الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/الجزء السادس


☰ جدول المحتويات

[تتمة سورة النساء]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم، وحذّر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال: « وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ». بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك، وفى هذا من الضرر ما سنذكره.

الإيضاح

(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) حب الله لشيء هو الرضا به والإثابة عليه، والجهر يقابل السر والإخفاء، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه ومساويه التي تؤذي كرامته.

والمعنى - أنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها:

1) إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.

2) إنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدى بعضهم ببعض، فمن رأى إنسانا يسبّ آخر لضغائن بينه وبينه، أو لكراهته إياه قلده في ذلك، ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته، إذ عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما، فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر في نفس السامع وهذا يؤثر في نفس الرائي والناظر، وأقل هذه الأضرار أنه يضعف في النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر.

وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام في القلوب، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.

والخلاصة - إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به، إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق.

والجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به، لأن ضرره وفساده يفشو في جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات.

(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه في ذلك، فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم، ولا أن يخضعوا للضيم، بل يحب لهم العزة والإباء.

فها هنا تعارضت مفسدتان: مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوّه والتمادي فيه، وذاك مما يؤدى إلى هلاك الأمم وخراب العمران، وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدّر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى في الجهر بالسوء بما لا دخل له في دفع الظلم. وفى الحديث « إن لصاحب الحق مقالا » رواه الإمام أحمد.

(وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه، إذ لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه الله لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فالله لا يؤاخذه، بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) أي إن فاعلي الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسىء إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم، والله من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.

[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 152]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

المعنى الجملي

بين سبحانه في هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبنى عليهما ما عداهما، ولا يقبل الإيمان بدونهما، وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر. ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم في جهنم وبئس القرار.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم، وقوله: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بيان لتفريقهم بين الله ورسله.

والخلاصة - إن الكافرين بالرسل فريقان: فريق لا يؤمن بأحد منهم، لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله، وأكثر الملحدين في هذا العصر من ذلك الفريق. وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين، وقول النصارى نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد، والفريقان كافرون مستحقون للعذاب، ولا عبرة بما يدعونه إيمانا.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا) أي وأعددنا لكل كافر سواء أكان منهم أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة.

ذاك أن من يؤمن بالله ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدى إلى ما يجب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لاتهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون.

ببعض كأهل الكتاب لا يعتدّ بقولهم، لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم.

ومن فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها في محمد ﷺ، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.

وبعد أن ذكر حال الفريقين السالفى الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم، علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاءوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها، فكل وال منهم إنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به. وأولئك يؤتيهم الله أجورهم بحسب حالهم في العمل، لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح، إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.

ولم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك هم الكافرون حقا، لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين، فلقد وصف الله المؤمنين حقا بقوله: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ».

(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان الله غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا، ولم يفرّق بين أحد من رسله، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة.

[سورة النساء (4): الآيات 153 الى 159]

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه في سابق الآيات حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب، بين في هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.

الإيضاح

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ) فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إلينا.

أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد ﷺ لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله يكون فيه (من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم، وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) أي عيانا ننظر إليه ونشاهده: أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد.

ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل بالله، إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار، وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء، إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة، وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة في سفر تثنية الاشتراع وغيره.

وأيا ما كان فلا فائدة في إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى: « وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ».

ونسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم، لأن الخلف والسلف سواسية في الأخلاق والصفات، فالأبناء يرثون الآباء ولا سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد في اتباع خلفها لسلفها، فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا في سورة البقرة في مخاطبة اليهود وغيرهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة، وقوله بظلمهم: أي بسبب ظلمهم: أي إن الله تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم، إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى « وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ».

(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تقدم هذا في سورة البقرة: أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها، اتخذوا العجل إلها وعبدوه، فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، فتوبوا أنتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا) السلطان هنا بمعنى السلطة: أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى في قتل أنفسهم.

وفي هذا بشارة للنبي ﷺ بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم.

ثم حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها في سورة البقرة فقال:

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا في واديه، وقوله بميثاقهم: أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا) الباب هو باب المدينة وهي بيت المقدس وقيل أريحا، وقوله سجدا: أي خاضعى الرءوس مائلى الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته: أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار.

(وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) والاعتداء تجاوز الحد، والاعتداء في السبت هو اصطياد الحيتان فيه: أي وقلنا لهم على لسان داود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي، وقد خالفوا في السبت وفى دخول الباب.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا) الميثاق الغليظ العهد المؤكد: أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذنّ التوراة بقوة، وليقيمنّ حدود الله ولا يتعدونها، ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن في الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم الله به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه، وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكريا ويحيى عليهما السلام.

(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف وهو ما عليه غلاف: أي لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد - فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.

(بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) طبع الله عليها جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) في قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره: أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وماله من الأثر القبيح في أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به، لأنه تفريق بين الله ورسله، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا) المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده، وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد ﷺ بقرينة قوله: وقالوا قلوبنا غلف، والبهتان: الكذب الذي يبهت من يقال فيه: أي يدهشه ويحيّره لبعده وغرابته، والمراد به هنا رميها بالفاحشة.

والمعنى - إن الله طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا؟.

والخلاصة - إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله.

وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى، إذ جاء في إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس، ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وهم إنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه يحدث كثيرا في كل زمان وتحكى عنه نوادر وحوادث غاية في الغرابة لكنها قد وقعت فعلا.

فقد ذكر بعض المؤلفين في الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة 1539 في فرنسا استحضر فيها 150 شخصا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) جزم أربعون منهم بأنه هو هو وقال خمسون إنه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون.

على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى بن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغيّر شكله، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفى أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل: وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب؟ والجواب أنا إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة، وإذا قلنا إن الله توفاه في الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة في ذلك، فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه في مكان لم يعرفه أحد منهم، وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه، فكيف يستغرب أن يفرّ عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له، لا ولى له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضّوا من حوله وقت الشدة، وقد أنكره أمثلهم بطرس الحوارى ثلاث مرات؟.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) قال في لسان العرب: الشك ضد اليقين، فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره؟

والمعنى - وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفى تردد من حقيقة أمره، إذ ليس لهم به من علم قطعي الثبوت، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بغض، وقد جاء في بعض الأناجيل التي يعوّلون عليها أنه قال لتلاميذه (كلكم تشكّون في هذه الليلة) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل (إنجيل متى من 26 - 31 ومرقس من 14 - 27).

وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه في ذلك الوقت، وخبره صادق قطعا، فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشكّ من دونهم في أمره؟.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِينًا) أي وما قتلوا عيسى بن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه، إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة، والأناجيل التي يعوّل عليها صريحة في أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبّله قبضوا عليه، وإنجيل برنابا يصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح، لأنه ألقى عليه شبهه، ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية.

والخلاصة - إن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو.

(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) هذه الآية كآية آل عمران « إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » وقد روى عن ابن عباس أنه فسر التوفي بالإماتة، وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله بعد أن اصطفاه إليه وقربه.

وقال ابن جرير نقلا عن ابن جريج: فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط، وفى تفسير ابن عباس معنى الرفع رفع الروح، ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج، إذ أن النبي ﷺ رآه هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية، وأنت ترى أنه لا دليل لهم في ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء في سائر السموات ولا قائل بذلك.

وقال الرازي - المعنى رافعك إلى محل كرامتى، وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم « إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي » وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام، والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا الله اهـ.

(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي إن الله عزيز يغلب ولا يغلب، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين، وبحكمته جازى كل عامل بعمله، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض، وسيوفيهم جزاءهم يوم القيامة « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ».

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال، فاليهودي يعلم أنه رسول صادق في رسالته ليس بالكذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن لله.

وفائدة إخبارهم بذلك - بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطرّوا إليه مع عدم الجدوى والفائدة.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى الله عنه من قوله: « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ » فهو يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر، إذ هو مرسل إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا) وقد ورد في الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة، فيبشّرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته.

روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ « إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته »

وروى ابن مردويه عن ابن عباس « ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار ».

وهذا يؤيد ما روى عن ابن عباس في تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح.

[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 162]

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم، ذكر هنا تشديده عليهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم، وأما في الآخرة فبما بينه الله بقوله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة

الإيضاح

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محلّلة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب، ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه، بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم الله في مواضع كثيرة كقوله: « كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ».

أما الطيبات التي حرمها عليهم فهي ما بيّن في قوله عز اسمه « وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » الآية. وقد أبهمها الله هنا، لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة، لا بيانها في نفسها، كما أبهم الظلم الذي كان سببا في العقوبة، ليعلم أن أي نوع منه يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة.

والعقاب إما دنيوي كالتكاليف الشاقة زمن التشريع، والجزاء الوارد في الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها الله في نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء الأمم الأخرى عليها، وإما أخروي وهو ما بيّنه في الكتاب الكريم من العذاب في النار.

ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا، ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في الموعظة.

(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) الصدّ والصدود: المنع، وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا، وصدّهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة، أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم، والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب، فقد جاء في سفر الخروج (إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابى، لا تضعوا عليه ربا) وفى سفر تثنية الاشتراع (لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا شيء ما مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة، أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى.

وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داود في المزمور الخامس عشر: فضته لا يعطيها بالربا، ولا يأخذ الرشوة من البريء، وقول سليمان في سفر الأمثال (المكثر ماله بالربا والمرابحة، فلن يرحم الفقراء بجمعه) (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتدّ به.

ونحو الآية قوله تعالى: « سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ » والسحت: الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هي من عند الله.

وبعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها، والجرائم التي ارتكبوها، بين جزاءهم عليها في الآخرة فقال:

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل الله عذابا مؤلما في نار جهنم خالدين فيها أبدا.

وبعد أن بين في هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول في ذلك، وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال:

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أيلكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل، يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل، ولا يفرقون بين الله ورسله بهوى ولا عصبية.

روى ابن إسحق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.

(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان، إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به.

(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع، إذ إقامتها تستدعى إيتاء الزكاة، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة، إذ هي مما تزكى النفس وتعلى الهمة وتهوّن على النفس المال، قال تعالى: « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ » الآية.

(أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علّام الغيوب.

[سورة النساء (4): الآيات 163 الى 166]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)

المعنى الجملي

لا يزال الحديث مع أهل الكتاب، فإنه ذكر عنهم أوّلا أنهم يفرقون بين الله ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ثم انتقل إلى ذكر شيء من عنادهم وإعناتهم للنبي ﷺ وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وبيّن أنه لا غرابة في ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمّه ومحاولتهم قتله وصلبه، وفى كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم، ولولا ذلك لما شاغبوك، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدّعون الإيمان بمثله ممن قبلك - وهنا ختم الكلام في محاجتهم ببيان أن الوحي جنس واحد، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد ﷺ.

الإيضاح

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الوحي لغة: الإيماء والإشارة كما قال تعالى: « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا » والإلهام الذي يقع في النفس كما قال: « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ » وما يكون غريزة دائمة كما قال: « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ » والإعلام في خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال: « شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ».

ووحي الله إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.

والمعنى - إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم، والله لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد، لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وليس هو بالأمر المشاهد الحسي.

وقد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء، وقصص بعثته في سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ). الأسباط واحدهم سبط، وهو ولد الولد، وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا، وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل.

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا) الزبور: الكتاب وكل كتاب زبور، وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داود، وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب.

(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة، وهم الذين ذكرت أسماؤهم في السور المكية كقوله في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ».

وأجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.

(وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريقا.

وإنما لم يقص الله علينا خبرهم لأن القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته ﷺ كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى: « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » وقوله: « وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ » وكل هذا يثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل، وعلينا أن نعلم أن الله أرسل رسلا في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقوله: « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » وهذه حقيقة دل عليها الدين السماوي ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من حقائق جلّاها للناظرين بجميل بيانه، واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها، وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم.

(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا) خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين، وليس لنا أن نخوض في معرفة حقيقته، لأنا لم نكن من أهله، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضا، وكيف تحمل ذرّات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري.

والوحي إلى الأنبياء يسمى تكليما، والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى: « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ».

والحكمة في الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار في الشجرة.

والرسول الذي يرسله الله فيوحي بإذنه ما يشاء هو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين.

(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي أرسلنا رسلا قد قصصنا بعضهم عليك ولم نقصص بعضا آخر، ليكونوا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالثواب العظيم، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا إذا هم أجرموا أو كفروا بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: « وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى » وقال « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ».

والخلاصة - إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عند ما يحاسبهم الله ويقضى بعقابهم، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا في الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم.

والدّين وضع إلهي لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحي وهو موافق لسنن الفطرة في تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله في الدنيا والآخرة، ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.

(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي وكان الله عزيزا لا يغالب في أمر يريده، ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه، حكيما في جميع أفعاله، وحكمته تقضى هذا الامتناع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصرّوا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا.

(لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته ﷺ وعدم شهادتهم بها، وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به، لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدا له، فكأنه تعالى يقول لرسوله ﷺ: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك، لكن الله يشهد به.

ثم أكد هذه الشهادة فقال:

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به وأنه وحي من عنده.

والخلاصة - كأن الله تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشىء، فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحي وأنت على يقين منه، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.

(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا، لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين، وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبّتونك ويثبّتون المؤمنين في القتال كما في غزوة بدر، قال تعالى: « إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ».

(وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا) على ما شهد به لك، حيث نصب الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق، وقوله الحق « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ».

[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 170]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)

المعنى الجملي

بعد أن أزال سبحانه في الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة، في نبوة محمد ﷺ بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله - أنذر في هذه الآيات من يصرّ منهم على الكفر، ويستمر على الإعراض والظلم، وبيّن لهم سوء العاقبة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا) أي إن الذين كفروا بمحمد ﷺ والقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات في قلوبهم كقولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، قد ضلوا ضلالا بعيدا، لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالّا ويعتقد في نفسه أنه محق، ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال، فهو قد سار في سبيل الشيطان، وبعد عن سبيل الله، فلم يعد يفقه أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك، وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم، وسوء سيرتهم، وصدهم عن الصراط المستقيم - ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء، لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا في نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرئ قبيح الأفعال، وتهوى شر الخلال والأعمال - ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضادّ ذلك، من إيمان صحيح وعمل صالح يزكى النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب، ومن ثم قال تعالى.

(وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي وليس من شأنه أن يهدى أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم، فهي الطريق التي ينتهى إليها من دسى نفسه بالكفر والظلم، وأوغل في السير فيها طول عمره، واستمرأ الشرور والمفاسد، حتى هوت به إلى واد سحيق.

فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقضى لسنن الله وحكمته في خلق الإنسان.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

(خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء، والأبد: الزمن الممتد، وتأبد الشيء: بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا: أقام به ولم يبرحه، أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره، لأنه مقتضى حكمته وسننه، وليس بالعزيز على قدرته. وفى هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن الله لا يعبأ بهم ولا يبالي بشأنهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب وردّ شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا وعنادا - خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر، للإيماء إلى أن المحجة قد وضحت، والحجة قد لزمت، فلم تبق معذرة في الإعراض والصدّ عن اتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم، وقد كان اليهود ينتظرون من الله مسيحا ونبيّا بشر بهما أنبياؤهم، فقد جاء في الفصل الأول من إنجيل يوحنا - أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا (يحي عليه السلام) ليسألوه من هو؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة - فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا، قالوا: أأنت النبي؟ قال: لا - من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى ﷺ في التوراة في سفر تثنية الاشتراع، وعيسى في الإنجيل وغيرهما من الأنبياء.

(فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم، لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم، فإن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه في الأكوان، وهي عامة في جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره، وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار.

(وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة في جميع أفعاله وأحكامه، فهو لا يخفى عليه أمركم في إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم، ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات، فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى، وآثر الآخرة على الدنيا، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه، وأعرض عن أمره ونهيه، وحالف الشيطان وحزبه.

[سورة النساء (4): الآيات 171 الى 173]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)

تفسير المفردات

الغلوّ: مجاوزة الحد، وكلمته: أي لأنه حدث بكلمة « كن » من غير مادة معتادة، ألقاها إلى مريم: أي أوصلها وأبلغها إياها، وروح منه: أي لأنه خلق بنفخ من روح الله، وهو جبريل، الاستنكاف: الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا، والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه غرورا وإعجابا بها.

المعنى الجملي

بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وهم قد غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به - ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم، وهم قد غلوا في تعظيم عيسى وتقديسه، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.

الإيضاح

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها الله، فإن الزيادة في الدين كالنقص فيه، ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنصّ ديني متواتر، أو برهان عقلي قاطع، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شيء منها.

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ) إلى بني إسرائيل، وقد أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، وزهدهم في الدنيا، وحثهم على التقوى، وبشرهم بمحمد خاتم النبيين، وأرشدهم إلى الاعتدال في كل شيء، فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان.

(وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهو مكوّن بكلمته وأمره الذي هو « كن » من غير وساطة أب ولا نطفة، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا، فاستنكرت ذلك، إذ هي عذراء لم تتزوج فقال لها: « كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » فكلمة (كن) هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده.

وهو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى: « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » وكما قال في صفات المؤمنين « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ».

وآية الله في خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويّا بما نفخ فيه من روحه كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، فخلقهما كان بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وزعم بعض النصارى أن كلمة (منه) تدل على أن عيسى جزء من الله بمعنى أنه ابنه، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية، فقرأ له الواقدي قوله تعالى « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ » فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى - فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدي بصلة عظيمة وقد جاء في إنجيل متى (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس). وفى إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما في ذلك، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحلّ عليك).

وفي هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس، وبذلك حملت بيحيى، وكانت عاقرا، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس.

ومن هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصى عددهم، وأن عيسى خلق بوساطته، وكذلك يحيى، وكان خلقه من وجه آخر، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد، وهو الملك المسمى بروح القدس، أيدهم الله به رجالا ونساء، فلا يستفاد إذا من قوله: وروح منه، أنه جزء من الله، تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه.

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي فآمنوا بالله إيمانا يليق به، وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث، وأن كل ما في الكون مخلوق له، وهو الخالق له، وأن الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها، وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحي ليعلموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الآب والابن وروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد. فإن في هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء، واتباعا لعقيدة الوثنيين، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول، ولا يقبله أولو الألباب.

(انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاءوا بتوحيد الله وتنزيهه، فإن المسيح الذي سميتموه إلها يقول كما في إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات منزه عن التعدد، فليس له أجزاء ولا أقانيم، ولا هو مركب ولا متحد بشىء من المخلوقات.

(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم في المسيح إنه ابنه، أو إنه هو عينه، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا.

والتعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به في كلامهم، لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه، وهذا محال على الله تعالى، وإن أرادوا الابن المجازي لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى في ذلك، لأنه قد أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا، والمسيح من جملتها كما قال تعالى: « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا ».

ولا فرق في هذا بين الملائكة والنبيين، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أمّ كالملائكة وآدم، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده، وهو يتصرف فيهم كما يشاء.

(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي كفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه، فهو غني عن الولد، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه في حياته، ويقوم مقامه بعد وفاته، والله تعالى منزه عن كل ذلك.

عقيدة التثليث - منشؤها

اعلم أن عقيدة التثليث وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ في الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرّفوا فيها وأوّلوا، لتفيد ما ادّعوا، وبذا هدموا آيات التوحيد، وقد فصل ذلك علماء أوروبا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ، فقال البحاثة موريس في كتابه (الآثار الهندية القديمة) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثى.

وقال مستر فابر في كتابه (أصل الوثنية) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا، نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن (بوذه) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال مستر دوان في كتابه (خرافات التوراة) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس في تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث، وبذلك تم الثالوث المقدس، وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى - هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعهما روح القدس، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية، فاذهب يا فانى، يا صاحب الحياة القصيرة، ثم قال المؤلف: لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (كلمة) هو من أصل وثنى مصري دخل في غيره من الديانات المسيحية و(أبولوّ) المدفون في (دهلي) يدعى الكلمة، وفى علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يعلمه (بلاتو) قبل المسيح بسنين عدة (الكلمة هي الإله الثاني) ويدعى أيضا ابن الله البكر. وقال هيجين في كتابه (الانكلوسكسون) كان الفرس يسمون (متروسا) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس، وقال دوان: كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم (أو زمرد مترات. أهرمن). فأوزمرد الخلاق ومترات ابن الله المخلص والوسيط. وأهرمن الملك، والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر.

وقال صاحب كتاب (ترقى الأفكار الدينية) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا في تقديم الذبائح يرشّون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات (إشارة إلى الثالوث) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة، ولهم اعتناء بهذا العدد في جميع شعائرهم الدينية.

وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها، ونسخت بها شريعة المسيح التي هي التوراة، وظلموا المسيح بنسبتها إليه.

والخلاصة - إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص، فحوّلها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوّها، ونسخوا شريعة سماوية برمّتها، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها، فقد كانت ديانة زهد وتواضع، فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر، ديانة نسبوها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث، بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث، ولو لم يكن عندهم من النصوص في هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا في إنجيله لكفى من قوله عليه السلام (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص واضح في أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله). وقال مرقص في الفصل الثاني عشر من إنجيله: إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه، أول الوصايا: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد إلخ، فقال له الكاتب (جيدا) يا معلّم بالحق قلت، لأنه واحد وليس آخر سواه، فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له (لست بعيدا عن ملكوت السموات) ومن هذا النص يعلم أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل. [1]

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أيلن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبد الله لعلمه بعظمة الله وما يجب له من العبودية والشكر، ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له.

ومن هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا، ومنهم روح القدس الذي بنفخة منه خلق المسيح، ومن ثم استدل بها كثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء. إذ السياق في ردّ غلوّ النصارى في المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضى الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقى لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة، بل يكون لغوا لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى.

وقال آخرون إن الآية لا تدل على ذلك لأنها في معرض تفضيل هؤلاء الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها، مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.

وأيا كان فالتفاضل في هذا من الرجم بالغيب، إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة في إيمان ولا عملَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) أيومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى أنه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء، إذ يحشر الناس جميعا للجزاء، المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم في صعيد واحد كما ورد في الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه في ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح في النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام.

(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلما يستحقونه بحسب سنته أيضا، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا لأن رحمته سبقت غضبه، فهو يجازى المحسن على إحسانه بالعدل والفضل، ويجازى المسيء على إساءته بالعدل.

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب، إذ لا عاصم اليوم من أمر الله « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ».

[سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (175)

المعنى الجملي

بعد أن حاجّ أهل الزيغ والضلال جميعا، فحاجّ النصارى في الآية السابقة، وحاج اليهود في الآية التي قبلها، وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفى سور كثيرة غيرها، وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد ﷺ ظهور الشمس في رائعة النهار - نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلي يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم في حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية، ودعوته التشريعية، فإن أمّيّا لم يتعلم في مدرسة ولم يعن في طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمّار قومه ولا معاهد لهوهم، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعى في أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدّى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق - لهو برهان على عناية الله به، وتأييده إياه بوحيه وهديه.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور في الهداية للناس، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته، ثم لا يلبثون أن يشوّهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى.

ولما تغلغلت الوثنية في جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شيء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.

هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».

والخلاصة - إن محمدا النبي الأمي ﷺ كان برهانا على حقية دينه، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهي ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم في حاجة إليه في معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به في حياتهم الدنيا وينالوا به الخير في العقبى.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا) أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغي أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.

[سورة النساء (4): آية 176]

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

المعنى الجملي

بعد أن تكلم في أول السورة في أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول، والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين.

روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: « دخل علي رسول الله ﷺ وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صبّ علي فعقلت، فقلت إنه لا يرثنى إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث (يريد هذه الآية) ».

وروى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والنبي ﷺ في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي ﷺ حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه، فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدّثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله »

قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخرها وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اهـ.

الإيضاح

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الكلالة: ما عدا الوالد والولد من القرابة وقيل الإخوة من الأم، قال في لسان العرب - وهو المستعمل - والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شيء في التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه، فقل لهم جوابا عما سألتم عنه.

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هلك مات - أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك.

(وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى، ولا والد يحجبه عن إرثها، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فإن كان من يرث بالأخوّة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة، وكذا إن كن أكثر من ثنتين كأخوات جابر فقد كن سبعا أو تسعا والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذي فرض فرضه أوّلا.

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي وإن كان من يرثون بالأخوّة كلالة ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هي القاعدة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء في سدس أمهم لحلولهم محلها، ولولا ذلك لم يرثوا، إذ هم ليسوا من عصبة الميت.

(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي يبين الله لكم أمور دينكم التي من أولها تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا: أي لتتقوا بمعرفتها الضلال في قسمة التركات وغيرها.

(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم، وذلك شأنه في جميع أفعاله وأحكامه، فكلها موافقة للحكمة، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.

سورة المائدة

هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة، وقد روي في الصحيحين عن عمر: أن قوله تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم إلخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ».

وآياتها مائة وعشرون في العدّ الكوفي، ومائة وثنتان وعشرون في العد الحجازي، ومائة وثلاث وعشرون في العدّ البصري ووجه التناسب بينها وبين ما قبلها من وجوه:

1) إن سورة النساء اشتملت على عدّة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة والأمان، والضمنى عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجارة.

2) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرّمتها البتة فكانت متممة لشيء مما قبلها.

3) إن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شيء عن المنافقين والمشركين، وقد تكرر ذكر ذلك في سورة النساء وأطيل به في آخرها.

ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت بيا أيها الناس وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المكي، والثانية بيا أيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.

[سورة المائدة (5): الآيات 1 الى 2]

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)

تفسير المفردات

الوفاء والإيفاء: الإتيان بالشيء وافيا لا نقص فيه، قال تعالى: « وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ » والعقود واحدها عقد، وهو في الأصل ضد الحلّ ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض، ويستعمل في الأجسام الصّلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ويقال عقد اليمين وعقد النكاح: أي أبرمه كما قال تعالى « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » والبهيمة: ما لا نطق له، لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير، والأنعام: البقر والإبل والغنم. الحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج أو العمرة، وشعائر الله معالم دينه، وغلب في مناسك الحج واحدها شعيرة، والهدى ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هناك، وهو من النسك، والقلائد: واحدها قلادة وهو ما يعلق في العنق، وكانوا يقلدون الإبل من الهدى بنعل أو حبل أو لحا شجر ليعرف فلا يتعرض له أحد، آمّين: أي قاصدين، وفضلا: أي ربحا في التجارة ورضوانا: أي رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا، يجرمنكم: من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه: أي يكسبه ويفعله، وأصل الجرم قطع النمرة من الشجرة، والشنآن: البغض مطلقا، أو الذي يصحبه التقزّز من المبغوض.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) روى عن ابن عباس: أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد بها إلى عباده: أي ما أحلّ وما حرم، وما فرض وما حدّ في القرآن كله، لا غدر فيها ولا نكث، وقال الراغب: العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر. وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله في الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى: « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى » وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.

وأساس العقود في الإسلام هو هذه الجملة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفى بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرّشوة ونحو ذلك.

ثم شرع يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم فقال:

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحل الله لكم أكل البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما، إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم في الآية السالفة من هذه السورة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلخ.

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلى الصيد الذي حرمه الله عليكم: أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون في أرض الحرم، فلا يحل الصيد لمن كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله كالتّلبية ولبس المخيط.

والخلاصة - أحلّت لكم هذه الأشياء غير محلى الاصطياد ولا أكل الصيد في الإحرام.

(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الحكم القضاء: أي إن الله جل ثناؤه يقضى في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه، فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) شعائر الله ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدّها لكم.

والمعنى - يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاءون بل اعملوا بما بيّنه لكم، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج في أشهر الحج.

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم: أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة.

(وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تحلوا الهدى الذي يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى الله، وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه غصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه.

(وَلَا الْقَلائِدَ) ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى وهي البدن، وكأنه قال لا تحلوا الهدى مقلّدا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدى وأشرفه.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا قتال قاصدى البيت الحرام لزيارته، فتصدوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.

(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا) أي يطلبون ربحا في التجارة ورضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا، لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم.

وهذا كلام مع المشركين، كما روى عن قتادة أنه قال: هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم، وفى رواية أخرى عنه: والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وألا يعجّل لهم العقوبة.

ثم صرح بما فهم من قوله: غير محلى الصيد وأنتم حرم فقال:

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم، فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفى حال الإحرام فقط.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي ولا يحملنّكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم، لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، وقد كان المشركون صدّوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية، فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق.

ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفّى على النهي عن الاعتداء بقوله:

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) البر: التوسع في فعل الخير، والتقوى: اتقاء ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه، والإثم كل ذنب ومعصية، والعدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها.

وفي الحديث « البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس » رواه مسلم وأصحاب السنن، وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال: « أتيت رسول الله ﷺ فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت نعم » وكان قد جاء لأجل ذلك، فأخبره النبي ﷺ بما في نفسه وأجابه فقال: « استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ».

والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات في دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.

وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره، ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا في حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى).

وقلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله بالسير على سننه التي بينها لكم في كتابه وفى نظم خلقه، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه في خلقه، إذ لا محاباة ولا هوادة في عقابه، فهو لم يأمر بشىء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شيء إلا إذا كان ضارا، وكذلك بعدم مراعاة السنن، لأن لذلك تأثيرا في خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه في الغواية وينتهى به إلى سوء العاقبة.

وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء في بعض الآيات التصريح بذلك، وفى بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ».

[سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

الإيضاح

هذا شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهي عشرة أنواع:

(الأول الميتة) ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه: أي بدون فعل فاعل، ويراد بها في عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله. والحكمة في التحريم:

1) استقذار الطباع السليمة لها.

2) أن في أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها.

3) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها.

4) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه.

(الثاني الدم) والمراد به الدم المسفوح: أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا.

وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.

(الثالث لحم الخنزير) لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث، إذ أثبت أن له ضررا يأتي من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشر با وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة.

(الرابع ما أهلّ لغير الله به) الإهلال رفع الصوت، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبي إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى.

وحكمة التحريم في هذا أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.

ويدخل في ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبي أو ولي كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.

(الخامس المنخنقة) وقد روى ابن جرير في تفسيرها أقوالا فعن السدي أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك هي التي تختنق فتموت، وفى رواية عن الضحاك هي الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي التي تختنق إما في وثاقها أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.

وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهي داخلة في الميتة، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب في الجاهلية كانوا يأكلونها، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا.

والعبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.

(السادس الموقوذة) الوقذ: شدة الضرب، وشاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لاحدّ لها فتموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية.

والوقذ يحرم في الإسلام، لأنه تعذيب للحيوان، قال ﷺ: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به، وهي تدخل في عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية، ويدخل في الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما روى « أن رسول الله ﷺ نهى عن الخذف (الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمى باليد أو المخذفة أو المقلاع) وقال. إنه لا يفقأ العين ولا ينكى العدوّ ولا يحرز صيدا »

ففي هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل.

أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما في حكمه فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.

(السابع المتردّية) وهي التي تقع من مكان مرتفع كجبل، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت، وهي في حكم الميتة، لأنه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.

(الثامن النطيحة) وهي التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل في أمانتها.

(التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله، وأكله منه ليس بشرط للتحريم، إذ يكفى فرسه إياه وقتله في تحريمه.

وكان العرب في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله - وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع، وذلك هو - ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.

وخلاصة المعنى - ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفى في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه، وقد قال علي كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها.

(العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.

ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.

وخلاصة ما تقدم - إن الله تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان، ما دبّ منها على الأرض، وما طار في الهواء، وما سبح في البحر، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.

وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكن الفارق بينهما ما في هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع - إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.

ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال:

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام واحدها زلم: وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره وكانت الأزلام ثلاثة، كتب على أحدها « أمرني ربى » وعلى الثاني « نهاني ربى » والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال « حرّك » هذه الأزلام، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه « أمرني ربى » مضى لما أراد، وإن خرج المكتوب عليه « نهاني ربى » أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام، وهو: طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.

أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب في الجاهلية.

وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم « أمرني ربى » الله عز وجل، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به.

وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركي الجاهلية، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى، يقولون: « افعل » على واحدة « لا تفعل » على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.

ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد في هذا نص يجوّز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن. ورووا في ذلك حديث أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله ﷺ « كان يعجبه الفأل الحسن » وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.

والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله ﷺ ولا عن السلف الصالح.

وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.

والاستخارة التي وردت بها السنة هي التوجه إلى الله والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير في الإقدام أو في الترك، فإذا شرح الله صدره لشيء أمضاه.

وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول: « إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشى وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فبه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشى وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضنى به » قال ويسمى حاجته.

والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه إلى معصيته.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما يقر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

روى البيهقي في كتاب شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » يقول يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم، وهو عبادة الأوثان أبدا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) في اتباع محمد (واخشون) في عبادة الأوثان وتكذيب محمد.

والخلاصة - إن الله أخبر المؤمنين بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم، وأنه ينبغي لهم - وقد بدّلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى - ألّا يخشوا غيره، وقد عرفوا فضله وإعزازه لهم.

وإجمال المعنى - اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه، لما شاهدوا من فضل الله عليكم، إذ وفّى بوعده، وأظهره على الدين كله.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) في الآية بشارات ثلاث فسرها السلف بما سنذكره بعد:

روي عن ابن عباس أنه قال: لما كان النبي ﷺ واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعده حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتى فلم يحج معكم مشرك (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا).

وقد مكث رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه.

وروى ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا أنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخط أبدا:

وقال صاحب الكشاف: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد.

إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم.

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) يعني اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ » اهـ.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره وإلجاؤه إليه، والمخمصة: المجاعة تخمص لها البطون: أي تضمر، والمتجانف للإثم: المائل المنحرف إليه المختار له، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من المحرمات بسبب مجاعة تخمص لها البطون ويخاف منها الموت أو مبادئه حال كونه غير مختار للإثم، بأن يأكل منه ما يزيد على ما يمسك به رمقه، فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.

وفي معنى الآية ما جاء في سورة البقرة « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » أي فمن اضطر غير طالب له ولا متعدّ ومتجاوز قدر الضرورة فلا إثم عليه.

وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة وهي تقدّر بقدرها، وذلك نافع للمضطر أدبا وطبعا لأنه يمنعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر.

(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر فأكل في مجاعة لا يجد فيها غيره وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة، فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.

ولما كان الأصل في الأشياء الحلّ، لأن الله سخر لنا ما في الأرض جميعا لننتفع به، والمحظور علينا هو ما يضرنا، ولكن الناس يتصدّون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم، كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل الميتة والدم ونحوها من الخبائث وحرمت على نفسها بعض الطيبات من الأنعام بخرافات وأوهام باطلة كالبحيرة والسائبة ونحوهما - كانت الحاجة ماسة إلى بيان ما يحله الله تعالى مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال:

[سورة المائدة (5): الآيات 4 الى 5]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

تفسير المفردات

الطيب: ضد الخبيث، والجوارح: واحدها جارحة، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور، من الجرح بمعنى الكسب قال تعالى « وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » أي ما كسبتم، ومكلبين من التكليب وهو تعليم الكلاب وإضراؤها بالصيد، ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا، والمحصنات هنا الحرائر، وقيل العفيفات عن الزنا، والأجور: المهور، والمراد بالمحصنين الأعفّاء عن الزنا، مسافحين مجاهرين بالزنا، متخذي أخدان: مسرّين به، والخدن: الصديق يقع على الذكر والأنثى، حبط عمله: بطل ثواب عمله.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي « أن النبي ﷺ لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية فقرأها ».

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟

فنزلت الآيات.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) أي يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام؟

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) الطيبات ما تستطيبها النفوس السليمة الفطرة، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها فتأكلها باشتهاء وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى به غذاء صالحا، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضره غالبا، فما حرمه الله في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة للفطرة المعتدلة، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح والدم المسفوح، وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهما كه في أكل القاذورات.

والخلاصة - أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاف، وأحل لكم صيد الجوارح بشرط أن يكون الجارح الذي صاده مما أدّبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه.

أما الطيبات فهي ما عدا المنصوص على تحريمه كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما من شأنه أن يصاد منهما، فالبحر كل حيوانه يصاد، والبر يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير، لحديث ابن عباس « نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير »

وحديث أبى ثعلبة الخشني « كل ذي ناب من السباع فأكله حرام » رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم، أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه فإن أكلت منه فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور، لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السالفة.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي وسمّوا عليه عند إرساله كما روى ذلك عن ابن عباس لحديث عدي بن حاتم « إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل » والتسمية واجبة عند أبى حنيفة، ومستحبة عند الشافعي.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي واتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ولا تقدموا على مخالفته فتأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على نفسها، أو تطعموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان، فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه، واعلموا أن الله لا يضيع شيئا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها وتجازون في الدنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة في وقت واحد، فما أجدر حسابه أن يكون سريعا!.

وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة. وشدد في التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة، لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم، ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك. بيّن حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، لأنهم لما كانوا في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليها نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين كان هذا مظنّة التشديد في مؤاكلتهم ومنا كحتهم، كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب ونكاح نسائهم، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين في ذلك، بل تحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم فقال:

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي اليوم أحلّت لكم الطيبات على سبيل التفصيل بعد أن كانت حلالا بالإجمال، وصار حكمها مستقرا ثابتا.

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الطعام هنا الذبائح لأن غيرها حلال بأصله، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى أي وذبائح أهل الكتاب ممن أوتوا التوراة والإنجيل ودانوا بهما أو بأحدهما حلال لكم دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان.

وروى ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله، قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا، وقال أبو الدرداء - وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجيس أهدوه لها. أنأكل منه؟ اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم، وأمره بأكله.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه.

وفائدة ذكر ذلك بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، وليس كذلك إباحة المناكحة، فذكره للتميز بين النوعين.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).

المحصنات هنا الحرائر: أي وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من المؤمنات ونكاح الحرائر من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم مهورهن.

وتقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه في الحل، وتخصيص الحرائر بالذكر للحث على ما هو الأولى منهن، لا لأن من عداهن لا يحل، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح الإماء الكتابيات عند أبى حنيفة.

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) المحصنون: الأعفاء عن الزنا، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة مجاهرين بها، والمتخذو الأخدان: الذين يأتونها سرّا بالاختصاص بخدن من الأخدان، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة: أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا والتزمتم به حال كونكم أعفّاء عن الزنا جهرا وسرا، إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ويجعله في حصن يمنعه من الفاحشة على أي وجه كانت، فلا يزنى الرجل جهرة ولا سرا باتخاذ صاحبة خاصة به، ولا تكون المرأة كذلك.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بيّن هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك وبطل ثوابه وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح، وهو إيمان الإذعان والعمل.

روى ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم: يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره: ومن يكفر بالإيمان إلخ. فأحل الله تزويجهن على علم اهـ.

والمغزى من الآية تعظيم شأن ما أحله الله وما حرمه والتغليظ على من خالف ذلك.

[سورة المائدة (5): الآيات 6 الى 7]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

المعنى الجملي

اعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له سبحانه بالعهد الأول وبيّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة في الطعام والنكاح، طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.

وبعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى: « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ » أي إذا أردت قراءته، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا.

أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ. وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية في الصدر الأول، فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: « كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفّيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: عمدا فعلته يا عمر »

وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: « كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، قال قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث »

وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا « لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ »

فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي يتوضئون لكل صلاة، وإنما كان النبي ﷺ يتوضأ لكل صلاة غالبا، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك.

ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل، وإنما يجب على من أحدث. وآخر الآية يدل على ذلك، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.

والخلاصة - إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) الغسل (بالفتح) إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه واحدها وجه، وحدّه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، والأيدي واحدها يد، وحدّها في الوضوء من رءوس الأصابع إلى المرفق، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.

روى مسلم من حديث أبي هريرة: أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ.

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي يكفى أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة، وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط، وأوجب أبو حنيفة مسح الربع، لأن المسح إنما يكون باليد وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب. ولما روي « أن رسول الله ﷺ توضأ ومسح على ناصيته » (وهي مقدار الربع).

(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، ويؤيده عمل النبي ﷺ وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: « ويل للأعقاب من النار »

وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلّف عنا رسول الله ﷺ في سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النار » مرتين أو ثلاثا.

ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثنى سبعون من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ (كان يمسح على الخفين)

وقال الحافظ بن حجر: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال نعم. رأيت رسول الله ﷺ بال ثم توضأ ومسح على خفيه.

والخلاصة - إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة لمتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) الجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، والمراد به المضاجعة والوقاع: أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها وفى معنى الوقاع خروج المني بالاحتلام فهو جنابة شرعا، وفى الحديث « إنما الماء من الماء » رواه مسلم، أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأى سبب كان خروجه.

ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين، وكان المسلم لا بدّ له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك في اليوم، ولا بد له من الغسل في كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا - بين الرخصة في تركهما عند المشقة أو العجز، لأن الدّين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال:

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدري والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أي مرض يشقّ فيه استعمال الماء أو يضر.

(أَوْ عَلى سَفَرٍ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل.

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المكان المنخفض من الأرض، ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط، أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر.

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاث: المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه.

(ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية وفى غيرها حرجا ما، أي أدنى ضيق وأقل مشقة، لأنه تعالى غني عنكم رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم.

(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانا، وأزكاهم نفوسا، وأصحهم أجسادا، وأرقاهم أرواحا.

(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد، والصلاة تطهر الروح وتزكى النفس، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعوّد المصلى مراقبة ربه في السر والعلن، وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة التي جعلها الله شرطا للدخول في الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها، فما أجلّ نعم الله على عباده، وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه، ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله:

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة.

الحكمة في شرع الوضوء والغسل

للوضوء والغسل فوائد أهمها:

(1) أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى.

إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبى كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.

(2) أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم نرى الأطباء يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية في المبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا، لأن دينهم مبنى على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس.

(3) تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم، إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم، ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لأن يحضر مجالسهم ويشعر في نفسه بالضعة والهوان. ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس في المساجد لعبادة الله تعالى، روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي ﷺ قال « غسل الجمعة واجب على كل محتلم » أي بالغ مكلف.

وبعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكّرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال:

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا ﷺ على السمع والطاعة في المنشط والمكره (المحبوب - والمكروه) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك فيه فلا نعصيك في معروف، وكل ما جئتنا به فهو معروف.

وكل نبي بعث في قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة.

والدخول في الدين يعدّ قبولا لهذا العهد، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم.

واتقوا الله فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أكان في هذه الآيات أم في غيرها.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق من نية الوفاء به أو عدم الوفاء، وما تنطوى عليه السرائر من الإخلاص أو الرياء.

[سورة المائدة (5): الآيات 8 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

تفسير المفردات

القوّام بالشيء: هو القائم به حق القيام، شهداء بالقسط: أي شهداء بالعدل بلا محاباة، ولا يجرمنكم. أي ولا يحملنكم، والشنآن: العداوة والبغضاء، الخبير: العالم بالشيء على وجه الدقة والضبط، والجحيم: النار العظيمة، وهي هنا دار العذاب وأصحابها هم ملازموها، بسط إليه يده: بطش به، وبسط إليه لسانه: شتمه، والتقوى: هي اتقاء عقاب الله وسخطه بترك معاصيه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم وتحريم ما يضرهم من الطعام إلا في حال الضرورة، ثم ذكر حل طعام أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم - ذكر هنا ما ينبغي أن يكون من معاملتهم سواهم سواء أكانوا أعداء أم أولياء، ثم ذكر وعده لعباده الذين يعملون الصالحات ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات، وختمها بذكر المنة الشاملة، والنعمة الكاملة، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم، وكانوا على وشك الإيقاع بهم، ولكن رحمهم وكبت أعداءهم وردّهم صاغرين، ليكون الشكر أتم، والوفاء ألزم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالإخلاص لله في كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد، وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله.

(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه، وفى كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه، لأجل قرابة أو مال أو جاه، ولا تركه لفقر أو مسكنة.

فالعدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة لأي سبب زالت الثقة من الناس وانتشرت المفاسد، وتقطعت روابط المجتمع، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال، وتلك سنة الله في حاضر الأمم وغابرها، ولكن الناس لا يعتبرون.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب حق، أو الحكم لهم بذلك فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة، ويجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما.

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها، لأنه أقرب لتقوى الله والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوّض نظم المجتمعات، وتقطع الروابط بين الأفراد، وتجعل بأسهم بينهم شديدا.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي واتقوا سخطه وعقابه لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ظاهرها وباطنها، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل، وقد مضت سنته في خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل في الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد، وفى الآخرة الخزي يوم الحساب.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال التي يصلح بها أمر العباد في أنفسهم وفى روابطهم الاجتماعية، ومن أهمها العدل فيما بينهم وتقوى الله في جميع أحوالهم.

ثم بين سبحانه ما وعدهم به بعد أن ذكره أوّلا مجملا لتتوجه النفس للسؤال عنه حتى إذا جاء تأكد في النفس وتقرر هذا الوعد فقال:

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المغفرة الستر، والإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة فيغلب عليها حب الحق والخير وتكون أهلا للوصول إلى عالم القدس والطهر، والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح فضلا من الله ورحمة من لدنه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الكفر هنا هو الكفر بالله ورسله، لا فارق في ذلك بين كفر بالجميع وكفر بالبعض.

وآيات الله قسمان آياته المنزلة على رسله وآياتها التي أقامها في الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم « قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ » أي إن هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب في نار عظيمة أعدها الله لمن كفر وكذب بآياته، لأن نفوسهم قد فسدت، وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم، فأصبحوا صمّا عميا لا يبصرون. « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ».

روى من طرق عدة أن الآية نزلت في رجل من قبيلة محارب همّ بقتل النبي ﷺ أرسله قومه لذلك وكان بيده سيف وليس مع النبي ﷺ سلاح وكان منفردا.

روى الحاكم من حديث جابر قال: « قام على رأس رسول الله ﷺ وقال: من يمنعك؟ قال الله، فوقع السيف من يده فأخذه النبي ﷺ وقال: من يمنعك؟ قال كن خير آخذ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله قال: أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس ».

وفي رواية أخرى « إن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي ﷺ علّقه في شجرة وقت الراحة، فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي ﷺ، ثم سقط من يده فأخذه رسول الله ﷺ وقال من يمنعك مني؟ قال لا أحد، ثم صاح رسول الله ﷺ بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه ».

وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من المحن الكبرى التي تصيب المسلمين.

وقيل إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإسلام وعظمة شوكة المسلمين، فبعد أن كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم بدّل الله الحال غير الحال وأصبحوا أعزة بعد الذلة وغالبين بعد أن كانوا مقهورين، فهو سبحانه يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها سواء في ذلك حادثة المحاربي وأمثالها، لأن حفظه لأولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم، فالنبي ﷺ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدّوها لمن بعدهم قولا وعملا.

ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه في التأسى بالسلف في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر.

ومعنى قوله: إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء من قتل ونهب فكفّ الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما همّوا به.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته، لا على أوليائكم وحلفائكم، لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعي اليأس إذا اشتد البأس، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم، ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا همّ أن ييأس تذكر أن الله وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته ويفرّ منه اليأس فينصره الله ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 12 الى 14]

ولَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

تفسير المفردات

نقيب القوم: من ينقّب عن أحوالهم ويبحث عن شئونهم، ونقب عليهم نقابة صار نقيبا عليهم، والتعزيز: النصرة مع التعظيم، وأقرضتم الله: أي بذلتم المال فوق ما أوجبه عليكم، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس. سواء السبيل: وسطه، لعناهم: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. وقاسية: يابسة غليظة تنبو من قبول الحق. والتحريف: إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب. والخائنة: الخيانة. الإغراء. أصله التجريش، يقال أغرى الشيء بالشيء والمراد هنا تفرق الأهواء الموجب للعداوة والبغضاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكّرنا الله بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين ﷺ - بين لنا في هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، ومن عقابه لهم على ذلك، في الدنيا بضروب الذلة والمسكنة، وفى الآخرة بالخزي والعذاب، لنعتبر بحالهم، ونبتعد أن نكون على مثالهم، وليشرح لنا العلة في كفرهم بالنبي ﷺ وسبب تصدّيهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بني إسرائيل ليعملنّ بما في التوراة، وفيها شريعتهم التي اختارها لهم، ولا يزال هذا الميثاق في آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام.

(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) نقباء بني إسرائيل زعماء أسباطهم الاثني عشر، والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين سيأتي ذكرهم بعد.

روي أنه لما نجا بنو إسرائيل بعد هلاك فرعون، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم إني جعلتها لكم وطنا ودار هجرة فاخر جوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم، وأمر نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل له به النقباء وسار بهم، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يتحسسون الأخبار فرأوا أجساما قوية وشوكة وقوة فهابوهم ورجعوا وحدّثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا نقيبين، وهما اللدان قال فيهما « قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ » الآية، وسيأتي الكلام في ذلك بعد.

(وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي وقال الله هذا لموسى، وهو بلّغه عنه، ومعنى كونه معهم أنه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق، وهو راء لأفعالهم، سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم، وقادر على مجازاتهم.

(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لئن أدّيتم الصلاة على وجهها، وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم وآمنتم برسلي الذين أرسلهم إليكم بعد موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ونصرتموهم معظّمين لهم، وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغني مليء وفي لا يضيع عليه، بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه - لئن فعلتم كل هذا لأزيلنّ بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم من نفوسكم، فلا يبقى فيها رجس ولا خبث يقتضى العقاب، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ، ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرا من الشرك وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة.

(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه، أو عمل شيئا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتنابه معصيتى - فقد أخطأ الطريق الواضح وضلّ الصراط المستقيم الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه وتزكية نفسه ويجعله أهلا لجوار ربه في تلك الجنات.

ثم بيّن أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال:

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فبسبب نقضهم للميثاق الذي أخذ عليهم - ومن ذلك الإيمان بمن يرسلون من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم - استحقوا مقتنا وغضبنا والبعد من ألطافنا، فإن نقض الميثاق أفسد فطرتهم ودنس نفوسهم، وقسّى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم، ولإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، وحاولوا قتله وافتخروا بذلك - فبكل هذا بعدوا عن رحمة الله، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر في النفوس آثارا سيئة، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعى القوانين الصحية فهو لا شك سيصاب بالأمراض والأسقام، ولا يلومنّ حينئذ إلا نفسه، إذ كان هو السبب في ذلك بإهماله.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) تحريف الكلم عن مواضعه يكون: إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، وإما بتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له، وكل منهما قد وقع في التوراة وغيرها من كتبهم، فإن التوراة التي كتبها موسى، وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل بحفظها كما نص على ذلك في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع، قد فقدت باتفاق مؤرخى اليهود والنصارى عند سبى البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها، كما كان المسلمون يستظهرون القرآن في عهد النبي ﷺ.

وهناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى - فيها خبر كتابته التوراة وأخذه للعهد عليهم بحفظها، ولا شك أن هذا ليس منها قطعا، وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت، أي الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع، وفى هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح طويل من الزمن كما أن فيها كثيرا من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي.

لكل هذا حقق كثير من مؤرخى الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون، كتبها عزرا الكاهن بعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) روى عن ابن عباس أنه قال: نسوا الكتاب وعن مجاهد أنه قال: نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم، ومرادهما أنهم نسوا طائفة من أصل الكتاب، وقال بعضهم: نسوا الكتاب بترك العمل به.

وفي الحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عند ما أحرق البابليون هيكلهم وخرّبوا عاصمتهم وسبوا من بقي منهم حيا، فلما عادت إليهم الحرية جمعوا ما كانوا قد حفظوه من التوراة ووعوه وعملوا به.

وهذا من أعظم الأدلة على أن القرآن معجزة محمد ﷺ أثبتها التاريخ بعد بعثة النبي بعدة قرون من موت موسى.

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) الخائنة بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة أي إنك أيها النبي لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظننّ أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان، فمن نقض عهد الله وميثاقه فكيف يرجى منه وفاء؟ وكيف يطمع منه في أمانة؟

(إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله فلا تظننّ بهم سوءا ولا تخف منهم خيانة ولا خداعا.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي فاعف عما فرط من هؤلاء القليل، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه، وهذا رأى أبى مسلم، وقال غيره: فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه، إيثارا للاحسان والفضل على ما يقتضيه العدل.

وقد ثبت أن النبي ﷺ رغب عند ما دخل المدينة في مصالحة اليهود وموادعتهم فعقد معهم العهد على ألا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ولا يمالئوا عليه عدوّا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قريظة فنقضوا العهد وهمّوا بقتل النبي ﷺ فحلّ له قتالهم، ولكنه رجح السلم على الحرب واكتفى بطردهم من جواره وبعث إليهم « أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنونى وقد أجّلتكم عشرا فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه » فأقاموا يتجهزون أياما ثم ثبّط عزيمتهم عبد الله بن أبي وأرسل إليهم ألا تخافوا إن معى ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وكان رئيسهم المطاع حيي بن أخطب شديد العداوة للنبي ﷺ، وهو الذي زين لهم قتله والغدر به فركن إلى قول ابن أبي، وبعث إلى النبي ﷺ إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.

فعلم النبي ﷺ أنهم يريدون الحرب فخرج هو والمسلمون للقائهم يحمل لواءه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمونهم بالنبل والحجارة، ولما اشتد عليهم الحصار ورأوا ألا سبيل لهم إلى المقاومة رضوا بالخروج سالمين وعلموا أن وعد ابن أبي كان هو الغدر والخيانة بعينها، وقد كان النبي ﷺ قادرا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفى بإبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها، وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح، ورحلوا إلى خيبر.

وهذه الآية نزلت بعد هذا كله لأنها من آخر ما نزل، ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا واتباع رسلنا والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين، فبدلوا دينهم ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا.

(فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا في تفرقهم في الدين واتباع أهوائهم، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى في هذه الحياة، ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع أنه من أعمالهم الاختيارية، لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت في الخليقة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وسينبئهم الله عند الحساب في الآخرة بما كانوا صنعوا في الدنيا من نقض للميثاق، ونكث للعهد، وتبديل للكتاب، وتحريف للأوامر والنواهي، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون، ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة بين الله في هذه الآية أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسى اليهود، وسرّ هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكّرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته، وكان الذين اتبعوه من العامة، وأمثلهم حواريّه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في مطاردتهم في كل مكان، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدوّن ما حفظوه من الإنجيل إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سمّوها الأناجيل كانت كثيرة جدا، ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعوّل عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، عند ما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية وهي تاريخ ناقص للمسيح، على ما بها من تعارض وتناقض، مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ، وقد أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها (العهد الجديد) على أساس كتب اليهود التي يسمونها كتب العهد العتيق وقد علمت شأنها فيما سلف.

[سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، كما أخذه على هذه الأمة وأنهم نقضوا العهد والميثاق، وتركوا ما أمروا به، وأنهم أضاعوا حظا عظيما مما أوحاه إليهم ولم يقيموا ما حفظوا منه - دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد ﷺ وبالكتاب الذي جاء به.

وهذا البيان من دلائل نبوّته ﷺ، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة في تضاعيفه.

الإيضاح

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد ﷺ وأخفوا أمر الرجم، وعفا عن كثير مما أخفوه، فلم يفضحهم ببيانه اهـ.

أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول الله وخاتم النبيين يبيّن لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها، وقد أنزلها الله عليكم كحكم رجم الزاني وهو مما حفظتموه من أحكام التوراة كما هو ثابت في سفر التثنية، لكنكم لم تلتزموا العمل به وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي ﷺ فأقسم عليه وناشده الله فاعترف به، وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي ﷺ والبشارات به وحرفوها بالحمل على معان أخرى، إلى ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من أخبار الحساب والجزاء في الآخرة، وأظهره الرسول لهم، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى، إذ هم يعلمون أنه نبي أمي لم يطلع على شيء من كتبهم، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي ﷺ، وكان هذا البيان من دلائل نبوته ﷺ ومعجزات القرآن التي لا ينبغي أن يمترى أحد فيها، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا يخفونه، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه، فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا ومن شأن علماء السوء في كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه.

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) النور هو النبي ﷺ، وسمى بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات، كذلك لولا ما جاء به النبي ﷺ من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها أو نسيانه، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شيء منه أو تحريفه، ولظلّوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.

والكتاب المبين: هو القرآن الكريم وهو بيّن في نفسه، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.

(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

قوله: من اتبع رضوانه، أي من كان همه من الدين ابتغاء رضوان الله، لا تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال، والسلام بمعنى السلامة: أي طرق السلامة من كل مخافة، وقوله من الظلمات إلى النور: أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وقوله: بإذنه أي بإرادته أو بتوفيقه بالجري على سننه تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة في النفوس وإصلاحها إياها، وقوله: إلى صراط مستقيم، أي إلى الدين الحق لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته أما الباطل فمتعدد الطرق، وكلها معوجة ملتوية.

وقد ذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد:

1) إن المتبع لما يرضى الله بالإيمان بهذا الكتاب - يهديه إلى الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك، فيقوم في الدنيا بحقوق الله والحقوق الواجبة عليه لنفسه (روحية كانت أو جسدية) وللناس، ويكون في الآخرة منعما نعيما روحيا وجسديا.

وخلاصة ذلك: إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة.

(1) إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان - إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدي الخلق خاضعا للخاللق وحده.

(2) إنه يهدى إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان

[سورة المائدة (5): الآيات 17 الى 19]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب عامة بين ما كفر به النصارى خاصة

الإيضاح

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المسيحيون في هذا العصر فرق ثلاث: الكاثوليك والأرثوذ كس والبروتستانت (أي إصلاح النصرانية) وهذا المذهب الأخير حدث من نحو أربعة قرون وصار هو المذهب السائد في أعظم الأمم مدنية وارتقاء كالولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا، وقد أزال هذا المذهب كثيرا من التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله واستبدل بها تقاليد أخرى، ومع كل هذا فهؤلاء المصلحون لم يستطيعوا أن يرجعوا المسيحية إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح ودين سائر الأنبياء، فلا يزالون يقولون بالتثليث ويعدون الموحّد غير مسيحى كما تقول بذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان.

وجميع فرق النصارى في هذا العصر تقول: إن الله هو المسيح بن مريم وإن المسيح ابن مريم هو الله، ولكن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة إذ كان بعضهم يفسر الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة والقول بها لا ينافى توحيد الخالق كما أنه يوجد الآن في نصارى أوربا وغيرهم موحدون يعتقدون أن المسيح نبي ورسول لا إله.

قال الدكتور بوست البروتستانتي في تاريخ الكتاب المقدس (طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفدى، وإلى الروح المقدس التطهير. غير أن هذه الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء).

والعمدة عندهم في هذه العقيدة عبارة جاءت في إنجيل يوحنا وهي (فى البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة) وقد فسروا الكلمة بالمسيح فيصير معنى الفقرة الثالثة من إنجيل يوحنا (والله هو المسيح بن مريم) وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم.

ولا شك أن هذه العقيدة وثنية أخذت عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثنيي الشرق والغرب.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا؟) أي قل أيها النبي الكريم لهؤلاء النصارى: من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعا إن أراد أن يهلكهم ويبيدهم؟

وخلاصة هذا - إن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يستطيع أحد أن يردّ إرادته، لأنه هو مالك الملك الذي يصرّفه بمقتضى مشيئته وإرادته، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟

ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال:

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه وأهل الأرض قاطبة؟ فهو صاحب الملك المطلق والتصرف في السموات والأرض وما بينهما أي وما بين العالمين العلوي والسفلي بالنسبة إليكم.

ثم دفع شبهة تحوك في صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال:

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي إن تلك الشبهة التي عرضت لكم وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله - هو أنه خلق على غير السنة العامة وأنه عمل أعمالا عجيبة لا تصدر من عامة البشر، فالله له ملك السموات والأرض، ويخلق الخلق على مقتضى مشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى، وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض، ولا على ألوهية لبعضها، ولا حلول الإله الخالق فيها، فسنة الله في خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها وربّا، لأن هذه المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبقدرته يخلق ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى، وتارة بدون أب ولا أم كما في آدم، وأخرى من أم ولا أب له كما في عيسى عليه السلام.

والخلاصة - إن كل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعدّ بعضه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون عن علم كسبي يجهله غيرهم، أو عن تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.

روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ ابن أبي وبحري بن عمرو وشاس بن عدى من اليهود فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته فقالو: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كما قالت النصارى ذلك فأنزل الله فيهم:

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إلى آخر الآية، وقد جاء إطلاق هذا اللفظ (أبناء لله) في الإنجيل على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين كما حكاه متّى في وعظ المسيح على الجبل من قوله: (طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون) وكقول بولس في رسالته إلى أهل رومية (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فألئك هم أبناء الله) ومن هذا يعلم أن (ابْنُ اللَّهِ) يستعمل في كتبهم بمعنى حبيب الله الذي يعامله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم، ولكن النصارى تحكموا في هذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي للمسيح، وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين.

وقد رد الله عليهم بقوله لنبيه:

(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي قل لهم أيها النبي إذا كان الأمر كما زعمتم، فلم يعذبكم الله بذنوبكم في الدنيا كما ترون؟ من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر، ولبلدكم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملككم من الأرض، والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذا أبناء الله ولا أحباؤه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق، والله سبحانه لا يحابى أحدا، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فكل هذا لا يجزيكم فتيلا ولا قطميرا وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح وصالح الأعمال، فالجزاء إنما يكون عليها، لا على الأسماء والألقاب:

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إنه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى علمه وحكمته وعدله وفضله، وجميع المخلوقات عبيد له، لا أبناء ولا بنات « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا » وفى ختمها بقوله « وإليه المصير » إشارة إلى أنه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة، وأنهم عند ما يصيرون إليه يعلمون أنهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء ولا أحباء يحابون.

وقد كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميّزهم عن سائر البشر، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم وإن كان أصح منهم إيمانا وأصح أعمالا، ولا ينبغي أن يتبعوا محمدا ﷺ، لأنه عربي لا إسرائيلي، والفاضل لا يتبع المفضول، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء، والنصارى قد زادوا عليهم غرورا فهم قد ادّعوا أن المسيح فداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي ويخاطبون الله تعالى بلقب الأب.

وقد جاهد النبي ﷺ غرور اليهود جهادا عظيما ولم يجد ذلك فيهم شيئا فرفضوا دعوته وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة الله وبه تنال تزكية النفس وإصلاحها كما جاهد صلف النصارى وكبرهم، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادا وظلما وعدوانا بشهادة المؤرخين، ومع كل هذا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم ليسوا في حاجة إلى إصلاح دينهم ولا دنياهم كما فعل اليهود مثل ذلك.

والخلاصة - إن هذه الآيات تبين لنا سنة الله في البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي قد جاءكم رسولنا الذي بشّرتم به في كتبكم وأخبركم به أنبياؤكم، فقد جاء على لسان موسى (أنه سيقيم نبيا من بنى إسماعيل إخوتكم) وعلى لسان عيسى (أنه سيجيئ البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شى ء) وفى الإنجيل الرابع إن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين (أحبارا) فسألوا يوحنا عليه السلام: أأنت المسيح؟ قال: لا. أأنت إيليا؟ قال: لا. أأنت النبي؟ قال: لا.

هذا الرسول هو محمد بن عبد الله النبي الأمي يبين لكم على فترة من الرسل أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحي - جميع ما أنتم في حاجة إليه من أمور دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها عليكم نزغات الوثنية، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم في الأمور المادية والروحية، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع.

ويدخل في ذلك ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم، ولولا أنه رسول من عند الله لما تسنى له أن يعرف شيئا مما جاء به.

وقد أرسل - صلوات الله عليه - وقد فشا التغيير والتحريف في الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، فاختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات، إذ لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكن كيف نعبدك؟ فبعث الله محمدا ﷺ في ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله:

(أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي إننا إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين.

ثم بين أنه أزال هذا العذر فقال:

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية، وأنها منوطة بالإيمان والأعمال، وأن الله لا يحابي أحدا.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن دلائل قدرته نصر نبيه ﷺ وإعلاء كلمته في الدنيا، وفى ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوي الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة في الدار الآخرة.

روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله ﷺ يهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهودا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية.

[سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 26]

وإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

المعنى الجملي

بعد أن أقام سبحانه الحجة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه ﷺ بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال غرورهم، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرا وعنادا - قص علينا في هذه الآيات خبرا من أخبارهم مع موسى عليه السلام، وهو المنقذ لهم من الرقّ والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال، لكنهم مع هذا كله كانوا يخالفونه ويعصون أوامره - ليعلم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكابرتهم للحق خلق من أخلاقهم، توارثوها من أسلافهم، وتأصلت في طباعهم، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك، وصدوا عن هديك - وفى هذا من تسلية النبي ﷺ ما لا يخفى، إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم، وسنن الاجتماع البشرى.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم لبني إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له، لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى: « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »

وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد كما قال تعالى « وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ».

وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها في ثلاثة أشياء:

(1) وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا، أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهرون ومن كان قبلهما، وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء، والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما في التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام.

(2) أنه جعلهم ملوكا، والمراد من الملك هنا الحرية في تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم، وفى هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى، يؤيد هذا ما رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا « كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا » وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم « من كان له بيت وخادم فهو ملك ».

ولا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف في سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا في معيشته مالكا لمسكنه (هذا ملك - أو ملك زمانه) يريدون أنه يعيش عيشة الملوك.

(3) أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، أي عالمى زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأظل فوقهم الغمام.

وبعد أن ذكّرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم - أمرهم بمجاهدة العدو، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال:

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) المقدسة المطهرة من الوثنية، لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد، روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات، وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية، والباقي باسم فلسطين، أو بلاد المقدس، أو الأرض المقدسة، أو أرض الميعاد، لأن الله وعد بها ذرية إبراهيم، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب.

فقول موسى: كتب الله لكم، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أن المراد أنها تكون كلها ملكا لهم لا يزاحمهم فيها أحد، لأن هذا مخالف للواقع، ولن يخلف الله وعده، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح.

ونص هذا الوعد في سفر التكوين من التوراة إنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال: (لنسلك أعطى هذه الأرض) وجاء فيه أيضا في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لا نرجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد في الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء، فإن في هذا الرجوع خسرانا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها، وقد جاء في بعض أوصافها (إنها تفيض لبنا وعسلا) وتعاقبون بالتيه أربعين سنة ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الجبار لغة: الطويل القوي المستكبر العاتي المتمرد الذي يجبر غيره على ما يريد من قولهم: نخلة جبارة، أي طويلة لا ينال ثمرها بالأيدي. إن سكان تلك البلاد في ذلك الحين هم بني عناق، وكانوا أولي قوة وبأس، طوال القامة ضخام الأجسام، وقد ورد في وصفهم في الإسرائيليات من الخرافات التي كان يبثها اليهود في المسلمين ما لا يصدقه العقل ولا ينطبق على ما عرف من سنن الله في خلقه كقولهم: إن العيون (الجواسيس) الاثني عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم في كسائه، وفى رواية أخرى إن أحدهم كان يجني الفاكهة فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضعه في كمّه مع الفاكهة - إلى نحو أولئك من روايات بعيدة عن الصدق، فالمصريون هم هم، ونسل الكنعانيين مشاهد معروف لا يمكن أن تكون أصوله على ما وصفوا.

وهذه القصة مبسوطة في السفر الرابع من أسفار التوراة ففيها: إن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا وأنهم قطعوا في عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شيء من الرمان والتين، وقالوا لموسى وهو في ملأ بني إسرائيل: قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها فإذا هي بالحقيقة تدرّ لبنا وعسلا وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء، والمدن حصينة عظيمة جدا، ورأينا ثمّ أيضا بني عناق - إلى أن قال: وقد رأينا ثمّ من الجبابرة، جبابرة بني عناق، فصرنا في عيوننا كالجراد، وكذلك كنا في عيونهم - وذكر في فصل آخر: تذمّر بني إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض، وأنهم بكوا وتمنّوا لو أنهم ماتوا في أرض مصر أو في البرّيّة وقالوا: لماذا أتى الرب إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة، أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر؟ إلخ.

والخلاصة - إن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها، وإنهم لما غلب عليهم من الضعف والذل واضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم، أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد وحاولوا الرجوع إلى مصر وقالوا لموسى: إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها، وقولهم (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) تأكيد لما فهم مما قبله مشعر بأنه لا علة لا متناعهم إلا ما ذكروه.

وفي إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف وحور العزيمة، وعلى أنهم لا يريدون أن يأخذوا شيئا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية، ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم ولا أن يجلبوا لها الخير، بل يريدون أن يعيشوا بالخوارق والآيات ماداموا في هذه الحياة ولا شك أن أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال، وتحيا حياة العز والكرامة، وتكون ذات تصرف مطلق في شئونها، ومن ثمّ لم تفم لها دولة بعد « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) قوله: يخافون أي يخافون الله تعالى، وقوله: أنعم الله عليهما أي بالطاعة والتوفيق لما يرضيه، حتى في حال الخوف والذّعر، والتوراة وتبعها المفسرون قاطبة على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنة، وأنهما كانا يحثّان القوم على الطاعة ودخول أرض الجبارين، ثقة بوعد الله بالنصر وتأييده إياهم.

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ادخلوا عليهم باب المدينة فإذا فعلتم ذلك نصركم الله وأيدكم بروح من عنده، بعد أن تعملوا ما في طاقتكم من طاعة ربكم وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم، إن كنتم مؤمنين بأن وعد الله حق، وأنه قادر على الوفاء به، وإنما جزم هذان الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا، ثقة بنبوّة موسى، وهو قد أخبرهم بأن الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدو.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي إنهم أصروا على العناد والتمرد، ولم تغن عنهم عظات الرجلين شيئا، فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون، لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال، إذ ليسوا من أهله، فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا هاهنا قاعدون منتظرون.

وهذا القول الذي صدر منهم بدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشّغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا، وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه - إني لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره (المحبوب والمكروه).

وفي هذا إيماء إلى أنه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما في الطاعة إذا أمر الله بدخول أرض الجبارين والتصدّى لقتالهم، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل، فلما رأى من بلائه معه في مقاومة فرعون وقومه، ولسياسة أمور بني إسرائيل عند مناجاة ربه، ولما يعلم من تأييد الله له بمثل ما أيده به (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفرق: الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا (يريد نفسه وأخاه) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا، فتحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا، وقيل إن المعنى: إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم في الدنيا.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) التيه: الحيرة، يقال تاه يتيه: إذا تحيّر ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها، والتحريم: المنع أي قال الله لموسى مجيبا دعوته: إن الأرض المقدسة محرمة على بني إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا، مدة أربعين سنة يتيهون فيها في الأرض: أي يسيرون فيها في برّية تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الأسى: الحزن، يقال أسيت عليه أسى وأسيت له أي فلا تحزن عليهم، لأنهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهي جاء في الفصل الرابع من سفر العدد أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم، سقط موسى وهرون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع وكالب مزّقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهمّ الشعب برجمهما وطهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع (وقال الرب لموسى: حتى متى يهيننى هذا الشعب؟ حتى متى لا يصدقوننى بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك شعبا أكبر وأعظم منهم) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، فقبل الرب شفاعته ثم قال (إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفى البرية وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي، لن يروا الأرض التي خلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها) واستثنى الرب كالبا فقط، ثم قال (أنا الرب قد تكلمت، لأفعلنّ هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي، في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون).

وإن في هذا العقاب الإلهي لعبرة لأولى الألباب، يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستعباد تذهب أخلاقها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة وتأنس بالمهانة، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعا خلقية لها، فإذا خرجوا من بيئتهم ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد حنّوا إلى ما كانوا فيه، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه، وهذا شأن البشر في جميع ما يألفون، ويجرون عليه من خير وشر.

وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلّفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنّون إلى العودة إليها، وحين غاب عنهم لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليّهم وعبدوه، وكان الله يعلم أن نفوسهم ميتة لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية، ونشأ بعده جيل جديد يعيش في حرية البداوة وعدل الشريعة.

وعلى هذه السّنّة العادلة أمر الله بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله، لكنهم أبوا واستكبروا فأخذهم بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته في الاجتماع.

[سورة المائدة (5): الآيات 27 الى 32]

واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

تفسير المفردات

التلاوة: القراءة، ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى، والنبأ: الخبر الذي يهتمّ به لفائدة ومنفعة عظيمة، والقربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وهو في الأصل مصدر، فلهذا يستوى فيه الواحد وغيره، وبسط اليد إليه: مدها ليقتله، البوء. اللزوم، وفى النهاية لابن الأثير: أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي: أي ألتزم وأقر، فطوعت: أي فشجعت وزيّنت، والسوءة: ما يسوء ظهوره، والويل: حلول الشر، والويلة: الفضيحة والبلية: أي وافضيحتاه، والأجل: في الأصل الجناية، يقال أحل عليهم شرا: أي جنى عليهم جناية، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتّسع فيه فاستعمل في كل سبب، والبينات: الآيات الواضحة، والإسراف: البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه حسد اليهود للنبي ﷺ، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البرهانات الدالة على صدقه وكثرة الآيات المثبتة لنبوته حتى همّ قوم منهم أن يبسطوا أيديهم لقتله وقتل كبار أصحابه، كما ذكر ذلك في قوله: « إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ » ذكر هنا قصة ابني آدم بيانا لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي ﷺ، وحملهم على عداوته عريقا في الآدميين وأثرا من آثار سلفهم كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر، فلا تعجب من حالهم بعد هذا، فإن لهم أشباها ونظائر في البشر كابنى آدم، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء وقتل الأخ أخاه وبذر تلك البذور السيئة في بنى آدم إلى قيام الساعة.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) جمهرة العلماء على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه، وفى سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم، اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر، وسماه المفسرون والمؤرخون من المسلمين قابيل وهو القاتل، واسم الثاني هابيل وهو المقتول، وقد ذكروا روايات غريبة عنهما لا تعرف إلا من الوحي، وفى وصف الله تعالى ما قاله « بالحق » دليل على أن ما يلوكه الناس سوى ذلك فباطل.

أي واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وغيرهم من الناس ذلك النبأ العظيم نبأ ابني آدم تلاوة كاشفة للحق، مظهرة له مبينة لغرائز البشر وطبائعهم، وهي أنهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضى إلى التحاسد والبغي والقتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله في عقاب البغاة من الأفراد والجماعات، ويفقهوا أن بغى اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم في شيء، وإنما ذاك للحسد والبغضاء، فما مثلهم إلا مثل ابني آدم، إذ حسد شرّهما خيرهما، فبغى عليه فقتله، وكان مآله ما بينه الله في الآيات بعد:

(إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) أي اتل عليهم نبأهما وقت تقديم كل منهما القربان وما تبعه من البغي والعدوان، فتقبل الله من أحدهما قربانه لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه به، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص، ولم يبين لنا سبحانه كيف علما أنه تقبّل من أحدهما دون الآخر، وربما كان ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام.

روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع فقرب شر ما عنده وأرداه، غير طيّبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيّبة به نفسه، كما روى عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجىء النار من السماء لتأكله ولا تأكل غير المقبول، وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق به.

والقرابين عند اليهود أنواع:

(منها) المحرّقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب.

(ومنها) التقدمات من الدقيق والزيت والألبان.

(ومنها) ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى.

والقربان عند النصارى ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة.

والقربان عند المسلمين اسم لذبائح النسك كالأضاحى وغيرها.

(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أي إنّ من لم يتقبل منه توعّد أخاه وحلف ليقتلنه، فأجابه الآخر أحسن جواب.

(قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال إلا ممن يتصف بتقوى الله والخوف من عقابه باجتنابه الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء.

وخلاصة جوابه - إننى لم أذنب إليك ذنبا تقتلنى به، فطن كان الله لم يتقبل قربانك فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك، فإن الله إنما يتقبل من المتقين، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك، قال تعالى: « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » وفى الحديث: « إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب ».

وفي هذا من العبرة ما كان ينبغي أن يتعظ به المراءون الذين يبغون بما يتصدقون به الصيت واجتلاب الثناء من الناس وحسن الأحدوثة.

ثم بين سبحانه ما يجب للناس من احترام الدماء وحفظ الأنفس ولا سيما بين الإخوة فقال:

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي إن مددت يدك لتقتلنى فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسيئة مثلها فذاك لا يتفق مع شمائلي وصفاتي، إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافي تقوى الله والخوف من عذابه وهذا ما عناه بقوله:

(إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إني أخاف الله وأخشى أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق، وهو رب العالمين الذي يغذّيهم بنعمه، ويربّيهم بفضله وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية.

ولا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية، وليس في الكلام ما يدل على عدم الدفاع البتة، ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل، وقد روى أحمد والشيخان وغيرهم قوله ﷺ « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه ».

ثم قفّى على عظته البالغة، ونصائحه النافعة بالتذكير بعذاب الآخرة، من قبل أن الوعظ لا يؤثر في كل نفس فقال:

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إني أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمى وإثمك أي بإثم قتلك إياي، وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك، وروى هذا عن ابن عباس.

وقيل إن المراد - أن القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوى حقه إن كانت له حسنات توازى ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازى ذلك إن كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار.

(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فتكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة جزاء ظلمك، والنار جزاء كل ظالم.

وقد سلك في عظته وجوها تأخذ بمجامع اللب، ويرعوى لها فؤاد المنصف، فقد تبرأ من كونه سببا في حرمانه من تقبل القربان، لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى. ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الله، ثم إلى تذكيره بأن المعتدى يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنها مثوى الظالمين.

ثم أبان سبحانه أن المواعظ لم تجد فيه فتيلا ولا قطميرا، فماذا تغنى الزواجر والعظات في نفس الحاسد الظالم؟ فقال:

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) أي إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر في العاقبة، والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك، فحينئذ يقتل إن قدر.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا قد قتل أبر الناس به وهو الأخ التقى الصالح، وخسر لآخرة لأنه لم يصر أهلا لنعيمها الذي أعد للمتقين.

ثم بين أن الإنسان قد يستفيد من تجارب سواه فقال:

(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لما كان الإنسان في أعماله موكولا إلى كسبه واختياره، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بنى آدم - لم يعرف القاتل كيف يوارى حثه أخيه مقتول الذي يسوؤه أن يراها بارزة للعيان، وفى ذلك دليل على أن الإنسان في نشأته الأولى كان ساذجا قليل المعرفة، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا وتنمية لمعارفه وعلومه، وقد أعلمنا الله أن القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب فإنه تعالى بعث غرابا إلى ذلك المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء كالطعام ونحوه فأحدث حفرة في الأرض فلما رآها القاتل - وقد كان متحيرا في مواراة أخيه زالت الحيرة واهتدى إلى دفنه في حفرة مثلها.

وقوله ليريه: أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن، وحين رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض، تعلم منه سنة الدفن وظهر له جهله وضعفه، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنه:

(قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي قال وا فضيحتي أقبلي فقد آن الأوان لمجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئا ثم يتبين له خطأ فعله وسوء عاقبته.

روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه « لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل ».

والندم الذي يكون توبة هو ما يصدر من الشخص خوفا من الله وحسرة على تعدى حدوده، وهو الذي عناه النبي ﷺ بقوله: « الندم توبة » رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.

ثم ذكر نتائج هذا القتل فقال:

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) أي إنه بسبب هذا الجرم الفظيع والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا فرضنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه في قوله « وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » الآية، أو قتل نفسا بغير سبب فساد في الأرض يسلب الأمن والطمأنينة وإهلاك الحرث والنسل كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس ونهب الأموال أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا، إذ الواحد يمثل النوع، فمن استحل دمه بغير وجه حق استحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، أي فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا ».

(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) أي ومن كان سببا في حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا، لأن الباعث له على الإنقاذ - وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية والوقوف عند حدود الشرائع - دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك لا يدخر وسعا ولا ينى في ذلك.

وفي الآية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع والابتعاد عن ضرر كل فرد، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع، والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له في الشرع قيام بحق الجميع، وتقدم أن قلنا إن القرآن كثيرا ما يشير إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين منها إلى المتأخرين ويشير إلى أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم.

وقد وردت قصة ابني آدم في الفصل الرابع من سفر التكوين، فقد جاء فيه: إن قايين لما قدّم للرب من ثمرات الأرض وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ قايين وقتل هابيل فسأله الرب عنه: أين هو فأجاب: لا أعلم، هل أنا حارس لأخي، فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض، فندم واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده، فقال له الرب لذلك: كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده، فخرج قايين من لدن الرب وسكن في أرض نود شرقي عدن.

ثم ذكر أن بني إسرائيل غلاظ القلوب مسرفون في القتل وفى غيره مع كثرة مجىء الرسل لهم فقال:

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي ولقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، المؤكدة لوجوب مراعاته والمحافظة عليه، فلم تغن عن الكثير منهم شيئا، إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهّر أخلاقهم، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم في أمر القتل يسرفون فيه وفى سائر ضروب البغي والعدوان.

والعبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر، ولا يزال هو أسّ المفاسد في المجتمع، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبا أو جنسا أودينا فيبغى عليه ولو بما فيه ضرر له ولهذا المحسود.

والأمة التي تنتشر بين أفرادها هذه الرذيلة قلما تتوجه همم أبنائها إلى ما يرقى شأنهم بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم في سائر مرافق الحياة فيصبحون عبيدا لسواهم بعد أن كانوا سادة، وأذلاء بعد أن كانوا في عزة وبلهنية من العيش.

[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

تفسير المفردات

المحاربة: من الحرب ضد السلم، والسلم: السلامة من الأذى والضرر والآفات والأمن على النفس والمال، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، وحربية الرجل: ماله الذي يعيش به، والفساد: ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا يقال إنه فسد، ومن كان سببا لفساد شيء يقال إنه أفسده، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك إفساد في الأرض، والتقتيل: المبالغة في القتل بكونه حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولى الدم، والتصليب المبالغة في الصلب أو تكرار الصلب كما قال الشافعي: يصلب بعد القتل ثلاثة أيام بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف: معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس، والنفي من الأرض: النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام أو بعض بلاد الكفر، والخزي: الذل والفضيحة، ومن قبل أن تقدروا عليهم: أي من قبل التمكن من عقابهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فظاعة جرم القتل، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا - ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الآيتين نزلتا في عكل وعرينة، فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس « أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي ﷺ وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة (وجدوها رديئة المناخ) فأمر لهم النبي ﷺ بذود (بضع من الإيل) وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبي واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي ﷺ فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسّمروا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم »

زاد البخاري أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس قال: « بلغنا أن النبي ﷺ بعد ذلك كان يحثّ على الصدقة وينهى عن المثلة »

وروى أبو داود والنسائي عن أبي الزناد « أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك فأنزل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآية.

الإيضاح

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر - عقابهم ما سيذكر بعد على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم لكل منها ما يليق بها من العقوبة.

وقد جعل هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله، لأنه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق كما قال تعالى في المصرّين على أكل الربا « فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ».

فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة يعدوا محاربين لله والرسول، ويجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك كما فعل أبو بكر بمانعى الزكاة، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكفّ عنه، وقوله: ويسعون في الأرض فسادا أي يسعون فيها سعى فساد أي مفسدين لما صلح من أمور الناس في نظم الاجتماع وأسباب المعاش.

وجمهور العلماء على أن الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين كما تدل على ذلك حادثة العرنيّين الذين خدعوا النبي ﷺ والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم، وقد عاقبهم النبي ﷺ بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ».

ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط:

(1) أن يكون معهم سلاح وإلا كانوا غير محاربين.

(2) أن يكون ذلك في الصحراء فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثّورى وإسحق.

(3) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذا إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا، لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.

والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة: إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، وفوض لأولى الأمر الاجتهاد في تقدير العقوبة بقدر الجريمة.

والحكمة في عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان وضررها يختلف كذلك، فمنها القتل ومنها السلب ومنها هتك الأعراض ومنها إهلاك الحرث والنسل أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.

وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل، ويجوز لولى الأمر العفو وترك القصاص، فغلظ ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتما لاهوادة فيه ولا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به قطع اليد اليمنى في غير قاطع الطريق فغلظ في قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع في حقهم بين القتل والصلب، لأن بقاءهم مصلوبين في ممر الطرق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجرا لغيرهم على الإقدام على مثل هذه المعصية، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض.

ثم بين آثار هذه العقوبة في الدنيا والآخرة فقال:

(لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ذلك الذي ذكر من عقابهم - ذل لهم وفضيحة في الدنيا ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين، ولهم في الآخرة عذاب عظيم بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس نفوسهم وتدسيتها وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.

ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب فقال:

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعاثوا في الأرض فسادا إلا من تابوا إلى الله وأنابوا من قبل أن يتمكن منهم الحاكم ويقدر على عقوبتهم، فإن توبتهم حينئذ وهم في قوة ومنعة جديرة بأن تكون توبة خالصة لله صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا، وإذا فهم قد تركوا الإفساد ومحاربة الله ورسوله، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة بل يصيرون لمغفرة الله ورحمته كما قال:

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم، وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب في الدنيا والآخرة، ولكن تبقى حقوق العباد فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه، وهم مخيرون بين القصاص والدية والعفو، فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب، ولم يثبت أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الحاكم. وإذا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها، فإذا رأى ولي الأمر إسقاط حق مالي عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة وجب أن يضمنه من بيت المال (وزارة المالية).

والخلاصة - إن هانين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين في الأرض الذين يعملون أعمالا مخلّة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلاد الإسلام معتصمين في ذلك بقوتهم مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم، وهو أن يطاردهم الحكام ويتتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ومراعاة المصلحة العامة، ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما هنا من العقوبات، بل حكمه حكم سائر المسلمين.

[سورة المائدة (5): الآيات 35 الى 37]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدا منهم له، وغرورا بدينهم، واعتقادا منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه - أمر المؤمنين بأن يتقوه ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب.

ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما، فمن لم ينلهما لا قى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه بعدم مخالفة دينه وشرعه، والوسيلة ما يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق مثوبته في دار الكرامة.

روى ابن جرير عن قتادة أنه قال في تفسير الآية أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر أن النبي ﷺ قال: « من قال حين يسمع النداء - الآذان - اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة »

وروى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي ﷺ يقول: « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ».

وبهذا يعلم أن هذه الوسيلة هي أعلى منازل الجنة، فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي ﷺ كافأه النبي ﷺ بالشفاعة، وهي دعاء أيضا والجزاء من جنس العمل.

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة، وكل جهد في الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد في سبيل الله.

أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها، وحملها على النّصفة والعدل في جميع الأحوال، وجاهدوا أعدائي وأعداءكم، وأتبعوا أنفسكم في قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا كل هذا رجاء الفوز والفلاح، والسعادة في المعاش والمعاد والخلود في جنات النعيم.

وبعد فلم يؤثر عن صحابى ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أن الوسيلة هي التقرب إلى الله تعالى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل كالدعاء ونحوه.

ولكن جدّ في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين أي جعلهم وسائل إلى الله تعالى والإقسام بهم على الله، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو بعيدا عنها، وكثر هذا حتى أصبح الناس يدعون مع الله أصحاب القبور في الحاجات أو يدعونهم من دون الله، وألّف بعض الناس كتبا في هذا، وزعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعى، وشغف العامة بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى: « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا » وقوله: « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ » وقوله: « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ » والذي عليه المعول في ذلك أن لفظ التوسل يراد به أحد معان ثلاثة:

(1) التوسل إلى الله بطاعته والتقرب إليه بفعل ما يرضيه، وهذا فرض حتم وبه جاءت الشرائع وهو أس كل دين.

(2) التوسل إلى النبي ﷺ بدعائه وشفاعته كما كان الصحابة يفعلون، وهذا كان في حال حياته، ولهذا قال عمر بن الخطاب: « اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا » أي بدعائه وشفاعته، ويوم القيامة يتوسل المؤمنون بدعاء النبي ﷺ وشفاعته.

(3) التوسل بالله بمعنى الإقسام بذاته، وهذا لم تكن الصحابة تفعله في الاستسقاء ونحوه لا في حياة النبي ﷺ ولا بعد مماته لا عند قبره ولا بعيدا عنه، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المأثورة عندهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة أو عمن ليس قوله حجة، وقد قال أبو حنيفة وأصحابه: إن مثل هذا لا يجوز، وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك، ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وكرهوا أن يقال بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك لأنه لا حقّ للخلق على الخالق.

والخلاصة - إن الوسيلة ما تتقرب به إلى الله وترجو أن تصل به إلى مرضاته، بما شرّعه لتزكية نفسك، وقد دل كتاب الله في جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح هو الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » وقال: « لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » وقال: « هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ».

نعم دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه، وثبت أيضا أن النبي ﷺ كان حريصا على إيمان عمه أبى طالب فأنزل الله عليه « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ».

والخلاصة - إن العمدة في تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته هو إيمانه وعمله لنفسه، فإذا لم يعمل لنفسه ما شرعه الله وجعله سبب فلاحه، فهل يكون قد ابتغى إليه الوسيلة بطلب الدعاء من بعض عباده المكرمين أو طلبه منهم بعد موتهم أن يشفعوا له أي يدعوا له.

كلا إن الطلب من الميت غير مشروع فضلا عن أنه لا يعلم إن كان مقبولا أو غير مقبول، فإن ذلك من أمور الآخرة « وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ».

وما روي عن النبي ﷺ في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وحديث الأعمى الذي علّمه أن يقول: « أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة » لا يصلح حجة في هذا الباب، لأنه إنما توسل بدعاء النبي ﷺ وشفاعته، وقد أمره النبي ﷺ أن يقول: « اللهم شفّعه في » وقد رد الله عليه بصره حين دعا له النبي ﷺ وكان ذلك من معجزاته ﷺ.

والحلف بالمخلوقات حرام عند أبى حنيفة والشافعي، وحكى إجماع الصحابة على ذلك حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا.

وقد جاء في الصحيحين أنه قال: « من كان حالفا فليحلف بالله » وقال: « لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ».

والحلف بالأنبياء ليس بيمين عند مالك وأبى حنيفة والشافعي فلا كفارة فيه، وكذلك الحلف بالمخلوقات المحترمة كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي ﷺ والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين.

ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة، لو أن لهم ملك ما في الأرض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره فافتدوا بذلك كله يوم القيامة ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذبهم عذابا موجعا مؤلما لهم لأن سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».

وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة في النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.

ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال:

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا، أي يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة.

[سورة المائدة (5): الآيات 38 الى 40]

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة، وأمر بتقوى الله وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله، وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام وتبتعد عن المعاصي.

ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية، وجمع في هذه الآيات بين الوازع الداخلى وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.

الإيضاح

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا يا ولاة الأمور والقضاة والحكام يده من الكف إلى الرّسغ، لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن، والتي تقطع أولا هي اليمنى لأن التناول غالبا يكون بها.

وقد اختلف الأئمة في المقدار الذي يوجب قطع اليد في السرقة، فروى عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية وللحديث « لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده » رواه الشيخان عن أبي هريرة، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار « ربع مثقال من الذهب » أو ثلاثة دراهم من الفضة لحديث عائشة: « كان رسول الله ﷺ يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا » رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، ولحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي ﷺ قطع في مجنّ (ترس) ثمنه ثلاثة دراهم.

ويرى الحنفية أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها، ولا بد أن يكون المال محفوظا في حرز وإلا فلا قطع.

وتثبت السرقة بالإقرار أو البينة، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الامام.

(جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ) النكال من النكل (بالكسر) وهو قيد الدابة، ونكل عن الشيء امتنع لمانع صرفه عنه، فالنكال ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا.

أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيّء نكالا وعبرة لغيرهما، ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فالأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السّراق، وحاولوا منعهم من أخذها.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي، حكيم في صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد، وكأنه يقول: اشتدوا على السراق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تاب من السرّاق ورجع عن السرقة بعد ظلمه لنفسه بعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس وأصلح نفسه وزكاها بأعمال البر فإن الله يقبل توبته ويرجع إليه بالرضا ويغفر له ويرحمه.

ولا يسقط الحد عن التائب ولا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا وإلا فدفع قيمته إن قدر.

ثم بين أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال:

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله له ملك السموات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا عملهم، وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره، كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله، ترغيبا لهم في تزكية أنفسهم، وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شيء في تدبير ملكه.

[سورة المائدة (5): الآيات 41 الى 43]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

تفسير المفردات

الحزن: ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب، وسارع إلى الشيء: إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه، وأسرع فيه: إذا أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا كان الكفار داخلين في ظرف الكفر، محيطا بهم سرادقه، والفتنة: الاختبار كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل، والسّحت: ما خبث من المكاسب وحرّم، فلزم عنه العار وقبح الذكر كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة في الحكم، والقسط: العدل.

المعنى الجملي

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن البراء بن عازب قال: « مرّ النبي ﷺ بيهودي محمّما [2] مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي ﷺ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأمر به فرجم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - إلى قوله - إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ».

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال: « إن اليهود أتوا النبي ﷺ برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا نسخّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، فلقد يجأ عليها (ينحنى) يقيها الحجارة بنفسه ».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خاطب الله محمدا ﷺ بقوله يا أيها النبي في مواضع كثيرة وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا في هذا الموضع وموضع آخر بعده « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم (يا رسول الله) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه (يا محمد) حتى أنزل الله « لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا » فكفّوا عن ندائه باسمه.

أي لا تهتمّ أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون في إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرهم، ويقيك ضرّهم، وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم.

والنهي عن الحزن وهو أمر طبعى وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهي عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها، وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى.

ثم بين أن أولئك المسارعين في الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال:

(مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) الذين هادوا هم اليهود، والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال، والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم في النبي ﷺ وفى أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.

أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات الله عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات، فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه، ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا، لأنه مبنى على وقائع معينة، يزيدون في روايتها وينقصون، ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى، أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا، ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي ﷺ من الرؤساء وذوي الكيد، ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، أي سماعون لأجلهم.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول ﷺ ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما، إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وارضوا بها، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به.

وقد سبق أن ذكرنا أنهم جاءوا فسألهم عن حد الزناة في التوراة فقالوا: نفضحهم ويجلدون، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا هي آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي ﷺ، وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم.

(وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي ومن يرد الله أن يختبر في دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم، فهم يقبلون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم، اتباعا لأهؤائهم ومرضاة لرؤسائهم، وذوي الجاه فيهم: فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان، فإنك لا تملك لأحد نفعا، وإنما عليك البلاغ والبيان، ولا تخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان، ولهم الخزي والهوان.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق، لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة في نفوس البشر، من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر، وألفت الخلاف والضر، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين في الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نصوص كتابهم في إيجاب الرجم، وعلوّ الحق على باطلهم، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغني عنهم الانتساب إلى نبي لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبي لم يتبعوه وعذابهم في الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه، وحقيقة أمره.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.

وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا في الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها، وأزمان انحطاطها.

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون يرجحون في كل حال ما يرونه من المصلحة.

وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا، لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرّون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون، إذ من شروط الرجم الإسلام.

(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فالله حافظك من ضرهم.

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها.

وخلاصة ذلك - إن أمرهم لمن أعجب العجب، وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك.

ولكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاءوك يطلبون حكمك، رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه، إذ لم يأت وفق مرادهم.

وقد جاء في سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها (وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل، وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك).

[سورة المائدة (5): الآيات 44 الى 47]

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)

تفسير المفردات

التوراة: الكتاب الذي أنزل على موسى، والذين هادوا: هم اليهود، والربانيون: هم المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك، والأحبار: واحدهم حبر وهو العالم، بما استحفظوا من كتاب الله أي بما طلب إليهم حفظه منه، وشهداء أي رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به: قفّاه به تقفية: جعله يقفو أثره كما قال: « وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ » والفاسقون أي الخارجون من حظيرة الدين المتجاوزون لأحكامه وآدابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه عجب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه، وطلبهم من النبي ﷺ الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهواءهم وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون، ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبني إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها، لما عرض لهم من الفساد، وفى ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدى دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) أي إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال في أمر دينهم ودنياهم.

(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) أي أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين - موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا أي لليهود خاصة، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها.

(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أي ويحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بني إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها.

ويروى عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه قال: أنا رباني هذه الأمة، وأطلق لقب حبر الأمة في الإسلام على ابن عباس رضي الله عنهما، وأطلق لقب الرباني على علي المرتضى عليه الرحمة.

وقال ابن جرير: الربانيون جمع رباني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم، والأحبار جمع حبر وهو العالم المحكم للشىء اهـ.

(وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدّثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعا في صلاتهم إذا هم حابوهم.

ومما كتموه صفة النبي ﷺ والبشارة به.

ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله في الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بني إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيّهم فقال:

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أيوإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سير أسلافهم - فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد، أو طمعا في منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم عن الاهتداء بآيات الله وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعضها بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع في الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به.

قال الرازي نقلا عن عكرمة: إن الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله - إنما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقرّ بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله ولكنه تارك له فلا يدخل تحت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاثة الآيات التي في المائدة ومن لم يحكم بما أنزل الله إلخ. ليس في الإسلام منها شيء هي في الكفار، وعن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها في هذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى.

وخلاصة المعنى - ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به منكرا له كان كافرا لجحوده به واستخفافه بأمره.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي إن الجروح ذوات قصاص يعتبر في جزائها المساواة بقدر الاستطاعة.

وقد جاء في التوراة في الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وكيّا بكى، وجرحا بجرح، ورضّا برضّ).

وجاء في الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (وإذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل، ومن أمات بهيمة يعوّض عنها نفسا بنفس، وإذا أحدث إنسان في قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به، كسر بكسر، وعين بعين، وسن بسن، كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه) (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص وعفا عن الجاني فهذا التصدق كفارة له، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه.

وهذا كقوله تعالى « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »

وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال « من تصدق من جسده بشىء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه.

ويقرب منه قوله ﷺ « أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس ».

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي إن كل من أعرض عما أنزل الله من القصاص المبنى على قاعدة العدل والمساواة بين الناس وحكم بغيره فهو من الظالمين، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر وغمص حق المفضّل عليه وظلمه.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا طريقهم جاريا على هديهم مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله، فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة، وقد نقلوا عنه في أناجيلهم أنه قال ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) وإنما جئت لأتمم - أي لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس.

(وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وأعطيناه الإنجيل حال كونه مشتملا على الهدى ومنقذا من الضلال في العقائد والأعمال، كالتوحيد والتنزيه النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل.

وعلى النور الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه، وهو مصدق للتوراة التي تقدمته، أي إنه مشتمل على النص بتصديقها زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعمله.

وقد وصف القرآن الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة، وبكونه مصدقا لها، وجعله هدى وموعظة للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه، لحرصهم عليه وعنايتهم به. والسر في ذلك أن أسرار الشريعة وبيان حكمتها والمقصد منها، ومعرفة أن بعد هذه التوراة، وهذا الإنجيل هداية أعم وأشمل وهي التي يجىء بها النبي الأخير (البارقليط) الأعظم.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) أي وقلنا لهم: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام، والمراد وأمرناهم بالعمل به، فهو كقوله في أهل التوراة « وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها ».

وخلاصة ذلك - زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه.

والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بشرع، مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلّت أو كثرت، لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك حديث البخاري « أعطى أهل التوراة التوراة، فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به »

وقال الشّهرستاني في الملل والنحل (جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام، مكلّفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على عيسى عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا ولا حراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة).

[سورة المائدة (5): الآيات 48 الى 50]

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

تفسير المفردات

المهيمن على الشيء: القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولى رعايته، والشّرعة والشريعة: مورد الماء من النهر ونحوه، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة. ومن ذلك شريعة الإسلام لشروع أهلها فيها، والمنهاج: السبيل والسنة، والابتلاء: الاختبار، استبقوا: ابتدروا وسارعوا، أن يفتنوك: أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما.

ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد ﷺ ومنزلته من الكتب قبله، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.

الإيضاح

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أي وأنزلنا إليك أيها الرسول الكتاب (القرآن الكريم) الذي أكملنا به الدين مشتملا على الحق مقررا له « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » مصدقا لما تقدمه من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، ومهيمنا وشهيدا عليها بما بيّنه من حقيقة أمرها، وما كان من حال من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وتحريف كثير مما بقي وتأويله والإعراض عن العمل به.

روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) يعني أمينا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب.

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية، وهو أنه رقيب وشهيد عليها، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أي ولا تتبع ما يريدون، وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخفف احتماله مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا) أي لكل أمة منكم أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاح سرائرهم من قبل أن الشرائع العملية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع وطبائع البشر واستعداداتهم وإن اتفق الرسل جميعا في أصل الدين، وهو توحيد الله والإخلاص له في السر والعلن وإسلام الوجه له.

روي عن قتادة أنه قال في تفسيرها: أي سبيلا وسنة، والسنن مختلفة، للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، كى يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل وروى عنه أنه قال: الدين واحد والشريعة مختلفة.

ومن هذا يفهم أن الشريعة هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.

وهذا هو العرف الجاري الآن إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام.

والخلاصة - إن الشريعة اسم للأحكام العملية، وإنها أخص من كلمة (الدين) وتدخل في مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعمله. ويخضع له ويتوجه إليه، مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد تسيرون عليه وتعملون به، بأن يخلقكم على استعداد واحد، وأخلاق واحدة، وطور واحد في معيشتكم، فتصلح لكم شريعة واحدة في كل الأزمان، فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين كالطير أو كالنحل - لفعل ذلك إذ هو داخل تحت قدرته تعالى لا يستعصى عليه.

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك، بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم، يرتقى في أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء، فلا تصلح له شريعة واحدة في كل أطواره وفى سائر جماعاته، فكانت الشرائع في أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة، وفى طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية، وفى طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبنى على فتح باب الاجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى في القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولى العلم والرأي.

والخلاصة - إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته في تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة، بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية.

وإنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة، وليس لأهلها فيها رأى ولا اجتهاد إذ هي نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد، فوجب أخذهم بالشدة والصرامة، وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية، وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكرى، ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة في كتابها، وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد، إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه، ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان، إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولى الأمر، فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة، إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه، انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام (المذهب القديم) فلما انتقل إلى مصر ورأى عادات أهلها وأطوارهم غير كثيرا من تشريعه إلى ما يناسب الشعب الذي يعيش بين ظهرانيه (المذهب الجديد) وما سرّ هذا إلا ما علمت من خضوع التشريع للزمان والمكان ثم بين أن الشرائع إنما وضعت للاستباق إلى الخير لتجازى كل نفس بما عملت فقال:

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في دينكم ودنياكم، وابتدروا الخيرات وصالح الأعمال، انتهازا للفرصة وإحرازا للفضل، فالسابقون السابقون أولئك المقربون.

وإنكم إلى الله دون غيره ترجعون جميعا في الحياة الثانية فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه في الدنيا من أمور الدين، ويجازى المحسن على قدر إحسانه، والمسيء بإساءته، فاجعلوا الشرائع سببا للتنافس في الخيرات، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه: أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لهم وقبول كلامهم ولو لمصلحة في ذلك كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل، واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره.

أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله ابن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك وأنزل الله عز وجل فيهم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ - إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اهـ. يريد أن الحكمة في إنزال هذه الآية إقرار النبي على ما فعل والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله، وعدم الانخداع لليهود.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك، فما ذاك إلا لأن الله يريد أن يعذبهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم، لأن استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل إليك - كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل، فقد أجلى النبي ﷺ بني النضير عنها، وقتل بنى قريظة.

(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون في الكفر مصرّون عليه خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله لعباده.

وفي هذا تسلية للنبي ﷺ على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدى والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟) أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، فيبغون حكم الجاهلية المبنى على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوي على الضعيف؟.

روي « أن بني النضير تحاكموا إلى الرسول ﷺ في خصومة كانت بينهم وبين بنى قريظة وطلب بعضهم من النبي ﷺ أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفي دية النّضيري لمكان القوة والضعف فقال عليه السلام القتلى بواء (سواء) فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت الآية ».

وخلاصة ذلك - توبيخهم والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجىء به محض الجهل وصريح الهوى.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه، لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق من الحاكم، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية.

والخلاصة - إن مما ينبغي التعجب منه من أحوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر، ويؤثرونه على حكم الله العادل، وفى الأول تفضيل القوي على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته، وفى الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق، وبه يستتب الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير.

[سورة المائدة (5): الآيات 51 الى 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

تفسير المفردات

الولاية: ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين، في قلوبهم مرض: أي إن إيمانهم معتل غير صحيح، الدائرة: ما يدور به الزمان من المصايب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها، والفتح: القضاء، وهو يكون بفتح البلاد وبغير ذلك، وحبطت أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصيام والجهاد معكم فخسروا أجرها وثوابها.

المعنى الجملي

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: « جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن لي موالى من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولّى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من موالاة موالي، فقال رسول الله ﷺ لعبد الله بن أبي « يا أبا الحباب، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه » قال إذن أقبل فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى... إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وروى أرباب السير: أن النبي ﷺ لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.

وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة: بنى قينقاع وبني النضير، وبنى قريظة - فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبي ﷺ، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) إلخ أي لا يوالى أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعاندين للنبي والمؤمنين، ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم.

قال ابن جرير: إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليّا من دون الله ورسوله فهو منهم في التحزب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان... إلى أن قال: غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالى يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك اهـ.

ثم ذكر علة هذا النهى فقال:

(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض، ولم يكن للمؤمنين منهم ولى ولا نصير إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين.

ثم توعد من يفعل ذلك فقال:

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين وهم أعداء لكم فإنه في الحقيقة منهم لا منكم لأنه معهم عليكم، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق.

قال ابن جرير فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضى دينه فقد عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اهـ.

ومن هذا تعلم أنه إذا وقعت الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية لا تدخل في النهى الذي في الآية، كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لا تفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها، فمثل هذا لا يكون محظورا.

ثم ذكر العلة والسبب في الوعيد السابق فقال:

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن من يوالى أعداء المؤمنين وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية في غير موضعها، والله لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق.

ثم أخبر أن فريقا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال:

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم ولم يصل إلى مرتبة اليقين كعبد الله بن أبي وغيره من المنافقين يمتّون إلى اليهود بالولاء والعهود، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها، وكلما سنحت لهم الفرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ليزيد تمكنا وثباتا.

ثم ذكر السبب الذي حداهم إلى ذلك فقال:

(يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يقولون بألسنتهم: نحن نخشى أن تقع بنا مصيبة من مصايب الدهر فنحتاج إلى نصرتهم لنا، فعلينا أن نتخذ لنا أيادى عندهم في السراء، ننتفع بها إذا مستنا الضراء.

وخلاصة ذلك - إنهم يخشون أن تدول الدّولة لليهود أو المشركين على المؤمنين فيحل بهم العقاب، لأنهم في شك من نصر الله لنبيه وإظهار دينه على الدين كله، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها، وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة، وضعف استقلالها في بلادها بعملهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ثم رد على هؤلاء المنافقين وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال:

(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فلعل الله بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتي بالفتح والفصل بين للمؤمنين ومن يعاديهم من اليهود والنصارى، أو بأمر من عنده في هؤلاء المنافقين كفضيحتهم أو الإيقاع بهم، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين، وتوقع الدوائر عليهم.

والفتح: إما فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله، وإما فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلاؤهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم، وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب كبنى قريظة، وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم كبني النضير، وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟) أي ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين، إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود، فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرّونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال في سورة براءة « وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ » أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقيّة.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أي ويقول المؤمنون: حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا، فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوى إيمانهم.

وفي هاتين الآيتين إخبار بالغيب، وقد صدق الله وعده، وخذل الكافرين، وفضح المنافقين، والعاقبة للمتقين، ولكن أنّى لهم أن يعتبروا بمثل هذا؟ « وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ».

[سورة المائدة (5): آية 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يعدّ منهم، وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتولّيهم إياهم، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق.

بيّن هنا حقيقة دعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل، فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق فالله إنما يقيم دينه بصادقى الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخا في الحق وقوة على إقامته، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وولد.

وخبر الغيب أنه سيرتدّ بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ولا يضره ذلك، لأن الله تعالى يسخّر من ينصره ويحفظه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) روى ابن جرير عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدا ﷺ ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد - أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس - قالوا (أي المرتدون) نصلّي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا، فكلّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله ﷺ حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (الزكاة) صغرة (واحدهم صاغر، وهو المهين الذليل) أقمياء (واحدهم قميء، وهو الذليل الضعيف) فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة محزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية (وكانت أهون عليهم) أن يقروا أن قتلاهم في النار: وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال اهـ.

وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله قتادة والضحاك، ورجح ابن جرير أن الآية نزلت في قوم أبى موسى الأشعري من أهل اليمن، لما روى أن النبي ﷺ لما قرأ هذه الآية قال: - هم قوم أبى موسى - وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر، لأن الله وعد بأن يأتي بخير من المرتدين بدلا منهم، ولم يقل إنهم يقاتلون المرتدين، ويكفى في صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين.

وقد ارتد كثير من القبائل في عهد النبي ﷺ وبعده، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة منها ثلاث في عهد النبي ﷺ، وهم:

(1) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا، تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي ﷺ، فكتب النبي ﷺ إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه الله على يدي فيروز الدّيلمى، بيّته فقتله، وأخبر رسول الله ﷺ بقتله فسرّ به المسلمون، وقبض عليه السلام من الغد.

(2) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد تنبأ مسيلمة وكتب إلى رسول الله ﷺ: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك: أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فكتب إليه النبي ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) وكان ذلك سنة عشر، وحاربه أبو بكر، وقتله وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وفى إسلامي شر الناس.

(3) بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.

وارتدت سبع في عهد أبي بكر، وهم:

(1) فزارة قوم عينية بن حصن.

(2) غطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري.

(3) بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل.

(4) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.

(5) بعض بنى تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، ولها قصص طويل في التاريخ، وصح أنها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.

(6) كندة قوم الأشعث بن قيس.

(7) بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وقد كفى الله المؤمنين شرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه، وارتدت قبيلة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه وهم غسّان قوم جبلة بن الأيهم، تنصّر جبلة ولحق بالشام ومات مرتدا. ويروى أن عمر كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا جاء فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إلي فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة، فقلت شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا.

وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد:

تنصّرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر.

فأدركني منها لجاج حميّة فبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر

وهؤلاء المرتدون لم يقاتلهم أحد، فإن أبا بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بست صفات.

(1) إنه تعالى يحبهم، وحبّه تعالى وبغضه شأن من شئونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته.

(2) إنهم يحبون الله تعالى، وحب المؤمنين لله جاء في غير موضع من القرآن كقوله: « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ »

وفي حديث أنس في الصحيحين « ثلاثة من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ».

(3، 4) الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين وهما بمعنى ما جاء في قوله تعالى: « أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ » (5) الجهاد في سبيل الله، وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاته تعالى، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين.

(6) كونهم لا يخافون لومة لائم، وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين يخافون لوم أوليائهم من اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين، إذ هم لا يرغبون في جزاء أو ثناء من الناس، بل يعملون العمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الذي تقدم من الصفات فضل الله يعطيه من يشا من عباده وبه يمتازون عن غيرهم، وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام في خلقه فجعل من الناس الكسب والعمل نفسيا كان أو بدنيا، ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى ما بين بدنية وعقلية، حسية ومعنوية، كما أن منه التوفيق والهداية واللطف والمعونة.

(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فعلينا ألا نغفل عن فضله ومنته، ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له والإنابة إليه، والإخبات والعبادة له.

[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه في الآيات المتقدمة عن موالاة الكافرين، أمر في هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم، وهم الله ورسوله والمؤمنون.

الإيضاح

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي لا ولي لكم أيها المؤمنون ولا ناصر ينصركم إلا الله ورسوله والمؤمنون الصادقون الذين اتصفوا بتلك الصفات الآتية بعد: وفي هذا تعريض بمن ينصر مرضى القلوب في توليهم الكفار من دون الله ولما كانت كلمة (المؤمنين) تشمل كل من أسلم ولو ظاهرا بيّن المراد منها بقوله:

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) قال في الأساس: العرب تسمى من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعا، وقال أبو مسلم المراد بالركوع الخضوع أي إن المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة، ويعطون الزكاة مستحقيها وهم خاضعون لأوامر الله مع طيب نفس وهدوء بال لا خوفا ولا رياء ولا سمعة، دون المنافقين الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويأتون بصورة الصلاة لا بروحها ومعناها المقصود منها، فإذا هم قاموا إليها قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي إذا كان الله وليكم وناصركم، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته فأنتم بذلك حزب الله والله ناصركم، ومن يتولّ الله بالإيمان به والتوكل عليه ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم والاستنصار لهم دون أعدائهم فإنهم هم الغالبون، ولا يغلب من يتولاهم، لأنهم حزب الله.

[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 63]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وتَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

تفسير المفردات

نقم منه كذا: إذا أنكره عليه وعابه به بالقول أو الفعل، والمثوبة: من ثاب إليه إذا رجع، ويراد به الجزاء والثواب، والطاغوت: من الطغيان، وهو مجاوزة الحد المشروع وهو يشمل كل من أطاعوه في معصية الله تعالى، والسحت: الدنيء من المحرمات.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه وبين العلة في ذلك فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض، ولا يوالى المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر، أعاد النهي هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهى، وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء، ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا ﷺ ومن قبل نزول كتابنا - أولياء وأنصارا حلفاء، فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة، ذلك لأنهم اتخذوا هذا الدين هزوا ولعبا فكان أحدهم يظهر الإيمان للمؤمنين وهو على كفره مقيم، وبعد اليسير من الزمن يظهر الكفر بلسانه بعد أن كان يبدى الإيمان قولا وهو مستبطن للكفر تلاعبا بالدين واستهزاء به كما قال تعالى عنهم « وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ».

وكذلك نهى الله عن موالاة جميع المشركين، لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا - تكون قوة لهم وإقرارا على شركهم الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب.

وقد نهج الإسلام مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركي العرب، فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم وشرع قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.

وخصهم هنا بلقب أهل الكتاب ولقّب المشركين بالكفار، وفى آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا، لأنهم لوثنيتهم عريقون في الشرك والكفر أصلاء فيه، أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضا وليس من أصل دينهم.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وخافوا الله أيها المؤمنون في موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا حتى لا يضيع الغرض منها وتكون وهنا لكم ونصرا لهم - إن كنتم صادقى الإيمان تحفظون كرامته وتجتنبون مهانته، وتصدقون بالجزاء والوعيد علىمعصيته تعالى (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا وَلَعِبًا) أي وإذا أذّن مؤذنكم داعيا إلى الصلاة سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين، واتخذوها هزوا ولعبا.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندي ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثّر في النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة في إرسال الشرائع ويؤمن بالله العلى الكبير.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟) أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى: هل تعيبون علينا من شيء وتكرهوننا لأجله، إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من قبل على رسله، لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة.

والخلاصة - إنه ما عندنا سوى ذلك، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه، بل يمدح صاحبه ويكرم، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال « أتى رسول الله ﷺ نفر من اليهود أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: (أومن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ...) » إلخ.

وفي قوله: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) دقة في الأحكام على الأمم والشعوب، إذ هو يحكم على الكثير أو الأكثر وما عمم إلا استثنى، وقد كان في أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإسلام عند ما عرفوا حقيقة أمره وتجلى لهم صدق الداعي إليه.

ثم ردّ على الاستفهام التهكمي باستفهام تهكمي مثله فقال:

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) استعمال المثوبة في الجزاء الحسن أكثر من استعمالها في الجزاء السيّء، وقيل إن استعمالها في الجزاء السيّء من باب التهكم والازدراء.

أي هل أنبئكم أيها المستهزءون بديننا وأذاننا مما هو شر من عملكم هذا جزاء وثوابا عند الله.

وهذا السؤال يستدعي سؤالا منهم عن ذلك الذي هو شر (ما هو) فأجابهم بقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) من لعنه الله: أي جزاء من لعنه على حد قوله تعالى « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى » أي ولكن البر برّ من اتقى أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء جزاء من لعنه الله وغضب عليه إلخ.

وفي هذا انتقال بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر - إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، ذلك هو التذكير بسوء حال آبائهم مع أنبيائهم وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم وتمردهم بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم - من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.

أما اللعن فقد ذكر في عدة مواضع من القرآن الكريم مع بيان أسبابه، والغضب الإلهي يستلزم اللعنة، واللعنة تلزمه، إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.

وأما جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم في سورة البقرة « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » وسيأتي في سورة الأعراف « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة وانقرضوا، لأن الممسوخ لا يكون له نسل، ونقل ابن جرير عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كما ضرب المثل بقوله « كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا ».

(أُولئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي إن أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من المخازي وشنيع الأمور شر مكانا، إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد سواء الطريق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

ومثل هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة.

ثم بين حال المنافقين منهم فقال:

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي وإذا جاءكم المنافقون من اليهود قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه، وحالهم الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم وهم مقيمون على الكفر والضلال وخرجوا وهم كذلك، فحالهم عند خروجهم كحالهم عند دخولهم لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق؟

ولكنهم قوم دأبهم الخداع والنفاق كما جاء في سورة البقرة: « وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ » الآية.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) حين دخولهم من قصد تسقّط الأخبار والتوسل إلى ذلك بالنفاق والخداع، وحين خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم كما علمت مما سلف عند قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ).

وفي قوله: وهم قد خرجوا به تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول، واحتيج إليه لمجيئه على خلاف المعروف، لأن من كان يجالس الرسول ﷺ وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة، ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثّر في القلوب ويلين قاسيها - يرجع عن سوء عقيدته، وتصفو نفسه من كدورتها إلا إذا كان متعنتا مخادعا، فإن الذكرى لا تنفعه، والعظات والزواجر لا تؤثر فيه.

وقد كان الرجل يجيء إلى النبي ﷺ يريد قتله حتى إذا رآه وسمع كلامه انجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق وآمن به وأحبه، وما شذّ هؤلاء إلا لسوء نيتهم، وفساد طويّتهم، وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار ووجّه هممهم إلى الكيد والخداع، فلم يكن لديهم عقول تعى وتفقه مغزى الحكم والآداب.

ثم ذكر من شئونهم ما هو شر مما سلف فقال:

(وَتَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي وترى أيها الرسول كثيرا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوا ولعبا - يسارعون في الظلم والعدوان وتجاوز الحدود التي ضربها الله للناس، وفى أكل السحت وكل ما يعود على فاعله بالضرر في الدين والدنيا، فهم غارقون في الإثم والعدوان، فكلما قدروا عليهما ابتدروهما ولم يتأخروا عن ارتكابهما.

ثم بالغ في قبح هذه الأعمال فقال:

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والله ما أقبح هذا العمل الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد الأخلاق، ويدنّس النفوس، ويقوّض نظم المجتمع، وويل للأمة التي يعيش فيها أمثال هؤلاء، فهلّا نهاهم علماؤهم وزهادهم وعبّادهم عن أفعالهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قبل أن يستفحل الشر، ويعم الضّر؟ وإلى هذا أشار بقوله:

(لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) قال في الكشاف: لا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه، وفاعل المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرّط في الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل لها اهـ.

أي هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي - أئمتهم في التربية والسياسة، وعلماء الدين من الأحبار والرهبان، لبئس ما كانوا يصنعون من الرضى بهذه الأوزار والخطايا، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية - يريد بذلك أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع، فحق على العلماء والحكام أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود ساسة وعلماء ومربّين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى.

[سورة المائدة (5): الآيات 64 الى 66]

وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)

تفسير المفردات

لليد لغة معان عدة: الجارحة، والنعمة، تقول لفلان عندي يد أشكره عليها، والقدرة كما قال تعالى « أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ » أي ذوي القوة والعقول والملك، كما تقول هذه الضيعة في يد فلان أي ملكه وقال تعالى « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » أي في ملكه، وغلّت أيديهم أي أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل، يداه مبسوطتان أي هو كثير العطاء، والحرب: ضد السلم فهي تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب ولو بغير قتل، وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل، وإقامة التوراة: العمل بما فيها على أتم الوجوه سواء في ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان، وعمل الجوارح والقوى البدنية، وقوله: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي لوسع الله عليهم موارد الرزق، والمقتصدة: المعتدلة في أمر الدين فلا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع في الأفراد والجماعات، فأصبحوا قوما أنانية، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أي صورة كان وبأى وجه جمع، وقد أثّر هذا في أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم - ذكر هنا أفظع مخازيهم وأقبحها، بجرأتهم على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته، وإنكارهم جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم، وعفوه عن عظيم جرمهم توبيخا لهم، وتعريفا لنبيه ﷺ قديم جهلهم، واحتجاجا له بأنه مبعوث ورسول، إذ أخبر بخفي علومهم ومكنون أخبارهم التي لا يعلمها إلا أحبارهم دون غيرهم من اليهود.

روى ابن إسحق والطبراني عن ابن عباس قال « قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس للنبي ﷺ: إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ...) » الآية

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بنى قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله، وروى عن مجاهد أنهم قالوا: لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره - يريدون أنه ضيّق عليهم الرزق.

وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، لكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى ربنا عما يقول الظالمون.

الإيضاح

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي قال ذلك بعض منهم، ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفرادها وكونها كالشخص الواحد، وأن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون.

ولا عجب في صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم، فإنا نرى من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفى إبّان المصايب.

ثم دعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال:

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدي عن العطاء والإمساك عن الإنفاق في سبيل البر والخير وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا، كما دعا عليهم بالطرد والبعد من رحمته وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين.

وقيل إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالأغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما، فقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: يغلّون في الدنيا أسارى، وفى الآخرة معذبين بأغلال جهنم، وقال في تفسير اللعنة: عذّبوا في الدنيا بالجزية وفى الآخرة بالنار.

ثم رد سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما في العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال:

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع.

وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافى سعة الجود، وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.

وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته، يعطى بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادا:

يداك يدا جود فكفّ مفيدة وكفّ إذا ما ضنّ بالزاد تنفق

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا) أي إن هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك، ومن أحوال سلفهم، وشئون كتبهم، وحقائق تاريخهم - هو من أعظم الأدلة على نبوتك، وكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك، إذ لولا النبوة والوحي ما علمت من هذا شيئا، فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب، ولا تعرف الحاضر لأنه من مكرهم الخفي، وكيدهم السّرّى - لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك إلى الإيمان، ولم يقرب إلا قليلا منهم، وو الله ليزيدين ذلك كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك، وكفرا بما جئت به.

وقال قتادة: حملهم حسد محمد ﷺ والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي وألقينا بين اليهود والنصارى العداوة والبغضاء فهي لا تنقطع أبدا، وهي على أشدها الآن في روسيا وألمانيا، وأقلها في انجلترا وفرنسا.

واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية ولهم النفوذ والتأثير في السياسة وسائر شئون الاجتماع مبغوضون من جماهير النصارى.

وقد ألّفت كتب كثيرة في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم، واستأصلت شأفتهم ألمانيا وكثير من البلاد المجاورة لها بعد الحرب العظمى، وأصبح هذا الشعب عندهم من أقبح شعوب العالم، وكذلك العداوة بين بعض النصارى وبعض لا تزال آثارها تظهر بين حين وآخر لدى الدول الكبرى القوية، فهي دائما في استعداد لحرب يسحق بها بعضهم بعضا، والحرب القائمة الآن بين الدول المسيحية الكبرى أكبر برهان على صدق ذلك.

(كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) أي كلما هموا بالكيد للرسول وللمؤمنين الصادقين خذلهم الله، وهم إما أن يخيبوا في سعيهم ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين.

والمعروف في كتب السيرة أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي ﷺ والمؤمنين، ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يؤوى أعداءهم ويساعدهم، ككعب بن الأشرف، وما سبب ذلك إلا الحسد والعصبية، وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإسلام لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها في بلاد الحجاز، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه، والدليل على ذلك أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين في الشام والأندلس، لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقوط.

وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب ميلا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم، وزال عنهم ظلم الروم مع كونهم من أهل دينهم، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون في العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم.

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا) أي إن ما يأتونه من عداوة النبي ﷺ والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشئون العمران والاجتماع، بل كانوا يقصدون السعي في الأرض للفساد، ويحاولون الكيد للمؤمنين ومنع اجتماع كلمة العرب، ويودون ألا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان، ولا من الوثنية إلى التوحيد، حسدا لهم وحبا في دوام امتيازهم عنهم.

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بل يبغضهم، ومن ثم لا ينجح سعيهم، ولا يصلح عملهم، لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى في صلاح الناس، وعمران البلاد.

ومن ثم أبطل سبحانه كل ما كاده أولئك القوم للنبي ﷺ والعرب والإسلام، وأصلح بالإسلام ما كانوا خرّبوه من البلاد، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم وسلط الله عليهم غيرهم.

ثم ندّمهم على سوء أعمالهم فقال:

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم ذنوبهم ولم نفضحهم بها، ولأدخلناهم في الآخرة جنات ينعمون بها.

وفي ذلك إعلام من الله بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمته، وفتحه باب التوبة لكل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى، وإخبار بأن الإيمان لا ينجّى إلا إذا شفع بالتقوى، ومن ثم قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب؟

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي ولو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزّلين بنور التوحيد، المبشّرين بالنبي الذي يأتي من أبناء إسماعيل، والذي قال فيه عيسى عليه السلام: إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شيء، وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم - لوسع الله عليهم رزقهم، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال تعالى: « لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ».

وفي هذا تنبيه إلى أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم، لا من قصور في فيض الله وعظيم عطائه، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد، فالدين عندهم إنما كان أماني يتمنّونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها، فهم بين غلوّ وتقصير وإفراط وتفريط.

ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية في أفعالهم وأقوالهم فقال:

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي منهم جماعة معتدلة في أمر دينها لا تفرط ولا تهمل، وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى، وكثير منهم أجلاف متعصبون، ساء ما يعملون من كفرهم بالله واجتراح المعاصي، ويزعم النصارى منهم أن المسيح ابن الله ويكذبون بمحمد ﷺ، ويكذب اليهود بعيسى ومحمد صلى الله عليهما.

والمعتدلون لا تخلو منهم أمة، لكنهم يكثرون في طور صلاح الأمة وارتقائها، ويقلّون في طور فسادها وانحلالها، ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها، وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها، وهؤلاء المعتدلون هم السباقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في مختلف العصور، ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحبين للعلوم والفنون.

روي ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله ﷺ قال: « يوشك أن يرفع العلم، قلت: وكيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن نفير، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر الله، ثم قرأ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية ».

وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال: « ذكر النبي ﷺ شيئا فقال: وذلك عند ذهاب العلم، قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ».

ومغزى هذا أن العبرة في الأديان هو العمل بها والاهتداء بهديها، وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم.

وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى: « وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ » وقوله « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ » الآية.

[سورة المائدة (5): الآيات 67 الى 69]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي يا أيها الرسول بلّغ إلى الخلق جميع ما أنزل إليك من ربك مالك أمرك ومبلّغك إلى كمالك، ولا تخش في ذلك أحدا ولا تخف أن ينالك من ذلك مكروه.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي وإن لم تفعل ما أمرت به من التبليغ لما أنزل إليك، بأن كتمته ولو إلى حين خوفا من الأذى بالقول أو بالفعل - فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله، وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم كما قال تعالى « إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ».

والحكمة في التصريح بالأمر بالتبليغ وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمان كله، مع العلم بأن الرسل صلوات الله عليهم معصومون من كتمان شيء مما أمرهم الله بتبليغه وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ - الحكمة في ذلك بالنظر إلى الرسول ﷺ إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شيء عن وقته على سبيل الاجتهاد، ولولا هذا النص لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحي إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله.

والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأي والفهم.

ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحي غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم لا يتفق مع الدين في شيء، ولا يعوّل على ما رووه من الأخبار الضعيفة، والأحاديث الموضوعة في هذا الباب.

والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن، وبيّنه ولم يخصّ أحدا بشىء من علم الدين، وأنه لا امتياز لأحد عن أحد في علم الدين إلا بفهم القرآن فهما يتوسل إليه بعلم السنة، وآثار علماء الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار في الصدر الأول، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها، ومعرفة علوم الكون وشئون البشر وسنن الله في الخلق.

روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: « سئل رسول الله ﷺ أي آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فنزل علي جبريل فقال: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية قال - فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة - قال ﷺ فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ويقولون: كذاب صابىء فعرض علي عارض فقال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ».

(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من فتكهم، مأخوذ من عصام القربة: وهو ما توكأ به أي يربط به فمها من سير جلد أو خيط، والناس هم الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم، وفساد عقائدهم وأعمالهم، والنعي عليهم وعلى سلفهم، وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه ﷺ بالقول أو بالفعل، وائتمروا به بعد موت أبى طالب وقرروا قتله في دار الندوة ولكن الله تعالى عصمه منهم، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة.

روى الترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة « أن النبي ﷺ كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية، وكان العباس ممن يحرسه، فلما نزلت ترك رسول الله ﷺ الحرس » وروي « أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه، فقال يا عم إن الله حفظني لا حاجة لي إلى من تبعث ».

وقد وضعت هذه الآية وهي مكية في سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدني، لتدل على أن النبي ﷺ كان عرضة لإيذائهم أيضا، وأن الله تعالى عصما من كيدهم، ولتذكّر بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم.

ثم ذكر ما هو كالسبب في العصمة فقال:

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي إنه تعالى لا يهدى أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون، بل يكونون خائبين، وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين.

ثم بين أن الانتساب إلى الأديان لا ينفع أهلها إلا إذا عملوا بها فقال:

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربك (لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ) يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين.

(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجىء من ولد إسماعيل الذي سماه المسيح روح الحق والبارقليط.

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) على لسان محمد وهو القرآن المجيد فهو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين بحسب سنن الله في الكون.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا) أي وأقسم بأن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين المنزل على محمد خاتم النبيين إلا غلوّا في تكذيبهم وكفرا على كفرهم، لأنهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف، بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان، إذ كانوا على تقاليد وثنية، وأعمال وعادات سخيفة، فلم يكن لهم من الدين الذي يدينون به ما يقرّبهم إلى فهم حقيقة الإسلام، ليعلموا أن دين الله واحد، وأن ما سبق بدء وهذا إتمام.

أما غير الكثير وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة، فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأن من أنزل عليه هو النبي المبشر به في كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان واطمئنان النفس، بما لديها من العلم والعرفان.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال الراغب: الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم، أي فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين، وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمنى قومك ومن مؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.

والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شيء يعتدّ به من أمر الدين حتى يقيم القرآن وما أنزل إليه من ربه فيه ويهتدى بهديه، فحجة الله على عباده واحدة، فإذا كان الله لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله، فإنه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا والناس عن مثل هذا غافلون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله، والذين دخلوا اليهودية، والصابئين الذين يعبدون الملائكة ويصلّون إلى غير القبلة، والنصارى، من أخلص منهم الإيمان بما ذكر دواما وثباتا كما في المؤمنين المخلصين، أو إيجادا وإنشاء كما هو حال المنافقين وغيرهم من الطوائف الأخرى، فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من لذات الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، لا الوسائل منه ولا المقاصد، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها، ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها، ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون، إلا قليلا منهم عذّبوا على توحيد الله ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان، كما أن فيها ترغيبا لمن عدا من ذكروا في الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك.

[سورة المائدة (5): الآيات 70 الى 75]

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث فيهم النقباء - أعاد التذكير به هنا مرة أخرى، وبيّن عتوّهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم لأنبيائهم.

الإيضاح

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) الميثاق هو العهد الموثّق، وقد أخذ الله عليهم العهد في التوراة بتوحيده واتباع الأحكام التي شرعها لهدى خلقه وتحليهم بحلي الفضائل ومكارم الأخلاق، وقد نقضوا هذا الميثاق كما تقدم أول السورة وعاملوا الرسل تلك المعاملة - وهو أنه كلما جاءهم رسول بشىء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين إما التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان وإما القتل وسفك الدماء.

وخلاصة ذلك - إنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبا، وأشدها عتوا وضلالا، حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريا لهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.

ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فقال:

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الفتنة الاختبار بشدائد الأمور كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد: أي وظنوا ظنا قويا تمكن من نفوسهم أنه لا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد، لأنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، ويعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب.

ثم بين نتائج ذلك فقال:

(فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي فعموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن في خلقه مصدقا لذلك، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين، وظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم وساروا في غيهم، وانهمكوا في ضلالهم، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار، فجاس البابليون خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوّا عروش ملكهم، ثم رحمهم الله وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره وردّ من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصّر إلى وطنهم، ورجع من تفرق منهم في الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا.

ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم في الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس ثم الروم (الرومانيين) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.

وفي قوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأفل النادر الذي لا يؤثر في صلاح ولا فساد ومن ثم قال تعالى: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ».

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به وتأليب القبائل والشعوب المختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات، وسيعاقبهم الله على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل وينكّل بهم أشد النكال، ويذيقهم أنواع الوبال.

وبعد أن عدد قبائح اليهود ومخازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة وآراءهم الزائفة، فقال:

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي أقسم إن هؤلاء الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم - قد كفروا وصلّوا ضلالا بعيدا، إذ هم في إطرائه ومدحه غلوا أشد من غلوّ اليهود في الكفر به وتحقيره، وقولهم عليه وعلى أمه الصدّيقة بهتانا عظيما وقد صارت هذه المقالة هي العقيدة الشائعة عندهم، ومن عدل عنها عدّ مارقا من الدين فقالوا: إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها (الأقانيم الثلاثة) وهي الآب والابن وروح القدس فالمسيح هو الابن والله هو الآب وقد حل الآب في الابن واتحد به فكون روح القدس، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخرين.

وخلاصة ذلك - الله هو المسيح، والمسيح هو الله كما يزعمون.

ثم ذكر أن المسيح يكذبكم في ذلك فحكى عنه:

(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون. فقد أمرهم بعبادة الله وحده، معترفا بأنه ربه وربهم، ودعا بني إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة الله وحده، ولا يزال هذا الأمر محفوظا في الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ففي إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فدين المسيح مبنى على التوحيد المحض، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله.

وفي هذه المقالة تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى لأنه عليه السلام لم يفرق بين نفسه وغيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة على الجميع.

وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه، فقال:

(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي إن كل من يشرك بالله شيئا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك فيجعله ندّا له أو متحدا به، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر، أو يزعم أنه يقرّ به إليه زلفى فيتخذه شفيعا ليؤثر في إرادته تعالى وعلمه، ويحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل - من يفعل ذلك فإن الله قد حرم عليه الجنة في سابق علمه، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله، فلا مأوى له إلا النار التي هي دار العذاب والذل والهوان - وما للظالمين لأنفسهم بشركهم بالله من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».

وفي هذا إيماء إلى أن النصارى كانوا يتكلمون على كثير من القديسين، إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم وإن لم تكن من أصل دينهم.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي لقد كفر الذين قالوا إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما - ثالث أقانيم ثلاثة، أب والد غير مولود، وابن مولود غير والد، وزوج متتبعة بينهما.

والخلاصة - إن الفرق ثلاثة:

(1) إن إلههم ثالث ثلاثة (2) إن الله هو المسيح ابن مريم (3) إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله والمتأخرون من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وأن كل واحد منهما عين الآخر فالآب عين الابن وعين روح القدس، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا، وقد ذكرنا فيما سلف أن النصارى أخذوا عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين.

ثم ردّ الله عليهم ما قالوه بلا روية ولا بصيرة، فقال:

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ولا يوجد إله إلا من اتصف بالوحدانية وهو الإله الذي لا تركيب في ذاته ولا في صفاته، فليس ثمّ تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أجناس وأنواع، ولا تعدد جزئيات وأجزاء.

ثم توعدهم على هذه المقالة فقال:

(وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن لم يتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه، ويعتصموا بعروة التوحيد ويعتقدوه، فوالله ليصيبّهم عذاب شديد يوم القيامة جزاء كفرهم.

وفي الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها.

ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات، وقامت عليهم الحجج المبطلة له، والنذر بالعذاب المرتب عليه، فقال:

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟) أي أيسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد واستغفار الله عما فرط منهم، والحال أن ربهم واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.

ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال:

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أي ليس المسيح إلا رسول من الرسل الذين بعثهم الله لهداية عباده، قد مضت من قبله رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم بالآيات، وأمه صديقة فلها في الفضل مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين. ونحو الآية قوله: « وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ».

أما حقيقتهما النوعية والجنسية فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما يأكلان الطعام ليقيما بنيتهما ويمدّا حياتهما لئلا ينحل بدنهما ويهلكا، وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضلات، فلا يمكن أن يكون كل منهما إلها خالقا ولا ربا معبودا، ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه ويحتقر جنسه ويرفع بعض المخلوقات المساوية له في الماهية والمشخصات والممتازة بميزات عرضية فيجعل نفسه عبدا لها ويسميها آلهة أو أربابا.

وبعد أن بين حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة من الريب، تعجب من حال من يدّعى لهما الربوبية ولا يرعوى عن غيه وضلاله ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأي والخطأ، فقال:

(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الآيات هي الدلائل القاطعة ببطلان ما يدّعون، ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم.

أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر، كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات في الوضوح على بطلان ما يدّعون في أمر المسيح ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء.

[سورة المائدة (5): الآيات 76 الى 81]

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

تفسير المفردات

الغلو: الإفراط وتجاوز الحد، والأهواء: الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، واللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته، يتولون الذين كفروا: أي يوالونهم ويزينون لهم أهواءهم.

الإيضاح

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم ممن عبدوا غير الله - أتعبدون من دونه أي متجاوزين عبادته وحده - ما لا يملك لكم ضرا تخشونه أن يعاقبكم به إذا أنتم تركتم عبادته، ولا يملك لكم نفعا ترجون أن يجزيكم به إذا عبدتموه؟.

وفي هذا إيماء إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل فإن اليهود، وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء لم يقدر على الإضرار بهم، وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلها؟.

وإذا كان قول النصارى في المسيح من أشد أنواع الغلوّ في الدين بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب أن يكون لهم من التعظيم وكان إيذاء اليهود له وسعيهم في قتله من الغلو في الجمود على تقاليد الدين التي ابتدعوها واتباع أهوائهم بلا علم، وكان هذا الغلوّ هو الذي دعاهم إلى قتل زكريا واشعيا قال تعالى:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) سواء السبيل: وسطه الذي لا غلوّ فيه ولا تفريط وهو الإسلام، وضلالهم: ترك شريعتهم واتباعهم الأهواء الفاسدة الموافقة لشهوات النفوس الجامحة بها إلى الحصول على اللذات والإعراض عن الدين جانبا، وضلالهم عنه هو: إعراضهم عن اتباعه.

نهى سبحانه أهل الكتاب الذين كانوا في عصر التنزيل عن الغلوّ الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالهم، إذ هم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا سنن الرسل والنبيين والصالحين من قبلهم، لأن كل أولئك كانوا موحدين وكانوا ينكرون الشرك والغلو في الدين، فعقيدة التثليث وتلك الشعائر الكنسية المستحدثة من بعدهم كشرع عبادات لم يأذن بها الله، وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بل حرمها القسيسون والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم، مبالغة في التنسك والزهد أو رياء وسمعة، وجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية، ولذا جعلوهم آلهة يعبدون من دون الله أو مع الله.

كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم فيه وسيكون سبب شقائهم وعذابهم في الآخرة إن لم يرجعوا عنه وينيبوا إلى الله منه.

وبعد أن بين الله ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به، فقال:

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أيلعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل في الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين، فقد لعن داود عليه السلام من اعتدى منهم في السبت أو لعن العاصين المعتدين عامة، وكذلك لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم، وما سبب ذلك اللعن الذي امتدّ واستمر إلا تماديتهم في العصيان وتمردهم على الأديان، كما يدل عليه قوله: وكانوا يعتدون.

ثم بين سبحانه أسباب استمرارهم على العصيان وتعدى الحدود فقال:

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر يقترفه مهما قبح وعظم ضرره، والنهي عن المنكر هو حفاظ الدين، وسياج الفضائل والآداب، فإذا تجرأ المستهترون على إظهار فسقهم وفجورهم ورآهم الغوغاء من الناس قلدوهم فيه، وزال قبحه من نفوسهم، وصار عادة لهم، وزال سلطان الدين من قلوبهم وتركت أحكامه وراءهم ظهريا.

وفي الآية إيماء إلى فشوّ المنكرات فيهم وانتشار مفاسدها بينهم، إذ لولا ذلك كان ترك التناهى شأنا من شئونهم، وعادة من عاداتهم.

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) هذا تقبيح لسوء فعلهم وتعجب منه وذم لهم على اقتراف بعضهم للمنكرات وإصرارهم عليها، وسكوت آخرين ورضاهم بها، وفى سوق الآية إرشاد للمؤمنين وعبرة لهم، حتى لا يفعلوا فعلهم فيكونوا مثلهم ويحل بهم من غضب الله ولعنه مثل ما حل ببني إسرائيل.

روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله ﷺ « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله فاسِقُونَ) ثم قال ﷺ: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ثم لتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنّه (تعطفنّه) على الحق أطرا ولتقسرنّه على الحق قسرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم ».

وأخرج الخطيب من طريق أبى سلمة عن أبيه أن النبي ﷺ قال « والذي نفس محمد بيده ليخرجنّ من أمتي ناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفّوا عن نهيهم وهم يستطيعون ».

والآثار في هذا الباب كثيرة، وفيها وعيد عظيم على ترك التناهى، فهل من مدّكر، وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا، ولا نرعوى عن غيّنا، ولا نتّبع أوامر شرعنا؟.

وبعد أن ذكر الله لنبيه أحوال أسلافهم ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم، فقال:

(تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ترى أيها الرسول الكريم كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك ويحالفونهم عليك ويحرّضونهم على قتالك، وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه وتشهد لهم بصدق الرسالة وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا يعبدون إلها واحدا، ولولا اتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم ما فعلوا ذلك، ولا دار هذا بخاطرهم، وما استحبّوا العمى على الهدى « وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ » وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول ﷺ ولكن لم يتم لهم ما أرادوا، إذ لم يلبّوا لهم دعوة، ولا استجابوا لهم كلمة.

(لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) أي بئس شيئا قدموه لأنفسهم في آخرتهم - الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفا، ويخلدون في النار أبدا، فالنجاة منه إنما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه وشديد غضبه

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون الكافرين من مشركي العرب - يؤمنون بالنبي الذي يدّعون اتباعه وهو موسى عليه السلام وما أنزل إليه من الهدى والبينات، لما اتخذوا أولئك الكافرين ممن يعبدون الأوثان والأصنام أولياء وأنصارا، إذ كانت العقيدة الدينية تصدهم عن ذلك وتدفع عنهم هذه الآصار والآثام التي يقترفونها.

والخلاصة - إن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله، والتعاون على حربه، وإبطال دعوته، والتنكيل بمن آمن به.

ويرى مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون أي: إن أولئك المنافقين كفار ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه كما يدّعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتولّيهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعا لاشتراكهم في عداوة النبي ﷺ والمؤمنين.

وقد بين الله أسباب هذه الألفة والعلة الجامعة بينهم فقال:

(وَلكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي ولكن كثيرا منهم متمردون في النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إذ لا عبرة بالقليل في سيرة الأمة وأعمالها.

وكان الفراغ من مسوّدة تفسير هذا الجزء في الليلة الثالثة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، ولله الحمد أولا وآخر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

4 مفاسد الجهر بالسوء من القول.

9 سؤال أهل الكتاب للرسول أن ينزل عليهم كتابا من السماء.

13 حدوث الاشتباه في الأشخاص لتقارب الشبه جد التقارب.

14 المراد من التوفي والرفع في قوله تعالى: « إني متوفيك ورافعك إلي ».

18 في التوراة التي بين أيديهم جواز أخذ الربا من غير اليهود.

23 حكمة إرسال الرسل.

29 آية الله في خلق عيسى كآيته في خلق آدم

32 عقيدة التثليث عقيدة وثنية.

37 الديانة النصرانية أساسها التوحيد الخالص وحوّلها الكهنة إلى الوثنية.

43 العقود ثلاثة أضرب.

45 الأمر بالتعاون على البر والتقوى.

47 الحكة في تحريم أكل الميتة والدم.

49 الوقذ تعذيب للحيوان.

52 الاستقسام بالسبح والقرآن.

53 الاستخارة التي ورد النص عليها.

58 حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم.

65 الحكمة في شرع الوضوء والغسل

69 آيات الله قسمان.

73 نقباء بني إسرائيل.

75 تحريف الكلم وأنواعه.

79 القرآن يبين كثيرا مما كان يخفيه أهل الكتاب

85 اليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار من سائر البشر

93 عقاب بني إسرائيل بالتيه أربعين سنة.

98 القرابين لدى اليهود والنصارى والمسلمين.

101 متى يكون الندم توبة؟

103 العبرة من قصص ابني آدم.

105 جزاء قطاع الطرق.

109 معنى الوسيلة والتوسل.

114 المقدار الذي يوجب قطع اليد عند السرقة.

116 إنكار اليهود لحكم الزاني في التوراة حتى أطلعهم النبي ﷺ.

118 كان من وظيفة اليهود التجسس للمشركين في عهد الرسول ﷺ

120 اليهودي سماع للكذب على الرسول أكال للسحت.

121 اليهود تركوا التوراة وتحاكموا إلى الرسول ليحكم على حسب أهوائهم.

124 كتمان اليهود لوصف النبي ﷺ والبشارة به.

128 الإنجيل لا يحتضن أحكاما.

130 الشريعة اسم للأحكام العملية، والدين أعم من ذلك.

130 الشرائع تختلف باختلاف الزمان والمكان.

133 توبيخ اليهود على طلب حكم الجاهلية وهم أهل كتاب.

135 عند قدوم النبي ﷺ المدينة انقسم الكافرون أقساما ثلاثة.

136 الموالاة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية ليس بالمنهي عنها.

139 ارتد كثير من القبائل في عهد النبي ﷺ وبعده.

142 صفة المؤمن حقا.

143 الله ورسوله ولي المؤمنين.

145 النهي عن موالاة أهل الكتاب والمشركين.

146 الإسلام نهج مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركي العرب.

150 النعي على اليهود لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

157 المقصد من الأديان العمل بها.

160 كان الرسول ﷺ يحرس حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك ذلك.

161 المسلم ليس على شيء يعتدّ به من الدين حتى يقيم القرآن ويهتدى بهديه.

165 النصارى يقولون: الله هو المسيح والمسيح هو الله.

166 النصارى فرق ثلاث.

170 نهى الله أهل الكتاب عن الغلوّ في دينهم.

172 كان كثير من أهل الكتاب يوالون المشركين.

هامش

  1. كل ما تقدم في هذا الفصل مقتبس من تفسير المنار.
  2. التحميم وضع الحمة أي الفحمة في الوجه، وهو كالتسخيم الذي جاء في الرواية الأخرى من السخام: وهو سواد القدر