→ الجزء الثاني والعشرون | تفسير المراغي الجزء الثالث والعشرون أحمد مصطفى المراغي |
الجزء الرابع والعشرون ← |
☰ جدول المحتويات
- [تتمة سورة يس ]
- [سورة يس (36): الآيات 28 الى 32]
- [سورة يس (36): الآيات 33 الى 36]
- [سورة يس (36): الآيات 37 الى 40]
- الآية الأولى
- الآية الثانية
- الآية الثالثة
- الآية الرابعة
- [سورة يس (36): الآيات 41 الى 44]
- [سورة يس (36): الآيات 45 الى 47]
- [سورة يس (36): الآيات 48 الى 54]
- [سورة يس (36): الآيات 55 الى 58]
- [سورة يس (36): الآيات 59 الى 68]
- [سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]
- [سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]
- [سورة يس (36): الآيات 74 الى 76]
- [سورة يس (36): الآيات 77 الى 83]
- أهم مقاصد هذه السورة
- سورة الصافات
- [سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]
- [سورة الصافات (37): الآيات 6 الى 10]
- [سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 19]
- [سورة الصافات (37): الآيات 20 الى 26]
- [سورة الصافات (37): الآيات 62 الى 70]
- [سورة الصافات (37): الآيات 71 الى 74]
- قصص نوح عليه السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 75 الى 82]
- قصص إبراهيم عليه السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 94]
- [سورة الصافات (37): الآيات 95 الى 101]
- [سورة الصافات (37): الآيات 102 الى 113]
- من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟
- قصص موسى وهارون عليهما السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 122]
- قصص إلياس عليه السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 132]
- قصص لوط عليه السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 138]
- قصص يونس عليه السلام
- [سورة الصافات (37): الآيات 139 الى 148]
- تذنيب
- [سورة الصافات (37): الآيات 149 الى 160]
- [سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 170]
- [سورة الصافات (37): الآيات 171 الى 182]
- مجمل ما حوته السورة من موضوعات
- سورة ص
- [سورة ص (38): الآيات 1 الى 11]
- [سورة ص (38): الآيات 12 الى 15]
- [سورة ص (38): الآيات 16 الى 18]
- قصص داود عليه السلام
- [سورة ص (38): الآيات 18 الى 20]
- [سورة ص (38): الآيات 21 الى 25]
- [سورة ص (38): آية 26]
- [سورة ص (38): الآيات 27 الى 29]
- قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد
- [سورة ص (38): الآيات 30 الى 33]
- [سورة ص (38): الآيات 34 الى 40]
- قصص أيوب عليه السلام
- [سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]
- قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل
- [سورة ص (38): الآيات 45 الى 49]
- [سورة ص (38): الآيات 50 الى 54]
- [سورة ص (38): الآيات 55 الى 64]
- [سورة ص (38): الآيات 65 الى 70]
- قصص آدم عليه السلام
- [سورة ص (38): الآيات 71 الى 85]
- [سورة ص (38): الآيات 86 الى 88]
- ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ
- سورة الزمر
- [سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 4]
- [سورة الزمر (39): الآيات 5 الى 6]
- [سورة الزمر (39): الآيات 7 الى 8]
- [سورة الزمر (39): آية 9]
- [سورة الزمر (39): الآيات 10 الى 16]
- [سورة الزمر (39): الآيات 17 الى 20]
- [سورة الزمر (39): آية 21]
- [سورة الزمر (39): الآيات 22 الى 28]
- [سورة الزمر (39): الآيات 29 الى 31]
- فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
[تتمة سورة يس ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة يس (36): الآيات 28 الى 32]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
تفسير المفردات
الجند: العسكر، والمراد بهم الجند من الملائكة، والخمود: انطفاء النار والمقصود به الموت، والحسرة على ما قال الراغب: الغم على مافات، والندم عليه كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء، وإن: بمعنى ما، ولما: بمعنى إلا، محضرون: أي للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة: إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة - أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.
الإيضاح
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم - من بعد مهلكه جندا من الملائكة، بل كان الأمر أيسر من ذلك.
وإجمال المعنى: إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة، بل كان أمرهم أهون من ذلك، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء.
ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله:
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود.
وفي هذا إيماء إلى أن الحي كشعلة النار، والميت كالرماد، وإلى هذا يشير لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ويقول أبو العلاء:
وكالنار الحياة فمن رماد أواخرها وأولها دخان
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، كيف كانت الصيحة، ولا كيف نزل بهم العذاب، وتفصيل ذلك لا يعنينا، فالعبرة تحصل بدون بيانه، إذ المراد انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه، على أي نحو كان ذلك العذاب.
وفي هذا ما لا يخفى من تهوين أمرهم، وتحقير شأنهم، وتفخيم شأن رسل الله.
(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المراد بالعباد هنا مكذّبو الرسل، أي يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره.
ثم بين سبب الحسرة والندامة فقال:
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما جاءهم رسول إلا استهزءوا به وكذبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق.
والخلاصة: إن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية، وعرّضوها لعذاب مقيم، وكأنه قيل: يا حسرة احضرى، فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها.
ولما بين حال الأولين نبه الحاضرين فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟) أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا كما يعتقد الدّهريّة، جهلا منهم بأنهم يعودون إليها كما كانوا.
وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبين طريق ذلك، أعقب هذا بأن لهم حسابا وعقابا فقال:
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم ماضيها وحاضرها
وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدي الله فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له، وما أحسن قوله:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي
ونحو الآية قوله: « وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ».
والخلاصة - إن الناس يجمعون للحساب والجزاء ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.
[سورة يس (36): الآيات 33 الى 36]
وآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل - أردف ذلك ما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا وتنبت من كل زوج بهيج، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا.
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها بإنزالنا الماء عليها، فتهتز وتربو وتنبت نباتا مختلفا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم.
(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة تنتشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.
ثم لما عدد النعم طلب منهم الشكر فقال:
(أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) أي أفلا يشكرون خالق هذه النعم على ما تفضل به عليهم من نعم لا تعدّ ولا تحصى.
ولما أمرهم سبحانه، بالشكر وشكره تعالى بعبادته وقد تركوها وعبدوا غيره وأشركوا به سواه قال:
(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات، وخلق من أولادهم ذكورا وإناثا، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء التي لم يطلعهم عليها، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفتها تفصيلا، بل علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله: « وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ » ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق وسعة ملكه وجلالة قدره.
والخلاصة - تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم من نبات وحيوان وإنسان، وخالق ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته وفيه الدليل على عظيم قدرته وواسع ملكه - عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته.
[سورة يس (36): الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
تفسير المفردات
أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل وموضع الفاء ظله، مظلمون: أي داخلون في الظلام، لمستقر لها: أي حول مستقر لها وهو مركز مدارها، وقدرناه: أي صيرنا مسيره في منازل، والمنازل واحدها منزل: وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة، عاد: أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس كالعرجون في رأي العين، والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتى عليه الحول تقوس ودقّ واصفرّ.
قال أعشى بنى قيس:
شرق المسك والعبير بها فهي صفراء كعرجون القمر
ينبغي لها: أي لا يتيسر لها، أن تدرك القمر: أي تجتمع معه في وقت واحد فتداخله وتطمس نوره، لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه سيأتي ذكرها بعد، والفلك:
مجرى الكواكب، سمى بذلك لاستدارته، والسباحة: الجري في الماء للسمك ونحوه، ثم استعمل في سير الكوكب في الفضاء في مداره الخاص.
المعنى الجملي
بعد أن استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال الأرض وما يطرأ عليها من تغير مما هو دليل القدرة الشاملة - أردف ذلك ذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والأجرام السماوية، وهي مخلوقات عظيمة واقعة تحت قبضته، يتصرف فيها بعظيم سلطانه.
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن آيات قدرته الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء: الليل ينزع عنه النهار، فتأتى الظلمة، ويذهب النهار، فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجىء الليل الذي كان الضياء ساترا له.
وفي الضياء سرور ولذة وراحة للنفس، وسعى على الرزق، وفي زواله وحشة وانقباض تشعر بألمه النفوس كما أن فيه تركا للعمل الذي به قوام الحياة، ومن ثم جعل الآية ظهور الليل ولم يجعلها مجىء النهار، والآية تحصل بكل منهما.
والخلاصة - إن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعى ويفهم، وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي والشمس تجرى حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمى، فقد ثبت أن لها حركة رحويّة حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.
(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي وجعلنا لسير القمر منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، فإذا كان في آخر منازله دقّ وتقوس، وهذا ما يشير إليه قوله:
(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي يسير في منازله إلى آخرها حتى يدقّ ويتقوس ويصفرّ ويكون كالعود الذي عليه الشماريخ إذا أتى عليه الحول.
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن الشمس تجرى مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار 13 درجة في اليوم، ولأن لكل منهما مدارا خاصا لا يجتمع مع الآخر فيه.
(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا تسبق آية الليل وهي القمر، آية النهار وهي الشمس فيحل سلطانه محلها، إذ أنهما يجريان بحساب منتظم لا يتغير ولا يتبدل.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي وكل من: الأرض والشمس والقمر يسبح في فلكه كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تجرى في مدارها، والأرض تجرى حول الشمس في سنة وحول نفسها في يوم وليلة، والقمر يجرى حول الأرض كل شهر.
وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به، وكيف يسبح ما لا حرية له ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟
هكذا كان الرأي عندهم، ولكن رأى علماء الفلك المحدثين: أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير، فهي إذا كأنها سمك في بحر لجي.
فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت مادل على صحته الكشف الحديث، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين.
وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي المصري بحلوان أن يدلى إلي بما أثبته علماء الفلك حديثا في النظريات التي تضمنتها الآيات، فكتب إلي ما يلي:
الآية الأولى
من آيات الله وبديع صنعه تعاقب الليل والنهار دائبين. وقد جاء ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم، لما لهذه الظاهرة الفلكية من الأهمية العظمى في حياة الجنس البشري وكافة الأحياء التي على ظهر البسيطة، فهي من الأمور الجديرة بالتفكير للاستدلال بها على عظمة الخالق جل شأنه فالليل يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل، نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على بعض الآفاق، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام تام بديع.
الآية الثانية
وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة - ثبت لدى العلماء أخيرا أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين:
إحداهما: حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا وتدل عليها أرصاد كلف الشمس وهي نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح، وتقطع المسافة بين حافتى القرص في زمن قدره 13 يوما.
ثانيتهما: دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتى ميل في الثانية، فالشمس واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومى، والذي ثبت أنه يدور حول مركزه، ونظرا لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية.
والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر لجسم متحرك حركة دورانية، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله، أو مركز المدار الدائرى لهذه الحركة، ففي الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط الواصل بين قطبى الشمس، وفي الحالة الثانية: يكون هو مركز النظام النجومى بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى.
وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثا أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم.
الآية الثالثة
قسم الفلكيون القدماء النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر، وقد جاء ذكرها هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ».
ولما كانت الشمس تنتقل باستمرار وسط النجوم، فتحجب عن الرؤية كل النجوم ومجموعات النجوم التي تكون موجودة فوق الأفق نهارا، نجد أن ما يكون موجودا من منازل القمر فوق الأفق ليلا يتغير تدريجا من ليلة إلى أخرى، ومن شهر إلى آخر، وهكذا نجد في معرفة مواقع القمر بالنسبة لهذه المنازل وسيلة لحساب الأوقات.
وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة والشمس، وأسماؤها هي: الشّرطان، البطين، الثريا، الدّبران، الهقعة، الهنعة، الذراع المبسوطة، النّثرة، الطرف، جبهة الأسد، الزّبرة، الصّرفة العوّا، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانا، الإكليل، قلب العقرب، الشّولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرع المقدم، الفرع المؤخر، الرّشاء أو بطن الحوت.
وبعد أن يتم القمر دورته في مداره متنقلا بين منازله هذه يعود كما بدأ هلالا صغيرا مقوسا في بادئ الشهر، ويرى في ضوء الشفق بعد مغيب الشمس، ويكون لونه مصفرا كعرجون النخل، لأن مركبات ضوئه الأخرى تشتت في الطبقة الهوائية قبل وصولها إلى عين الراصد، كما نرى لون الشمس مصفرا حين الشروق، أو حين الغروب.
الآية الرابعة
المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السموات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
فالشمس كما ذكرنا تدور حول الأرض في حركة ظاهرية تنشأ عن دوران الأرض حولها، وهي تشبه ما يبدو للمسافر في القطار من حركة الأشجار وأعمدة التلغراف والقرى دون أن يحس بحركته المكتسبة من وجوده في القطار. وهكذا تتحرك الشمس وسط النجوم في مدار واسع نسبيا، نصف قطره 93 مليون ميل وتتم دورة كاملة في زمن مقداره سنة، ويدل على هذه الحركة تنقلها وسط البروج بمعدّل برج في كل شهر أو درجة واحدة تقريبا في كل يوم.
أما القمر فمداره حول الأرض أصغر نسبيا، ويقدر طول نصف قطر مداره بحوالى 24 ألف ميل يقطعه في شهر، أي بمعدل منزل في كل يوم أو 13 درجة في اليوم، وحركته حول الأرض حركة حقيقية، ويمكن ملاحظتها بسهولة من مراقبة موقعه بين النجوم ليلة بعد أخرى.
وفضلا عن ذلك فالمداران السالفا الذكر ليسا في مستوى واحد، بل يميل أحدهما على الآخر، ولو لا ذلك لتكرر كل من الكسوف والخسوف مرة في كل شهر، وهكذا يتبين كيف إن لكل من: الشمس والقمر فلكا أو مدارا مستقلا يسبح فيه ا هـ.
[سورة يس (36): الآيات 41 الى 44]
وآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (44)
تفسير المفردات
الذرية: أصلها صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع وهي من ذرأ الله الخلق فتركت همزته نحو بريّة، الفلك: السفينة، المشحون: المملوء، ما يركبون: هي الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، فلا صريخ: أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه على سبيل المنة على عباده أنه أحيا الأرض وهي مكان الحيوان - أردف ذلك ذكر نعمة أخرى على الإنسان، وهي أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر ويسير فيه كما يسير في البر جلبا لأرزاقه وتحصيلا لأقواته من أقاصى البلاد في أنحاء المعمورة.
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن آيات قدرته الدالة على رحمته بعباده أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ليستفيدوا مما تحمله من الأقوات وسائر حاجهم المعيشية، ولو لا ذلك لما بقي للآدمى نسل ولا عقب من بعده.
ونحو الآية قوله: « أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ».
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية سفنا برية، وهي الإبل التي تسير في الصحارى كما قال شاعرهم:
سفائن برّ والسراب بحارها
ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع المختلفة والذخائر الحربية، ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب، وهذا من إعجاز الكتاب الكريم.
ونحو الآية: « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».
ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن فقال:
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منّا بهم وتمتيعا لهم إلى حين بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم وحفظناهم من الغرق، وإلى هذا أشار بقوله:
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ).
[سورة يس (36): الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق - أردف هذا ذكر إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم مما فيه تحذيرهم بأن يحلّ بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله، إذ قيل لهم أنفقوا فلم يفعلوا.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزّل الله من الآيات: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلّت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله - وما خلفكم أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات - أعرضوا نأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.
ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم فقال:
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجىء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدى إلى الإيمان به، ومعرفة صدق رسوله.
والخلاصة - إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين قالوا لمن طلب منهم ذلك: لو شاء الله لأغناهم وأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم.
وفي قوله: مما رزقكم الله، ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: « وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ » وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله.
وإجمال ذلك - إنهم لم يعظّموا الخالق ولم يشفقوا على المخلوق.
ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الآمر على الإنفاق ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه فقال:
(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم أيها القوم في قيلكم لنا أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم - إلا في جور بيّن وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.
وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائما يقولون: لا نعطى من حرمه الله، وتلك فرية منهم، لأن الله أغنى بعض الخلق، وأفقر بعضا، ابتلاء منه لعباده، ولأسباب نحن لا نعلمها لا بخلا منه وشحا، وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء ليس لحاجة منه إلى ما لهم، بل ليبلوهم ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين؟.
ولا ينبغي لأحد أن يعترض على مشيئة ربه، لأنه يجهل أسباب ما يشاهد ويرى في الكون.
[سورة يس (36): الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
تفسير المفردات
متى هذا الوعد: أي متى يتحقق ويجىء ما وعدنا به؟ ينظرون: أي ينتظرون، صيحة واحدة: هي النفخة الأولى في الصور بها يموت أهل الأرض جميعا، ونفخ في الصور: أي النفخة الثانية، والأجداث: واحدها جدث (بفتحتين) القبر، ينسلون: أي يسرعون، والويل: الهلاك، من مرقدنا: أي موتنا، محضرون: أي للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن أمرهم بتقوى الله وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات - أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث، واستعجالهم له، استهزاء به وسخرية منه، ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ثم ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، حين يرون العذاب ويقولون: من أخرجنا من قبورنا؟ فيجابون بأن ربكم هو الذي قدّر هذا ووعدكم به على ألسنة رسله وسيوفى كل عامل جزاء عمله.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء وإنكارا، متى يحصل هذا البعث الذي تهددوننا به تارة تصريحا وأخرى تلويحا؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون.
والخطاب لرسول الله ﷺ والمؤمنين من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به.
فأجابهم ربهم:
(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها.
ونحو الآية قوله: « فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ».
روى ابن جرير عن ابن عمر قال: « لينفخنّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهي التي قال الله (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ».
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها ».
ثم بين سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر أو هي أقرب فقال:
(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي فلا يستطيعون أن يوصوا في أموالهم أحدا، إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى ربهم.
ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور فقال:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور، والخروج من القبور، فإذا هم جميعا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ».
ثم ذكر أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكى عنهم بقوله:
(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) أي قالوا يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه، من بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ حينئذ يجيبهم المؤمنون فيقولون لهم:
(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا الذي ترون ما وعد به الرّحمن وصدق في الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد الله ووعيده.
وهم قد سألوا عن الفاعل للبعث وأجيبوا بالفعل تذكيرا لهم بكفرهم وتقريعا عليه مع تضمن ذلك الإشارة إلى الفاعل.
ثم بين سرعة بعثهم من القبور فقال:
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا قد أحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد.
ونحو الآية قوله: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله: « وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ».
ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس فقال:
(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ففي هذا اليوم يوم القيامة لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح، جزاء وفاقا لما عملت في الدنيا.
[سورة يس (36): الآيات 55 الى 58]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
تفسير المفردات
الشغل: الشأن الذي يصدّ المرء ويشغله عما سواه من شئونه وأحواله لأهميته لديه، إما لأنه يحصّل مسرة كاملة أو مساءة عظيمة، الفاكه: الطيب النفس الضحوك قاله أبو زيد، والظلال: واحدها ظل وهو ضد الضّح (ما تصيبه الشمس) والأرائك: واحدها أريكة وهي سرير منجّد مزيّن في قبة أو في بيت، يدّعون: أي يطلبون.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن ذلك اليوم كائن لا محالة، وأنه سيأتي بغتة من حيث يشعر به أحد، فما هو إلا صيحة واحدة فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون - أردف ذلك بيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم من ثواب وعقاب، ليكون في ذلك ترغيب في صالح الأعمال، وترهيب من فعل الفجور واجتراح السيئات.
الإيضاح
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإني له أن يفكر فيما سواه؟ وهو بذلك فرح مستبشر ضحوك السن هاديء النفس، لا يرى شيئا يغمه أو ينغّص عليه حبوره وسروره.
ثم ذكر ما يكمل به تفكههم ويزيد في سرورهم فقال:
(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها (وألذ شيء لدى العربي أن يرى مكانا فيه ظل ظليل، وأنهار جارية، وأشجار مورقة) وهم فيها متكئون على السرر عليها الحجال (الناموسيات) وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة لدى من نزل عليهم التنزيل.
وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس - ذكر ما يتمتعون به من مآكل ومشارب، ولذات جسمانية وروحية فقال:
(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي لهم فيها من الفواكه مالذ وطاب، مما تقرّ به أعينهم، وتسرّ به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا، ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون وتشتاق إليه نفوسهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: ادّع علي ما شئت أي تمن علي وتقول فلان في خير ما ادّعى أي في خير ما تمنى.
ثم فسر الذي يدّعون بقوله:
(سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم
تعظيما لهم، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه: « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ ».
والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها، فكأن هذا إجمال.
لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف.
[سورة يس (36): الآيات 59 الى 68]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
تفسير المفردات
امتازوا: أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين، والعهد: الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة، وعبادة الشيطان: يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها، والجبلّ: الجماعة العظيمة، اصلوها: أي قاسوا حرها، والختم على الأفواه: يراد به المنع من الكلام، والطمس: إزالة الأثر بالمحو، فاستبقوا الصراط: أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم، فإني يبصرون: أي فكيف يبصرون الحق، ويهتدون إليه؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة، على مكانتهم: أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، ونعمره: أي نطل عمره، ننكسه في الخلق: أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد، وانتقاص بنيته يكثر، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات - أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض، فيكون لهم عذابان: عذاب النار وعذاب الوحدة، ولا عذاب فوق هذا، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا، ثم دفع معذرة أخرى ربما احتجوا بها وهي أن ما عمّروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال: « أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ » ولكن ذلك ما كفاهم، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا.
الإيضاح
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا، ونحو الآية قوله: « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ » وقوله: « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ » وقوله: « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ».
ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي ألم أوصكم بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة - أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمري.
ثم علل النهي عن عبادته بقوله:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى، ويوقعكم في مزالق الهلاك.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال:
(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي، وأطيعونى فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه.
ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال:
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن، هو الصراط المستقيم، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى.
وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال:
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دوني آلهة يعبدونها.
ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال:
(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم.
وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم:
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هي جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرّحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان.
ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله:
(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا.
وخلاصة ذلك - إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:
(1) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون: « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ».
(2) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم.
(3) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل:
أليس بكاف لذي همة حياء المسيء من المحسن
ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال:
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففي هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى الله عنهم من قولهم: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه.
ونسب الكلام إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ »
وقوله: « وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ » وقوله: « بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب، إذ هي كالأجنبية منها.
وجاء في الخبر: « يقول العبد يوم القيامة إني لا أجد علي شاهدا إلا من نفسي، فيختم الله على فيه ويقول لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل ».
وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة.
وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة: « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا » فالنفس إذا هي الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم، أي تدل على المراد أفصح دلالة، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد، وهذا هو الذي ينبغي أن يفهم في الآية الكريمة.
ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون إلى شيء.
وإجمال المراد: لو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك.
ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها، فجعلناهم قردة وخنازير وهم في مساكنهم التي يجترحون فيها السيئات، فلا يقدرون على ذهاب ولا مجىء ولا غدوّ ولا رواح.
ثم شرع يقطع معذرة لهم ربما احتجوا بها وهي قولهم: إنهم لو عمّروا لأحسنوا العمل فقال:
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي إنه كلما طال عمر المرء رد إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط.
(أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أنهم كلما تقدمت بهم السن ضعفوا وعجزوا عن العمل، فلو عمّروا أكثر مما عمروا ما ازدادوا إلا ضعفا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم، وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث والتفكير، والتروّى في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا، وجاءتهم النذر فلم يهتدوا، فمهما طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلا ولا كثيرا.
[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
تفسير المفردات
وما ينبغي له: أي لا يليق به ولا يصلح له، ذكر: أي عظة من الله وإرشاد للثقلين، حيّا: أي حي القلب مستنير البصيرة، يحق القول: أي يجب العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أمر الوحدانية في قوله: وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، وذكر أمر البعث في قوله: اصلوها اليوم - ذكرها الأصل الثالث. وهو الرسالة في هاتين الآيتين.
الإيضاح
(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) الشعر: ضرب من ضروب الكلام ذو وزن خاص ينتهى كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، وهو يسير مع العواطف والأهواء، ولا يتبع ما يمليه العقل والمنطق الصحيح ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجى والمدائح والتفاخر والتنافر، فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، وبالغ في الذم، وضرب بالحقيقة عرض الحائط، ولا يرى في ذلك ضيرا، وإذا هو استرضى بعد قليل رفع من هجاه إلى السمّاكين، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا مما تراه في شعر الهجائين المداحين حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا: (أعذب الشعر أكذبه).
والقرآن الكريم آداب وأخلاق، وحكم وأحكام، وتشريع فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم، فرادى وجماعات، فحاشى أن يكون شعرا! أو أن يمت إليه بنسب.
فالمراد من نفى تعليمه الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا، لأن الله علمه القرآن وإذا لم يكن المعلّم شاعرا لم يكن القرآن شعرا البتة.
وهذا رد لقولهم: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر، ومقصدهم بهذا أنه افتراء وتخيلات وأباطيل، وليس وحيا من عند الله.
(وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ولا يليق به الشعر ولا يصلح له، لأنه مبنى كما علمت على الركون إلى الأهواء تبعا لفائدة ترجى، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور، أو كبتا لسورة حقد أو حسد بحق أو باطل، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا.
وما اتفق له عليه الصلاة والسلام دون قصد من نحو قوله يوم حنين وهو راكب بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، فلا يسمى شعرا، لأن مثل هذا يقع في الكلام المنثور ولا يسمى قائله شاعرا.
وقد صح « أن النبي ﷺ أنشد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي ».
وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن « أنه ﷺ كان يتمثل بهذا البيت هكذا: كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء. والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر وما ينبغي لك ».
والخلاصة - إن الله تعالى كما جعل رسوله أمّيّا لتكون الحجة أتم، والبرهان على المشركين أقوم، كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها، والأباطيل التي ينمّقها، وليس بوحي من عند ربه.
وبعد أن نفى عنه أنه شعر وتخيلات أثبت أنه مواعظ ونصائح فقال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملإ الأعلى، وليس من كلام البشر، فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، فلجئوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان.
ثم ذكر من ينتفع به فقال:
(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينتفع بنذارته من كان حي القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصدّه عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض ما يكون حائلا بينه وبين الهدى، فهو يتواثب على الإقرار بالحق إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقا وضياء، ويخرّ له مذعنا مستسلما، وكأنّ طائفا من السماء نزل عليه فأثلج صدره وألان قلبه، فاطمأنّ له وركن إليه، وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية وكتب له الفوز والسعادة. وبعدئذ بين عاقبة من أعرض عنه فقال:
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين به الذين هم كأنهم أموات لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة التي من دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى.
[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والرسالة - أعاد الكلام في الوحدانية وذكر بعض دلائلها.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان: أنا خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير - أنعاما من الإبل والبقر والغنم يصرّفونها كما شاءوا بالقهر والغلبة فهي ذليلة منقادة لهم، فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير، وإن شاءت ساقته وصرّفته كما تريد، قال العباس بن مرداس:
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
ثم ذكر منافعها فقال:
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها ما ينحرون، فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.
(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية) ولهم منها مشارب من ألبانها ونتاجها.
ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها فقال:
(أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعمتى عليهم، وإحساني إليهم، بطاعتي وإفرادى بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان، بعبادة الأصنام والأوثان؟
[سورة يس (36): الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم كفروا بأنعم الله عليهم وأنكروها - أردف ذلك بيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال تعالى حاكيا عنهم « قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ » والحقيقة أنها لا هي ناصرة ولا منصورة.
الإيضاح
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونهم، طمعا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى ثم بيّن بطلان آرائهم، وخيبة رجائهم، وانعكاس تدبيرهم فقال:
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، فهي أضعف من ذلك وأحقر، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهم لا يسوقون إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم ضرا.
والخلاصة - إن العابدين وهم المشركون كالجند، لحمايتهم والذبّ عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة لا يستطيعون أن يقدّموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرّة.
ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى بنحو قولهم: هو شاعر، وهو ساحر، وهو كاهن إلى نحو ذلك من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته فقال:
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي فلا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.
ثم ذكر أنه سيجازيهم على ما يضمرون في نفوسهم ويتفوهون به بألسنتهم فقال:
(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك إنما هو الحسد، وأنهم يعتقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب.
والخلاصة - إنا نعلم ما يسرون من معرفتهم حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم بما يستحقون يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرا لديهم.
[سورة يس (36): الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
تفسير المفردات
أولم ير: أي أولم يعلم، والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية، وضرب لنا مثلا: أي وأورد في شأننا قصة عجيبة هي في غرابتها كالمثل إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، والرميم: كالرّمّة والرفات، وبلى: كلمة جواب كنعم تأتى بعد كلام منفي، أمره: أي شأنه في الإيجاد، والملكوت: الملك التام كالرحموت والرهبوت والجبروت، والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث - أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم دالة على قدرته تعالى ومبطلة لإنكارهم له، ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة؟، فأجابهم عن شبهتهم بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها مهما وزعت وتفرّقت، ثم ذكر لهم دليلا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء، قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضّا طريا ثم يبس وبلى، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان وفيه الدليل على قدرته، وهو خلق السموات والأرض، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف، وفيه بطلان لإنكارهم، فأبان أن كل شيء هيّن عليه، فما هو إلا بقول (كُنْ فَيَكُونُ) تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون، فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء.
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة: « جاء أبي بن خلف إلى رسول الله ﷺ وفي يده عظم رميم وهو يفتّه بيده ويذروه في الهواء ويقول: أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ قال ﷺ « نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار، ونزلت هذه الآيات من سورة يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخرهن ».
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدإ على سهولة الإعادة، فإن من بدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرا سويا يخاصم ربه فيما قال: إني فاعل، فيقول: من يحيى العظام وهي رميم؟ إنكارا منه لقدرته على إحيائها - قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله.
ونحو الآية قوله: « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ » وقوله: « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ » أي من نطفة من أخلاط متفرقة.
والخلاصة - إنه تعالى خلق للانسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم، وخلقه من نطفة قذرة مذرة ليكون متذللا، فطغى وبغى وتجبر، وخاصم ربه واستبعد البعث والإعادة.
(وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) أي وذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرتنا على إحياء الخلق، فقال: من يحيى العظام؟ ونسى خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقا سويا ناطقا؟ ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرميم بشرا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.
وإجمال ذلك - إن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا يستعبدون أو يجحدون؟.
ونحو الآية حكاية عن المشركين: « وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ » وقوله أيضا على طريق الحكاية « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا، الْأَوَّلُونَ ».
وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكّتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم وخلقهم من العدم فقال:
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيى العظام وهي رميم؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا وهو العليم بالعظام، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض؟ وأين ذهبت؟
لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة.
وكان الفيلسوف الإسلامي الملقّب بالفارابي يقول. وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) الآية، إذ تفصيله: الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا - ونتيجة هذا - الله قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا ا هـ.
ولا شك أن الفارابي إنما يريد القياس الذي يفهمه اليوناني باصطلاحه المنطقي، وإلا ففي الآية قياس فهمه العربي على أسلوبه في التخاطب الذي يجرى عليه ويقتنع به، ولكل أمة أساليب في الإقناع والحجاج تسير عليها وتسلك سبيلها، وقد اقتنع الكثير من العرب بما جاء به في هذا، ومن جحد فإنما فعل ذلك عنادا واستكبارا.
ثم ذكر دليلا ثانيا يرفع استبعادهم ويبطل إنكارهم فقال:
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار أخضر ناضرا ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن فعل ذلك فهو قادر على ما يريد لا يمنعه شيء، إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا فيبس وبلى.
ثم زكى ذلك بدليل ثالث على قدرته أعجب من سابقيه فقال:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى منها هذا الكافر الذي قال: من يحيى العظام وهي رميم؟ إلى خطأ قوله، وعظيم جهله، بأنّ خلق مثلكم من العظام الرميم - ليس بأعظم من خلق السموات والأرض، وإذا لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم منكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبليت؟.
والخلاصة - إنه تعالى نبّه إلى عظيم قدرته على خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وقفار وما بين ذلك، وإلى أن الذي قدر على إيجاد هذه العوالم العظيمة - قادر على إعادة الأجساد بعد البلى.
ونحو الآية قوله: « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » وقوله: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته، وإثبات عظيم سلطانه فقال:
(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير.
وهذا ولا شك تمثيل لتأثير قدرته فيما يريد، بأمر المطاع لمن يطيعه في حصول الأمور به بلا توقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل ولا استعمال آلة.
وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه فقال:
(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي تنزه ربنا الحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض - عن كل سوء.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيجازى كل عامل بما عمل، وهو العادل المنعم المتفضل.
ونحو الآية قوله: « تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ » وقوله: « قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ».
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل، نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تنير قلوبنا بالتبصر في فهم كتابك، كما أنزت به قلوب عبادك الأبرار، وأصفيائك الأطهار.
أهم مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن محمدا ﷺ رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
(2) المنذرون من النبي ﷺ صنفان: صنف ميئوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه.
(3) أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم.
(4) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
(5) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
(6) تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
(7) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب.
(8) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
(9) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
(10) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم.
(11) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
(12) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.
سورة الصافات
هي مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان، ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة في قوله: « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ».
(2) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.
(3) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ».
[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
والصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
تفسير المفردات
الصافات: هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة، والزاجرات زجرا: أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل في السّوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير، والتاليات ذكرا: هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند الله إلى أنبيائه، والمشارق: هي مشارق الشمس بعدد أيام السنة، فهي في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق.
الإيضاح
أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام، ويتلون آياته على أنبيائه - إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له، لواحد لا ثاني له ولا شريك، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله وقائم عليه.
وإجمال ذلك - إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون، ويحضون الناس على فعل الخير، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحي - إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب.
[سورة الصافات (37): الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
تفسير المفردات
الدنيا: مؤنثة الأدنى أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد، المتعرى عن الخير من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق، يسمعون: أي يستمعون، والملأ: الجماعة يجتمعون على رأى، والمراد بهم هنا الملائكة، يقذفون: يرجمون، والدحور: الطرد والإبعاد، واصب: أي دائم، والخطفة: الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة، والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والثاقب: المضيء.
الإيضاح
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة في السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله.
(وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس، لأنهم غافلون عن آياتنا، معرضون عن التفكر في عظمتها فالعيون مفتحة، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه، حتى تعتبر بما فيه.
(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون في هذه الأرض، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها.
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُورًا) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن، فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.
(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث في سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه، وبديع قدرته.
ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال:
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحنّ إلى مثلها، وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته، ومعرفة كنه جماله، وهم من اصطفاهم الله من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والخلاصة - إن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون، والأنبياء والعلماء المخلصون، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم، وينير ألبابهم، فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه، والفوز بنعيمه [1].
[سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 19]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
تفسير المفردات
فاستفهم: أي فاستخبر مشركي مكة من قولهم: استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه، أشد خلقا: أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، لازب: أي ملتصق بعضه ببعض، وأنشدوا لعلي بن أبي طالب:
تعلّم فإن الله زادك بسطة وأخلاق خير كلّها لك لازب
يسخرون: أي يستهزئون، وإذا ذكروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون، آية: أي معجزة، يستسخرون: أي يبالغون في السخرية والاستهزاء.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته، وعلمه وقدرته، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب - وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هي أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ » وجاء في قوله: « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ »
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث: أي أصعب إيجادا، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟ والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟.
ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال:
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء، وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.
ثم خاطب الرسول ﷺ بقوله:
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء، ولا يتعجبون من تلك الدلائل، بل مثلك من يعجب منها، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات.
والخلاصة - إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به، فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة.
لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم؟.
ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال:
(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام الله، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين: هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا، ويسلب عقولنا، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم:
(وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه - إلا ألاعيب ساحر، وخدعة أريب ماهر، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا، وما هي من دلائل الحق في شيء، فإياكم أن تخدعوا بها، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم، وقد مرت عليه القرون، ونحن له متبعون.
ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا:
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول - لا نتقبل منه تلك المقالة، وهي إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا، إن هذه إلا إحدى الكبر، فلا ينبغي أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر.
ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا:
(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي أيبعث آباؤنا الأولون أيضا، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا.
وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله:
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.
ونحو الآية قوله: « وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ » وقوله: « إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ».
ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة الله فقال:
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة.
[سورة الصافات (37): الآيات 20 الى 26]
وقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
تفسير المفردات
قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، والدين: الجزاء كما جاء في قولهم « كما تدين تدان »، والفصل: الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر، احشروا: أي اجمعوا، وأزواجهم: أي أمثالهم وأشباههم، فيحشر أصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنا كذلك، واهدوهم: أي دلوهم عليها، والصراط: الطريق، والجحيم: النار، وقفوهم: أي احبسوهم في الموقف، مسئولون: أي عن عقائدهم وأعمالهم، لا تناصرون: أي لا ينصر بعضكم بعضا، مستسلمون: أي منقادون وأصل الاستسلام: طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب: لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل فكذبناهم وسخرنا منهم وأنكرنا صدق ما قالوا.
ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون ويقولون:
قسم ناقص
الإيضاح
(فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك؛ كما أفصح عن ذلك شاعرهم:
وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتى قمر منير يجول بوجهه ماء الشباب
والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال:
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة: إني كان لي قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغي مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.
وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال:
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟
وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار - فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث في شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها.
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله: إنك لقد كدت تهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولو لا فضل ربى بإرشاده لي إلى الحق، وعصمتى من الباطل، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.
ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه، واغتباطا لحاله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، فيزيد به تعذيبه.
(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقد قيل لحكيم: ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.
والخلاصة - إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.
وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال:
إذا شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وإلى نفي الهرم واختلال القوى، لأنه ضرب من العذاب أيضا.
ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم، مع تمتع بسائر اللذات، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا الله عنه كما قال: « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».
ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال:
(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام، المشوبة بصنوف الآلام.
[سورة الصافات (37): الآيات 62 الى 70]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
تفسير المفردات
النزل: ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب، والزقوم: شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية، فتنة: أي محنة وعذابا في الآخرة، وابتلاء في الدنيا، أصل الجحيم: أي قعر جهنم، طلعها: أي ثمرها، رءوس الشياطين: أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون: وجه كأنه وجه شيطان، كما يشبهون حسن الصورة بالملك، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، والشّوب: الخلط، والحميم: الماء الشديد الحرارة، مرجعهم: أي مصيرهم، ألفوا: أي وجدوا، يهرعون: أي يسرعون إسراعا شديدا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)، أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؟) أي أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة مني لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع؟.
وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين، فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق.
ثم وصف هذه الشجرة فقال:
(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى أركانها.
(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رءوس الشياطين والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل، ونهج هذا النهج فقال:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف « ما هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ».
ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال:
(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته، ولكن ما ذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع؟ والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضرّ بما يقاربه فيه.
وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال:
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش
يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم.
ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال:
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب، لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال: « هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ».
والخلاصة - إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات.
ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال:
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية، وكأنهم استحثّوا على ذلك، وأزعجوا إزعاجا.
وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه في ذم التقليد لكفى.
[سورة الصافات (37): الآيات 71 الى 74]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر - أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ.
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة، فعبدوا مع الله آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح.
ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين، فقد دمرهم الله ونجّى المؤمنين ونصرهم.
وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم، وسمع أخبارهم، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وكيف كان عاقبة أمرهم.
وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد الله المخلصين فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه،. أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.
قصص نوح عليه السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 75 الى 82]
ولَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة - شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه إني مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه، وأغرق قومه المكذبين، ونجاه وأهله أجمعين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق، فلنعم المجيبون نحن، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان النبي ﷺ إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا، أنت أقرب من دعي، وأقرب من بُغي، فنعم المدعوّ، ونعم المعطي، ونعم المسئول، ونعم المولى أنت ربنا، ونعم النصير ».
ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
(1) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب: الغم الشديد، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه.
(2) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته: « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا » ولم يعقب أحد ممن كان في السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شيء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه في السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (3) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء فقال:
(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ونحو الآية قوله: « قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ».
ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و« هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ».
وإحسانه أنه جاهد أعداء الله بالدعوة إلى دينه، وصبر طويلا على أذاهم، إلى نحو من هذا.
ثم بين سبب إحسانه بقوله:
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه.
وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات، وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 94]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
تفسير المفردات
من شيعته: أي ممن سار على دينه ومنهاجه، سليم: أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة، والإفك: الكذب، سقيم: أي مريض، فراغ: أي فذهب خفية إلى أصنامهم، وأصل الروغ والروغان: الميل قال شاعرهم:
ويريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
باليمين: أي بقوة وشدة، يزفون: أي يسرعون من زفّ النعام، أي أسرع.
الإيضاح
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه، في اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين - إبراهيم صلوات الله عليه.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا، فلا غش لديه ولا حقد، ولا شيء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة.
ثم فصل ما سلف فقال:
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ؟) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان: أي شيء تعبدون؟
وهذا مِنه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون، إذ لا ينبغي لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع.
ثم بين الإنكار وفسره بقوله:
(أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ، ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأي.
(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أي شيء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة؟ أي أعلمتم أي شيء هو، حتى جعلتم الأصنام شركاء له؟
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه.
(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إني أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال، ولا أرى في نفسي خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم، في عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذي بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه.
(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم؟ وكانوا يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه.
(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي أي شيء منعكم الإجابة عن سؤلى، ومراده بذلك التهكم بهم، واحتقار شأنهم.
(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها، وقد قيل لهم: إنه إبراهيم، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم.
[سورة الصافات (37): الآيات 95 الى 101]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
الإيضاح
(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا؟
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير.
ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها - عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، وجعلنا كيدهم في نحورهم، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم.
وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إني مفارق لتلك الديار، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى، وإنه سيهديني إلى ما فيه صلاح ديني، وهذا المكان هو الأرض المقدسة.
وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى في أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.
ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال:
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لي أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة، ويؤنسوننى في الغربة، ويكونون عوضا من قومي وعشيرتى الذين فارقتهم.
فاستجاب ربه دعاءه فقال:
(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم، لأنه لازم لتلك السن، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر، وحسن الصبر، والإغضاء عن كل أمر، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة.
وأي حلم مثل حلمه، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال: « سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ » فما ظنك به بعد بلوغه، وما نعت الله نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام.
[سورة الصافات (37): الآيات 102 الى 113]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
تفسير المفردات
فلما بلغ معه السعي أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة، أسلما: أي استسلما وانقادا لأمر الله، تله: أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا: أي حققت ما طلب منك، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، بذبح: أي حيوان يذبح، باركنا عليه: أي أفضنا عليه البركات.
المعنى الجملي
اعلم أنه بعد أن قال سبحانه: فبشرناه بغلام حليم - أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله: فلما بلغ معه السعي، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات.
الإيضاح
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه - قال له يا بني إني رأيت في المنام إني أذبحك فما رأيك؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله، فيثبت قدمه إن جزع، وليوطن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله.
ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه.
(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت، ومن مجيب طلبت، وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر، وعلى الله المثوبة، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ولما خاطبه بقوله يا بني عنى سبيل الترحم، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره، وأن الواجب عليه إمضاء ما رآه.
ثم أكد امتثاله للأمر بقوله:
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء، وأحتمل هذه اللأواء، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ».
ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال:
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه.
وروي عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على، اربط يدي إلى رقبتى، ثم ضع وجهى للأرض، ففعل.
(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء: وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، مع إظهار فضلهما، وإحراز المثوبة من ربهما.
ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله، حين أعد العدّة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا - نجزى كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير.
ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.
(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه.
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال:
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبّجلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا، وذلك استجابة لدعوته حين قال: « وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ».
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال:
(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهي نعمة الولد فقال:
(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي.
وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة، ولا عيب عليهم في شيء منه كما قال: « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ».
من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟
ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها.
1 - فمن قائل إنه إسحاق، ويؤيده:
(ا) ما روي عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب عن أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ب) ما روى عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس أنه إسحاق.
ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهي جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضي الله عنه قد استمع منه، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها.
2 - ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده.
ا - رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء بن أبي رباح عنه أنه قال: المفدي هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.
(ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: الذبيح إسماعيل.
(ح) أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله ذبحه من ابنيه هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: « وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » وقال: « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل - قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا.
وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان ومن الفضل الذي ذكره الله له لصبره لما أمر به، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه.
قصص موسى وهارون عليهما السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
الإيضاح
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك.
ثم فصل هذه النعم فقال:
(1) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لو لا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.
(2) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة.
(3) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلي الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة كما قال: « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ » وقال: « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ».
(4) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة.
(5) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر: الذكر للإنسان عمر ثان.
(6) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر، ولا شيء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما ورد في الحديث « من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ».
ثم ذكر سبب هذه النعم فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.
قصص إلياس عليه السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
الإيضاح
(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخي موسى عليهما السلام، فهو إسرائيلي من سبط هرون.
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي أنذر قومه وحذرهم بأس الله فقال: ألا تخافون الله، فتمتثلوا أوامره، وتتركوا نواهيه؟
ثم ذكر سبب الخوف فقال:
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم أي أتعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه؟
ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال:
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق، وتحريم الإشراك به، وعقابه تعالى عليه، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.
ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدّموا من ذخر طيب.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
الإيضاح
(وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين، فنصحهم فلم ينتصحوا، فأهلكهم الله ونجاه هو وقومه كما قال:
(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم، منتن الريح.
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أيثم أهلكنا عدا من ذكرنا.
ثم أرشد مشركي مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال:
(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) أيوإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا، لا أنيس فيها ولا جليس، ولا ديّار ولا نافخ نار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أيأ تشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون.
قصص يونس عليه السلام
[سورة الصافات (37): الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
تفسير المفردات
أصل الإباق: هرب العبد من سيده، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه، المشحون: المملوء، فساهم: أي فقارع من في الفلك أي عمل قرعة، المدحضين: أي المغلوبين بالقرعة، فالتقمه: أي فابتلعه، مليم: أي آت ما يستحق عليه اللوم، بالعراء: أي بالمكان الخالي، يقطين: أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل: الموز وهو أظهر لأن أوراقه أعرض
الإيضاح
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أيوإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية:
إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى بالهجرة، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال:
(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلو لا أنه كان من الذاكرين الله كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.
(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم سقيم النفس، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة في دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.
ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال:
(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها، ويستظل بأغصانها، فتقيه لفح الشمس ووهجها، وبرد الصحراء وشديد صرّها، وكذلك يأكل من ثمارها، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى.
ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه، ليتمّ دعوته، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم وآمنوا به، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك.
تذنيب
هاهنا مسألتان:
(1) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.
(2) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم.
[سورة الصافات (37): الآيات 149 الى 160]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
المعنى الجملي
أمر الله رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل:
وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهي جعل البنات لله وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها.
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها، ألربى البنات ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله: « وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ».
ونحو الآية قوله في سورة النجم: « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى » أي قسمة جائرة.
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ؟) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق؟
وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل، ونحو الآية قوله: « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ».
ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأي الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن لله ولدا، وهو افتراء قبيح وإفك صريح، لا مستند له، ولا شبهة ترشد إلى صدقه.
ثم أكد هذا النفي بقوله:
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون، فمن أين جاءهم هذا؟
ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال:
(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟) أي أي شيء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا.
ونحو الآية قوله: « أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ».
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون، وتتفكرون في صحة ما تعتقدون؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون.
ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل ألكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين.
ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم، والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، مع الاستهزاء بهم، والتعجيب من جهلهم.
ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغي أن قال فقال:
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) المراد بالجنة الملائكة، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة، فقالوا الملائكة بنات الله.
ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال:
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا - إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا.
قال مجاهد ومقاتل: القائل ذلك هم كنانة وخزاعة، قالوا إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه، وقال الكلبي وقتادة: قالت اليهود - لعنهم الله -: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.
والخلاصة - إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على الله بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك.
ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا.
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون.
[سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 170]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
تفسير المفردات
بفاتنين: أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه، صال الجحيم: أي داخل في النار ومعذب فيها، الصافون: أي صافو أنفسهم للعبادة، ذكرا: أي كتابا.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم - أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له، وقد سبق في حكم الله أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد الله.
الإيضاح
(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن:
أحمد الله فلا ندّ له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضلّ
ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال:
(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى خضوعا لعظمته، وخشوعا لهيبته، وتواضعا لجلاله كما روي في الخبر « فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه ».
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات، ومنازل الكرامات، لكل منا منزلة لا يعدوها، ومرتبة لا يتخطاها.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: « خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن في المسجد فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟
قال: يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف »
وكان عمر يقول إذا قام للصلاة:
أقيموا صفوفكم واستووا، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ: « وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ » تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لأوامره.
ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي ﷺ فقال:
(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده، ليخلصوا له العبادة، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى.
ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال:
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا.
ونحو الآية قوله: « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ».
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، على كفرهم بربهم، وتكذيبهم برسوله ﷺ.
[سورة الصافات (37): الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
تفسير المفردات
كلمتنا: وعدنا، المنصورون: أي الغالبون في الحرب وغيرها، جندنا: أي أتباع رسلنا، والساحة: المكان الواسع.
المعنى الجملي
لما هدد سبحانه المشركين بقوله: فسوف يعلمون - أردفه ما يقوى قلب رسوله ﷺ بوعده بالنصر والتأييد، كما جاء في آية أخرى « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ».
الإيضاح
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك.
ونحو الآية قوله: « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ».
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم، واصبر على أذاهم، وانتظر مدة قليلة، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد.
(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال.
بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله: « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا »
ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل.
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به، وكفرهم بك والله منزله عليهم لا محالة.
(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم، وفي الصحيحين عن أنس قال: « صبّح رسول الله خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس - الجيش -، فقال النبي ﷺ: الله أكبر، خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » رواه البخاري.
قال صاحب الكشاف: مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ا هـ ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال:
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم، وانظر إليهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة.
ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال:
(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركي قريش من نحو قولهم: ولد الله. وقولهم: الملائكة بنات الله. وأمنة من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم - من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه، لأن كل نعمة لعباده فهي منه.
وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه.
روى البغوي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: « من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين ».
وعن أبي سعيد الخدري قال: « سمعت رسول الله ﷺ غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».
مجمل ما حوته السورة من موضوعات
(1) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
(2) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
(4) وصف الجنة ونعيمها.
(5) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
(6) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
(7) تنزيه الله عن ذلك.
(8) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوي الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال (9) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
(10) مدح المرسلين وسلام الله عليهم.
(11) حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.
سورة ص
هي مكية، نزلت بعد سورة القمر، وعدة آيها ثمان وثمانون ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين:
(1) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان.
(2) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد الله المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم - بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم.
[سورة ص (38): الآيات 1 الى 11]
بسم الله الرحمن الرحيم
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
تفسير المفردات
الذكر: الشرف كما قال « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » الذين كفروا هم رؤساء قريش، في عزة: أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم: من « عزّ بزّ » أي: من غلب سلب، شقاق: أي مخالفة لرسول الله ﷺ من قولهم: فلان في شقّ غير شق صاحبه، فنادوا: أي استغاثوا، لات: أي ليس الحين، مناص: أي فرار وهرب، عجاب: أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلا الصبر عليه، الملة الآخرة: هي ملة النصارى، اختلاق: أي كذب وافتراء، فليرتقوا: أي فليصعدوا، في الأسباب: أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلّم
جند ما: أي جند كثير عظيم كقولهم « لأمر ما جدع قصير أنفه »، مهزوم: أي مغلوب، الأحزاب: أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه.
الإيضاح
(ص) تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للاصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا، ويا، وينطق بأسمائها فيقال (صاد) بالسكون.
(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي أقسم بالقرآن ذي الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدا لصادق فيما يدّعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده.
ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله ﷺ وحرصهم على مخالفته.
ثم حذرهم وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم فقال:
(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فقد فات الأوان وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب.
ونحو الآية قوله: « فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ » وقوله « حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ » وقوله « فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ».
(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعى النبوة ويدعو إلى الله وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة، ومن ثم قالوا ما هو إلا خدّاع كذاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي، ثم ذكر شبهتهم في إثبات كذبه من وجوه ثلاثة:
(1) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقّا صادقا - ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل.
ونحو الآية قوله « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ».
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: « لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي ﷺ فدخل البيت وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل واحد، قال فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرقّ عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله ﷺ مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله فقال يا عم: إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم ما هي وأبيك، لنعطينّكها وعشرا، قال ﷺ (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون: « أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ » فنزل من هذا الموضع إلى قوله: « بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ».
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبى طالب بعد ما بكّتهم رسول الله وشاهدوا تصلبه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى ويقلّبون وجوه الرأي فيما يفعلون، ويقولون: اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغضّ من شأنها والاستهزاء بأمرها.
ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا:
(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم.
ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا:
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهي ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم.
(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوي ولا من عقل فيما يزعمون.
ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد ﷺ بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا:
(3) (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) أي إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف، والرياسة والكياسة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » ثم نعى عليهم تعرّضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال: « أهم يقسمون رحمة ربّك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات » فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة.
ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال:
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم، إذ هي دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.
ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجىء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجىء العذاب فقال:
(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنهم لما يذوقوا عذابى بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك.
والخلاصة - إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكري.
ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد ﷺ وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال:
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أيملكون خزائن رحمة الله القهار لخلقه، الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها - فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاءون، ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم؟
والخلاصة - إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شيء « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ».
ونحو الآية قوله: « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا ».
ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب فقال:
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشئون الغيبية ويفكروا في التدابير الإلهية التي يستأنر بها رب العزة والكبرياء؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السموات، وليدبروا شئونها حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك.
والخلاصة - إنه ليس لهم شيء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاءون، فذلك من شئونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.
ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال:
(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم - جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين - مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها، فإني لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية؟.
وهذا خبر من الله لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند - أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع - وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد ﷺ وصدق كتابه وأنه من عند الله لا من عند البشر.
[سورة ص (38): الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب - بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول ﷺ.
الإيضاح
ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيّهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال:
(1) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزءوا به، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا، فدعا ربه وقال: « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا » ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه كما قال: « فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ».
(2) (وَعادٌ) وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية كما قال في سورة الحاقة: « وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ».
(3) (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) وقد بعث الله إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصرّ على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ونجّى موسى وقومه بني إسرائيل كما قال في سورة يونس: « وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ».
وقوله ذو الأوتاد: أي ذو الملك الثابت، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
(4) (وَثَمُودُ) وقد جاء ذكرهم في عدة سور أرسل الله إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر: « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ - إلى أن قال - إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ».
(5) (وَقَوْمُ لُوطٍ) وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب، فمنها قوله في سورة القمر: « كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ».
(6) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة: الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب، وقد ذكر الله قصصهم في كثير من السور، فمنها ما جاء في سورة الحجر: « وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ».
(أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.
ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال:
(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابى؟.
ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال:
(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ينظر أي ينتظر كقوله تعالى: « انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ » وهؤلاء أي كفار مكة، والفواق: الزمن الذي بين الحلبتين، والصيحة: النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة - بلا توقف مقدار فواق.
والخلاصة - إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا.
[سورة ص (38): الآيات 16 الى 18]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)
تفسير المفردات
القط: النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر:
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطى القطوط ويأفق
ويأفق: أي يصلح.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد، فأشاروا إلى الأولى بقولهم: أجعل الآلهة إلها واحدا، وإلى الثانية بقولهم: أأنزل عليه الذّكر من بيننا، وهنا أشار إلى الثالثة بقوله: وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد، وأن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعلمون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.
الإيضاح
(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة - ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ولا تؤخره لي يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.
وقائل ذلك على ما روى عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه الله تعالى: « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ » أو أبو جهل على ما روى عن قتادة، ورضى بهذه المقالة الباقون، ومن ثم أسندها إليهم جميعا.
ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله ﷺ الغاية، إذ قالوا إنه ساحر كذاب، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا - أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال:
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم جاعلو الظفر لك على من كذبك وشاقّك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك.
قصص داود عليه السلام
[سورة ص (38): الآيات 18 الى 20]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
تفسير المفردات
الأيد والآد: القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما، أوّاب: أي رجاع إلى الله وإلى طاعته من قولهم آب. إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص:
وكلّ ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
والإشراق: أي وقت الإشراق، يقال أشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، محشورة: أي محبوسة في الهواء، أواب: أي منقاد يسبح تبعا له، شددنا ملكه: أي قويناه بالهيبة والنصر، والحكمة: هي إصابة الصواب في القول والعمل، الفصل: الحاجز بين الشيئين، وفصل الخطاب: الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل.
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين - أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاقّ والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم - ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في الطاعة والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر.
وورد في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: « أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا » أي رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر الله، قال النبي ﷺ « إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ».
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال: « كان النبي ﷺ إذا ذكر داود وحدّث عنه قال: كان أعبد البشر ».
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: « لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود ».
ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال:
(1) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أيإنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار، وتسبيحها معه تقديسها لله بحال تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات.
(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه.
وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبّل الذي يعجب به الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان؟
ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال:
(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له (2) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء (3) (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي وأعطيناه العلم الكامل، والإتقان للعمل، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر:
قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرّة زلجا
(4) (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم، ومزيد في الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكي لذي لا يتوافر لكثير من الناس.
قضية من قضاياه التي حكم فيها
[سورة ص (38): الآيات 21 الى 25]
وهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعًا وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
تفسير المفردات
هل: هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها، والخصم: جماعة المخاصمين ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم كنفض البرازين العراب المخاليا
وتسوروا: أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل، والمحراب: الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه، والفزع: انقباض ونفار يعترى الإنسان من شيء مخيف، بغى: أي جار وظلم، ولا تشطط: أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة، سواء الصراط: أي وسط الطريق، والنعجة أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعث جاريتى فقلت لها اذهبي فتحسّسى أخبارها لي واعلم
قالت رأيت من الأعادى غرّة والشاة ممكنة لمن هو مرتمى
أكفلنيها: أي ملكنيها، وأصل ذلك اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وعزّنى: أي غلبنى، وفي المثل: من عزّ بزّ أي من غلب سلب، وقال الشاعر:
قطاة عزّها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
في الخطاب: أي في مخاطبته إياي ومحاجته، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده، والخلطاء: هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج: واحدهم خليط، فتنّاه: أي ابتليناه، خر: أي سقط، راكعا: أي ساجدا وقد يعبر بالركوع عن السجود، قال الشاعر:
فخرّ على وجهه راكعا وتاب إلى الله من كل ذنب
وأناب: أي رجع إلى ربه، والزلفى: القرب من الله، والمآب: المرجع.
المعنى الجملي
بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف - أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوّقا إليه السامع، ومعجّبا له.
الإيضاح
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلّقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم فزع منهم ظنا منه أنهم جاءوا لا غتيا له، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة، فقالوا له: لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوي، ولا تشطط في الحكومة.
ثم فصّلوا موضع الخصومة فقالوا:
(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي إن أخي هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة، فقال ملكنيها وغلبنى في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردّا ولا دفعا.
ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال:
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي قال داود بعد أن أقرّ المدعى عليه بما قال المدّعى: لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه.
ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال:
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوي خشية من خالقها، وما أقل هؤلاء عددا، وأندرهم وجودا كما قال: « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ».
ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال:
(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعًا وَأَنابَ) أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى لأجل أن يغتالوه، فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.
ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال:
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.
هذا خلاصة مارآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص، وهو حسن.
بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال - ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه - إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة - ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي في غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة - فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفي عليهما، ولأجله تسوّرا المحراب، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود، فهي فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بني إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله: « وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ »
وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة همّ أن ينتقم منهما ويجازى السيئة بمثلها « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال: « فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ » ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما.
وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك في كلام العرب كما قال كنعاج الفلا تعسّفن رملا، فذلك يتوقف على أن كلمة (نعجة) في اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هي في العربية، وتأباه كلمة (الْخُلَطاءِ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن (تَسَوَّرُوا) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسوّر، إلى أنّ ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجىء الملكين مما يخلّ بمنصب النبوة، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء، فيجب علينا أن نطرحه إذ يبطل الوثوق بالشرائع - إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجلّ مقامهم عنه، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن ثم أثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين.
[سورة ص (38): آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين - أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب، إذ قد نسى يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان، وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرا، ولا يقيمون في وجهك عصا.
ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال:
(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) المنزل من عندي، والذي شرعته لعبادي لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة.
ثم أكد ما سلف بالنهي عن ضده فقال:
(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) في الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.
ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال:
(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فيكون اتباعك للهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت، والأعلام التي وضعت، للارشاد إلى سبل السلام، بإصلاح حال المجتمع في دينه ودنياه، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه - لهم من الله العذاب الشديد يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسّى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم.
[سورة ص (38): الآيات 27 الى 29]
وما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
تفسير المفردات
باطلا: أي عبثا ولعبا، ويل: أي هلاك، مبارك: أي كثير المنافع الدينية والدنيوية، ليدبروا: أي ليتفكروا، ليتذكر: أي ليتعظ، الألباب: واحدها لبّ، وهو العقل، وقد يجمع على ألبّ ويفك إدغامه في ضرورة الشعر، قال الكميت:
إليكم ذوي آل النبي تطلّعت نوازع من قلبي ظماء وألبب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن - أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقهم لعبادته وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها، سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع.
الإيضاح
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا) أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون - لهوا ولعبا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله: « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ».
ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا بالله وجحدوا آياته فقال:
(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن الذين كفروا بالله وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق، ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدالّ على قدرة خالقه وعظيم تصرفه - أنكروا الحكمة في خلقه، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه، وبرهانا على وحدانيته كما ورد في الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى ».
ونحو الآية قوله: « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » ثم بين أن لهم سوء المنقلب، على بطلان ما اعتقدوا، وقبيح ما فعلوا فقال:
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي فياويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم، وإنكارهم لليوم الذي تجازى فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »
ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال:
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شيء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ». « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فإني لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غي، أو يكفّوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات، بما وسوس إليهم به الشيطان، أن لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين.
وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.
والعقول السليمة، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده، وتدل عليه وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا، ويتمتع بصنوف اللذات، من الدور والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهّمة والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينا نرى المطيع لربه، المظلوم من بنى جنسه قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسدّ به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاءوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف، والكيل بالقسط والميزان، وتلك هي الدار التي وعد بها الرّحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده الحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة ابن الحارث رضي الله عنهم، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر.
ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة قال:
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، في دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، ليتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا.
وما تدبّره بحسن تلاوته وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثمّ قال الحسن البصري: قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء.
قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد
[سورة ص (38): الآيات 30 الى 33]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِي ِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
تفسير المفردات
الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال:
ألف الصّفون فما يزال كأنّه مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال النابغة:
لنا قبّة مضروبة بفنائها عتاق المهارى والجياد الصوافن
والجياد: واحدها جواد، وهو السريع العدو، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد، والخير هنا: الخيل: توارت: أي غيبت عن البصر، طفق: شرع، المسح إمرار اليد على الجسم.
الإيضاح
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان.
ونحو الآية قوله: « وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ».
ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال:
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات، اعتقادا منه بأن كل شيء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال:
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار، لينظر إليها ويتعرف أحوالها، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره.
وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلّص.
(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه، ومن الخير أن يزداد شغفه به، وتلك هي غاية المحبة، فسليمان عليه السلام يقول: إني أحب حبى لهذه الخيل، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى.
(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي:
أثارت سنابكها عليها عثيرا لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا
فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة « إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى » وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة، ولبعد المسافة من جهة أخرى.
وبعد أن اطمأن إلى حالها، وحمد جميل أمرها قال:
(رُدُّوها عَلَيَّ) فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات، من غزو وغيره.
ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ - أظهر استحسانه لها ولفرسانها.
(فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه، إذ هي أعظم الأعوان، في دفع العدوان، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء..
والخلاصة - إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال إني ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر الله وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضي.
[سورة ص (38): الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
تفسير المفردات
فتنّا سليمان: أي ابتليناه بمرض، جسدا: أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، أناب: أي رجع إلى صحته، لا ينبغي لأحد من بعدي: أي لا ينتقل مني إلى غيري، رخاء: أي لينة، أصاب: أي قصد وأراد، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول: أصاب الصواب فأخطأ الجواب، قال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل
مقرّنين: أي مربوطين، والأصفاد: واحدها صفد (بالتحريك) وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق، قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا وأبنا بالملوك مصفّدينا
والزلفى: الكرامة، والمآب: المرجع.
الإيضاح
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ) أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه، لشدة وطأته عليه (والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة من ربه، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن هذا في مقام التذلل والخضوع كما قال عليه السلام « إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة »
وما روي من قصص الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين، وأبى قبولها العلماء الراسخون.
ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ا هـ.
(وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي هب لي ملكا لا يكون لأحد غيري لعظمه.
قال صاحب الكشاف: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة، فذلك معنى قوله: لا ينبغي لأحد من بعدي ا هـ.
وقيل إنه أراد بقوله: لا ينبغي لأحد من بعدي - الدلالة على عظمه وسعته كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
ثم علل المغفرة والهبة معا فقال:
(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبى، وحقق رجائي.
ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال:
(1) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أي جهة قصد.
ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال: « وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً » لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها، فهي تشتد حين الحلّ، وتلين حين السير.
(2) (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم، يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا.
(3) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم.
وخلاصة ما سلف - إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال، كفّا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره.
وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه.
ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال:
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي وقلنا له: إن هذا الذي أعطيناكه
من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى - عطاؤنا الخاص بك، فأعط من شئت، وامنع من شئت غير محاسب على شيء من ذلك، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.
وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها، أبان ماله في الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال:
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، ويفوز برضا ربه، وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة في الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم.
قصص أيوب عليه السلام
[سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]
واذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
تفسير المفردات
أيوب: هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، فهو من بني إسرائيل قاله ابن جرير. والنّصب: (بضم فسكون) والنّصب (بفتحتين) كالرشد والرشد: المشقة والتعب، عذاب: أي ألم مضر كما جاء في قوله: « أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ » اركض برجلك: أي اضرب بها على الأرض، مغتسل: أي ماء تغتسل به وتشرب منه، والضغث: الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان، ويقال حنث في يمينه: إذا لم يفعل ما حلف عليه.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال: رب إني أصبت بالمرض، وتفرق الأهل وضياع الولد.
ومن حديث مس الشيطان له ما روي - إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته، فابتلاه الله بالأمراض والأسقام، وأضاع ماله وتفرق ولده في أنحاء البلاد، وهلك منهم من هلك فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ، وحسرة تقطّع نياط القلب.
ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه، لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء:
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد - كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض، وهي كما تفيد بالاستعمال الظاهري، تفيد بالشرب أيضا كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها، واستعملت مشاتي ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشي وسويسرا وحلوان.
وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب - ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.
وعن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ قال: « إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدرى ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم إني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ».
ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه.
وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال:
(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه، رحمة منا وتذكرة لأولى العقول السليمة، لنعتبر ونعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة:
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله، فنمسك عن الكلام كما أمسك.
ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب لم يبين لنا علام حلف؟ وعلى من حلف؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت، فحلف ليضربنها إن بريء مائة ضربة، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى الله وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه:
(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه في النفس والأهل والمال من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته، وأذهب لوعته، وليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شيء من الجزع، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء.
وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصرى، ولم يلهنى ما ملكت يمينى، ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان.
قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل
[سورة ص (38): الآيات 45 الى 49]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
تفسير المفردات
الأيدي: أي القوى في طاعة الله، والأبصار: واحدها بصر ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره، أخلصناهم: أي جعلناهم خالصين لنا، بخالصة: أي بخصلة خالصة لا شوب فيها، هي تذكّر الدار الآخرة والعمل لها، المصطفين: أي المختارين من أبناء جنسهم، والأخيار: واحدهم خيّر وهو المطبوع على فعل الخير، هذا ذكر: أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة في الدين، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه.
ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله:
(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لا تصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال، وهي تذكرهم الدار الآخرة، فهي مطمح أنظارهم ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير، قلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام.
(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتى الأنعام والأنبياء.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي وكل منهم ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه.
(هذا ذكر) أي هذه الآيات الناطقة بمحاسهم شرف لهم يذكر بين الناس، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وكان كيت وكيت - وعلى هذا جاء قوله: « هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ » كما سيأتي بعد.
[سورة ص (38): الآيات 50 الى 54]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
تفسير المفردات
الطاغي: المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي، جنات عدن: أي جنات استقرار وثبات، من قولهم: عدن بالمكان أي أقام به، متكئين فيها: أي متكئين فيها على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى، أتراب: أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن، نفاد: أي انقطاع.
المعنى الجملي
لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي ﷺ فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء: ربنا عجل لنا قطّنا - أمره بالصبر على أذاهم لوجهين:
(1) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدى بهم ويجعلهم أسوة له.
(2) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره.
الإيضاح
(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن الله أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا، ولهم في الآخرة حسن المرجع.
ثم بين هذا المآب الحسن بقوله:
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي هو جنات استقرار وإقامة، أبوابها فتّحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسرّ الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال:
(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها.
وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال:
(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال يجب بعضهن بعضا، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النّصب والتعب والهمّ الكثير للزوج ولهنّ.
(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد الله به عباده المتقين، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم.
ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال:
(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا النعيم وتلك الكرامة - لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع.
ونحو الآية قوله: « ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ » وقوله: « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ » أي مقطوع، وقوله: « لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » أي منقطع. وقوله: « أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ».
[سورة ص (38): الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
تفسير المفردات
الطاغين: هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله وكذبوا رسله، يصلونها: أي يدخلونها ويقاسون حرها، والمهاد: كالفراش لفظا ومعنى، والحميم: الماء الشديد الحرارة، والغساق: شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار، يقال غسقت العين: أي سال دمعها، من شكله: أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة، أزواج: أي أجناس، فوج: أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة: العرب تقول لا مرحبا بك: أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت، من الأشرار: أي الأراذل الذين لا خير فيهم، يريدون بذلك المؤمنين، زاغت عنهم: أي مالت عنهم، والتخاصم: مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين - أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.
الإيضاح
(هذا) أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدّموا من أعمال صالحة.
(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة، ثم فسر ذلك بقوله:
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها، فبئس فراشا هي ونحو الآية قوله: « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ».
ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال:
(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أي العذاب هذا، فليذوقوه.
ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال:
(حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي لهم فيها ماء حارّ يشوى الوجوه، وماء بارد لا يستطاع شر به لبرودته. قال الحسن رضي الله عنه: الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله: « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال:
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم.
وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض.
(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ) أي هم يتلاعنون ويتكاذبون، فتقول
الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم.
قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم، قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به إن كان تفريق الأحبّة في غد
ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله:
(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم.
وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يردّ عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم:
(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم (لا مرحبا بكم) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، وبئس النار المنزل والمستقر.
وهذا كلام يراد به التشفي منهم، لأنه مشترك بينهم.
ونحو الآية قوله: « كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ».
ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذمّا لهم أيضا فقال:
(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب - عذابا مضاعفا في النار، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما ورد في الحديث « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ».
ونحو الآية قوله: « رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ » وقوله: « رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ».
وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال:
(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟) أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟.
قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد ﷺ، يقول أبو جهل: أين بلال: أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس. وا عجبا لأبى جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال:
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رجلى منه أسود مظلم
ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا:
(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) أي ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا؟.
وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.
والخلاصة - إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا: ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم في الدنيا سخريا؟ ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟
ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال:
(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضا - حق لا مرية فيه.
[سورة ص (38): الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا ﷺ دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبي، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار - عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهي تقرير التوحيد والنبوة والبعث.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول لمشركي مكة: إنما أنا نذير مرسل من ربى لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود، ولست بالساحر ولا الكذاب، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله: « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله: « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ».
وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال:
(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شيء وغلبه بعزته وجبروته، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب، جلت أو حقرت.
ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلى لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال:
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل لهم: إنّ ما أنبأتكم به من كونى رسولا منذرا، ومن أن الله واحد لا شريك له - خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال، لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة.
وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علّهم يرجعون عن غيهم.
ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال:
(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ولو لا الوحي ما كنت أدرى باختلاف الملإ الأعلى، يعني في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه، وهو ما ذكره بعد.
ثم أكد نبوته بقوله:
(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلي إلا للانذار، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا.
قصص آدم عليه السلام
[سورة ص (38): الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
تفسير المفردات
فقعوا له: أي اسجدوا له، ما منعك: أي ما صرفك وصدك، واليد: القدرة قال:
تحمّلت من عفراء ما ليس لي به ولا للجبال الراسيات يدان
من العالين: أي المستحقين للترفع عن طاعة الله المتعالين عن ذلك، رجيم: أي مرجوم ومطرود من كل خير، لعنتى: أي طردى، أنظرني: أي أمهلني، من المنظرين: أي الممهلين، لأغوينهم: أي لأضلنهم، المخلصين: أي الذين أخلصتهم للعبادة.
المعنى الجملي
قد سلف ذكر هذه القصة في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا والعبرة منها النهي عن الحسد والكبر، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدا ﷺ بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة في النصح والإرشاد.
الإيضاح
خلاصة هذه القصة - إن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من خلقه وتسويته، إجلالا وإعظاما له، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة فدسه مذموما مدحورا، فسأل النّظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرّد وطغى وقال « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » فقال تعالى: « فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ».
[سورة ص (38): الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
تفسير المفردات
من المتكلفين: أي المدّعين معرفة ما ليس عندهم، نبأه: أي ما أنبأ به من وعد ووعيد، بعد حين: أي بعد الموت.
الإيضاح
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل يا أيها الرسول لمشركي قومك: ما أسألكم على تبليغ ما يوحى إلي أجرا لا قليلا ولا كثيرا، وما عرفتمونى أتكلف ما ليس عندي حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن.
أخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال رسول الله ﷺ: « ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا بلى، قال هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون ».
وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: « أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله تعالى أعلم، قال الله تعالى لرسوله ﷺ: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة، وكل ذي عقل سليم، وطبع مستقيم، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد.
ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين.
وكان الحس البصري يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ
(1) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت.
(2) إنكارهم للوحدانية.
(3) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
(4) إنكارهم للبعث والحساب.
(5) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.
(6) وصف نعيم أهل الجنة.
(7) وصف عذاب أهل النار، وتلاعن بعضهم بعضا، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟
(8) قصص آدم عليه السلام.
(9) قسم إبليس - ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
(10) أمر الله نبيه أن يقول للمشركين: ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتي ولا أنا بالذي يدّعى علم شيء هو لا يعرفه.
(11) إن القرآن أنزل للثقلين كافة.
(12) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.
سورة الزمر
هي مكية إلا الآيات 52، 53، 54 فمدنيات، وآياتها خمس وسبعون نزلت بعد سبأ.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله: « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » ووصفه هنا بقوله: « تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ».
(2) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدإ إلى المعاد، وذكر هنا مثله - إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل.
[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
الإيضاح
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية: « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »
وجاء في قوله: « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ».
وبعد أن بيّن شأن المنزل وأنه من عند الله - ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزّل من الحق والعدل فقال:
(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما.
ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال:
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أي فاعبده تعالى ممحّضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ندّ له ولا شريك.
ثم أكّد هذا الأمر بقوله:
(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، وفي حديث الحسن عن أبي هريرة « أن رجلا قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يقبل الله شيئا شورك فيه، ثم تلا: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ».
وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص لله - أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.
ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب، والملائكة، والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا إن الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة وهي تعبد الإله الأعظم.
وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العالقة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة كما قال: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقال: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ».
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم فلم تعبدونهم؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله: « فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ».
ثم هددهم وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة، ويجازى كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار.
ثم بين نتيجة الحكم قال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدا وأن له ندّا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندا من نقل.
ثم فصّل ما كذبوا فيه فقال:
(لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا - ولا ينبغي له ذلك - لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، فكيف نسبتم إليه البنات؟
ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال:
(سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تقدس الله أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغنى عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط على المخلوقات بقدرته فذلت له، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[سورة الزمر (39): الآيات 5 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
تفسير المفردات
التكوير: في الأصل اللف واللى من كار العمامة على رأسه وكوّرها والمراد يذهب الليل ويغشى مكانه النهار، والعكس بالعكس، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له، والأجل المسمى: يوم القيامة، والظلمات الثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة، تصرفون: أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه منزه عن الولد بكونه إلها قهارا، وأن كل المخلوقات في قبضته وسلطانه - أردف ذلك ما يدل على كمال قدرته بآياته التي أوجدها في الأكوان، وفي خلق الإنسان، فبسط سلطانه على الشمس والقمر وذللهما، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت الذي لا يعلم مداه إلا هو، كما خلق الإنسان الأول وجعل له زوجا من جنسه، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان ذكر وأنثى فكانت نواة التناسل في هذه الأنواع، فهل بعد هذا يجد العاقل معدلا عن الاعتراف بربوبيته، وعظيم قدرته.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار، تكوّن الليل والنهار، والعالم السفلى المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه - خلقهما على أكمل وجه، وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب، والحكم والمصالح.
وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال:
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لفّ اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهي مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار، فالأرض كالرأس والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها.
وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا، فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له (وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما) يجريان لمنتهى دورتهما، ومنقطع حركتهما، وهو يوم القيامة، « يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ».
ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي، فقال:
(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه بهذه النعم - هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين.
ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته، وكمال رحمته فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين.
وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي - أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلى، وبدأها بخلق الإنسان، لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية، ولله در من قال:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم - من نفس واحدة وهي آدم، ثم جعل من جنسها زوجها وهي حواء، ثم ثنّى بخلق الحيوان فقال:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي التي ذكرها في سورة الأنعام « ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ » أي ذكر وأنثى لكل منها.
ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسى والأنعام فقال:
(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يبتدىء خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، فيكون أحدكم أوّلا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون لحما وعظما وعصبا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن، قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه [الإسلام والطب الحديث ]: يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات: هي الغشاء المنبارى، والخربون، والغشاء اللفانفى، وهي لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة ا هـ.
وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال:
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله - هو الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تنبغى العبادة إلا له وحده لا شريك له.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء ما يصرف عنها - إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها.
والخلاصة - كيف تعبدون معه سواه؟ أين ذهبت عقولكم؟ وكيف ضاعت أحلامكم؟.
[سورة الزمر (39): الآيات 7 الى 8]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
تفسير المفردات
منيبا: أي راجعا إليه مطيعا له، خوّله: ملّكه وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير ابن أبي سلمى:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى وذكر أن المشركين عبدة الأصنام لا دليل لهم على عبادتها، وكأنّ عقولهم قد ذهبت حين عبدوها - أعقب ذلك ببيان أنه هو الغنى عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة، ولا دفع مضرة، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده، بل يرضى لهم الشكر، وأن كل نفس مطالبة بما عملت، وبعدئذ تردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون، فإذا أصابهم الضر رجعوا في طلب دفعه إلى الله، وإذا ذهب عنهم عادوا إلى عبادة الأوثان، وقد كان العقل يقضى بأنهم وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه - أن يعبدوه في جميع الحالات، ثم أمر رسوله أن يقول لهم متهكما موبخا تمتعوا بكفركم قليلا ثم مصيركم إلى النار وبئس القرار.
الإيضاح
(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا، فهو الغنى عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى: « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ »
وجاء في صحيح مسلم « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ».
ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال:
(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنصب وممن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه على مقتضى السّنن القويم، والصراط العادل المستقيم كما قال: « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ».
ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل سواه فقال:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل أي نفس أوزار نفس أخرى، بل كلّ مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا.
ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال:
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا.
ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال:
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار؟.
ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال:
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أيوإذا أصاب الكافر بلاء في جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته - استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضرّ، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء - ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ، فجعل لله شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده والإقرار به والدخول في الإسلام له.
ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال:
(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك:
تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها الله في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان، زمنا قليلا إلى أن تستوفى أجلك، وتأتيك منيّتك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا.
[سورة الزمر (39): آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
تفسير المفردات
القانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة، آناء الليل: ساعاته واحدها آن، يحذر الآخرة: أي يخشى عذابها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء - أردفه ذكر أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
الإيضاح
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات، ودائب على وظائف العبادات، في ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد من الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وهو في حال عبادته خائف راج؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.
والخلاصة - أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ إنهما لا يستويان.
ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال:
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لقومك:
هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون من سيئها شرا.
وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.
ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذي لبّ، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة، لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال:
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا، لا أهل الجهل والغفلة.
والخلاصة - إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.
[سورة الزمر (39): الآيات 10 الى 16]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
المعنى الجملي
بعد أن نفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم - أردفه أمر رسوله أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح:
(1) تقوى الله وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته في بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان.
(2) إنه أمر بعبادة الله وحده مخلصا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبي ﷺ: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله الآية وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه إلى كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة.
(3) إنه أمر أن يقول لهم: إني أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.
(4) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإنكانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
(5) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوّف بها عباده.
الإيضاح
(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره.
ثم علل وجوب الامتثال بقوله:
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكّى نفسه فيها - حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».
ثم رغّبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبّرهم على مفارقة الأوطان فقال:
(وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال:
(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره، كما وفّى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة، وعن الحسين بن على رضي الله عنهما قال: سمعت جدى رسول الله ﷺ يقول: « أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لهال شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا ثم تلا: « إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »
قال النحاس: من صبر على المعاصي يقال صابر، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا.
ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال:
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك: إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد.
وفي هذا نعى لهم على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره).
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم في إخلاص التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم: إني أخاف إن عصيت ربى بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية - عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام.
وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.
ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال:
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي قل لهم: الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.
ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال:
(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل لهم أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده - هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.
(أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له، وفظاعة شأنه.
ثم فصل ذلك الخسران وبينه بعد إبهامه تهويلا وتعظيما لأمره فقال:
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل، ومن تحتهم مثلها، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب.
ونحو الآية قوله: « يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ » وقوله: « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ».
(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام.
بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال:
(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي يا عبادي بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة.
[سورة الزمر (39): الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وعيده لعبدة الأصنام - أردف ذلك وعد من اجتنبوا عبادتها وبعدوا عن الشرك، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد ويحصل بذلك كمال الترهيب والترغيب.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الطاغوت: الشيطان، ويطلق على الواحد والجمع، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان، إذ كان الآمر بها، والمزيّن لها.
أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه - لهم البشرى بالثواب العظيم من الله على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب.
ثم مدحهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل فقال:
(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول - بالنعيم المقيم في جنات النعيم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ) أي هؤلاء هم الذين وفقهم الله للرشاد، وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.
(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.
روي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر: زيد بن عمرو وأبى ذر الغفاري وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون « لا إله إلا الله ».
ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ؟ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) أي أأنت مالك شئون الناس ومصرّف أمورهم، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي - فأنت تنقذ من النار؟ - كلا، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله.
ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال:
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجرى الأنهار خلال أشجارها.
ثم أكد حصول ذلك لهم فقال:
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) أي وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفى بوعده.
[سورة الزمر (39): آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
تفسير المفردات
فسلكه: أي فأدخله، ينابيع: أي عيونا ومجارى، ألوانه: أي أنواعه وأصنافه، يهيج: أي يجف، حطاما: أي فتاتا متكسرا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف جلّت قدرته الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها ومزيد الشوق إليها - أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا توجب النفرة منها كسرعة زوالها وتقضّيها وشيكا، تحذيرا من الاغترار بزهرتها، والركون إلى لذتها، فمثّل حالها بحال نبات يسقى بماء المطر فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتا متكسرا، فما أسرع زواله، وأيسر تقضيه!.
الإيضاح
إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من برّ إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفّت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتا متكسرة، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهي سريعة التقضّى وشيكة الزوال، فليعنبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتنوا بزخرفها.
ونحو الآية قوله: « وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ».
[سورة الزمر (39): الآيات 22 الى 28]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
تفسير المفردات
شرح مصدر للإسلام: الفرج به والطمأنينة إليه، والنور: البصيرة والهدى، والقسوة: جمود وصلابة في القلب يقال قلب قاس: أي لا يرق ولا يلين، أحسن الحديث: هو القرآن، متشابها: أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام، مثاني: واحدها مثنى من التثنية: أي التكرير، تقشعر: أي تضطرب وتتحرك وتشمئز، تلين: أي تسكن وتطمئن، الخزي: الذل والهوان، يتذكرون: أي يتعظون، غير ذي عوج: أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، قال:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
المعنى الجملي
بعد أن بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه والإعراض عن الدنيا - أردف ذلك بيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره ونوّر قلبه وأشعر نفسه حب العمل به، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله فلا هادي له، وأن من يتقى بيديه المخاوف صيانة لوجهه عن النار ليس حاله كحال من هو آمن لا يفكر في مآل أمره، وعاقبة عمله، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم، فلقد كذّب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربي مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون.
الإيضاح
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد - كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل حلول الموت.
والخلاصة - هل يستوى من أنار الله بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق؟
ونحو الآية قوله: « أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ».
قال ابن عباس: من شرح الله صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: « تلا النبي ﷺ هذه الآية فقلنا يا نبي الله: كيف انشراح صدره؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت ». وأخرج الترمذي عن ابن عمر « أن رجلا قال يا رسول الله: أي المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ».
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال:
(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب، فهم إذا ذكر الله عندهم، وذكرت دلائل قدرته، وبدائع صنعه، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ».
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: « قال الله تعالى: اطلبوا الحوائج من السمحاء، فإني جعلت فيهم رحمتى، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي ».
ثم بين حالهم فقال:
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم في غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.
وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال:
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس قال الزجاج:
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به الله من يشاء ويوفقه للإيمان.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به، فما له من مخرج من الضلالة، ولا موفّق لسلوك طريق الحق.
ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال:
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه)، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال:
(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي - ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية، النار الحامية.
ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروي فقال:
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا، فأصيبت تارة بالمسخ، وأخرى بالخسف، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.
ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربي لا لبس فيه ولا اختلاف، ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد.
[سورة الزمر (39): الآيات 29 الى 31]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
تفسير المفردات
ضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها، متشاكسون: أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم، سلما لرجل: أي خالصا لسيد واحد، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح، قال الخليل أنشد أبو عمرو:
وتسألني تفسير ميت وميّت فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
تختصمون: أي تحتكمون للقضاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهي أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيهم وضلالهم - أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدي، فلا داعي إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟) أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم: ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته، ويقضى له سائر حاجاته، فأي العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟ - الجواب لا يحتاج إلى بيان - هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أي تلك الآلهة يعبد؟ ولا على أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفده؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه، عارف ما يرضيه وما يسخطه - لا شك أن البون بين حاليهما شاسع.
وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو - ثبت أن الحمد لله لا لغيره.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.
ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل، وهناك يتميز المحق من المبطل قال:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون، ثم تختصمون عند ربكم، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.
عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه » رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: إن رسول الله ﷺ قال: « أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله ﷺ: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » أخرجه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفّقنا لما فيه رضاك.
تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذي القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
5 جمع الناس للحساب والجزاء
6 البعث ممكن وليس بمستحيل
10 القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة
13 لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه
15 السفن البرية والسفن الهوائية
19 تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون
20 خروج الخلق من الأجداث
22 ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب
23 شهادة الأيدي والأرجل على المجرمين يوم القيامة
30 ما ينبغي للرسول أن يكون شاعرا
32 عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه
34 تسلية الرسول ﷺ عما يلقاه من أذى قومه
36 دليل القدرة في الأنفس والآفاق
39 تنزيهه سبحانه عما لا يليق به
42 قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد
44 الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء
45 الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة
47 مقالتهم في القرآن
49 يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي
51 يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال
56 وصف خمور الجنة
59 سمر أهل الجنة في الجنة
60 اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم
63 وصف شجرة الزقوم
64 تقليد الأبناء للآباء
65 تسلية الرسول ﷺ بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم
68 تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام
71 عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة
73 طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا
76 الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟
78 نعم الله على موسى وهارون
81 قصص لوط عليه السلام
82 قصص يونس عليه السلام
84 توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه
93 مجمل ما حوته هذه السورة
94 سورة ص
96 عجب المشركين من قول الرسول: إن الإله واحد
98 الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا
104 قصص داود عليه السلام
107 قضية من قضايا داود التي حكم فيها
110 الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود
114 الحكمة في خلق هذا الكون
115 ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء
117 عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك
119 تسخير الريح لسليمان عليه السلام
123 داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود
130 وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم
133 محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم
135 الرسول منذر لا مسيطر
136 الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد ﷺ
141 اعتذار المشركين على عبادة الأصنام
150 تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة
152 أمر الرسول ﷺ أن ينصح المؤمنين بنصائح
153 للصابرين أجرهم بغير حساب
156 بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه
158 صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها
159 وجوب الإقبال على طاعة الله
160 ضرب القرآن الأمثال للناس
164 أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة
هامش
- ↑ وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شيء منها، وعصم الله وحيه وكتابه.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |