبيّا إلينا.

(2) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فإن كنت صادقا في دعواك الرسالة فأنزل علينا من السحاب قطعا يكون فيها العذاب لنا.

وهذا شبيه بما قالته قريش لنبيهم فيما حكى الله عنهم بقوله: « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا - إلى أن قالوا - أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا » وقوله: « وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ».

فأجابهم شعيب:

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به، فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وما علي إلا البلاغ، وأنا مأمور به، فلم أنذركم من تلقاء نفسي، ولا ادّعى القدرة على عذابكم.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي وهكذا دأبوا على التكذيب فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حرّ عظيم أخذ بأنفاسهم، لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرتهم شواظا من نار فاحترقوا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه، والعذاب لكل من عصاه في كل العصور - لدلالة واضحة على صدق الرسل، وما كان أكثر قومك بمؤمنين، مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك، لما يصحبه من الدليل والبرهان.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز في انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين التائبين.

(تنبيه) جاءت هذه القصص السبع مختصرة هنا وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب، فإن النتائج التي حصل عليها الأنبياء مع أقوامهم هي مثل النتائج التي حصل عليها النبي ﷺ ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين - نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله

[سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 212]

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

تفسير المفردات

الروح الأمين: هو جبريل عليه السلام، ووصف بالأمين، لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده، على قلبك: أي على روحك، لأنه المدرك والمكلّف دون الجسد، والزبر: الكتب، واحدها زبرة كصحف وصفحة، والآية: الدليل والبرهان، والأعجمين: واحدهم أعجمي، وهو من لا يقدر على التكلم بالعربية، سلكناه: أي أدخلناه، والمجرمين: مشركي قريش، بغتة: فجأة، منظرون: أي مؤخرون، ذكرى: أي تذكرة وعبرة لغيرهم، وما ينبغي لهم: أي ما يتيسر ولا يتسنى لهم، وما يستطيعون: أي ما يقدرون على ذلك، لمعزولون: أي لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكّنين.

المعنى الجملي

بعد أن اختتم سبحانه هذا القصص، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل، وذكر أنه قد أهلك المكذبين، وكان النصر في العاقبة لرسله المتقين فإن سنته في كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن: « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ».

وفي ذلك سلوة لرسوله، وعدة له بأنه مهما أوذى من قومه ولقى منهم من الشدائد، فإن الفلج والفوز له: « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » أردف هذا بيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله أنزله على عبده ورسوله جبريل عليه السلام بلسان عربي مبين، لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين، وأن ذكره في الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشّروا به حتى قام آخرهم خطيبا في ملئه يبشر به كما قال: « وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ »

وأن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكره في كتبهم كما قال: « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا الله ويتبعوا أوامره، وأنّى لهم ذلك؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ؟ « فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ».

وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.

ثم رد على مشركي قريش الذين قالوا: إن لمحمد ﷺ تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة - بأن الشياطين من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله ﷺ فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال: « وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا ».

الإيضاح

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره في قوله « وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ » أنزله الله إليك، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك، لتنذر به قومك بلسان عربي بيّن ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة، هاديا إلى الرشاد، مصلحا لأحوال العباد.

وفي قوله: على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه، إلى أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ »

وقوله ﷺ: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب » أخرجاه في الصحيحين

ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.

وفي قوله: بلسان عربي مبين، تقريع لمشركي قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد، لا عدم الفهم، لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله: « وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ».

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟) أي أوليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بني إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول ﷺ بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.

ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي ﷺ، فقالوا: هذا أوانه وذكروا نعته.

وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد ﷺ، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل، ولا تجديهم البراهين فقال:

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له:

لا نفقه ما يقول كما قال في آية أخرى: « وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ».

وفي هذا تسلية من الله لرسوله محمد ﷺ على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له.

والخلاصة - إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين: « لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك » فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.

ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال:

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش.

وفي ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا في قلوبهم أشد التمكن وصار كالشيء الجبلي الذي لا يمكن تغييره.

ثم زاد ذلك توكيدا فقال:

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

وإجمال ما تقدم - هكذا مكنا التكذيب وقررناه في قلوبهم، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال: « وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ».

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتي هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم.

ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات.

(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه: هل تؤخر إلى حين؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.

ولما أوعدهم النبي ﷺ بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به، ومتى هذا كما قال:

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم: « فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ » وقولهم: « ائْتِنا بِما تَعِدُنا ».

وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية؟

ثم أبان أن طول العمر لا يغني عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال:

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم، فأخبرني إن متعناهم في الدنيا برغد العيش وصافى الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم؟.

والخلاصة - إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب الله، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال: « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها » وقال: « يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ » وقال « وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى ».

وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري في الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال: عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.

ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال:

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا، وما كنا ظالمين في إهلاكهم، لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.

ونحو الآية قوله: « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » وقوله: « وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ».

ولما كان المشركون يقولون: إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله:

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا، وما ينبغي لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.

والخلاصة - إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة:

(1) إنه ليس من مبتغا هم، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان متين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.

(2) إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال: « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ».

(3) إنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله.

[سورة الشعراء (26): الآيات 213 الى 220]

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

المعنى الجملي

بعد أن بالغ سبحانه في تسلية رسوله ﷺ وأقام الحجة على نبوته، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه - أردف ذلك أمره بعبادته وحده وإنذار العشيرة الأقربين ومعاملة المؤمنين بالرفق، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده، فإنه هو العليم بكل شئونه وأحواله.

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أنزل الله: « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » إني النبي ﷺ الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجىء إليه ورجل يبعث رسوله، فقال رسول الله ﷺ: « يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ » وأنزل الله تعالى: « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ».

الإيضاح

أمر سبحانه نبيه بأربعة أوامر ونواه:

(1) (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، فإن من أشرك به فقد عصاه، ومن عصاه فقد استحق عقابه.

وفي هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص، وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فيكون الوعيد لغيره أزجر، وله أقبل.

وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلها آخر أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم ثنى بالأقرب فالأقرب كان قوله لسواهم أنفع، وتأثيره أنجع فقال:

(2) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي وخوّف الأقربين من عشيرتك بأس الله، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه.

وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها ﷺ كما قال: « لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » وقال: « لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ».

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: « لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله ﷺ قريشا وعم وخص، فقال: « يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى قصي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد مناف، أنفذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا، ألا إن لكم رحما وسأبلّها ببلالها - يريد: أصلكم في الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا ».

وفي الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب، لا ينفع مع البعد في الأسباب، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر وإرشاده ونصحه بدليل قوله: إن لكم رحما سأبلها ببلالها.

وروى مسلم قوله ﷺ: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ».

وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه أمره بالرفق بالمؤمنين فقال:

(3) (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك، وترفّق بمن اتبعك من المؤمنين، فإن ذلك أجدى لك، وأجلب لقلوبهم، وأكسب لمحبتهم، وأفضى إلى معونتك، والإخلاص لك.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك، وقد أديت ما أمرت به، ولا عليك إثم مما يعملون، وقل لهم إني بريء منكم ومن دعائكم مع الله إلها آخر، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(4) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوّض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضرّ عنك، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك، الرحيم بك إذ نصرك عليهم برحمته وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى تغيرك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت لهم إماما، وفي الخبر « اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».

وعبر عن المصلين بالساجدين، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، بسرهم ونجواهم كما قال: « وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ».

وقصارى ذلك - إنه هو القادر على نفعكم وضركم، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم.

[سورة الشعراء (26): الآيات 221 الى 227]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

تفسير المفردات

أنبئكم: أي أخبركم: والأفاك: كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الذنوب والفجور، يلقون السمع: أي يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون مما أكثره الكذب، والغاوون: الضالون المائلون عن السنن القويم. والوادي: الشّعب، يهيمون: أي يسيرون سير البهائم حائرين لا يهتدون إلى شيء، والمنقلب: المرجع.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه امتناع تنزل الشياطين بالقرآن، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين - أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله ﷺ، فإنها لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع.

وبعدئذ ذكر أن محمدا ﷺ ليس بشاعر، لأن الشعراء يهيمون في كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد ﷺ لا يقول إلا الصدق، فأنّى له أن يكون شاعرا؟.

الإيضاح

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا في الدين، عظيم الجدوى في الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن - على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع؟.

وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شيء أتاه به رئي من الجن، فنزّه الله رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين.

ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين:

(1) (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هي تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة.

(2) (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم، بل هم في أكثرها كاذبون.

والخلاصة - إن هناك فارقا بين محمد ﷺ والكهنة، فمحمد لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف عنه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف عنهم الصدق في أخبارهم.

وبعد أن ذكر الفارق بين محمد ﷺ والكهنة - أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال:

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد ﷺ ليسوا كذلك، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون.

وقد سبق أن قلنا: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: « ردفت رسول الله ﷺ يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت نعم، قال هيه فأنشدته بيتا، فقال هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مائة بيت ».

وفي هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي ﷺ من شعر أمية لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام « كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ».

ثم بين تلك الغواية بأمرين:

(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحرّى الصدق، لكنّ محمدا جبلّته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا.

(2) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون في الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه، ويقدحون في الأعراض لأدنى الأسباب، ولا يأتون إلا الفواحش، ومحمد ﷺ على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه: (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء. ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (1): الإيمان (2) والعمل الصالح (3) وكثرة قول الشعر في توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (4) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله: « لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ » كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله ﷺ.

وقد روي أن رسول الله ﷺ قال لكعب بن مالك: « اهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل » وكان يقول لحسان بن ثابت: « قل وروح القدس معك »، وفي رواية « اهجهم وجبريل معك ».

وإلى هذا أشار بقوله:

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).

وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق « أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله ﷺ وهم يبكون، قالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي ﷺ:

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) قال: أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال: أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي ﷺ: انتصروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والأمهات »، فقال حسان لأبي سفيان:

هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

وإن أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدّره الدّلاء

وقال كعب: يا رسول الله. إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي ﷺ، « إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل » وقال كعب:

جاءت سخينة كى تغالب ربها وليغلبنّ مغالب الغلّاب

فقال النبي ﷺ: لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا.

وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله ﷺ، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء - ختم السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال:

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا - أي مرجع يرجعون إلى الله بعد الموت، وأي معاد يعودون إليه؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها.

اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة

(1) مقدمة في تسلية الرسول ﷺ على إعراض قومه عن الدين، وبيان أنهم ليسوا ببدع في الأمم، وأنه ﷺ ليس بأول الرسل الذين كذّبوا، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان في القلوب اختيار يا لا اضطراريا.

(2) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة - على وجود الإله ووحدانيته.

(3) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين.

(4) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين، لا كلام تتنزل به الشياطين.

(5) بيان أن محمدا ﷺ ليس بكاهن ولا شاعر.

(6) التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه.

سورة النمل

مكية نزلت بعد الشعراء، وآيها ثلاث وتسعون.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه:

(1) إنها كالتتمة لها، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.

(2) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.

(3) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند الله.

(4) تسلية رسوله ﷺ على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم، وإصرارهم على الكفر به، والإعراض عنه.

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)

الإيضاح

(طس) تقدم القول في المراد من فواتح السور، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء، وينطق بأسمائها فيقال: (طا - سين).

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند الله أنزله إليك، لم تتقوّله أنت ولا أحد من خلقه، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس.

والمراد بالكتاب المبين: القرآن، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هي تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال: « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ » وهي تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.

ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال:

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها، فيذلّون أنفسهم في طاعته، رجاء ثوابه وخوف عقابه.

وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا، أطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.

[سورة النمل (27): الآيات 4 الى 5]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

تفسير المفردات

يعمهون: أي يتحيرون ويترددون في أودية الضلال، الأخسرون: أي أشد الناس خسرانا، لحرمانهم الثواب، واستمرارهم في العذاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه - أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه، ويتمادى في غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرا مترددا في ضلاله، فهو في عذاب شديد في دنياه لتبلبله، وقلقه واضطراب نفسه، وفى الآخرة له أشد الخسران، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب - حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم في غيهم، فهم في ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لا يفكرون في عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم.

قال الزجاج: أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع، محبوبا إلى النفس.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) في الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر.

(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم في الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه في الدنيا، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم في الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.

قصص موسى عليه السلام

[سورة النمل (27): الآيات 6 الى 14]

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

تفسير المفردات

لتلقى: أي لتلقّن وتعطى، آنست: أي أبصرت إبصارا حصل لي به أنس، بخبر: أي عن الطريق وحاله، بشهاب: أي بشعلة نار، قبس: أي قطعة من النار مقبوسة ومأخوذة من أصلها، تصطلون: أي تستدفئون بها، قال الشاعر:

النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل

جان: أي حية صغيرة سريعة الحركة، ولّى مدبرا: أي التفت هاربا، ولم يعقب: أي لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ماوراءه من قولهم: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ، من غير سوء: أي من غير برص ولا نحوه من الآفات، آيات: أي معجزات دالة على صدقك، مبصرة: أي بينة واضحة، جحدوا بها: أي كذبوا، واستيقنتها أنفسهم: أي علمت علما يقينيا أنها من عند الله، وعلوا: أي ترفعا واستكبارا.

المعنى الجملي

بعد أن وصف عز اسمه القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين - أردفه بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول ﷺ مخاطبا له.

الإيضاح

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلّمه من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل كما قال: « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ».

ثم خوطب ﷺ وأمر بتلاوة بعض ما تلقاه من لدنه عز اسمه تقريرا لما قبله وتحقيقا له بقوله:

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين قول موسى لأهله وقد ساربهم فضلّ الطريق في ليل دامس وظلام حالك، فرأى نارا تأجج وتضطرب، إني أبصرت نارا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها، وكان كما قال: فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس نورا جليلا.

وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلا فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد.

وفي مثل هذه الحال يستبشر الناس بمشاهدة النار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بها للاصطلاء، ومن ثم قال لها هذه المقالة.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى النار نودى بأن بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هي البقعة المباركة المذكورة في قوله: « نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ » ومن حولها من في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات ومهبط الخيرات، لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا.

وقوله سبحان الله تنزيه لنفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين.

أخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله ﷺ فقال: « إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة « أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ».

وفي التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا ﷺ (وفاران مكة).

ولما تشوقت النفس إلى تحقيق ما يراد بالتصريح قال تعالى تمهيدا لما أراد إظهاره على يد موسى من المعجزات الباهرة:

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك هو ربك الذي عزّ كل شيء وقهره، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله.

ثم أرى موسى آية تدل على قدرته، ليعلم ذلك علم شهود فقال:

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي وألق عصاك، فلما ألقاها انقلبت حية سريعة الحركة، فلما رآها كذلك ولّى هاربا خوفا منها ولم يلتفت وراءه من شدة فرقه.

وحينئذ تاقت النفس إلى معرفة ما قيل إذ ذاك فقال:

(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى، فإني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائى الذين اختصهم وأصطفيهم بالنبوة.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لكن من ظلم من سائر العباد، فإنه يخاف إلا إذا تاب، فبدل بتوبته حسنا بعد سوء، فإني أغفر له وأمحو ذنوبه وجميع آثارها كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى، وفى هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبا ثم أقلع عنه وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه كما قال: « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى » وقال: « وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ».

ثم أراه جلت قدرته آية أخرى ذكرها بقوله:

وأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي وأدخل يدك في جيب « مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر » فميصك تخرج بيضاء بياضا عظيما، ولها شعاع كشعاع الشمس بلا آفة بها من برص أو غيره.

والآية الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية.

(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان آيتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه كما قال: « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ».

ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله:

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ) أي لأنهم قوم خرجوا عما تقتضيه الفطرة ويوجبه العقل بادعاء فرعون الألوهية وتصديقهم له في ذلك.

وبعدئذ ذكر ما حدث لهم حين أتاهم بالبراهين من ربه فقال:

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي - أنكروها وقالوا هذا سحر بين لائح يدل على مهارة فاعله وحذق صانعه.

ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب لا بالقلب فقال:

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) أي وكذبوا بها بألسنتهم وأنكروا دلالتها على صدقه وأنه رسول من ربه، لكنهم علموا في قرارة نفوسهم أنها حق من عنده، فخالفت ألسنتهم قلوبهم، ظلما للآيات، إذ حطوها عن مرتبتها العالية وسمّوها سحرا، ترفعا عن الإيمان بها كما قال في آية أخرى: « فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا عالِينَ ».

والخلاصة - إنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها وهم يعلمون أنها من عند الله.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبرة للظالمين، ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم.

وفي هذا تحذير للمكذبين بمحمد ﷺ الجاحدين لما جاء به من عند ربه، أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون.

قصص داود وسليمان عليهما السلام

[سورة النمل (27): الآيات 15 الى 19]

ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْمًا وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

تفسير المفردات

ورث سليمان داود: أي قام مقامه في النبوة والملك، منطق الطير: أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، حشر: أي جمع، يوزعون: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وادي النمل: واد بأرض الشام لا يحطمنكم: أي لا يكسرنكم ويهشمنكم، أوزعنى: أي يسر لي.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص موسى ﷺ تقريرا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم - أردفه قصص داود وسليمان، وذكر أنه آتى كلا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلّم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلّم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْمًا، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا داود وسليمان ابنه عليهما السلام طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك مما لم نؤته أحدا ممن قبلهما، فشكر الله على ما أولاهما من مننه، وقالا الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن، على كثير من المؤمنين من عباده الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا.

وفي الآية إيماء إلى فضل العلم وشرف أهله من حيث شكرا عليه وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا شيئا دونه مما أوتياه من الملك العظيم: « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن عباد الله من يفضلهم فيه.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه في النبوة والملك بعد موته، وسخّرت له الريح والشياطين.

قال قتادة في الآية: ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطى ما أعطى داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكا منه وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان، شاكرا لنعم الله تعالى ا هـ.

ثم ذكر بعض نعم الله عليه:

(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي وقال متحدثا بنعمة ربه، ومنبها إلى ما شرّفه به، ليكون أجدر بالقول: يا أيها الناس إن ربى يسرّ لي فهم ما يريده الطائر إذا صوّت، فأعطاني قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومئ إليها فضلا منه ونعمة.

وقد اجتهد كثير من الباحثين في العصر الحاضر فعرفوا كثيرا من لغات الطيور أي تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة من حزن وفرح وحاجة إلى طعام وشراب واستغاثة من عدوّ، إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها الله للطير.

وفي هذا معجزة لكتابه الكريم لقوله في آخر السورة: « وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ».

وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرا من الأمم تبحث في لغات الطيور والحيوان والحشرات كالنمل والنحل، وتبحث في تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن وعلّمتها سليمان، وسيأتي يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتى، ويطلع الناس على عجائب صنعي فيها.

(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ) مما نحتاج إليه في تدبير الملك، ويعيننا في ديننا ودنيانا.

وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شيء، كما يقال فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، وسيأتي في مقال الهدهد عن بلقيس. « وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ».

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل المبين الذي لا يخفى على أحد.

ثم ذكر بعض ما أوتيه سليمان بقوله:

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع له عساكره من مختلف النواحي ليحارب بهم من لم يدخل في طاعته فهو يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وقال ابن عباس لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها، لئلا تتقدمها في السير كما يصنع الملوك. وقال الحسن: لا بد للناس من وازع: أي سلطان يكفلهم. وقال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا أشرفوا على وادي النمل صاحت نملة بما فهم منه سليمان أنها تأمرهم بأن يدخلوا مساكنهم خوفا من تحطيم سليمن وجنوده لهم وهم لا يشعرون بذلك.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي فضحك متعجبا من حذرها وتحذيرها والهداية التي غرسها الله فيها، مسرورا بما خصه الله من فهم مقاصدها، وقال رب ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي وعلى والدي، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه، وتوفنى مسلما وألحقنى بالصالحين من عبادك.

وخلاصة ذلك - كأنه قال: العلم غاية مطلبى وقد حصلت عليه، ولم يبق بعد ذلك إلا أن أطلب التوفيق للشكر عليه بالعمل الصالح الذي ترضاه، وأن أدخل في عداد الصالحين من آبائي الأنبياء وغيرهم.

تذكرة وعبرة بالآية

قد دلّ بحث الباحثين في معيشة النمل على مالها من عجائب في معيشتها وتدبير شئونها، فإنها لتتخذ القرى في باطن الأرض، وتبنى بيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات، وتملؤها حبوبا وقوتا للشتاء، وتخفى ذلك في بيوت من مساكنها منعطفات إلى فوق، حذرا من ماء المطر.

وفي هذه الآية تنبيه إلى هذا لإيقاظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظم والسياسة، فإن نداءها لمن تحت أمرها وجمعها لهم ليشير إلى كيفية سياستها، وحكمتها وتذبيرها لأمورها، وأنها تفعل ما يفعل الملوك، وتدبّر وتسوس كما يسوس الحكام.

ولم يذكره الكتاب الكريم إلا ليكون أمثالا تضرب للعقلاء، فيفهموا حال هذه الكائنات، وكيف أن النمل أجمعت أمرها على الفرار خوفا من الهلاك كما تجتمع على طلب المنافع، وإن أمة لا تصل في تدبيرها إلى مثل ما يفعل هذا الحيوان الأعجم تكون أمة حمقاء تائهة في أودية الضلال، وهي أدنى حالا من الحشرات والديدان: « وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ».

[سورة النمل (27): الآيات 20 الى 26]

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

تفسير المفردات

التفقد: طلب ما فقد، بسلطان مبين، أي بحجة واضحة، والإحاطة بالشيء علما علمه من جميع جهاته، وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، ونبأ: أي خبر عظيم، والعرش: سرير الملك، عن السبيل: عن سبيل الحق والصواب والخبء: هو المخبوء من كل شيء كالمطر وغيره من شئون الغيب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر في سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير وجعلهم جنودا له - ذكر هنا أنه احتاج إلى جندى من جنوده وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها تحكمها امرأة هي بلقيس ملكة سبأ، ووصف له مالها من جلال الملك وأبّهته وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس العليم بكل شيء في السموات والأرض، والعليم بما نخفى وما نعلن، والعليم بالسر والنجوى، وهو رب العرش العظيم.

الإيضاح

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي وطلب ما فقد من الطير بحسب ما تقتضيه العناية بأمر الملك من الاهتمام بالرعايا ولا سيما الجند فقال: الهدهد حاضر ومنع مانع من رؤيته كساتر ونحوه؟ ثم لاح له أنه غائب فقال أم كان قد غاب قبل ذلك ولم أشعر به؟.

وخلاصة ذلك - أغاب عنى الهدهد الآن فلم أره حين تفقده، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته.

ثم توعده بالعذاب إذا لم يجد سببا يبرر به غيبته فقال:

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لأعذبنه بحبسه مع ضده في قفص، ومن ثم قيل: أضيق السجون معاشرة الأضداد، أو بإبعاده من خدمتى، أو بإلزامه بخدمة أقرانه أو نحو ذلك، أو لأذبحنه ليعتبر به سواه أو ليأتينى بحجة تبين عذره.

والخلاصة - إنه ليعذبنه بأحد الأمرين الأولين إن لم يكن الأمر الثالث.

ثم ذكر أنه جاء بعد قليل وبين أن غيابه كان لأمر هامّ لدى سليمان.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي فغاب مدة قصيرة بعد سؤال سليمان عنه ثم جاء فسأله: ما الذي أبطأ بك عني؟ فقال: اطلعت على ما لم تطلع أنت ولا جنودك عليه، على سعة علمك واتساع أطراف مملكتك.

وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد، لترغيبه في الإصغاء إلى العذر، واستمالة قلبه إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه، ليكون فيه الخير له ولمملكته، فهو ما كان إلا لكشف مملكة سبأ، ومعرفة أحوالها، ومعرفة من يسوس أمورها، ويدبر شئونها.

قال صاحب الكشاف: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة ا هـ.

ثم فصل هذا النبأ وبينه بقوله:

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) بين في هذا الكلام شئونهم الدنيوية وذكر منها ثلاثة أمور:

(1) إن ملكتهم امرأة وهي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك.

(2) إنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال، الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا في الممالك العظمى.

(3) إن لها سريرا عظيما تجلس عليه، مرصّعا بالذهب وأنواع اللآلئ والجواهر في قصر كبير رفيع الشأن، وفى هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته ورفعة شأنه بين الممالك.

وبعد أن بين شئونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية فقال:

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي وجدتها وقومها في ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا ربّ الشمس وخالق الكون المحيط بكل شيء علما، وزين لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فظنوا حسنا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده.

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا لله الذي يظهر المخبوء في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن المخبوءة في الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال كما قال: « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ».

ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره، ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرا، وهو العرش الذي هو مركز تدبير شئون العالم هو الخالق له وهو محتاج إليه فقال:

(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له وهو رب العرش العظيم، فكل عرش وإن عظم فهو دونه، فأفردوه بالطاعة ولا تشركوا به شيئا.

[سورة النمل (27): الآيات 27 الى 31]

قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

تفسير المفردات

تولّ عنهم: أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر: أي تأمل وفكّر، يرجعون: أي يرجع بعضهم إلى بعض من القول ويدور بينهم بشأنه، والملأ: أشراف القوم وخاصة الملك، ألا تعلوا علي: أي ألا تتكبروا ولا تنقادوا للنفس والهوى، مسلمين: أي منقادين خاضعين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه - أردف ذلك إجابة سليمن عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنحي جانبا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصتها بشأنه.

الإيضاح

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ؟) أي قال سنختبر مقالك، ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول، أم كاذب فيه لتتخلص من الوعيد؟

وفي التعبير بقوله: كنت من الكاذبين، دون أن يقول أم كذبت، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمّقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوي السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها - لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به.

ثم شرع يفعل ما يختبره به فكتب له كتابا موجزا وأمره بتبليغه إلى ملكة سبأ فقال:

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي اذهب بهذا الكتاب فألقه إليهم، ثم تنح عنهم وكن قريبا منهم، واستمع مراجعة الملكة أهل مملكتها، وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا ونقاشهم فيه.

ثم فصل ما دار بينهم بشأنه فقال:

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي وبعد أن ذهب الهدهد بالكتاب ألقاه إلى الملكة ففضّت خاتمه وقرأته، وجمعت أشراف قومها ومستشاريها وقالت تلك المقالة للمشورة، وطلبت أخذ الرأي في ذلك الخطب الذي نزل بها كما هو دأب الدول الديمقراطية.

وفي الآية إيماء إلى أمور:

(1) سرعة الهدهد في إيصال الكتاب إليهم.

(2) إنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم.

(3) إنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة تراجمتها.

(4) إن من آداب رسل الملوك أن يتنحّوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، ليتشاور المرسل إليهم فيها.

ثم بينت مصدر الكتاب وما فيه لخاصتها وذوي الرأي في مملكتها فقالت:

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ونص هذا الكتاب على وجازته يدل على أمور:

(1) إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته وكونه رحمانا رحيما.

(2) نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.

(3) أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين.

وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه في الدين والدنيا.

[سورة النمل (27): الآيات 32 الى 35]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

تفسير المفردات

أفتوني: أي أشيروا علي بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث، قاطعة أمرا: أي باتّة فيه منفذته، تشهدون: أي تحضروني، والمراد بالقوة: القوة الحسية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات في الحرب.

المعنى الجملي

ذكر فيما سلف أن الهدهد حيما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولى الرأي لديها وقرأت عليهم نصّ الكتاب، وهنا بين أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهمّ والحادث الجلل حتى ينجلى لهم صواب الرأي فيما تعمل ويعملون، لأنها لا نريد أن تستبدّ بالأمر وحدها، فقلّبوا وجوه الرأي واشتد الحوار بينهم وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأي لدينا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدة، والأمر مفوّض إليك فافعلى ما بدا لك، وإن قالت: إني أرى أن عاقبة الحرب والدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلا، وإني أرى أن نهادنه ونرسل إليه بهدية ثم ننظر ماذا يكون رده، علّه يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك له، وبذا يترك قتالنا وحربنا:

الإيضاح

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علي في أمر هذا الكتاب الذي ألقى إلي فإني لا أقضى فيه برأى حتى تشهدوني فأشاوركم فيه.

وفي قولها هذا دلالة على إجلالهم وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضاءهم على الطاعة لها، علما منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، وتعمية في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريد من قوة شوكتهم وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) على مالها من عقل راجح وأدب جمّ في التخاطب.

وعلى هذا النهج سار الإسلام، فقد قال سبحانه لنبيه « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله: « وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ».

فأجابوا عن مقالها:

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي قال الملأ من قومها حين شاورتهم في أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو بأس ونجدة في القتال، إلى ما لنا من وافر العدّة وعظيم العتاد وكثير الكراع والسلاح، وإن أمر القتال والسلم مفوّض إليك، فانظرى وقلّبى الرأي على وجوهه، ثم مرينا نأتمر بذلك.

ولما أحست منهم الميل إلى القتال شرعت تبين لهم وجه الصواب، وأنهم في غفلة عن قدرة سليمان وعظيم شأنه، إذ من سخر له الطير على الوجه الذي يريده ليس من السهل مجالدته والتغلب عليه.

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم أو قتلوهم تقتيلا، ليتم هلم الملك والغلبة، وتتقرر لهم في النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا.

وفي هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم.

وبعد أن أبانت ما في الحرب والمجالدة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها:

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟) أي وإني سأرسل إليه هدية من نفائس الأموال لأتعرف حاله وأختبر أمره، أنبى هو أم ملك؟ فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة، وفي الحديث: « تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء »

ولقد أحسن من قال:

هدايا الناس بعضهم لبعض تولّد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى وودّا وتكسبهم إذا حضروا جمالا

[سورة النمل (27): الآيات 36 الى 37]

فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)

تفسير المفردات

لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بمقاومتها، صاغرون: أي مهانون محتقرون.

الإيضاح

لما وصلت الهدية مع الرسول إلى سليمان وكانت من ذهب وجواهر ولآلى وغيرها مما تقدمه الملوك العظام، قال سليمان للرسول: أتصانعونني بالمال لأترككم على شرككم وكفركم؟ لن يكون ذلك أبدا، إن الذي أعطانيه الله من النبوة والملك الواسع الأرجاء والمال الوفير - خير مما أنتم فيه، فلا حاجة لي بهديتكم، وليس رأيى في المال كما ترون، فأنتم تفرحون به دوني، فارجع بما جئت به إلى من أرسلك، ولنأتينكم بجنود لا طاقة لكم بدفعها ولا الانتصار عليها، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة مأمورين مستعبدين، إن لم تأتونى مستسلمين منقادين.

[سورة النمل (27): الآيات 38 الى 40]

قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

تفسير المفردات

العرش: سرير الملك، مسلمين أي خاضعين منقادين، العفريت من البشر: الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين: المارد، مقامك: أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكم، قوى: أي قادر على حمله لا أعجز عنه، أمين: أي على ما فيه من لآلئ وجواهر وغيرها، والكتاب: هو علم الوحي والشرائع، والذي عنده علم هو سليمان عليه السلام كما اختاره الرازي وقال إنه أقرب الآراء، يرتد: أي يرجع، والطرف: تحريك الأجفان والمراد بذلك السرعة العظيمة، مستقرا: أي ساكنا قارا على حاله التي كان عليها، الفضل: التفضل والإحسان، ليبلونى: أي ليعاملنى معاملة المختبر، أم أكفر أي أقصر في أداء واجب الشكر، كفر أي لم يشكر.

المعنى الجملي

استبان مما سلف أن سليمان رفض قبول الهدايا وتهدد الرسول بأن قومه وملكتهم إن لم يأتوا إليه طائعين خاضعين فسيوجه إليهم جيشا جرارا ينكل بهم أشد التنكيل، يقتل من يقتل ويأتي بالباقين أسارى وهم صاغرون، ويجليهم جميعا عن الديار والأوطان، ويأخذ أموالهم غنائم له - وهنا ذكر أنهم خافوا تهديده واستجابوا لدعوته، فتوجهت الملكة وأشراف قومها إليه، لكن سليمان رأى حين قربت من الوصول إليه أن يحضر سرير ملكها قبل مقدمها، ليكون في ذلك دلالة على قدرة الله وإثبات نبوته وتتظاهر عليها الأدلة من كل أوب، فسأل أعوانه: أيكم يستطيع أن يحضره قبل وصولها إلينا، فأجابه عفريت من الجن بأن في استطاعته أن يحضره قبل قيامه من مجلس الحكم والقضاء، فقال هو: بل أنا آتيكم به كلمح البصر، وقد كان كما قال: فرأى العرش حاضرا أمامه فشكر ربه على ما آتاه من النعم العظام الذي لا يستطيع إيفاء حقها من الشكر.

وعلينا أن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم على أنه معجزة لسليمان، إذ هو لا ينطبق على السنن العادية التي وضعها ربنا لخلقه، فعلم البشر إلى الآن لم يصل إلى تحقيق ذلك عمليا مع تقدم سبل الانتقال، فالطائرات على سرعتها التي أدهشت العقول لا تستطيع أن تسافر من جنوب اليمن إلى أطراف الشام في مثل تلك اللحظات الوجيزة.

الإيضاح

لما رجعت الرسل إلى بلقيس وأخبرتها بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه إني قادمة إليك بأشراف قومي، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه، من دينك، ثم شخصت إليه، فجعل يبعث الجن يأتونه بأخبارها ويعلمونه غاية سيرها كل يوم حتى إذا دنت منه جمع جنده من الجن والإنس وتكلم فيهم.

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال أيها الأعوان من منكم في مكنته أن يأتينى بسرير ملكها قبل قدومها علينا، لنطلعها على بعض ما أنعم الله به علينا من العجائب النبوية، والآيات الإلهية، لتعرف صدق نبوتنا، ولتعلم أن ملكها في جانب عجائب الله وبدائع قدرته يسير، وحينئذ تقدّم إليه بعض جنده بمقترحات.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار، ثم زاد الأمر توكيدا فقال: وإني على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه، وإني لأمين لا أمسه بسوء، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى - حينئذ.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره في أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال:

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شيء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من الله ومنّة ليختبرنى: أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة مني أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسي؟

وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده، فمن ضل بها هوى، ومن شكرها ارتقى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه، لأنه يجلب دوام النعمة، ومن جحد ولم يشكر فإن الله غني عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه، كما قال: « مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها » وقال: « وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ »

وروى مسلم قوله ﷺ حكاية عن ربه « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد دلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ».

[سورة النمل (27): الآيات 41 الى 44]

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

تفسير المفردات

نكروا لها عرشها: أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة، مسلمين: أي خاضعين منقادين، صدها: أي منعها، والصرح: القصر وكل بناء عال، واللجة الماء الكثير، ممرد: أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه، القوارير: الزجاج واحدها قارورة، أسلمت: أي خضعت.

المعنى الجملي

علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده: من يستطيع إحضار عرشها؟ فقال عفريت من الجن: أنا أفعل ذلك قبل أن تقوم من مجلس القضاء، فقال سليمان: بل أستطيع أن أحضره في لمح البصر وكان كما قال: فلما رآه أمامه شكر ربه على جزيل نعمه.

وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها، ولتعلم صدق سليمان في دعواه النبوة، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه.

وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف، فرشت أرضه بالزجاج أيضا، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك، فلما دخلت في بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها بالله ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين

الإيضاح

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس: غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى: أتهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله؟.

ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله:

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه، أعرشك مثل هذا؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو، ولم تجزم بأنه هو، إذ ربما كان مثله.

قال مجاهد: جعلت تعرف وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت: كأنه هو: وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم.

ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت:

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى.

ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال:

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون الله وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدي سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده في قرارة نفسها ويجول في خاطرها.

روي أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس في صدره، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها، لئلا تبتل أذيالها كما هي عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله وعليها على عبادة الشمس دون الله، فأجابته إلى ما طلب وقالت: رب إني ظلمت نفسي بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شيء وأخلصت له العبادة.

وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله:

يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: « أول من صنعت له الحمامات سليمان ».

قصص صالح

[سورة النمل (27): الآيات 45 الى 53]

ولَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) ومَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)

تفسير المفردات

فريقان: أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، يختصمون: أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه، السيئة: العقوبة التي تسوء صاحبها، الحسنة: التوبة، لو لا: أي هلّا، وهي كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، اطيرنا: أي تطايرنا وتشاء منا بك، طائركم: أي ما يصيبكم من الخير والشر، وسمى طائرا لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم، تفتنون: أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والمراد بالمدينة: الحجر، والرهط والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، تقاسموا: أي احلفوا، والبيات: مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا، وليه: أي من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل، والمهلك: الهلاك، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر، والتدمير: الإهلاك، خاوية: أي خالية، لآية: أي لعبرة وموعظة.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلها غيره.

وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين:

(1) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه.

(2) فريق كذّبه وكفر بما جاء به.

وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل.

ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا: « يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ».

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها في الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي.

ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال:

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلّا تتوبون إلى الله من كفركم، فيغفر لكم عظيم جرمكم ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا، لعلكم ترحمون بقبولها، إذ قد جرت سنته ألا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة.

ولما قال لهم صالح ما قال، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا: إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به، ولم تزل في اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم.

وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه: أي رموه بحجر ونحوه، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه.

فأجابهم صالح عليه السلام:

(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند الله وهو بقضائه وقدره، وليس شيء منه بيد غيره، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم: وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان، فلا شى أسرع منه نزولا.

ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله:

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه؟

ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال:

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان في مدينة صالح وهي الحجر تسعة أنفس يعيثون في الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا.

ثم بين بعض ما عملوا من الفساد:

(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة وتوعّدهم بقوله: « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ » احلفوا لنباغتّنه وأهله بالهلاك ليلا ثم لنقولن لأولياء الدم، ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتله ولا قتل أهله. ونحلف إنا لصادقون في قولنا.

وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا.

قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرا منهم، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم.

(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك، فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم.

ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله:

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر، ويسترعى الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم في جميع الأزمان. روى أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلى فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة، ونجّى الله صالحا ومن آمن معه.

ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله:

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم، إذ قد أهلكهم الله بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن في فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، بحسب السنن التي وضعت في الكون.

وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال:

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود - رسولنا صالحا ومن آمن به، لأنهم كانوا يتقون سخط الله ويخافون شديد عقابه، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم.

وفي هذا إيماء إلى أن الله ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركي قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين.

قصص لوط

[سورة النمل (27): الآيات 54 الى 55]

وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

الإيضاح

(وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع).

ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ليكون أوقع في النفس فقال:

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أينبغي أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال، وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون.

ونحو الآية قوله: « أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ».

وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه:

(1) قوله: (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا.

(2) قوله: (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح.

(3) قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.

هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير، فله الحمد والمنة.

وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

3 ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد ﷺ

5 ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة

8 ندمهم في الآخرة على ما فعلوا في الدنيا

9 مثل الجليس الصالح وجليس السوء

10 شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه

10 كان لكل نبي أعداء من شياطين الإنس والجن

12 فوائد إنزال القرآن منجّما

13 وعد الله رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه

14 قصص بعض الأنبياء مع أممهم

17 قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم

19 استهزاء المشركين بالرسول ﷺ وقولهم أهذا الذي بعث الله رسولا

19 احتفال النبي ﷺ بالدعوة والإلحاف في البلاغ

20 تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة:

23 الأدلة على التوحيد

25 بعثة الرسول ﷺ إلى الناس كافة كما جاء في الحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود

27 النهي على المشركين في عبادة الأصنام

27 المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن

27 أمر الرسول ﷺ بالتوكل على الله وحده ألا يرهب الوعيد ولا التهديد

31 خلق السموات والأرض في ستة أيام

33 جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر

34 أوصاف خلّص عباده المؤمنين

36 صفة مشى النبي ﷺ

37 سؤالهم صرف العذاب عنهم

38 كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم

39 سئل رسول الله ﷺ: أي الذنب أكبر؟

40 ترغيب الأبرار في التوبة

41 كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة

41 « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث »

42 إحسان الله إلى عباده المتقين

42 لو لا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم

45 الحروف المقطعة في أوائل السور

46 جرت سنة الله أن يكون الإيمان طوعا لا كرها

46 إعراض المشركين عن النظر في الآيات

48 بشارة النبي ﷺ بتأييده ونصره

48 قصص موسى عليه السلام

49 تسلية الرسول ﷺ بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم

50 الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون

51 تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له

52 قال موسى لفرعون إن أحسنت إلي فقد أسأت إلى شعبى

53 تعريف موسى لإلهه أمام فرعون

54 بعد أن عجز فرعون عن دحض حجج موسى وصفه بالجنون

55 تهديد فرعون لموسى بالسجن

56 الأدلة التي أدلى بها موسى على صحة نبوته

57 ما يرويه فرعون. موقفه من موسى أمام شعبه

58 المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم

61 إيمان السحرة بموسى

62 تهديد فرعون للسحرة على إيمانهم

63 رد السحرة على تهديد فرعون

65 أمر الله لموسى بالهجرة مع قومه من مصر

65 ما جاء في سفر الخروج من التوراة عن هذه الهجرة

66 ما قوّى به فرعون جنده في تعقبهم

67 ما جازى الله به فرعون وقومه

68 ما طمأن به موسى قومه حين خافوا من تعقبهم

68 كيف نجى الله موسى وقومه

69 قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه

71 محاجة إبراهيم لقومه

72 ما وصف به إبراهيم رب العالمين

74 ما طلبه إبراهيم من ربه

76 تقريب الجنة من المتقين والنار من الغاوين

77 سؤال أهل النار سؤال تقريع

78 ندم المشركين على ما كان قد فرط منهم

80 قصص نوح عليه السلام مع قومه

82 الحجة التي تذرعوا بها لعدم إجابتهم دعوته

83 تهديدهم لنوح عليه السلام

84 قصص هود عليه السلام مع قومه

86 ما أنكره هود على قومه

87 عظته لقومه على ما آتاهم من النعم

88 بعد أن أنذرهم ووبخهم قابلوه بالإنكار

89 قصص صالح عليه السلام مع قومه

91 ما خاطب به قوم هـ محذرا لهم

92 إجابتهم له على ما اقترحوه من الآيات

93 قصص لوط عليه السلام مع قومه

94 توبيخ لوط لقومه على قبيح أفعالهم

95 إغاثة الله له بعد أن استغاثه

96 ما كتبه الباحثون حديثا عن قرى قوم لوط

97 رواية التوراة لقصة قوم لوط

98 قصص شعيب عليه السلام مع قومه

100 نهيهم عن بخس الحقوق

100 قدحهم في نبوة الرسول لأمرين

101 ما نزل بهم من العذاب

102 إخبار القرآن عن الغيب

103 القرآن ذكر في الكتب السالفة

104 الرد على المشركين بأن لمحمد تابعا من الجن

105 بعث المشركون إلى أهل يثرب يسألونهم عن الرسول ﷺ

106 تسلية الرسول ﷺ عن عدم إيمان قومه

107 طول العمر لا يدفع عنهم العذاب المنتظر

108 لا يهلك الله قرية إلا بعد إنذارها

109 إنذار النبي ﷺ لقريش

111 أمر النبي ﷺ بلين الجانب

112 تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم

114 الشعراء يتبعهم الغاوون وذكر سبب ذلك

115 كان رسول الله ﷺ يحض على قول الشعر انتصار للدين

116 تحذير المشركين من سوء العاقبة

117 خلاصة ما حوته سورة الشعراء

118 أصح الأقوال في فواتح السور

119 لوازم الإيمان الصحيح

120 يجب الله إلى من لا يؤمن بالآخرة سوء عمله

122 قصص موسى عليه السلام حين عودته من مدين

123 ما جاء في التوراة عن ذلك

124 ما أراه ربه من الآيات الدالة على قدرته

125 قصص داود وسليمان عليهما السلام

128 كثير من العلماء الآن يهتمون بالبحث عن لغات الطيور والحشرات كالنمل والنحل

129 تذكرة وعبرة بالآية

130 تفقد سليمان للهدهد

132 وصف مملكة سبأ

132 كتاب سليمان لملكة سبأ وردها عليه

135 ما يدل عليه الكتاب على وجازته

136 طلبت بلقيس من أشراف قومها إبداء الرأي في كتاب سليمان

137 تحذيرها قومها من حرب سليمان

138 لم يقبل سليمان عليه السلام هدية بلقيس

140 مجىء سليمان بعرش بلقيس

141 من الذي عنده علم من الكتاب؟

143 ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح

144 ما أعده سليمان لنزول بلقيس

145 قصص ثمود مع صالح عليه السلام

148 توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم

149 ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم

150 تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم