→ الجزء الرابع والعشرون | تفسير المراغي الجزء الخامس والعشرون أحمد مصطفى المراغي |
الجزء السادس والعشرون ← |
☰ جدول المحتويات
- [تتمة سورة فصلت ]
- سورة الشورى
- [سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 6]
- [سورة الشورى (42): الآيات 7 الى 8]
- [سورة الشورى (42): الآيات 9 الى 12]
- [سورة الشورى (42): الآيات 13 الى 14]
- [سورة الشورى (42): آية 15]
- [سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 18]
- [سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 22]
- [سورة الشورى (42): الآيات 23 الى 26]
- [سورة الشورى (42): الآيات 27 الى 35]
- [سورة الشورى (42): الآيات 36 الى 39]
- [سورة الشورى (42): الآيات 40 الى 43]
- [سورة الشورى (42): الآيات 44 الى 46]
- [سورة الشورى (42): الآيات 47 الى 50]
- [سورة الشورى (42): الآيات 51 الى 53]
- خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
- سورة الزخرف
- [سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 8]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 9 الى 14]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 15 الى 25]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 35]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 45]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 56]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 66]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 73]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 80]
- [سورة الزخرف (43): الآيات 81 الى 89]
- خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد
- سورة الدخان
- [سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 9]
- [سورة الدخان (44): الآيات 10 الى 16]
- [سورة الدخان (44): الآيات 17 الى 33]
- [سورة الدخان (44): الآيات 34 الى 37]
- [سورة الدخان (44): الآيات 38 الى 42]
- [سورة الدخان (44): الآيات 43 الى 50]
- [سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 59]
- خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
- سورة الجاثية
- [سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 5]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 11]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 12 الى 15]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 20]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 23]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 24 الى 26]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 27 الى 29]
- [سورة الجاثية (45): الآيات 30 الى 37]
- خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
- فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
[تتمة سورة فصلت ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة فصلت (41): الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
تفسير المفردات
الساعة: يوم القيامة، الأكمام: واحدها كمّ (بالكسر): وعاء الثمرة وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره، آذناك: أي أعلمناك يقال آذنه يؤاذنه أي أعلمه كما قال:
آذنتنا بينها أسماء رب ثاو يملّ منه الثّواء
ضل عنهم: أي غاب وزال، ظنوا: أي أيقنوا وعلموا، محيص: أي مهرب يقال حاص يحيص حيصا: إذا هرب.
المعنى الجملي
بعد أن هدد الكافرين بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملا غير منقوص، إن خيرا فخير وإن شرا فشر - أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا سبيل للخلق إلى معرفته، فلا يعلمه إلا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها المعينة مما استأثر الله به، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمر من الأكمام، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة ينادى المشركين تهكما وتقريعا لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟ فيجيبون: الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة في الألوهية، وقد غابوا عنهم فلا يرجون منهم نفعا، ولا يفيدونهم خيرا، وأيقنوا حينئذ أن لا مهرب لهم من العذاب.
روي أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت الآية.
الإيضاح
(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها أحد ردّ علمها إليه تعالى، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه، وقد جاء في الحديث « أن جبريل عليه السّلام سأل رسول الله ﷺ عن الساعة فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ».
ونحو الآية قوله تعالى: « إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها » وقوله: « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ».
وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة بين أنه اختص أيضا بعلم الغيب ومعرفة ما سيحدث في مستأنف الأزمنة فقال:
(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هي مغلّفة به، وما تحمل أنثى ولا تضع ولدها إلا يعلم من الله، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ونحو الآية قوله: « يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ».
وفي هذا دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشىء مما يقولون البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد يصيب وربما لا يصيب، وعلم الله هو المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.
ثم ذكر بعض ما يحدث في هذا اليوم فقال:
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى سبحانه عباده المشركين على رءوس الأشهاد تهكما بهم واستهزاء بأمرهم - أين شركائى الذين عبدتموهم معى؟ فيجيبون ويقولون: أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا، ونفى الشهادة يراد به التبرؤ منهم، لأن الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ».
والخلاصة - إن قوله آذناك إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة، وأنهم لم يبقوا على الشرك، وعلى تلك الشهادة، كأنهم يقولون أنت أعلم به، ثم يأخذون في الجواب.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي وغابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حل بهم.
(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا حينئذ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله.
[سورة فصلت (41): الآيات 49 الى 51]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
تفسير المفردات
لا يسأم: أي لا يملّ، والخير: المال والصحة والعزة والسلطان ونحوهما، والشر: الفقر والمرض ونحوهما، واليأس: انقطاع الرجاء من حصول الخير، والقنوط: (بالفتح) من اتصف بالقنوط (بالضم) وهو ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار، والرحمة هنا: الصحة وسعة العيش، والضراء: المرض وضيق العيش ونحوهما، هذا لي: أي هذا ما استحقه لما لي من الفضل والعمل، والحسنى: الكرامة، والغليظ هنا: الكثير، نأى بجانبه: أي تكبر واختال، وعريض: أي كثير مستمر يقولون أطال في الكلام، وأعرض في الدعاء: إذا أكثر.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه حال الكافرين في الآخرة، وذكر أنهم حينئذ يتبرءون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم في الدنيا - أردف ذلك بيان أن الإنسان متبدّل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحسّ بخير وقدرة انتفخت أوداجه وصعّر خديه ومشى الخيلاء، وإن أصابته محنة وبلاء تطامن واستكان ويئس من الفرج، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع، وشدة جزعه من الفقد، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة، وتطامنه حين زوالها، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن
المنعم في حالى وجودها وفقدها، أما في حال وجودها فواضح، وأما في حال فقدها فلأن التضرع جزعا إنما كان على الفقد الدالّ على الشغل عن المنعم بالنعمة.
الإيضاح
(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه ومسألته إياه أن يؤتيه صحة وعافية وسعة في الرزق، فهو مهما أوتى من المال فهو لا يقنع، وقد جاء في الأثر « منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال »
وجاء أيضا « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ».
(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن أصابه بؤس وضيق في المال أو ابتلى بمرض أنهك قواه واضمحلّ به جسمه - يئس من فضل الله ورحمته، وظهر عليه سيمى الذل والانكسار، والخنوع والخضوع.
وخلاصة ذلك - إن الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحس بخير بطر وتعظم، وإن شعر ببؤس ذل وخضع، فهو شديد الحرص على الجمع، شديد الجزع على الفقد.
ثم ذكر حال هذا اليئوس القنوط فقال:
(1) (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم في نفسه أو شدة وجهد في معيشته، فوهبنا له العافية بعد السقم، والغنى بعد الفقر - ليقولن هذا حقى قد وصل إلي، لأني أستوجبه بما حصل لي من ضروب الفضائل وأعمال البر والقرب من الله، لا تفضل منه علي - أو لا يعلم أن هذه الفضائل لو وجدت فإنما هي بفضل الله وإحسانه، وهو لا يستحق على الله شيئا؟
(2) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أظن الساعة ستقوم، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على شيء من الآثام التي يقترفها الإنسان في دنياه، ويجترمها مدى حياته الدنيوية.
وما نتج هذا إلا من شدة رغبته في الدنيا، وعظيم نفرته من الآخرة، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا يقول: إنها لي وأنا جدير بها، لما لي من فضل به استحققتها، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول: وما أظن الساعة قائمة.
(3) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي وإن الغالب على ظنى أن لا رجعة ولا بعث ولا قيامة، ولئن كان البعث حقا فإن لي عنده لكرامة في الآخرة، فإن حالها كحال الدنيا، فما استحققته من النعيم فيها سيكون لي مثله في الآخرة.
وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال ذكر أنه سيظهر لهم أن الأمر بعكس ما يظنون، وبضد ما يعتقدون فقال:
(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فلنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون إلينا بما عملوا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسّوا به أنفسهم من الخطايا، ثم لنجازينّهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار لا بالكرامة والإحسان، ولنذيقنهم عذابا غليظا لا يمكنهم الفكاك منه وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها ولا يجدون عنها حولا.
وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الجهد الجهيد - حكى أفعاله فقال:
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا نحن أنعمنا عليه فكشفنا عنه المرض ووهبنا له الصحة والعافية ورزقناه سعة العيش - أعرض عما دعوناه إليه من طاعتنا، واستكبر عن الانقياد لأمرنا.
ثم ذكر أنه حين الضراء يكون على عكس هذا فيتضرع ويبتهل إلى ربه فقال:
(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي وإذا أصابته شدة من فقر ومرض ونحوهما أطال الدعاء والتضرع إلى الله، لعله يكشف عنه تلك الغمة، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة.
ونحو الآية قوله « وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ » الآية.
[سورة فصلت (41): الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبروني، أضل: أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق، والشقاق: الخلاف، والآفاق: النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد: أي شاهد على كل ما يفعله خلقه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ومرية: أي شك، من لقاء ربهم: أي من البعث بعد الممات، محيط: أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد، وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه
متبدل لا يثبت على حال واحدة، فإن أحس القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة - أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين في ثبوة محمد ﷺ إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل، ليرعووا عما هم فيه من الغي والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله حقا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك: أخبروني أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون - من عند ربي ثم كفرتم به، أفلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب؟.
وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا في النفرة منه، حتى قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه، فإن دل الدليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل.
فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك - قل لهم: من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله وخلاف له، وبعد عنه؟
وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال:
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدي نبينا وعلى يدي خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه حتى
يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة - سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود، الخارقة للعادة، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم في قليل من الزمان.
ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال:
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال: « لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » الآية، وقوله: « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ ».
وقصارى ذلك - ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه في هذه السورة وفى كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث.
وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد - بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم في شك من البعث والجزاء، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم، وتبدد أعضائهم، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر في صدق نبوة محمد ﷺ وأن القرآن حق لا شك فيه.
ثم دفع مريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال:
(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل.
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) إعراض المشركين عن تدبره.
(3) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
(4) إقامة الأدلة على الوحدانية.
(5) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
(6) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
(7) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل الله.
(8) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
(9) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.
(10) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
(11) إعادة الأدلة على الوحدانية.
(12) القرآن هداية ورحمة.
(13) إحاطة علم الله وعظيم قدرته.
(14) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
(15) آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
(16) شك المشركين في البعث والنشور ثم الرد عليهم.
سورة الشورى
هي مكية إلا الآيات 23، 24، 25، 26، 27 فمدنية.
وآيها ثلاث وخمسون، نزلت بعد فصلت.
ومناسبتها لما قبلها - اشتمال كل منهما على ذكر القرآن، ودفع مطاعن الكفار فيه، وتسلية النبي ﷺ على ذلك.
[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
تفسير المفردات
حم عسق - تقدم أن قلنا إن الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور حروف تنبيه نحو ألا ويا ونحوهما، يؤتى بها لإيقاظ السامع وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام المشتملة عليها هذه السورة، وينطق بأسمائها هكذا (حاميم. عين. سين. قاف.) يتفطرن: أي يتشققن، يسبحون: أي ينزهون الله عما لا يليق به، والأولياء: الشركاء والأنداد، حفيظ: أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، بوكيل: أي بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ فحسب.
المعنى الجملي
بين سبحانه أن ما جاء في هذه السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة إلى التوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والتزهيد في جمع حطام الدنيا، والترغيب فيما عند الله، ثم ذكر أن ما في السموات والأرض فهو مهلكه وتحت قبضته، وله التصرف فيه إيجادا وإعداما وتكوينا وإبطالا، وأن السموات والأرض على عظمهما تكاد تتشقق فرقا من هيبته وجلاله سبحانه، وأن الملائكة ينزهونه عما لا يليق به من صفات النقص، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين، ثم أردف هذا تسلية رسوله ﷺ بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان يستطيع أن يردهم إلى سواء السبيل، بل ليس عليه إلا البلاغ وعلينا حسابهم، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون.
الإيضاح
(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي بمثل ما في هذه السورة، من الدعوة إلى التوحيد، والنبوة، والإيمان باليوم الآخر، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق، وإبعادها عن رذائل الخلال، والعمل على سعادة المرء والمجتمع، يوحى إليك الله العزيز في ملكه، الغالب بقهره، الحكيم بصنعه، المصيب في قوله وفعله، كما أوحى إلى الأنبياء بمثله من قبلك.
وسيأتي تفصيل هذا في سورة « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » فقد ذكر في أولها التوحيد، وفى وسطها النبوة وفى آخرها المعاد. ثم قال: « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » أي إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة العالية التي لا تتم السعادة إلا بها، ولا الفوز بالنعيم في الدارين إلا بسلوكها.
ثم بين سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال:
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي إن ما في السموات والأرض تحت قبضته وفى ملكه وله التصرف فيه إيجادا وإعداما، وهو المتعالي فوقه، العظيم عن مماثلته، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي تكاد السموات يتشققن من هيبة من هو فوقهن بالألوهية والقهر، والعظمة والقدرة.
وبعد أن بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال:
(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي والملائكة ينزهون ربهم عن صفات النقص، ويسمونه بسمات الجلال والكمال، شاكرين له على ما أنعم به عليهم من طاعته، وسخرّهم لعبادته.
ونحو الآية قوله: « لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ».
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به، ويلهمونهم سبل الخير الموصلة إلى السعادة، فمثلهم مثل الضوء يعطى الحياة بحرارته، ويعطى الهدى بنوره.
ونحو الآية قوله: « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ».
ثم بين سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده فقال:
(أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فما من مخلوق إلا له حظ من رحمته، وهو سبحانه ذو مغفرة للناس على ظلمهم.
وفي الآية إيماء إلى قبول استغفار الملائكة، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة، الرحمة بهم، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة، لعلهم يرعوون عن غوايتهم، ويثوبون إلى رشدهم، وينيبون إلى ربهم.
ثم أبان وظيفة الرسل فقال:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام والأوثان يعبدونها - الله هو المراقب لأعمالهم، المحصى لأفعالهم وأقوالهم، المجازى لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون، ولست أنت أيها الرسول بالحفيظ عليهم، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم، إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم إلا إذا شاء ربك.
[سورة الشورى (42): الآيات 7 الى 8]
وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)
تفسير المفردات
الإنذار: التخويف: وأم القرى: مكة، ويوم الجمع يوم القيامة: سمى بذلك لاجتماع الخلائق فيه كما قال تعالى: « يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ » والفريق: الجماعة، والسعير: النار المستعرة الموقدة.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أنه هو الرقيب على عباده، المحصى لأعمالهم، وأنه عليه السلام نذير فحسب، وليس عليه إلا البلاغ - ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب ليفهمه قومه من أهل مكة وما حولها كما قال: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » وينذرهم بأن يوم القيامة آت لا شك فيه، وأن الناس إذ ذاك فريقان: فريق يدخل الجنة بما قدم من صالح الأعمال، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيىء الفعال، ثم ذكر أن حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارا ولم يشأ أن يكون قسرا وجبرا، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل، فمن أخبت لله وأناب وعمل صالحا أفلح وفاز بالسعادة، ومن عاث في الأرض فسادا، واتجهت همته إلى ارتكاب الشرور والآثام خسر وباء بغضبمن الله ومأواه جهنم وبئس المهاد، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.
الإيضاح
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح، أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك، لاخفاء فيه عليك ولا عليهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره ولتنذر به أهل مكة وما حولها من البلاد، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه.
وقصارى ذلك - إنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم ولا بالوكيل، أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أهل مكة وما حولها.
وخص هؤلاء بالذكر، لأنهم أول من أنذروا، ولأنهم أقرب الناس إليه، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة، كيف وقد جاء في آية أخرى « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ».
وهذا الإنذار يعم شئون الدنيا وشئون الآخرة. ثم خص من بينها أمور الآخرة بيانا لعظيم أهوالها وشديد نكالها فقال:
(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي ولتنذر الخلائق كافة عقاب الله يوم جمعهم للعرض والحساب، وهو يوم لا شك فيه، لتظاهر الأدلة على تحققه عقلا ونقلا، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، ولما فيه من نصوص قاطعة على وجوده لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا.
ثم ذكر عاقبة العرض والحساب فقال:
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي إنهم بعد جمعهم وعرضهم للحساب يفرقون، ففريق منهم يدخل الجنة لإيمانه بالله ورسوله وبما أحسن من عمل في دنياه استحق به الكرامة عند ربه، والنعيم المقيم في جنته، وفريق منهم في نار الله الموقدة المسعورة على أهلها، وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله، فدسّوا أنفسهم بما أساءوا إليها من شرور وآثام، وبما عبدوه من أوثان وأصنام.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ».
ثم سلّى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم بتولي قومه عنه، وعدم استجابة دعوته، وأعلمه أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء، والمضل من أراد فقال:
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ولو شاء الله لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين كما تحب، وبعضهم كفارا وهم الذين اتخذوا من دون الله أولياء لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيا على التكليف والاختيار، يدخل فيه المرء بمحض الرضا والتأمل في الأدلة الموصّلة إلى الهدى، وبذلك يتم الفوز والسعادة في الدارين، وينفر منه من دنّس نفسه بإدران الشرك، وركب رأسه وأطاع هواه فكان من الخاسرين.
ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس جميعا أمة واحدة، ولكن له الحجة البالغة، والمثل الأعلى، لم يشأ ذلك، فلا تأس على عدم إيمان قومك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات كما قال: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا » وقد جاء هذا المعنى في غير آية سلف كثير منها كقوله: « وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » وقوله: « وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ».
[سورة الشورى (42): الآيات 9 الى 12]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
تفسير المفردات
الولي: الناصر والمعين، أنيب: أي أرجع، فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما لا على مثال سابق، من أنفسكم: أي من جنسكم، يذرؤكم: أي يكثّركم يقال ذرأ الله
الخلق: بثهم وكثّرهم، مقاليد: واحدها مقلاد أو مقليد أو إقليد، وهو المفتاح، يبسط أي يوسع، يقدر: أي يقتّر ويضيق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وأن الله وكيل عليهم، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم - طلب إليه هنا أن يدع الاهتمام بأمرهم، ويقطع الطمع في ايمانهم، مبينا أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وهو سبحانه الولي حقا، القادر على كل شيء، فقد عدلوا عنه إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال.
الإيضاح
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن هؤلاء المشركين من قومك، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون الله، وقد ضلوا ضلالا بعيدا، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فإن أرادوا وليّا بحق يدفع عنهم الملمات، ويجلب لهم الخيرات، فالله هو القادر على ذلك، وهو المحيي الموتى، ويحشرهم يوم القيامة، فجدير بمثله أن يتّخذ وليّا، لا من يستطيع دفع الضر عن نفسه ولا جلب الخير لها.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ».
وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرا - منع المؤمنين أن يتنازعوا معهم في شأن من شؤون الدين فقال:
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي وما اختلف فيه العباد من أمر الدين فحكمه ومرجعه إلى الله، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل بين المختصمين، وحينئذ يظهر المحق من المبطل، ويتميز أهل الجنة وأهل النّار.
وقد يكون المعنى - إن حكمه مردود إلى كتاب الله، فقد اشتمل على الحكم بين عباده فيما فيه يختلفون، فالآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين وأنه مردود إلى كتاب الله.
ونحو الآية قوله: « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ».
وقد حكم سبحانه في كتابه، بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون بأن ذلك حق إلا في الدار الآخرة وعدهم بذلك يوم القيامة.
ثم أمره أن يقول لهم:
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات، من الإحياء والإماتة، والحكم بين المختلفين، هو ربى وحده، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، عليه توكلت في دفع كيد الأعداء وفى جميع شئونى، وإليه أرجع في كل المهمات، وإليه أتوب من الذنوب.
وفي هذا تعريض لهم بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليّا لا يجديهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه، إذ من شأن العاقل ألا يفعل إلا ما يفيده في دين أو دنيا.
ثم بين الأسباب التي تحمله على أن يلتجىء إليه وتجعله الحقيق بذلك فقال:
(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه الجدير بأن يعتمد عليه، ويستعان به، لأنه خالق العوالم جميعها، علويها وسفليها، على عظمتها التي ترونها، لا آلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئا.
ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به فقال:
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ومن حكمته لبقاء العمران في هذه الحياة إلى الأجل الذي حدده في علمه - أن خلق لكم من جنسكم زوجات، لتتوالدوا، ويكثر النسل، ويستمر بقاء هذا النوع، وجعل للأنعام مثل هذا، وبذا تنتظم شئون الحياة لهذا الخليفة الذي جعله الله في الأرض، وتقضى مآربه الدنيوية من مأكول ومشروب، وتستمر تغذيته على أتم النظم، وأكمل الوجوه، فيشكر ربه على ما أولى، ويعبده على ما أنعم، فيفوز بالسعادة في الحياة الآخرة كما فاز بها في الدنيا.
وقوله « فيه » أي في هذا التدبير وهو التزويج، فهو سبحانه جعل الناس والأنعام أزواجا ليكون بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، فيكون هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير في النسل.
وبعد أن ذكر بعض صنعه الدال على عظمته أرشد إلى بعض صفاته العظيمة فقال:
(1) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) أي ليس كخالق الأزواج شيء يزاوجه، لأنه الفرد الصمد، وقد يكون المعنى ليس مثله شيء في شئونه التي يدبرها بمقتضى قدرته الشاملة، وعلمه الواسع، وحكمته الكاملة، ومن ثم جعل هذا التدبير المحكم لإحاطة علمه بكل شيء.
(2) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول، البصير بأعمالهم لا يخفى عليه شيء مما كسبت أيديهم من خير أو شر.
(3) (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض فبيده مقاليد الخير والشر، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك منها فلا مرسل له من بعده، وقد بين هذا بقوله:
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويقتّر على من يريد، بحسب السنن والنواميس التي وضعها بين عباده في هذه الحياة.
ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال:
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع عليه، وتقتير على من يقتر عليه، ومن الذي يصلحه البسط في الرزق، ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه التقتير، ومن الذي يفسده، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.
[سورة الشورى (42): الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
تفسير المفردات
أقيموا الدين: أي حافظوا عليه، ولا تخلّوا بشىء من مقوّماته، والمراد بالدين دين الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله، واليوم الآخر، وسائر ما يكون به العبد مؤمنا، ولا تتفرقوا فيه: أي ولا تختلفوا فيه، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضا، كبر: أي عظم وشق عليهم، يجتبى: أي يصطفى، ينيب: أي يرجع، والبغي: الظلم ومجاوزة الحد في كل شيء، لقضى بينهم: أي باستئصال المبطلين حين تفرقوا.
المعنى الجملي
بعد أن عظم وحيه إلى رسوله ﷺ، وأبان ماله من كبير الخطر حين نسبه إليه تعالى، وأنه صادر من عزيز حكيم لا يوحى إلا بما فيه مصلحة البشر ومنفعتهم في دينهم ودنياهم - ذكر هنا تفصيل هذا الوحي، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصى به أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأنداد والأوثان، وأن الله يهدى من يشاء من عباده لهدى دينه، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد، وأنه لو لا الكلمة السابقة من الله بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة في الدنيا، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب وشقاق بعيد.
الإيضاح
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين ما شرع لنوح ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل، وأمرهم به أمرا مؤكدا وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر، لعلوّ شأنهم وعظيم شهرتهم، ولاستمالة قلوب الكفار إلى أتباعه، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوّتهم، واختصاص اليهود بموسى عليه السّلام، والنصارى بعيسى عليه السّلام - وإلا فكل نبي مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد، وأصول الشرائع والأحكام مما لا يختلف باختلاف الأعصار كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات.
وفي الآية إيماء إلى أن ما شرعه لهم صادر عن كامل العلم والحكمة، وأنه دين قديم أجمع عليه الرسل، وما أوحاه إليه هو إما ما ذكر في صدر السورة، وفى قوله: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) الآية.
وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواضع التي من جملتها قوله تعالى: « ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا » وقوله: « إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ».
ثم فصل ما شرعه بقوله:
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي اجعلوا هذا الدين وهو دين التوحيد والإخلاص لله قائما دائما مستمرا، واحفظوه من أن يقع فيه زيغ أو اضطراب، ولا تتفرقوا فيه، بأن تأتوا ببعض وتتركوا بعضا، أو بأن يأتي بعض منكم بهذه الأصول التي شرعت لكم ويتركها بعض آخر.
والنهى إنما هو عن التفرق في أصول الشرائع، أما التفاصيل فلم يتحد فيها الأنبياء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا ».
والخلاصة - إننا شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء قبلكم، دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب بصالح الأعمال، كالصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحرّمنا عليكم الزنا، وإيذاء الخلق، والاعتداء على الحيوان - فكل هذا قد اتحد فيه الرسل وإن اختلفوا في تفاصيله.
(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتقريعهم على ذلك، لأنّهم توارثوا ذلك كابرا عن كابر ونقلوه عن الآباء والأجداد كما حكى سبحانه عنهم بقوله: « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين - ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك، لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال:
(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي الله يصطفى من يشاء من عباده ويقربهم إليه تقريب الكرامة، ويوفّق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به نبيه عليه من الحق - من راجع التوبة من معاصيه، وهذا كما روى في الخبر « من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة »
أي من أقبل إلي بطاعته أقبلت إليه بهدايتى وإرشادى، بأن أشرح له صدره، وأسهّل له أمره.
ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال، لما ذا صار الناس متفرقين في الدين مع أنهم أمروا بالأخذ به وعدم التفرق فيه فقال:
(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي وما تفرقت الأمم إلا من بعد ما علموا أن الفرقة ضلالة، وقد فعلوا ذلك بغيا وطلبا للرياسة، وللحميّة حمية الجاهلية التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبا وتدعو إليه وتقبح ما سواه، طلبا للأحدوثة بين الناس والسيطرة عليهم.
والخلاصة - إن الأمم قديمها وحديثها أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين وبلّغهم أنبياؤهم ذلك، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بذلك، بغيا وحسدا، وعنادا، وحبا للرياسة، فدعت كل طائفة إلى مذهب، وأنكرت ما عداه.
ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره ليوم معلوم فقال:
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ... لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا الكلمة السابقة من ربك بإنظار حسابهم وتأخيره إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعا بما دسّوا به أنفسهم من كبير الآثام وقبيح المعاصي.
ثم ذكر أن تفرقهم في الدين باق في أعقابهم مضافا إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فقال:
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده ﷺ وورثوا التوراة والإنجيل عن السابقين لهم في شك من كتابهم، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك أقضّ مضاجعهم، وأوقعهم في اضطراب وقلق.
وقصارى ذلك - إنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدّق لكتابهم، لأنهم شكوا في كتابكم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهى.
[سورة الشورى (42): آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
تفسير المفردات
ادع: أي إلى الائتلاف والاتفاق، واستقم: أي اثبت على الدعاء كما أوحى إليك، آمنت بما أنزل من كتاب: أي صدقت بجميع الكتب المنزلة، لا حجة: أي لا احتجاج ولا خصومة.
المعنى الجملي
بعد أن أمرهم سبحانه فيما سلف بالوحدة في الدين وعدم التفرق فيه، وذكر أنهم قد تفرقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم، بغيا وحسدا، وعنادا واستكبارا - أمر رسوله ﷺ بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها والدعوة إليها وألا يتبع أهواءهم الباطلة، ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية، وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه، فلا يأمرهم بما لا يعمله، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه.
ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعا واحد، وأن كل امرئ مسئول عن عمله، وأن الله يجمع الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشرة أوامر ونواه، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه، ولا نظير لها في ذلك سوى آية الكرسي فهي عشرة فصول أيضا.
الإيضاح
(فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فلأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا - ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي واثبت أنت ومن اتبعك على عبادة الله كما أمركم.
(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء الذين شكّوا في الحق الذي شرعه الله لكم، من الذين أورثوا الكتاب من قبلكم فتشكّوا فيه كما شكّوا.
(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل: صدّقت بجيمع الكتب المنزلة على الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، لا أكذّب بشىء منها.
وفي هذا تعريض بأهل الكتاب، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض، وتأليف لقلوبهم، إذ آمن بما آمنوا به.
(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرني الله بما أمرني به، لأعدل بينكم في الأحكام إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه أو نقصان منه، ولأبلّغ ما أمرني تبليغه إليكم كما هو.
(اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي الله هو المعبود بحق لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه فله يسجد من في السموات والأرض طوعا وجبرا.
(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا أعمالنا لا يتخطانا جزاؤها، ثوابا كان أو عقابا، ولكم أعمالكم لا ننتفع بحسناتكم ولا تضرنا سيئاتكم.
ونحو الآية قوله: « وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ».
(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا ولا احتجاج، فإن الحق قد وضح، وليس للمحاجة مجال، فما المخالف إلا معاند أو مكابر، وسيأتي الوقت الذي يستبين فيه الحق، ويتضح سبيل الرشاد، وإلى ذلك أشار بقوله:
(اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضى بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه.
ونحو الآية قوله: « قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ».
(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي وإليه المرجع والمعاد بعد مماتنا يوم الحساب، فيجازى كل نفس بما كسبت « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ».
وهذه الأوامر والنواهي وإن وجهت في الظاهر إلى الرسول ﷺ فهي له ولأمته كما هي القاعدة: أمر النبي ﷺ أمر لأمته إلا إذا ورد دليل على التخصيص.
[سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 18]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
تفسير المفردات
يحاجون في الله: أي يخاصمون في دينه، استجيب له: أي استجاب الناس لدينه ودخلوا فيه لوضوح حجته، داحضة: أي زائفة باطلة، والميزان: العدل بين الناس، يدريك: يعلمك، الساعة: القيامة، مشفقون: خائفون منها حذرون من مجيئها، الحق: أي الأمر المحقق الكائن لا محالة، يمارون: أي يجادلون وأصله من مريت الناقة: أي مسحت ضرعها للحلب، إذ كل من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة، بين هنا أن الذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه أفواجا، حجتهم في الصرف عنه زائفة لا ينبغي النظر إليها، وعليهم غضب من ربهم لمكابرتهم للحق بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
روي أن اليهود قالوا للمؤمنين: إنكم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم، ونبوة محمد ليست كذلك، وإذا فالأخذ باليهودية أولى، فدحض سبحانه هذه الحجة بأن الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه دالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد واليهود قد شاهدوها فوجب الاعتراف بنبوته.
ثم أردف ذلك تخويفهم بيوم القيامة حتى يستعدوا له ويتركوا المماراة بالباطل، ثم ذكر أن المشركين يستعجلون به استهزاء وإنكارا لوجوده، والمؤمنون خائفون منه، لعلمهم بالجزاء حينئذ، ثم أعقب ذلك بذكر أن المماراة في الساعة ضلال بيّن، لتظاهر الأدلة على حصولها لا محالة.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ورسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى - حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم، وعليهم غضب منه، لأنهم ما روا في الحق بعد ما تبين، ولهم عذاب شديد يوم القيامة، لتركهم الحق بعد أن وضحت محجته عنادا واستكبارا.
وقد سمى أباطيلهم التي لا ينبغي التعويل عليها - أدلة مجاراة لهم على زعمهم حتى يعاودوا النظر فيها، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق الذي لا شبهة فيه، بعيدة من الباطل الذي لا خير فيه، وأنزل العدل ليقضى بين الناس بالإنصاف، ويحكم بينهم بحكمه الذي أمر به في كتابه.
ونحو الآية قوله: « لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ».
ثم رغب سبحانه في الآخرة وزهد في الدنيا فقال:
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ؟) أي وأي شيء يعلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة تكون قد أزفت؟ فعليك أن تتبع الكتاب وتواظب على العدل بين الناس، واعمل بما أمرت به قبل أن يفجأك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى كل عامل جزاء عمله.
والمراد بذلك حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته.
روي أن النبي ﷺ ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى الساعة؟ استهزاء بها، وتكذيبا لمجيئها، فأنزل الله الآية، ويدل على ذلك قوله:
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء وإنكار، وكانوا يقولون متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر لنا، أنحن على الحق فنفوز بالنجاة، أم محمد وأصحابه فنكون من الخاسرين؟
وبعد أن بين حال المشركين في شأنها ذكر حال المؤمنين بها فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي والذين آمنوا خائفون منها وجلون من مجيئها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم، وهم موقنون أنهم محاسبون ومجزيون على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما أنهم يعلمون علم اليقين أن مجيئها حق لا ريب فيه، فهم يستعدون له ويعملون من أجله.
ونحو الآية قوله: « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ».
روي « أن رجلا سأل رسول الله ﷺ بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فقال يا محمد: فقال رسول الله ﷺ بنحو من صوته (هاؤم) فقال له متى الساعة؟ فقال له: إنها كائنة فما أعددت لها؟ فقال حب الله ورسوله، فقال ﷺ: أنت مع من أحببت ».
ثم بين ضلال الممارين فيها فقال:
(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ألا إن الذين يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها، لفى جور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الرشاد، وبعد من الصواب، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ».
[سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 22]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
تفسير المفردات
لطيف بعباده: أي هو برّ بهم يفيض عليهم من جوده وإحسانه، حرث الآخرة: ثمرات أعمالها تشبيها لها بالغلة الحاصلة من البذور، حرث الدنيا: لذّاتها وطيباتها، شركاء: أي في الكفر وهم الشياطين، شرعوا لهم: أي زينوا لهم، ما لم يأذن به الله: أي كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب، كلمة الفصل: هي القضاء والحكم السابق منه بالنّظرة إلى يوم القيامة، الروضة: مستنقع الماء والخضرة، وروضات الجنات: أطيب بقاعها وأنزهها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سبق أنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على الدلائل الموصلة إلى السعادة، وأن المتفرّقين في الدين استوجبوا شديد العذاب، لكنه أخره إلى يوم معلوم - أرشد هنا إلى أن ذلك من لطف الله بعباده، ولو شاء لجعلهم في عماية من أمرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، ولو شاء لعجل لهم العذاب. ثم بين أن من يعمل للآخرة يرجو ثوابها يضاعف له فيها الجزاء إلى سبعمائة ضعف، ومن يعمل للدنيا وجلب لذاتها يؤته ما يريد، وليس له في الآخرة نصيب من نعيمها، ثم أعقب هذا بذكر ما وسوست به الشياطين للمشركين، وزينت لهم به من الشرك بالله وإنكار البعث إلى نحو ذلك، ثم بين أنهم كانوا يستحقون العذاب العاجل على ذلك، لكنه أجّله لما سبق في علمه من إنظارهم إلى يوم معلوم، ثم ذكر مآل كل من الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، فالأولون خائفون وجلون من جزاء ما عملوا، والآخرون مترفون منعّمون.
الإيضاح
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي إنه برّ تعالى برّ بعباده يرسل إليهم أعظم المنافع، ويدفع عنهم أكبر البلاء، فيرزق البرّ والفاجر، لا ينسى أحدا منهم، ويوسع الرزق حلى من يشاء منهم، ويقتّره على من يشاء، ليمتحن الغنى بالفقير والفقير بالغنى، وليحتاج مضر إلى بعض كما قال: « لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ».
ونحو الآية قوله: « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ».
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال:
(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي وهو القادر على ما يشاء، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء مما يريده.
وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه بما يزهّد في التكالب على طلب رزق البدن، ويرغّب في الجد في طلب رزق الروح والسعي في رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها فقال:
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة نوفقه لصالح الأعمال ونجزه بالحسنة عشر أمثالها إلى ما شاء الله.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان سعيه موجها إلى شؤون الدنيا، وطلب طيباتها واكتساب لذاتها، وليس له همّ في أعمال الآخرة - نؤته منها ما قسمناه له، وليس له في ثواب الآخرة حظ، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، قال قتادة: إن الله يعطى على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطى على نية الدنيا إلا الدنيا.
ونحو الآية قوله: « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ».
وقال ابن عباس: من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ قال « بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ».
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال: « تلا رسول الله ﷺ (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) لآية ثم قال يقول الله: ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك ».
وعن علي كرم الله وجهه قال: الحرث حرثان: فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.
ولما بين القسطاس الأقوم في أعمال الآخرة وأعمال الدنيا أردفه التنبيه إلى ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال:
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي هم ما اتبعوا ما شرع الله من الدين القويم، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، فحرّموا عليهم ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو أولئك من الضلالات والجهالات التي كانوا قد اخترعوها في الجاهلية.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: « رأيت عمرو بن لحي بن قمنعة يجر قصبه - أمعاءه - في النار » لأنه أول من سيّب السوائب وحمل قريشا على عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة.
وقصارى ذلك - إن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا.
ثم بين أنه رحمة بعباده أخّر عذاب المشركين ليوم معلوم ولم يعجله لهم فقال:
(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا القضاء السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لعوجلوا بالعذاب كما قال سبحانه: « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ».
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن الظالمين أنفسهم بشرع ما لم يأذن به الله مما ابتدعوه من التحليل والتحريم - لهم عذاب شديد الإيلام في جهنم وبئس المصير.
ثم ذكر أحوال أهل العقاب وأهل الثواب يوم القيامة مبتدئا بالأولين فقال:
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي ترى الظالمين خائفين أشد الخوف مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا.
وذكر الآخرين بقوله:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه - لهم في الآخرة روضات الجنات متمتعين بمحاسنها ولذاتها.
ثم بين ما يكون من النعيم في تلك الروضات فقال:
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم ما يشاءون من فنون اللذات من مآكل ومشارب ومناظر مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وبعدئذ بين خطر ذلك الفوز الذي ينالونه تفضلا من ربهم ورحمة فقال:
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الذي أعطاهم ربهم من هذا النعيم وتلك الكرامة - هو الفضل الذي منّ به عليهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض.
[سورة الشورى (42): الآيات 23 الى 26]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
تفسير المفردات
البشارة: الإخبار بحصول ما يسرّ في المستقبل، والقربى: التقرب، يقترف: أي يكتسب، يختم على قلبك: أي يجعل قلبك من المختوم عليهم حتى تجترىء على الافتراء، يمحو: أي يزيل، يحق: أي يثبت، وكلماته: هي حججه وأدلته، يستجيب الذين آمنوا: أي يجيب دعاءهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في الآيات السالفة أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم في روضات الجنات، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرّة أعينهم رحمة من لدنه - ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة ببشارة منه لهم، ثم أعقب هذا بأن أمر رسوله أن يقول لهم: إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرا، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته، ثم رد عليهم قولهم: إن القرآن مفترى بأنه لا يفترى الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه، ومن سنن الله إبطال الباطل ونصرة الحق، فلو كان محمد كذابا مفتريا لفضحه وكشف باطله، ولكن أيده بالنصر والقوة، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه للقرآن، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه، ويزيدهم من نعمه، وأوعد الكافرين بشديد العقاب كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام.
الإيضاح
(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا الذي أخبرتكم بأني أعددته في الآخرة من النعيم والكرامة لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال - البشرى التي أبشركم بها في الدنيا، ليتبين لكم أنها حق وأنها كائنة لا محالة.
والخلاصة - إن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه - هم المبشرون بتلك البشارة.
وبعد أن ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه ﷺ من هذه الأحكام التي اشتمل عليها كتابه - أمره أن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرا فقال:
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل لهم: لا أسالكم على تبليغ ما أبلغكم به من هذا لدين القويم نقعا منكم في دنياى، لكن أسألكم أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، قاله الحسن البصري، ويدخل في ذلك مودة النبي ﷺ ومودة قرابته ومودة ذوي القربى من المسلمين.
وقال ابن عباس: إلا أن تودوني في نفسي لقرابتى منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم. وعن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: إن رسول الله ﷺ كان واسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم الآية، أي أن تودوني لقرابتى منكم وتحفظوني بها.
وروي عن ابن عباس قال: « قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال العباس لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأتاهم في مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال أفلا تجيبون؟ قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله فنزلت هذه الآية ».
وعلى هذه الرواية فالآية مدنية، والأصح أنها مكية.
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا) أي ومن يعمل عملا فيه طاعة لله ورسوله نزد له فيه أجرا وثوابا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما فوق ذلك فضلا منا ورحمة.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ».
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي إنه تعالى يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر، قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات.
ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى الرسول ووبخهم على مقالهم فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي أيقع في قلوبهم ويجرى على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها؟
وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج الذي يعاضده الدليل ويؤيده البرهان - افتراء على الله واختلافا للكذب عليه - وفى ذلك أتم دلالة على بعده ﷺ من الافتراء.
وخلاصة ذلك - إنهم قالوا إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه وليس بوحي من عند ربه كما يدّعي.
ثم زاد في استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام والإنكار له على أتم وجه فقال:
(فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي فإن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان في مثل حالهم قد ختم الله على قلبه وأعمى بصيرته.
والخلاصة - إنه إن يشأ يجعلك منهم، لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وما أجمل هذا التعريض بأنهم مفترون، وأنهم في نسبة الافتراء إليه مفترون أيضا، وشبيه بالآية قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى بصيرتي - لا يريد بمقاله إثبات الخذلان وعمى القلب، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططا، وأتى أمرا إدّا، وقال قولا نكرا.
ثم أكد استبعاد الافتراء منه وزاده إيضاحا فقال:
(وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي كيف يكون منه الافتراء على الله، وقد جرت سنته تعالى أن يمحو الباطل ويمحقه ويثبت الحق وينشره بين الناس، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد كل يوم قوة وانتشارا، فلو كان مفتريا كما تدّعون لكشف افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه.
وقد يكون المعنى - إن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر ويكون المراد - يمحو الله باطلهم وما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه الذي لا مرد له، فيكون هذا كلاما معترضا بين ما قبله وما بعده مؤكدا لما سبق من الكلام من كونهم مبطلين في نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثا.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تكنّه الضمائر، وتنطوى عليه السرائر، وتجرى الأمور بحسب علمه الواسع المحيط بكل شيء.
ثم امتنّ على عباده بقبول توبتهم إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما فرط منهم من الذنوب، واقترفوا من السيئات.
والتوبة الندم على المعصية، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إليها، وهذه شروط ثلاثة فيما بين العبد وربه، فإذا كملت صحت التوبة، وإن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة، أما فيما يتعلق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حق صاحبها.
ومن علامات التوبة النصوح - صدق العزيمة على ترك الذنب، وألا يجد له حلاوة في قلبه عند ذكره.
وقد ورد في الحضّ على التوبة كثير من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك:
(1) ما رواه أبو هريرة من قوله ﷺ « لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالّته في المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش ».
(2) ما رواه جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله ﷺ وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال التوبة اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي.
(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي ويعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان خيرا أو شرا، فيجازى بالثواب والعقاب، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وفي هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له وإمحاض التوبة.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء.
وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب أردف ذلك ما أعده للكافرين من العذاب فقال:
(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والكافرون يوم القيامة لهم عذاب مؤلم موجع، فالمؤمنؤن قد تقبل دعاءهم وزادهم من فضله، وهؤلاء لا يستجيب لهم دعاء « وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ».
[سورة الشورى (42): الآيات 27 الى 35]
ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) ومِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
تفسير المفردات
البسط: السعة، والبغي: الظلم ومجاوزة الحد، بقدر: أي بتقدير يقال قدره قدرا وقدرا إذا قدّره، والغيث: المطر، وقنط: يئس، ورحمته: هي منافع الغيث وآثاره التي تعم الحيوان والنبات والسهل والجبل، والولي: هو الذي يتولى عباده بالإحسان، الحميد: أي المستحق للحمد على نعمه، بث: نشر وفرّق، والدابة: كل ماله دبيب وحركة، على جمعهم: أي حين الحشر والحساب: بمعجزين: أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه، والجواري: أي السفن الجارية، والأعلام: واحدها علم: وهو الجبل، قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به كأنه علم في رأسه نار
يسكن الريح: أي يجعلها ساكنة لا تموج، رواكد: أي ثوابت، والصبار: كثير الصبر وهو حبس النفس حين الشدائد عن الجزع وعن التوجه إلى من لا ينبغي التوجه إليه، وشكور: أي كثير الشكر للنعم، يوبقهن: أي يهلكهن يقال للمجرم أوبقته ذنوبه: أي أهلكته، محيص: أي مهرب ومخلص.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه يجيب دعاء المؤمنين إذا هم أنابوا إليه وأخبتوا ذكر هنا أنه لا يعظيهم كل ما يطلبون من الأرزاق، بل ينزلها بقدر بحسب ما يعلم من مصلحتهم، فإن كثرة الرزق تجعل الناس يتجبرون ويتكبرون، والله هو الخبير بما يصلح حالهم من فقر وغنى.
قال خبّاب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها.
ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق لا يمنعه منهم وهو المتولى أمورهم بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة، ثم أقام الأدلة على ألوهيته يخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا من الأمراض والأسقام والفقر والغنى فيكسب الإنسان واختياره كما دلت على صدق ذلك التجارب، ثم أعقب ذلك بآية أخرى على ألوهيته وهي جريان السفن في البحار، فتارة يجعل الريح ساكنة فتظل السفن على سطحها، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها أو تنجو بحسب تقديره تعالى.
الإيضاح
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان وطلب ما ليس لهم طلبه، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة لمن اعتبر، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم وهو أعلم بحالهم، فيغنى من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر بحسب ما يعلم من المصلحة في ذلك كما ورد في الأثر « إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ».
والخلاصة - إنه تعالى خبير بما يصلح عباده من توسيع الرزق وتضييقه، فيقدر لكل منهم ما يصلحه، فيبسط ويقبض، ويعطى ويمنع، ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.
فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم الجامع بين الأمرين، فخوف الأغنياء يزعهم عن الظلم، وخوف الفقراء من الأغنياء يدعوهم إلى التعاون معهم، ليفوزوا بمبتغاهم ويزعهم عن البغي.
عن أبي هانىء الخولاني قال: سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون: « إنما نزلت هذه الآية في أهل الصّفّة، فإنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا ». رواه السيوطي بسند صحيح.
قال قتادة: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك.
وبعد أن بين أنه لا يعطى عباده ما زاد على حاجتهم، لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم في دينهم - ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث فهو لا يمنعه عنهم فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو الذي ينزل المطر من السماء فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه، وينشر بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: قحط المطر وقنط الناس يا أمير المؤمنين، فقال عمر: مطرتم ثم قرأ الآية.
ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال:
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر - خلق السموات والأرض وما نشر فيهما من دابة تدبّ وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم.
(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل وهو اللطيف الخبير.
وقصارى ذلك - إنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه.
ثم ذكر دستورا للناس في أعمالهم إذا تأملوه أفعلوا عما يرتكبونه من الآثام فقال:
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي وما يحل بكم أيها الناس من المصايب في الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم فلا يعاقبكم بها.
فالله سبحانه جعل الذنوب أسبابا لها نتائجها ومسبباتها: فشارب الخمر يصاب بكثير من الأمراض الجسمية والعقلية في الدنيا وهي أثر من آثار ما اجترح من الذنب. والتاجر غير الأمين أو الكذاب تصاب تجارته بالكساد ويشهر بين الناس بالخيانة فيحجمون عن معاملته. والحكام المرتشون الظلمة الذين يجمعون أموالهم بالسحت يصابون بالفقر والعدم ويصبحون مثلا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر بصب أولادهم فيصبحوا بحال يرثى لها ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة. والأمم الظالمة التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة والذلة بعد العزة، وما الأمثال في ذلك بعزيزة، فها هي ذي الأمم الشرقية إنما أصابها ما أصابها من الضعف والخمول والاضمحلال ثم الزوال من صفحة الوجود بما اجترحت من ظلم وإفساد في الأرض، وأكل بعضها أموال بعض واحتجان عظمائها الأموال في خزائنهم، وابتزازها من أيدي الضعفاء وقد اقتص الله لهم منهم، فأضاع ملكهم، وأذهب ريحهم، وجعلهم لقمة سائغة للمستعمرين الذين تحكموا فيهم وجعلوهم كالعبيد، يتصرفون فيهم بحسب أهوائهم، وما تمليه عليهم مصالحهم، وما يدرّ عليهم الخير لبلادهم وشعوبهم.
وفي هذا عبرة لمن ادّكر، وقد تقدم أن قلنا في غير موضع إن عقاب الأفراد في الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرا ما نرى سكيرا عربيدا لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرا يخون الأمانة ولا يصاب بكساد في تجارته، وحينئذ يكون عقاب كل منهما مؤجلا ليوم الحساب إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة عما فرط منهما من الذنوب والآثام.
أما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات فهو محقق في الدنيا، ولدينا عظة التاريخ في القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها وخالفت نواميس العمران، إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين، ومثلا للآخرين، فالرومان والفرس والعرب في الشرق وفى الأندلس والترك - مثل ماثلة أمامنا تجلّى لنا تلك القضية « فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ».
ونحو الآية قوله تعالى: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ »
وفي الحديث الصحيح « والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها ».
ولما نزلت هذه الآية
قال رسول الله ﷺ « والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر ».
وروى الترمذي وجماعة عن علي كرم الله وجهه قال: « ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله ﷺ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا على: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثّنى عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه »
والآثار في هذا الباب كثيرة.
والخلاصة - إنه يكفّر عن العبد بما يصيبه من المصايب، ويعفو عن كثير من الذنوب وقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفّر عنه من ذنوبه.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي وإنكم لا تعجزون الله حيثما كنتم، فلا تسبقونه بهربكم منه في الأرض حتى لا تنالكم المصايب، بل هي لا حقة بكم أينما تكونوا، والخلاصة - إن ما قضاه الله عليكم واقع بكم لا محالة ولا مفرّ منه.
وبعد أن نفى المهرب مما قدّر نفى النصير والمعين الذي يمنع حلول المقدور فقال:
(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لكم من دون الله ولي يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم، ولا لكم نصير ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم، فاحذروا معاصيه واتقوا مخالفة أوامره، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده.
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات عظمته الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال:
(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن دلائل قدرته، وباهر حكمته، وعظيم سلطانه - تسخيره البحر لتجرى فيه الفلك بأمره كالجبال الشاهقة، والمدن العالية.
(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن في البحر ألا تجرى فيه. أسكن الريح التي تجرى بها، فتثبت في موضع واحد وتقف على ظهر الماء لا تتقدم ولا تتأخر.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتي فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في جرى هذه الجواري في البحر بقدرته تعالى - لحجة بينة على قدرته على ما يشاء، لكل ذي صبر على طاعته، شكور لنعمه وأياديه عنده.
والمؤمن إذا كان في ضراء كان من الصابرين، وإذا كان في سرّاء كان من الشاكرين، وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر، وقال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر. وقد قيل: الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق السفن بذنوب راكبيها، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها لأهلك كل من ركب البحر.
والخلاصة - إنه لو شاء أسكن الريح فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر، ولو شاء لأرسلها عاتية قويّة فاخرتها عن سيرها، وصرّفتها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم.
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وليعلم الذين ينازعون في آياتنا على جهة التكذيب لها أنه لا مخلص لهم إذا وقفت السفن أو إذا عصفت الريح، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن النافع الضارّ ليس إلا الله تعالى.
[سورة الشورى (42): الآيات 36 الى 39]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
تفسير المفردات
آتاه الشيء: أعطاه إياه، والمتاع: ما ينتفع ويتمتع به من رياش وأثاث ونحوهما، يتوكلون: يفوّضون إليه أمورهم، كبائر الإثم: هي كل ما يوجب حدّا، والفواحش: هي ما فحش وعظم قبحه كالزنا والقتل ونحوهما، واستجابوا: أي أجابوا داعي الله، فأدّوا فرائضه، وتركوا نواهيه، والشّورى والمشاورة: المراجعة في الآراء، ليتبين الصواب منها، والبغي: الظلم، ينتصرون: أي ينتقمون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل توحيده وعظيم قدرته وسلطانه بخلق السموات والأرض وجرى السفن ماخرات في البحار - أردف ذلك التنفير من الدنيا وزخرفها، لأن المانع من النظر في الأدلة إنما هو الرغبة فيها طلبا للرياسة والجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين المرء لم يلتفت إليها، وانتفع بالأدلة ووجّه النظر إلى ملكوت السموات والأرض، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به، وتوكل عليه، واجتنب كبائر الذنوب والفواحش، وكان منقادا له مطيعا لأوامره، تاركا لنواهيه، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يبرم أمرا إلا بعد مشورة، وانتصر لنفسه ممن ظلمه.
الإيضاح
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وكل ما تعطونه أيها الناس من الغنى والسعة في الرزق والمال والبنين، فهو متاع قليل، تتمتعون به في مدى قصير، يذهب وينقضى، ولله در القائل:
إنما الدّنيا فناء ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
وفي هذا تحقير لشأن هذه الحياة وزينتها وما فيها من النعيم الزائل.
ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال:
(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما عند الله من الثواب والنعيم خير من زهرة الدنيا، لأنه باق سرمدي، وما فيها زائل فان، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني.
ثم بين أنه لا يكون خيرا إلا لمن اتصف بصفات:
(1) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صدقوا الله وآمنوا برسوله.
(2) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وعلى من ربّاهم على إحسانه يعتمدون، ويفوضون إليه أمورهم، ولا يلتفتون إلى غيره في مهامّ أمورهم. روى أن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله فلامه المسلمون وخطأه الكافرون.
(3) (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي والذين يتباعدون عن ارتكاب كبائر الآثام كالقتل والزنا والسرقة، وعن الفواحش التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم، من قول أو فعل.
(4) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم، إذ من سجاياهم الصفح والعفو، وليس من طباعهم الانتقام وقد ثبت في الصحيح « أن رسول الله ﷺ ما انتقم لنفسه قط إلا أن تتهك حرمات الله ».
(5) (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والبراءة من عبارة كل ما يعبد من دونه.
(6) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة فيأوقاتها على أكمل وجوهها، وخص الصلاة من بين أركان الدين، لما لها من الخطر في صفاء النفوس، وتزكية القلوب، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(7) (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم، ليقتلوه بحثا وتمحيصا، ولا سيما الحروب ونحوها.
وقد كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الكثير من الأمور، ولم يكن يشاورهم في الأحكام، لأنها منزلة من عند الله، أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها، ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي ﷺ لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى تولية أبي بكر، وتشاوروا في قتال من ارتدوا بعد وفاة الرسول ﷺ فاستقرّ رأى أبي بكر على القتال، وقد كان فيه الخيرة للاسلام والمسلمين، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وقد عليه مسلّما.
ونحو الآية قوله: « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، وصقال للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا. ولأمر ما أصبحت الحكومات في العصر الحاضر لا تبتّ في مهام الأمور إلا إذا عرضت على مجالس الشورى (البرلمان - مجلس الشيوخ والنواب) وكأني بك قد سمعت قول بشار بن برد في فوائد الشورى:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأى لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة قريش الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغلّ أختها وما خير كف لم تؤيد بقائم
(8) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما آتاهم ربهم في سبل الخير، والبذل فيما فيه منفعة للفرد والمجتمع، ورفعة الأمة وعلوّ شأنها وعزها.
(9) (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي والذين إذا بغى عليهم باغ ينتصرون ممن ظلمهم من غير تعدّ عليه.
والمؤمنون فريقان:
(1) فريق يعفو اتباعا لقوله تعالى: « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » وقوله: « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » وقوله: « وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ».
(ب) فريق ينتصر ممن ظلمه وهو المذكور في هذه الآية.
والخلاصة - إن العفو ضربان:
(1) ضرب يكون فيه العفو سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ومنع استفحال الشر، وهذا محمود وحثت عليه الآيات الكريمة التي ذكرت آنفا.
(2) ضرب يكون فيه العفو سببا لجراءة الظالم وتماديه في غيّه، وهذا مذموم وعليه تحمل الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود، والانتصار من المخاصم المصرّ على جرمه والمتمادى في غيّه محمود، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
[سورة الشورى (42): الآيات 40 الى 43]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
تفسير المفردات
السيئة: مأخوذة من السوء، وهو القبيح، وانتصر: أي سعى في نصر نفسه بجهده، من سبيل: أي من عقاب ولا عتاب، لمن عزم الأمور: أي لمن الأمور المشكورة والأفعال التي ندب إليها عباده، ولم يرخّص بالتهاون فيها.
المعنى الجملي
بعد أن مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم ممن بغى عليهم - أردف ذلك ما يدل على أن ذلك الانتصار مقيد بالمثل، لأن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، ثم ندب إلى العفو والإغضاء عن الزلات، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس، ويبغى في الأرض بغير الحق، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين، وأجزل ثواب فاعله.
الإيضاح
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من الله مأذون بها، لأنها تسوء من تنزل به كما قال تعالى في آية أخرى: « وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ » يريد ما يسوءهم من المصايب والبلايا.
وفي الآية حثّ على العفو، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة في الجزاء، وتقديرها عسر شاقّ، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما.
ونحو الآية قوله: « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » وقوله: « وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ » وقوله « وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ».
وقد أمر ﷺ بردّ الشتم على الشاتم.
أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت: « دخلت علي زينب وعندى رسول الله ﷺ فأقبلت علي تسبنى فردعها النبي ﷺ فلم تنته، فقال لي سبيها، فسبيتها حتى جفّ ريقها في فمها، ووجه رسول الله ﷺ يتهلل سرورا ».
وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد وقد رأى فيه المصلحة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: المستبّان ما قالا من شيء فعلى البادي حتى يعتدى المظلوم ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) »
وقصارى ذلك - إن كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا، لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد، إذ في طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه، والزيادة على قدر الذنب ظلم، والشرائع تتنزه عن ذلك، ومن ثم شرع الله القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو فقال: « وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ » وجاء تتمة لهذه الآية.
(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه، فأجره على الله، فيجزيه أعظم الجزاء.
وفي إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة في الترغيب في العفو والحثّ عليه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى: ألا ليقم من كان له على الله أجر فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا وذلك قوله: (فَمَنْ عَفا) الآية ».
ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال:
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد في الانتقام، وفى هذا تصريح بما تضمنه سالف الكلام من حسن رعاية طريق المماثلة وأنها قلّما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحميّة، وحينئذ يدخل المنتقمون في زمرة من لا يحبهم الله.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي والله لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهو إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعدّ - لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.
ولما نفى السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل فقال:
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي إنما الحرج والإثم على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حدّ لهم، أو يتكبرون في الأرض تجبرا وفسادا.
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هؤلاء لهم عذاب مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم.
ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال:
(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي ولمن صبر عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى، وستر السيئة، فقد فعل ما يشكر عليه، ويستحق به الأجر وجزيل الثواب.
روى « أنه ﷺ قال لأبي بكر: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجلّ بها قلة ».
[سورة الشورى (42): الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي والعدوان بغير الحق - أردف ذلك بيان أن من أضله الله فلا هادي له، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة يطلبون الرجوع إلى الدنيا، وأنهم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء ينظرون من طرف خفي، وأن الذين آمنوا يقولون إن الكافرين لفى خسران فقد أضاعوا النفس والأهل، ولا يجدون لهم ناصرا يخلصهم مما هم فيه من العذاب.
الإيضاح
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي إنه ما شاء الله كان ولا رادّ له، وما لم يشأ لم يكن، فمن هداه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له.
والخلاصة - إن من خذله الله لسوء استعداده وتدسيته نفسه باجتراح الآثام والمعاصي، فليس له من ولي يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح.
ونحو الآية قوله: « وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ».
ثم ذكر تمني الكافرين الرجوع إلى الدنيا فقال:
(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟) أي وترى الكافرين بالله حين يعاينون العذاب يوم القيامة يتمنّون الرجعة إلى الدنيا ويقولون: هل من رجعة لنا إليها؟
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».
ثم ذكر حالهم حين يعرضون على النار فقال:
(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي وتراهم أيضا في ذلك اليوم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء (لأنهم عرفوا ذنوبهم وتكشفت لهم عظمة من عصوه) يسارقون النظر إليها خوفا منها، وحذرا من الوقوع فيها، كما ينظر من قدّم للقتل إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وإنما ينظر ببعضها.
ولما وصف حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال:
(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ويقول المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين غبنا لا غبن بعده - هم الذين خسروا أنفسهم، فأدخلوا في النار، وحرموا نعيم الأبد، وفرّق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوي قراباتهم.
ثم صدّقهم ربهم فيما قالوا فقال:
(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي ألا إن الكافرين لفى عذاب سرمدي، لا مهرب لهم منه ولا خلاص، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأى سبيل فقال:
(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ولا يجدون لهم أعوانا وأنصارا ينقذونهم مما حل بهم من العذاب، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي ومن يضلله الله لما علم من استعداده للشر والفساد وارتكاب الشرور والآثام فلا سبيل له إلى الوصول إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة.
[سورة الشورى (42): الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرانًا وَإِناثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
تفسير المفردات
استجيبوا لربكم: أي أجيبوه إذا دعاكم إلى ما فيه نجاتكم، لا مردّ له: أي لا يرده أحد بعد ما حكم به، ملجأ: أي ملاذ تلجئون إليه، نكير: أي إنكار وجحود لما اقترفتم، حفيظا: أي محاسبا لأعمالهم رقيبا عليها، رحمة: أي نعمة من صحة وغنى، سيئة: أي بلاء من فقر ومرض وخوف، كفور: نسّاء للنعمة ذكّار للبلية، يزوجهم أي يجعلهم جامعين بين البنين والبنات، عقيما: أي لا يولد له.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما سيكون يوم القيامة من الأهوال وعظائم الأمور - حذر من هذا اليوم فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذ ملجأ يقيهم من عذاب الله، ولا ينكرون ما اقترفوه، لأنه مكتوب في صحائف أعمالهم، ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك، فلا تأبه بهم، ولا تهتم بشأنهم، ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان، وأنه يفرح حين النعمة، ويجحد نعم ربه حين الشدة، ثم قسم هبته لعباده في النسل أربعة أقسام، فمنهم من وهب الإناث، ومنهم من وهب الذكران، ومنهم من أعطى الصّنفين، ومنهم العقيم الذي لا نسل له.
الإيضاح
(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) أي أجيبوا داعي الله وهو رسوله ﷺ، وآمنوا به، واتبعوه فيما جاءكم به من عند الله، من قبل أن يأتي يوم لا يستطيع أحد أن يرده إذا جاء به الله.
(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا يستطيعون إنكار ما اجترحتموه من السيئات، لأنه قد كتب في صحفكم، وتشهد به ألسنتكم وجوارحكم.
ونحو الآية قوله تعالى: « يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ».
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق، ودعوتهم إليه من الرشد، ولم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم وشأنهم، فإنا لم نرسلك رقيبا عليهم تحفظ أعمالهم وتحصيها، فما عليك إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم، فإذا أنت بلّغته فقد أديت ما كلّفت به.
ونحو الآية قوله: « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله: « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » وقوله: « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ».
وبعدئذ ذكر طبيعة الإنسان وغريزته في هذه الحياة فقال:
(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من لدنا سعة في الرزق أو في الصحة أو في الأمن سرّ بما آتيناه، وإن أصابته فاقة أو مرض بما أسلف من معصية ربه جحد نعمتنا وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.
والخلاصة - إن الإنسان إن إصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلى بمحنة يئس وقنط.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطى من يشاء ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرانًا وَإِناثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيمًا) أي يخلق ما يشاء فيرزق من يشاء البنات فحسب، ويرزق من يشاء البنين فحسب، ويعطى من يشاء الزوجين الذكر والأنثى، ويجعل من يشاء لا نسل له.
وفي هذا إيماء إلى أن الملك من غير منازع ولا مشارك، يتصرف فيه كيف يشاء، ويخلق ما يشاء، فليس لأحد أن يعترض أو يدبر بحسب هواه، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام، وقد قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه عليم بمن يستحق كل نوع من هذه الأنواع، قدير على ما يريد أن يخلق، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم.
[سورة الشورى (42): الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده - أردفها تقسيم النعم الروحية، وأبان أن الناس محجوبون عن ربهم، لأنهم في عالم المادة وهو منزه عنها، ولكن من رقّ حجابه، وخلصت نفسه، وأصبح في مقدوره أن يتصل بالملإ الأعلى يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة:
(1) أن يحس بمعان تلقى في قلبه، أو يرى رؤيا منامية كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده.
(2) أن يسمع كلاما من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلمه، فهو قد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
(3) أن يرسل إليه ملكا فيوحى ذلك الملك ما يشاء إلى النبي ﷺ.
ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله أوحى إليه القرآن وما كان قبله يعلم ما القرآن وما الشرائع التي بها هداية البشر وصلاحهم في الدارين.
الإيضاح
(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) أي وما ينبغي لبشر من بنى آدم أن يكلمه ربه إلا بإحدى طرق ثلاث:
(1) (إِلَّا وَحْيًا) أي إلا أن يوحى إليه وحيا أي يكلمه كلاما خفيا بغير واسطة بأن يقذف في روع النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما روى ابن حبان في صحيحه أن رسول الله ﷺ قال: « إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ».
(2) (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي أو إلا من طريق لا يرى السامع المتكلم جهرة مع سماعه للكلام كما كلم موسى عليه السلام ربه.
(3) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبريل أو غيره فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهى كما كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ﷺ وعلى غيره من الأنبياء.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله ﷺ فقال: « يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول » قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد (يسيل) عرقا ».
(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي إنه علي عن صفات المخلوقين يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلمه تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة إما إلهاما وإما خطابا من وراء حجاب.
وبعد أن بين أقسام الوحي ذكر أنه أوحى إلى رسوله ﷺ كما أوحى إلى الأنبياء قبله فقال:
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا) أيوكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة من عندنا.
ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحي بقوله:
(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت قبل الأربعين وأنت بين ظهراني قومك تعرف ما القرآن ولا تفاصيل الشرائع ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك.
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورا عظيما نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا، ونرشده إلى الدين الحق.
ونحو الآية قوله: « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى » الآية.
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتهدى بذلك النور من تشاء هدايته إلى الحق القويم.
ثم فسر هذا الصراط بقوله:
(صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هذا الطريق هو الطريق الذي شرعه الله مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه.
(أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله لا إلى غيره، فيضع كلا منهم في موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم.
وفي هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم، ووعيد للظالمين.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إنزال الوحي على رسوله ﷺ.
(2) اختلاف الأديان ضرورى للبشر.
(3) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.
(4) اختلاف المختلفين في الأديان بغى وعدوان منهم.
(5) إنكار نبوة محمد ﷺ بعد أن قامت الأدلة على صدقه.
(6) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها.
(7) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ في الآخرة، ومن يعمل للآخرة يوفقه الله للخير.
(8) ينزل الله الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة.
(9) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن في البحار.
(10) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.
(11) جزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله.
(12) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب.
(13) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفي وهم خاشعون أذلاء.
(14) ليس على الرسول إلا البلاغ.
(15) يهب الله لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.
(16) أقسام الوحي إلى البشر.
(17) الرسول قبل الوحي ما كان يدرى شيئا من الشرائع.
سورة الزخرف
هي مكية إلا آية 45 فإنها نزلت بالمدينة، قاله مقاتل، وآياتها تسع وثمانون، نزلت بعد الشورى.
ووجه مناسبتها ما قبلها أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك.
[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
تفسير المفردات
الكتاب: هو القرآن، المبين: أي الموضح لطريق الهدى المبعد من الضلالات، لعلكم تعقلون: أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه، أمّ الكتاب: هو علم الله الأزلى، حكيم: أي ذو حكمة بالغة، يقال ضربت عنه وأضربت عنه: أي تركته، والذكر: أي القرآن، صفحا: أي إعراضا، مسرفين: أي منهمكين في كفركم وتوليكم عن الحق، بطشا: أي قوة وجلدا، مضى: أي سلف، والمثل: الصفة.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بكتابه المبين لطريق الهدى إنه جعل هذا القرآن بلغة العرب لغة قومك ليفقهوا معناه ويحيطوا به خبرا، وإنه محفوظ في علمه تعالى فليس هو من عند محمد كما تدّعون، وإننا لن نترك تذكيركم به لأجل إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، رحمة منا ولطفا بكم، ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيرا من الأمم قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة - كذبوا رسلهم فكان عاقبتهم ما رأيتم، وحل بهم ما تشاهدون آثاره.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في مثل هذا من قبل (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي والقرآن المبين لطريق الهدى والرشاد، الموضح لما يحتاج إليه البشر في دنياهم وآخرتهم ليفوزوا بالسعادة، فمن سلك سبيله فاز ونجا، ومن تنكّب عنه خاب سعيه، وضل سواء السبيل.
(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلناه قرآنا عربيا إذ كنتم أيها المنذرون به عربا، لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ، ولتتدبروا معانيه، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا نحن عرب، وهذا كلام أعجمي لا نفقه شيئا مما فيه.
ثم بين شرفه في الملإ الأعلى تعظيما له، وليطيعه أهل الأرض فقال:
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا الكتاب في علمه الأزلى رفيع الشأن، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر وهدايتهم إلى سبيل الحق.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ».
(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ؟) أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن، لانهماككم في الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه؟ كلا.
لا نفعل ذلك رحمة بكم، وقد كانت حالكم تدعو إلى تخليتكم وما تريدون حتى تموتوا على الضلال.
قال قتادة: لو أن هذا القرآن قد رفع حين ردّته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليها ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله اهـ.
أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدى من قدّر له الهداية، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة.
ثم قال مسلّيا رسوله ﷺ على تكذيب قومه، آمرا له بالصبر، مهدّد للمشركين، منذرا لهم بشديد العقاب.
(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وكثيرا ما أرسلنا في الأمم الغابرة رسلا قبلك كما أرسلناك إلى قومك من قريش، وكلما أتى نبي أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق استهزءوا به وسخروا منه كما يفعل قومك بك - فقومك ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل، فلا تأس على ما تجد منهم ولا يشقنّ ذلك عليك، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم، واحتذوا حذوهم، ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة وكن كما كان أولوا العزم من الرسل، واصبر كما صبروا على ما أوذوا في سبيل الله.
ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال:
(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا.
ونحو الآية قوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً » الآية.
(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي وقد مضت سنتنا في المكذبين لرسلهم من قبلكم، ورأيتم ما حل بهم، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
ونحو الآية قوله: « فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ » وقوله: « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ».
[سورة الزخرف (43): الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
تفسير المفردات
مهدا: أي فراشا، وأصله موضع فراش الصبى، سبلا: واحدها سبيل، وهي الطريق، بقدر: أي بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة، فأنشرنا: أي أحيينا، ميتا: أي خالية من النبات، الأزواج: أصناف المخلوقات، لتستووا على ظهوره: أي لتستقروا عليها، سخر: ذلل، مقرنين: أي مطيقين، قال قطرب وأنشد قول عمرو بن معديكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر:
ركبتم صعبتى أشر وحيف ولستم للصعاب بمقرنينا
لمنقلبون: أي راجعون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين منهمكون في كفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن من توحيد الله والبعث - أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون من سمائه وأرضه ليقولن: الله، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأوثان والأصنام، ثم ذكر سبحانه جليل أوصافه، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشا، وجعل فيها طرقا، لتهتدوا بها في سيركم، ونزّل من السماء ماء بقدر الحاجة يكفى زرع النبات وسقى الحيوان، وخلق أصناف المخلوقات جميعا من حيوان ونبات، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها وتشكروا الله على ما آتاكم، وتقولوا: لو لا لطف الله بنا ما كنا لذلك بمطيقين، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون، فيجازى كل نفس بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات والأرض؟ لأجابوك: خلقهن العزيز في سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليم بهن وما فيهن لا يخفى عليه شيء من ذلك.
والخلاصة - إنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأوثان.
ثم دل على نفسه بذكر مصنوعاته فقال:
(1) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي والعزيز العليم هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها لكم وطاء تطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم، وجعل لكم فيها طرقا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم.
والخلاصة - إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهي موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده.
(2) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وهو الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة، فلا يجعله كثيرا حتى لا يكون عذابا كالصوفان الذي أنزل على قوم نوح، ولا قليلا لا يكفى النبات والزرع، لئلا تهلكوا جوعا، فتحيا به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر.
وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء.
(3) (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي وهو الذي خلق سائر الأصناف مما تنبت الأرض من نبات وأشجار وثمار وأزاهير، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها.
(4) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي وهو الذي جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم، ومن الأنعام ما تركبونه في البر كالخيل والبغال والحمير، ومما سيجدّ من وسائل المواصلات وطرق النّقلة برّا وبحرا كما جاء في سورة النحل من قوله تعالى: « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».
(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لكي تستووا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام، ثم تذكروا نعمة ربكم الذي أنعم به عليكم، فتعظموه وتمجّدوه وتقولوا تنزيها له عما يصفه المشركون: سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه، وما كنا لو لا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك، فالأنعام مع قوّتها ذللها للانسان ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد، ولو لا ذلك ما استطاع الانتفاع بها، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس ابن مرداس فقال في وصف الجمل:
وتضر به الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
واعلم أنه سبحانه عيّن ذكرا خاصا حين ركوب السفينة وهو قوله: « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وذكرا آخر حين ركوب الأنعام وهو قوله: « سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا » وذكرا ثالثا حين دخول المنازل وهو قوله: « رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ».
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال:
(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
قال القرطبي: علّمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق.
فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور، واتصالا بسبب من أسباب التلف، أمر ألا ينسى عند اتصاله به موته وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منقلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدّا للقاء الله، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه اهـ.
ولأجل ما تقدم أشار بقوله:
(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون إلى ربنا بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت، فاستعدوا لهذا اليوم، ولا تغفلوا عن ذكره في حلّكم وترحالكم، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 15 الى 25]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
تفسير المفردات
جزءا: أي ولدا إذ قالوا الملائكة بنات الله، وعبر عن الولد بالجزء، لأنه بضعة ممن ولد له كما قال شاعرهم:
إنما أولادنا أكبا دنا تمشي على الأرض
مبين: أي ظاهر الكفر، من أبان بمعنى ظهر، أصفاكم: أي اختار لكم، ضرب: أي جعل، مثلا: أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد، كظيم: أي ممتلىء غيظا وغما، ينشّأ: أي يربّى، في الحلية: أي في الزينة، الخصام: أي الجدل، غير مبين: أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل، يخرصون: أي يكذبون، مستمسكون: أي متمسكون ومعوّلون، على أمة: أي على طريقة خاصة، مترفوها: أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق، مقتدون: أي سالكون طريقتهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية لله وأنه خالق السموات والأرض، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا، ومن يتربى في الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم في جعلهم الملائكة إناثا، وزاد في الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك؟
ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى، قالوا: لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناها، لكنه شاء عبادتها لأنها هي المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهي عنها، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هي ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دخل لها في حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون، ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان، وهم ليسوا ببدع في ذلك، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوي فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا) أي وأثبتوا لله ولدا، إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله مجاهد والحسن، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام « فاطمة بضعة مني ».
وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين:
(1) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له، فلا يكون إلها ولا خالقا.
(2) الاستخفاف به، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما.
ثم أكد كفرهم بقوله:
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.
ثم زاد في الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال:
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل: هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا في القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فما أنتم إلا حمقى جهلاء.
ونحو الآية قوله: « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى » - جائرة -.
ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله:
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه لله من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا.
روي أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا وليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ثم كرر الإنكار وأكده فقال:
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أوقد جعلوا لله الأنثى التي تتربى في الزينة، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى، لنقصان عقلها وضعف رأيها؟ وما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك.
وفي قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية، كما أن فيه دلالة على أن النشوء في الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال، وهو من محاسن ربات الحجال، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه، قال شاعرهم:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول
وروي عن عمر أنه قال: « اخشوشنوا في الطعام، واخشوشنوا في اللباس، وتمعددوا » أي تزيّوا بزي معدّ في تقشفهم.
(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا) أي سموهم وحكموا لهم بذلك، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة:
(1) إنهم نسبوا إلى الله الولد.
(2) إنهم أعطوه أخس النصيبين.
(3) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا.
وقد رد الله عليهم مقالهم فقال:
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) أي أحضروا خلق الله لهم، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم؟.
ونحو الآية قوله: « أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ ».
وفي هذا تجهيل شديد لهم، ورمى لهم بالسفه والحمق.
ثم توعدهم على مقالهم فقال:
(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في الدنيا في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا.
وفي هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر، وأن التقليد لا يغني من الحق شيئا.
ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال:
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هي على صورة الملائكة، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه.
وقد جمعوا في هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل، منها:
(1) إنهم جعلوا لله ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك.
(2) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
(3) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله، بل بالرأي والهوى والتقليد للأسلاف.
(4) احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وقد جهلوا في هذا جهلا كبيرا، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه كما قال: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ » وقال: « وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟ ».
ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله:
(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا، دليل ولا برهان يستندون إليه في تأييد دعواهم.
ثم أكد هذا الردّ بقوله:
(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، متمحلون تمحلا باطلا، متقوّلون على الله ما لم يقله.
وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال:
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون، فهم بذلك الكتاب متمسكون، وعليه معوّلون.
والخلاصة - إنه لا كتاب لهم بذلك.
ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل - ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال:
(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما، ونحن سائرون على طريقتهم، وسالكون نهجهم، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا، ولم نغلط في الأتباع واقتفاء الآثار، كما قال قيس بن الخطيم:
كنا على أمّة آبائنا ويقتدى بالأول الآخر
والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.
ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال:
(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي ومثل هذا المقال المتناهي في الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء، فلم نرسل قبلك في قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم سائرون، نفعل مثل ما فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون.
فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم من أهل الشرك في جواباتهم بما أجابوك به، واحتجاجهم بما احتجوا به لمقامهم على دينهم الباطل.
ونحو الآية قوله: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ».
وإنما قال أولا: مهتدون، وثانيا: مقتدون، لأن الأول وقع في محاجتهم النبي ﷺ وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه (مُقْتَدُونَ).
(وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وتخصيص المترفين بالذكر للاشعار بأن الترف هو الذي أوجب البطر وصرفهم عن النظر إلى التقليد.
ثم حكى ما قاله كل رسول لأمته:
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟) أي قال لهم الرسول: أتبغون ذلك وتسيرون على نهجه، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق، وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟.
وتلخيص ذلك - أتتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟.
فأجابوه إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال.
(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه، فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.
وحينئذ لم يبق لهم عذر، ومن ثم قال:
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمرهم حين كذبوا بآياتنا؟
ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟
وفي هذا سلوة لرسوله، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيد وتهديد لهم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 35]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
تفسير المفردات
لأبيه: أي آزر، براء: كلمة لا تثنى ولا تجمع يقولون: أنا منك براء، ونحن منك براء، فإن قلت بريء ثنيت وجمعت، فطرنى: أي خلقنى، والكلمة: هي كلمة التوحيد في عقبه: أي في ذريته، مبين: أي ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة، من القريتين: أي من إحدى القريتين مكة والطائف، والرجل الذي من مكة: هو الوليد ابن المغيرة المخزومي وكان يسمى ريحانة قريش، والذي من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي، ورحمة ربك: هي النبوة، والسخري: هو الذي يقهر على العمل، والسقف بضمتين: واحدها سقف كرهن ورهن، والمعارج: واحدها معرج كمنبر، وهو المسمى الآن (أسنسير) وهذا من معجزات القرآن إذ لم يكن معروفا عصر التنزيل، يظهرون أي يرتقون، زخرفا: أي نقوشا وتزاويق، قال الراغب الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف، ولمّا بمعنى إلا، حكى سيبويه نشدتك الله لمّا فعلت كذا: أي إلا فعلت كذا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليد الآباء والأجداد، وبين أنه طريق باطل، ونهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد - أردف هذا أن ذكر لهم أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم، فيجب عليكم تقليده، وحين عدل عن طريق آبائه جعل الله دينه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة، وأديان آبائه درست وبطلت.
ثم ذكر أن قريشا وآباءهم مدّ لهم في العمر والنعمة، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات، وأعرضوا عن توحيد الله وشكره على آلائه، حتى جاءهم الرسول منبها لهم مذكرا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة، فكذبوه وقالوا ساحر كذاب، ثم حكى عنهم أنهم قالوا: هلا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه كثير المال من إحدى القريتين مكة والطائف، فرد عليهم مقالهم، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده، فجعل منهم الغنى والفقير، والسيد والمسود، والملوك والسّوقة، والأقوياء والضعفاء، ولم يغير أحد ما حكم به في أحوال دنياهم على حقارتها، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجة، وأشرف غاية، وأعظم مرتبة، وهو منصب النبوة؟.
ثم ذكر أن التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتمّ به نظام المجتمع والسير به على النهج القويم، فلولاه ما صرّف بعضهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل المعيشة، ثم أعقب هذا ببيان أنه لو لا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة من الرزق لمتعهم بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسقفا وسررا ومصاعد منها وزينة في كل شيء، ولكن كل هذا متاع قليل زائل والآخرة هي الباقية وهي لمن يتقى الله ويجتنب الكفر والمعاصي.
ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا، وهذا إيمان المنافقين، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان الله ومثوبته.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد: كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام؟ قال لهم إني براء مما تعبدون إلا من عبادة الله الذي خلقنى وخلق الناس جميعا، وأنه سيهديني إلى سبيل الرشاد، ويوفقنى إلى اتباع الحق، وقد جزم بذلك لثقته بربه، ولقوة يقينه.
(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهي (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كلمة باقية في ذريته يقتدى به فيها من هداه الله منهم، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه فيما يدين به.
قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب، موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين: إحداهما قوله: « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله: « وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ».
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكني متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل، ومددت أعمارهم، وأكثرت نعمهم، فشغلتهم النعم والترف والشهوات، فأطاعوا الشيطان ونسوا كلمة التوحيد، فجريت على سنتى أن أجعل في بنى إبراهيم من يوحّد الله ويدعو من كفر منهم إلى الإيمان، فاخترت محمدا وأنزلت معه الكتاب ليدعو هؤلاء إلى ما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، وسعادتهم في آخرتهم وأولاهم.
ثم وبخهم على إعراضهم عما جاء به من الحق وعدم النظر فيه فقال:
(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي ولما جاءهم القرآن والرسول الصادق بما معه من المعجزات قالوا إن ما جاءنا به سحر وليس بوحي من عند الله وإنا به جاحدون، فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به.
ثم ذكر ضربا آخر من كفرهم بقوله:
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقالوا إن منصب الرسالة منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال عظيم الجاه، ومحمد ليس بذاك، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف.
فأنكر الله عليهم ذلك وجهّلهم وعجّب من حالهم بقوله:
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟ أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟
فهم ليسوا لها بأهل، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.
ثم بين خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال:
(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوّينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.
وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك في أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا في منصب الرسالة؟
وقصارى ذلك - إنا قسمنا بينهم أرزاقهم، أفلا يقنعون بقسمتنا في أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا؟.
ثم علل ما سلف بقوله:
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.
ثم بين حقارة الدنيا وخستها بقوله:
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفًا) أي ولو لا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر، ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم - لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ومصاعد من فضة، وسررا من فضة، عليها يتكئون، وزينة في كل ما يرتفق به من شئون الحياة.
ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهي متاع الحياة الفانية فقال:
(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء - أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا.
أخرج الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ».
وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للمؤمنين، حتى ليصير الناس كلهم هكذا، لأخلّت بالمقصود من الإيمان، لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات والرقى العقلي، فقلّ من يتخلص من شرك هذه الآفات، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول أشبه بالقاذورات للأجسام، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب، فيلقى فيها بيوضه لتفرخ في القروح والعيون، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذورات، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين، وتلقى إليها بذور الفساد، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيا وعارا في الدنيا والآخرة وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:
[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
تفسير المفردات
يقال عشى فلان كرضى إذا حصلت له آفة في بصره، وعشا: كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة في المحلّق الكلاني:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من كثرة الوقود واتساع الضوء، فالمراد هنا أنه يتعامى عن ذكر الله، نقيض له: أي نهيىء له ونضم إليه، والقرين: الرفيق الذي لا يفارق، والمشرقين: أي المشرق والمغرب، وكثيرا ما تسمى العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما، قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر، بعد المشرقين: أي بعد أحدهما من الآخر، فإما نذهبن بك: أي فإن قبضناك وأمتناك، لذكر: أي لشرف عظيم، تسألون: أي عن قيامكم بما أوجه القرآن عليكم من التكاليف من أمر ونهي.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن المال متاع الدنيا وهو عرض زائل، ونعيم الآخرة هو النعيم الدائم الذي أعده الله للمتقين - ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدونه عن السبيل القويم، ويظن أنه مهتد، لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه فيألفه ولا ينكره، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة تبرأ الكافر من الشيطان قرينه وقال له: ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرقين، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان في العذاب لا يخفف عنه شيئا منه، لاشتغال كل منهما بنفسه.
ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، وقلما تجديهم المواعظ، فإذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمى، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين ثم سلى رسوله وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم إما حال حياته أو بعد موته، ثم أمره أن يستمسك بما أمره الله به، فيعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم النافع في الدين والدنيا وفيه الشرف العظيم له ولقومه، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها، ثم أرشد إلى أن بغض الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبي، فمحمد ﷺ ليس بدعا من بينهم في الإنكار عليها حتى يعارض ويبغض.
الإيضاح
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن يتعام عن ذكر الله وينهمك في لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع في الشهوات، ويلغ في اللذات، فلا يألوا جهدا في ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات في المحال العفنة، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم في الذنوب لاستعدادهم لها، فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدى فيها علاج، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وإني لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان، ولا ينفع الندم على فائت:
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
قال الزجاج: معنى الآية - إن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين - يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له فلا يهتدى، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين اهـ.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر: إلام تدعونى؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى قال أبو بكر وما اللات؟ قال: أولاد الله، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، وقال لأصحابه أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية.
وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن.
(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن هؤلاء الشياطين الذين يقيضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ليحولنّ بينهم وبين سبيل الحق، ويوسوسنّ لهم أنهم على الجادّة وسواهم على الباطل، فيطيعنهم ويكرّهنّ إليهم الإيمان بالله والعمل بطاعته.
ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال:
(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال: ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت أيها الشيطان، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين، والخزي الدائم، والعيش الضنك، والمحل المقضّ المضجع.
ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ توبيخا وتأنيبا فقال:
(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ولن ينفعكم في هذا اليوم اشتراككم في العذاب أنتم وقرناؤكم، كما كان ينفع في الدنيا الاشتراك في المهامّ الدنيوية، إذ يتعاونون في تحمل أعبائها، ويتقاسمون شدتها وعناءها، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولا قدرة له على احتماله.
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسى، فإن المكروب في الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك في البلوى، فيقول أحدهم لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه كما قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل مغيب شمس
فلولا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يكون مثل أخي ولكن أعزّى النفس عنه بالتأسي
وقصارى ذلك - إنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه.
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم، فأنتم وقرناؤكم مشتركون في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وقد وصفهم فيما سلف بالعشي ووصفهم بالعمى والصمم، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينيه ضعف في البصر، وكلما زاد انهما كه بها كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل فقال:
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟) أي أفانت تسمع من قد سلبهم الله استماع حججه التي ذكرها في كتابه، أو تهدى إلى طريق الحق من أعمى قلوبهم عن إبصارها، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم طريق الردى.
والخلاصة - إن ذلك ليس إليك، إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب وتوجيهها أنّى شاء، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
وقد كان ﷺ يبالغ في دعاء قومه إلى الإيمان وهم لا يزيدون إلا غيّا وتعاميا عما يشاهدون من دلائل النبوة وتصامّا عما يسمعون من بينات القرآن.
وبعد أن أيأسه من إيمانهم سلاه بالانتقام منهم لأجله إما حال حياته أو بعد مماته فقال:
(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين بموت أو غيره فإنا منهم منتقمون كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذبة لرسلها، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم وإعلائك عليهم فإنا عليهم مقتدرون، فنظهرك عليهم ونخزيهم بيديك وأيدي المؤمنين.
وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد - إشارة إلى أن ذلك سيقع حتما وهكذا كان، فإنه لم يقبض رسوله حتى أقر عينيه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، وملّكه ما تضمنته صياصيهم، قاله السدي واختاره ابن جرير.
ثم أمر رسوله أن يستمسك بما أوحى به إليه فيعمل به فقال:
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فخذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق المفضى إلى الصراط المستقيم، والموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم.
ثم ذكر ما يستحثه على التمسك به فقال:
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك، لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: « كنت قاعدا عند النبي ﷺ فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبى لقومي فبشرنى فيهم فقال سبحانه: وإنّه لذكر لك ولقومك » الآية. فجعل الذكر والشرف لقومي - إلى أن قال - فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، وإن الله قلب العباد ظهرا وبطنا، فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة » ثم قال عدي ما رأيت رسول الله ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم اهـ.
ونظير الآية قوله في سورة الأنبياء « لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ » أي شرفكم، فالقرآن نزل بلسان قريش، وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم وصاروا عيالا عليهم، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهى ونبإ وقصص وحكمة وأدب.
روى الترمذي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين ».
وفي الآية إيماء إلى أن لذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه، ولو لا ذلك ما امتن الله على نبيه محمد ﷺ به، ولما طلبه إبراهيم عليه السّلام بقوله: « وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ » وقال ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش أشغال
(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقه وأداء شكر النعمة فيه.
وخلاصة ما سلف - إن القرآن نزل بلغة العرب، وقد وعد الله بنشر هذا الدين، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى فمتى قصروا في ذلك أذلهم الله في الدنيا، وأدخلهم النار في الآخرة، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم، فيبشروا هذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون، ويعود سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم وبخ مشركي قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت في شريعة من الشرائع فقال:
(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل: هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذلك في ملة من الملل؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا ﷺ ليس ببدع من بين الرسل في الأمر به، حتى يكذّب ويعادى له.
وقصارى ذلك - إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ».
[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 56]
ولَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
تفسير المفردات
الآيات: هي المعجزات، وملئه: أي أشراف قومه، أخذناهم: أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع، الساحر: أي العالم الماهر، بما عهد عندك: أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا، ينكثون: أي ينقضون العهد، من تحتى: أي من تحت قصرى وبين يدي في جناتى، مهين: أي ضعيف حقير، يبين: أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة في لسانه (واللثغة بالضم: أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ)، والأسورة: واحدها سوار كأخمرة وخمار، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته، مقترنين: أي مقرونين به يعينونه على من خالفه، فاستخف قومه: أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له، آسفونا: أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا: أي قدرة لمن بعدهم من الكفار، مثلا: أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد ﷺ لكونه فقيرا عديم المال ولجاه - بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إني غنى كثير المال عظيم الجاه، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال: واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا - ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله.
ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال: هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى في دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم، وجعلناهم قدوة للكافرين، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم: إني رسول من قبل الله إليكم، كما قلت أنت لقومك: إني رسول الله إليكم.
فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الآلهة - إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به.
وفي هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل في الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته في الكافرين قبلهم، وظفره بهم، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.
(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، وآكد في الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها في الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان في المعنى.
ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال:
(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع.
ثم بين العلة في أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال:
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي.
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات - ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
وقد يكونون نادوه بذلك في تلك الحال، لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم.
(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك، أنا إن آمنا به كشفه عنا.
(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك.
ونحو ذلك ما جاء في سورة الأعراف من قولهم: « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ».
ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال:
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى، يعدونه في كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه.
ونحو الآية ما جاء في سورة الأعراف من قوله: « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ».
ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال:
(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.
ثم أكد هذا بقوله:
(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعي وحصر.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لي من السعة في المال والجاه والملك العريض - من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد، إذ كان في لسانه حبسة في صغره فعابه بها، وهو لا يعلم أن الله استجاب سؤله حين قال: « وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي » فحل عقدة لسانه كما جاء في قوله: « قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ».
قال الحسن البصري: إنه قد بقي منها شيء لم يسأل زواله، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اهـ.
والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به.
ونحو الآية قوله: « فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ».
ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة، وهي أنه لا يلبس لبس الملوك، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما في زعمه فقال:
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك، وهذا شبيه بما قال كفار قريش في عظيم القريتين.
ثم ذكر شبهة أخرى وهي أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال:
(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا، يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولا في أمر هامّ يحتاج إلى دفاع، وفيه خصام ونزاع - وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، أو يكونوا محفوفين بالملائكة.
ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم، وسحرت ألبابهم، لغفلتهم وضعف عقولهم، فاعترفوا بربوبيته، وكذبوا بنبوة موسى فقال:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة، وجعلها مناطا للعلم والنبوة، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها، فأطاعوه فيما أمرهم، لأنهم كانوا قوما ذوي ضلال وغي ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوي.
ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال:
(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم في الأرض - انتقمنا منهم بعاجل عذابنا، فأغرقناهم جميعا.
وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء في قوله: « وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي »:
وفي هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون الله أهلكه الله به.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: « إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ: (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ».
(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك.
(وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.
[سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) ولا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
تفسير المفردات
مثلا: أي حجة وبرهانا، يصدّون (بكسر الصاد) أي يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح، جدلا: أي خصومة بالباطل، خصمون: أي شديد والخصومة مجبولون على اللجاج وسوء الخلق، مثلا: أي أمرا عجيبا، منكم: أي من بعضكم، يخلفون: أي يخلفونكم في الأرض، علم: أي علامة وشرط من أشراطها، فلا تمترنّ: أي فلا تشكنّ، البينات: المعجزات، الحكمة: الشرائع المحكمة التي لا يستطاع نقضها ولا إبطالها.
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق في السيرة « أن رسول الله ﷺ جلس يوما في المسجد مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث وجلس معهم وفى المسجد غير واحد من رجالات قريش، فتكلم رسول الله ﷺ فعرض له النضر فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » الآيات، ثم قام رسول الله ﷺ. وأقبل عبد الله بن الزّبعرى التميمي وجلس فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدا، أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته وأنزل الله عز وجل: « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » أي عيسى وعزير ومن عبد معهما، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلال أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه السّلام وأنه يعبد من دون الله « وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) » الآية.
الإيضاح
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله ﷺ بعبادة النصارى له، إذا قومك من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وسرورا كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا في حجة ثم فتحت عليهم.
وقد روى أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه قال للنبي ﷺ وقد سمعه يقول: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا صالحا، فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم.
(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) أي إن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون.
(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لإظهار الحق، فإن قوله: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » إنما ينطلق على الأصنام والأوثان ولا يتناول عيسى والملائكة، ولكنهم قوم ذوو لدد في الخصومة، مجبولون على سوء الخلق واللجاج.
قال صاحب الكشاف: إن ابن الزبعرى بخبّه وخداعه وخبث دخلته لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير - وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقّح في ذلك، فتوفّر رسول الله ﷺ حتى أجاب عنه ربه بقوله: « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » فدل به على أن الآية خاصة في الأصنام اهـ.
أخرج سعيد بن منصور وأحمد في جماعة عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية »
ثم بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله:
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى بن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها، فهو رفيع المنزلة علي القدر، وقد جعلناه آية، بأن خلقناه من غير أب، وشرفناه بالنبوة، وصيرناه عبرة سائرة، تفتح للناس باب التذكر والفهم، وليست مخالفة العادة بموجبة لعبادته كما يزعم النصارى، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم.
(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر وجعلناه رجلا.
وقد يكون المعنى على التهديد والتخويف لقريش ويكون المراد - لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا.
والخلاصة - إننا لو نشاء لجعلنا في الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وإن القرآن ليعلمكم بقيام الساعة، ويخبركم عنها وعن أهوالها، فلا تشكّنّ فيها واتبعوا هداى، فهذا الذي أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه وهو الموصل إلى الحق.
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا تغتروا بوساوس الشيطان وشبهه التي يوقعها في قلوبكم، فيمنعكم ذلك عن أتباعي، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه.
ثم علل نهيهم عن اتباعه بعداوته لهم فقال:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه مظهر لعداوته لكم، غير متحاش ولا متكتم لها كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم من امتناعه عن السجود له، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بنى آدم إلا عباد الله المخلصين.
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ولما جاء عيسى بالمعجزات الواضحة قال قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر، ولأبيّن لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى من أحكام الدين دون أمور الدنيا كطرق الفلاحة والتجارة، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها كما يشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام حين نهاهم عن تأبير النخل (تلقيحه بالطلع) ففسد الثمر ولم يغلّ شيئا نافعا « أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم ».
ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاتقوا الله في مخالفتى، وخافوا أن يحل بكم عقابه، وأطيعونى فيما أبلغكم عنه من الشرائع والتكاليف.
ثم فصل ما يأمرهم به بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي إن الله الذي يستحق إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له - ربى وربكم، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه.
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وكل الديانات جاءت بمثله، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية الله، وتعبّد بشرائعه.
وقصارى ذلك - إنه علم بحقائق، وعمل بشرائع.
ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه، والاتفاق على سلوكه - بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه فقال:
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف النصارى وصاروا شيعا، من ملكانية إلى نسطورية إلى يعقوبية، فمنهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدعى أنه ابن الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فالويل لهؤلاء المختلفين الذين أشركوا بالله وقالوا في عيسى ما كفروا به - من عذاب يوم القيامة حين يحاسبون على ما قالو وعلى ما عملوا.
ثم حذرهم وأنذرهم على ما هم فيه من الخلاف دون أن يتبينوا وجه الحق فقال:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في شأن عيسى القائلون فيه الباطل من القول - إلا أن تقوم الساعة بغتة وهم غافلون عنها لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها، فيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يدفع ذلك عنهم شيئا.
ونحو الآية قوله تعالى: « تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ».
روى ابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ « تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعمة، والرجلان يطويان الثوب، ثم قرأ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
تفسير المفردات
الأخلاء: واحدهم خليل، وهو الصديق الحميم، مسلمين: أي مخلصين منقادين لربهم، تحبرون: أي تسرون سرورا يظهر حباره (بفتح الحاء) أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم، والصحاف: واحدها صحفة وهي كالقصعة، قال الكسائي: أكبر أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم المئكلة، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا أذن له.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون - أردف ذلك بيان أحوال ذلك اليوم، فمنها أن الأخلاء يتعادون فيه إلا من تخالّوا على الإيمان والتقوى، ومنها أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها، ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم، ومنها أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم فيطاف عليهم بصحاف من ذهب فيها ما لذّ وطاب من المآكل، وبأكواب وأباريق فيها شهني المشارب، ويقال لهم هذا النعيم كفاء ما قدمتم من عمل بأوامر الشرع ونواهيه، وأسلفتم من إخلاص لله وتقوى له.
الإيضاح
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وخلة فإنها تنقلب في ذلك اليوم إلى عداوة إلا ما كانت في الله وفى سبيله، فإنها تبقى في الدنيا والآخرة.
ونحو الآية ما قاله إبراهيم لقومه: « إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ».
ثم ذكر ما يتلقى به سبحانه عباده المؤمنين المتحابين في الله تشريفا لهم وتسكينا لروعهم مما يرون من الأهوال فقال:
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي ونقول لهم حينئذ: يا عباد لا تخافوا من عقابي، فإني قد أمّنتكم منه برضاى عنكم، ولا تحزنوا على فراق الدنيا، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال:
(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي الذين آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وانقادت لشرع الله بواطنهم وظواهرهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل البشرى فقال:
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي ادخلوا الجنة أيها المؤمنون أنتم وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله، مسرورين بما أعطاكم من مننه.
وبعدئذ ذكر طرفا مما يتمتعون به من النعيم فقال:
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي وبعد أن يستقروا في الجنة ويهدأ روعهم يطاف عليهم بجفان من الذهب مترعة بألوان الأطعمة والحلوى، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذّ وطاب.
وبعد أن فصل بعض ما في الجنة من نعيم، عمّم في ذلك فقال:
(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وفى الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها مما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان، جزاء لهم على ما منعو أنفسهم من الشهوات، وفيها ما تقرّ أعينهم بمشاهدته، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، وأنتم لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.
أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: « قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ».
ثم ذكر أن هذا كان فضلا من ربكم آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال:
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وهذه الجنة جعلها الله لكم باقية كالميراث الذي يبقى عن المورث، جزاء ما قدمتم من عمل صالح.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله: « وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها ».
وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال:
(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها، تأكلون منها حيثما شئتم، وكيفما اخترتم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 80]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين هنا الراسخون في الإجرام وهم الكفار، يفتّر: أي يخفف، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، مبلسون: من الإبلاس وهو الحزن المعترض من شدة اليأس، والمبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، ومن ثم قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته، قاله الراغب، مالك: خازن النار، ليقض علينا ربك: أي ليمتنا، من قولهم: قضى عليه: أي أماته، وأبرم الأمر: أحكم تدبيره، أمرا: هو التحيل في تكذيب الحق، والسر: هو ما يحدث به المرء نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى: التناجي فيما بينهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعدّ لأهل الجنة من النعيم المقيم، والتمتع بفنون اللذات من المآكل والمشارب والفواكه - أعقب ذلك بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا، وهم في حزن لا ينقطع، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من سييء الأعمال، ثم أردف ذلك بمقال أهل النار لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب، ثم إجابته لهم عن ذلك، ثم وبخهم على ما عملوا في الدنيا واستحقوا به العذاب، ثم ذكر ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق وإعلاء شأن الباطل ظنا منهم أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم، وقد وهموا فيما ظنوا، فإن الله عليم بذلك ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول أو فعل.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين اجترموا الكفر بالله في الدنيا يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدا لا ينفك عنهم ولا يجدون عنه حولا.
(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفف عنهم لحظة وهم فيه ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي: ونادوا يا مالك إلخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا فرج، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون.
ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم فقال:
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم، ولكن هم الذين أساءوا إلى أنفسهم، فكذبوا الرسل وعصوهم بعد أن أقاموا الحجة عليهم، فأتوهم بباهر المعجزات.
ثم ذكر ما يقوله أهل النار وما يجيبهم به خزنتها فقال:
(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون من شدة العذاب فقالوا: يا مالك ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه، فأجابهم بقوله إنكم ماكثون لا خروج لكم منها، ولا محيص لكم عنها.
ونحو الآية قوله تعالى: « لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها » وقوله: « وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ».
ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ وبين سبب مكثهم فيها بقوله:
(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بيّنا لكم الحق على ألسنة رسلنا وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه، ولكن سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.
وبعد أن ذكر كيفية عذابهم في الآخرة، بين سببه وهو مكرهم وسوء طويتهم في الدنيا فقال:
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أيبل هم تحيلوا في رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر، فكادهم الله تعالى ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم في النار معذبين فيها أبدا.
وقصارى ذلك - أحكموا كيد النبي ﷺ، وإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.
ونحو الآية قوله: « وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله: « أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ».
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل أيظنون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك، ولا ما يتكلمون به فيما بينهم بطريق التناجي.
(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل نسمعهما ونطلع عليهما، والحفظة يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول وفعل.
والخلاصة - إنا نعلم ذلك، والملائكة يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية - فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من أمارات النفاق.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا، وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم، فنزلت الآية.
[سورة الزخرف (43): الآيات 81 الى 89]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
تفسير المفردات
سبحان رب السموات: أي تنزيها له عن كل نقص، يصفون: أي يقولون كذبا بأن له ولدا، فذرهم: أي فاتركهم، يخوضوا: أي يسلكوا في باطلهم مسلك الخائضين في الماء، ويلعبوا: أي يفعلوا في أمورهم الدنيوية فعل اللاعب الغافل عن عاقبة ما يعمل، يومهم: هو يوم القيامة، إله: أي معبود بحق لا شريك له، يدعون: أي يعبدون، من شهد بالحق: أي من نطق بكلمة التوحيد، يؤفكون: أي يصرفون، وقيله: أي قوله: قال أبو عبيدة: يقال قلت قولا وقالا وقيلا، وفى الخبر « نهى عن قيل وقال »، فاصفح عنهم: أي اعف عنهم عفو المعرض ولا تقف عن التبليغ، سلام: أي سلام متاركة لكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم.
المعنى الجملي
أمر الله نبيه ﷺ أن يقول للمشركين إحقاقا للحق: إن مخالفته لهم في عبادة ما يعبدون لم يكن بغضا منه لهم ولا عداوة لمعبوديهم، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم لهم من كونهم بنات الله، تنزه ربنا عما يقولون، ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم.
ثم أخبر بأن لا معبود في السماء ولا في الأرض سواه، وهو الحكيم العليم بكل شيء وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب، ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم، فهم يعبدون غير الله، ويقولون إن الخالق للكون: سمائه، وأرضه هو الله، ثم أردف هذا أنه لا يعلم الساعة إلا هو، وأنه يعلم شديد حزنك على عدم إيمانهم، وعدم استجابتهم لدعوتك، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم، سيأتي اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم: إن ثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها - أن للرحمن ولدا، كنت أسبقكم إلى طاعته، والانقياد له، كما يعظّم الرجل ابن الملك تعظيما لأبيه - ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب في نفى الولد، كما يقول الرجل لمن بناظره ويجادله: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه.
وخلاصته - إذا كنت لم أعترف بولد، بدليل إني لم أعبده مع إني أقرب الناس إلى الله، فالولد لا وجود له حتما - وكأنه يقول: إن انتفاء الولد مرتب على انتفاء عبادته، لما علم من أنه إذا انتفى اللازم لشيء انتفى ذلك الشيء، كما استدل بعدم فساد نظام الكون على وحدانية الله في قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما - السماوات والأرض - آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ».
ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق، ورب العرش المحيط بذلك كله - عما يصفه به المشركون كذبا، وعما ينسبون إليه من الولد، إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكا له، ويكون شى منها جزءا منه، تعالى ربنا عن ذلك علوّا كبيرا.
ولما ذكر الدليل القاطع على نفى الولد أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون فقال:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله، الواصفيه بأن له ولدا، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم حتى يأتي ذلك اليوم الذي لا محيص عنه، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم، ويذوقون الوبال والنكال جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.
ثم أكد هذا التنزيه فقال:
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي وهو الله الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض، ولا تصلح العبادة إلا له، وهو الحكيم في تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس وجليل وحقير، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها، ويعجب مما فيه من جمال وكمال ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب، فأفردوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئا سواه.
(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندري كنهها ولا نعلم حقيقتها، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد، وهو العلى العظيم الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما.
(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعنده العلم بميقات الساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه المرجع فيجازى كل أحد بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم، ولكن من نطق بكلمة التوحيد وكان على بصيرة وعلم من ربه كالملائكة وعيسى تنفع شهادتهم عنده بإذنه لمن يستحقها.
وقال سعيد بن جبير: إن معنى الآية - لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة.
ثم بين أن هؤلاء المشركين متناقضو الأقوال والأفعال فقال:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء، المشركين بالله العابدين غيره، من خلق الخلق جميعا؟ ليعترفنّ بأنه الله تعالى وحده لا شريك له في ذلك، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده - فقد عبد بعض مخلوقات الله، فهم في غاية الجهل والسفه وضعف العقل.
وفي هذا تعجيب شديد من إشراكهم بعد هذا.
(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم علم الساعة وقوله لربه شاكيا قومه الذين كذبوه ولقى منهم شديد الأذى: يا رب إن هؤلاء الذين أمرتنى بإنذارهم وأرسلتنى إليهم لتبليغهم دينك الحق - قوم لا يؤمنون.
ولما شكا الرسول ﷺ إلى ربه عدم إيمانهم أجابه بقوله:
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيىء الكلام، بل تألفهم واصفح عنهم قولا وفعلا، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، فإنك ستنتصر عليهم، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ.
وقد أنجز الله وعده، وأنفذ كلمته، وأعلى دينه، وشرع الجهاد والجلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
فله الحمد والمنة على إظهار الحق وإعلاء مناره، وإزهاق الباطل وكبح جماحه، تعاليت ربنا يا ذا الجلال والإكرام، والطّول والإنعام، وصلواتك على محمد وآله.
خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد
(1) وصف القرآن الكريم.
(2) الأمر بإنذار قومه ﷺ مع غفلتهم وإسرافهم في لذات الدنيا، (3) شأن هؤلاء المشركين في تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.
(4) اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان.
(5) اعتقادهم أن الملائكة بنات الله ثم نعى ذلك عليهم.
(6) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد في شئونهم الدينية.
(7) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
(8) وصف نعيم الجنة.
(9) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه.
(10) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتي وعد الله.
سورة الدخان
هي مكية، وآيها تسع وخمسون، نزلت بعد الزخرف.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه تعالى ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد، وافتتح هذه بالإنذار الشديد.
(2) إنه تعالى حكى فيما قبلها قول رسوله ﷺ: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، وحكى هنا عن أخيه موسى: « فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ».
(3) إنه قال فيما سلف « فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ »، وحكى هنا عن موسى « إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ »، وهو قريب من ذلك.
[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 9]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
تفسير المفردات
ليلة مباركة: هي ليلة القدر، منذرين: أي مخوّفين، يفرق: أي يفصل ويبين، حكيم: أي محكم لا يستطاع أن يطعن فيه بحال، موقنين أي تطلبون اليقين وتريدونه كما يقال منجد متهم: أي يريد نجدا وتهامة.
المعنى الجملي
أقسم جلت قدرته بكتابه الكريم المبين لما فيه صلاح البشر إنه أنزل القرآن في ليلة القدر لإنذار العباد وتخويفهم من عقابه، وإن هذه الليلة يفصل فيها كل أمر حكيم، فيبين فيها التشريع النافع للعباد في دنياهم وآخرتهم، وهو رب السموات والأرض وما بينهما فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو الذي بيده إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربهم ورب آبائهم الأولين، ولكنهم يمترون بعد أن وضح الحق، وأفصح الصبح لذي عينين.
الإيضاح
(حم) أسلفنا الكلام في مثل هذا من قبل:
(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أقسم ربنا جلت قدرته بكتابه المجيد إنه بدأ ينزل القرآن في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر كما جاء في قوله « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » من شهر رمضان كما قال سبحانه « شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ».
والخلاصة - إن بدء نزوله كان في ليلة القدر ثم نزل منجما بعد ذلك في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع حالا فحالا، وقد عقد السيوطي في كتابه « الإتقان » أبوابا لنزول القرآن فقال: باب ما نزل منه صيفا. باب ما نزل منه شتاء. باب ما نزل منه سفرا. باب ما نزل منه حضرا. باب ما نزل منه في الأرض. باب ما نزل منه في السماء. باب ما نزل منه بين الأرض والسماء. باب ما نزل منه بمكة. باب ما نزل منه بالمدينة. باب ما نزل بين مكة والمدينة - إلى آخر ما قال فليراجع فإن فيه فوائد نفيسة.
ثم بين السبب في إنزاله فقال:
(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي إنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم فيعملون به، وما يضرهم فيجتنبونه، لتقوم حجة الله على عباده.
ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة فقال:
(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا) أي في هذه الليلة بدأ يبين سبحانه ما ينفع عباده من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل. بإنزاله ذلك التشريع الكامل الذي فيه صلاح البشر وهدايتهم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ولا غرو فهي من لدن حكيم عليم بما يصلح شئون عباده في معاشهم ومعادهم.
ثم بيّن السر في نزول القرآن على لسان رسوله فقال:
(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنا أرسلنا الرسول به رحمة منا لعبادنا حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به.
ثم أكد ربوبيته بقوله:
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه إنما فعل تلك الرحمة، لأنه هو السميع لأقوالهم، العليم بما يصلح أحوالهم، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه.
ثم أكد العلة في سمعه للأشياء وعلمه بها فقال:
(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إنه هو السميع لكل شيء العليم به، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهمان كنتم تطلبون معرفة ذلك معرفة يقين لا شك فيه.
وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته ذكر فذلكة لذلك فقال:
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو المحيي المميت، فيحيى ما يشاء مما يقبل الحياة، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له من الأجل.
(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو مالككم والمتصرف فيكم، ومالك آبائكم الأولين ومدبر شئونهم، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع.
ثم بيّن أنهم ليسوا بموقنين بالجواب بعد أن تبين لهم الرشد من الغي فقال:
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أي بل هم في شك من التوحيد والبعث والإقرار بأن الله خالقهم، وإن قالوا ذلك فإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم، إذ هم قابلوه بالهزء والسخرية فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجدّ وما لامرية فيه، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه.
[سورة الدخان (44): الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
تفسير المفردات
ارتقب: أي انتظر، من قولهم: رقبته أي انتظرته وحرسته، والمراد من الدخان ما أصابهم من الظلمة في أبصارهم من شدة الجوع حتى كأنهم كانوا يرون دخانا، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ورأى الدنيا كالمملوءة دخانا، يغشى الناس: أي يحيط بهم، اكشف عنا: أي ارفع، أنّى: أي كيف يكون ومن أين معلّم أي يعلمه غلام رومى لبعض ثقيف، وبطش به أخذه بالعنف والسطوة كأبطشه، والبطش: الأخذ الشديد في كل شيء والبأس، قاله صاحب القاموس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال كفار قريش إذ قابلوا الرحمة بالكفران ولم ينتفعوا بالمنزّل ولا بالمنزّل عليه - أردف هذا أن أمر نبيّه بالانتظار حتى يحل بهم بأسه، لأنهم أهل الخذلان والعذاب، لا أهل الإكرام والغفران.
وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ وتهديد للمشركين.
ثم حكى عنهم مقالهم في شأن لرسول، فتارة يقولون: إنه معلّم، وأخرى يقولون إنه مجنون، ثم أوعدهم بأنه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم القيامة، ويجازيهم بما قالوا وبما فعلوا ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي فانتظر يوم يأتي الجدب والمجاعة التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان المنتشر في الفضاء.
ومن خبر هذا ما
رواه البخاري عن مسروق قال: إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، فأصابهم الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، فأنزل الله تعالى « فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ - إلى أَلِيمٌ » فأتوا النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله: استسق الله تعالى، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله « إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ » فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم الأولى فأنزل الله « يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ » فانتقم الله منهم يوم بدر.
(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يحيط بهم من كل جانب، فيقولون: هذا عذاب مؤلم يقضّ المضاجع وينتهى إلى موت محقق إن دام.
ثم بين أنهم وعدوا الرسول أن يؤمنوا إذا كشف عنهم العذاب كما كان يحدث من قوم فرعون حين نزول الرجز بهم فقال:
(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أيربنا إنا سنؤمن إن كشفت عنا العذاب، وهذه هي طبيعة البشر إذا هم وقعوا في شدة أيا كانت أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه، ولكن النفوس الشريرة، لاتتجه إلى فعل الخير، ولا تفعل ما تتقرب به إلى ربها، انتظارا لمثوبته، ورجاء في غفرانه ورحمته.
روي أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم أن يؤمنوا.
ثم نفى صدقهم في الوعد وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب فقال:
(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ؟) أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف في رجوعهم إلى الحق فلم يرجعوا، بل قال بعضهم: إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومي لبعض ثقيف، وقال آخرون: إنه أصيب بخبل إذ تلقى إليه الجن هذه الكلمات حين يعرض له الغشي.
والخلاصة - إن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق، وهؤلاء قد اتضحت لهم وجوه الصواب فلم يفقهوا، فأخذناهم بالعذاب، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات وأريناهم الحقائق وهي أنجع أثرا من العقاب فلم يؤمنوا وقالوا ما قالوا.
ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم ورجعوا سيرتهم الأولى وعضّوا على الكفر بالنواجذ، وساروا على طريق الآباء والأجداد فقال:
(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إنا رافعو هذا الضر النازل بهم بالخصب الذي نوجده لهم زمنا يسيرا، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من تمسكهم بالكفر وترك الحق وراءهم ظهريا، لما في طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان وتقليد الآباء والأجداد.
ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد، أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى حيث لا توبة بعدها فينتقم الله منهم، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إننا يوم القيامة لنسلطنّ عليهم بأسنا، وننتقمنّ منهم أشد الانتقام، ولا يجدنّ شفيعا ولا وليا ولا نصيرا يمنع عنهم عقابنا، فيندمنّ، ولات ساعة مندم.
[سورة الدخان (44): الآيات 17 الى 33]
ولَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) ولَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
تفسير المفردات
فتنا: أي بلونا وامتحنا، كريم: أي جامع لخصال الخير والأفعال المحمودة قاله الراغب، أدّوا إلي عباد الله: أي أطلقوا وسلموا، أمين: أي ائتمنه الله على وحيه ورسالته، وأن لا تعلوا على الله: أي لا نستكبروا على الله بالاستهانة بوحيه، بسلطان مبين: أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، عذت بربي وربكم: أي التجأت إليه وتوكلت عليه، أن ترجمون: أي تؤذوني ضربا أو شتما، فاعتزلون: أي كونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء، مجرمون: أي كافرون، أسر بعبادي: أي سر بهم ليلا، متبعون: أي يتبعكم فرعون وقومه، رهوا: أي ساكنا، يقال عيش راه إذا كان خافضا وادعا، وافعل ذلك سهوا رهوا: أي ساكنا بغير تشدد، قال القطامي في وصف الرّكاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتّكل
مقام كريم: أي مجالس ومنازل حسنة، نعمة: أي حسن ونضرة، قال صاحب الكشاف: النعمة (بالفتح) من التنعم، (وبالكسر) من الإنعام، فاكهين: أي طيبى الأنفس ناعمين، فما بكت عليهم السماء: أي لم تكترث لهلاكهم ولا اعتدّت بوجودهم، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن: إنه قد أظلمت الدنيا لفقده، وكسفت الشمس والقمر له - وبكت عليه السماء والأرض كما قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم الليل والقمرا
منظرين: أي ممهلين ومؤخرين، العذاب المهين: أي الشديد الإهانة والإذلال، عاليا: أي جبارا متكبرا، من المسرفين: أي في الشر والفساد، اخترناهم: أي اصطفيناهم، على علم: أي عالمين باستحقاقهم ذلك، على العالمين: أي عالمى زمانهم، الآيات: أي المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى، بلاء مبين: أي اختبار ظاهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن مشركي مكة أصروا على كفرهم ولم يؤمنوا برسولهم - أردف هذا بيان أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم، فكثير قبلهم كذبوا رسلهم، فهاهم أولاء قوم فرعون قد كان منهم مع موسى مثل ما كان من قومك معك بعد أن أتاهم بالبينات التي كانت تدعو إلى تصديقه، فكذبوه فنصره الله عليهم وأغرق فرعون وقومه وجعلهم مثلا للآخرين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي ولقد اختبرنا قبل مشركي قومك - قوم فرعون وهم مثال قومك في جبروتهم وطغيانهم، وعتوّهم واستكبارهم، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام فقال لهم: أيها القوم أرسلوا معى بني إسرائيل وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم، إني رسول من الله مأمون على ما أبلغكم غير متّهم فيه.
ونحو الآية قوله عز اسمه: « فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ».
(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا أمره - لأني آتيكم بحجة واضحة على حقية ما أدعوكم إليه، لمن تأملها وتدبّر فيها.
(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي وإني ألتجئ إلى الله الذي خلقنى وخلقكم أن لا تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل.
(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدقونى فيما جئتكم به من عند ربكم فخلوا سبيلى ولا ترجمونى باللسان ولا باليد، ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضى الله بيننا..
ولما طال مقامه ﷺ بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، ولم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا دعا عليهم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي فدعا ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤدوا إليه عباد الله وهموا بقتله: بأن هؤلاء قوم مشركون بك مكذبون لرسلك.
ونحو الآية قوله: « وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ».
وحينئذ أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم بلا أمر فرعون ولا مشورته، وإلى ذلك أشار بقوله:
(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا) أي فسر ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط ليلا.
ثم علل السري ليلا فقال:
(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي إن فرعون وقومه سيتبعونكم إذا علموا بخروجكم، ومسيركم ليلا يؤخر علمهم بذلك، فلا يدركونكم.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا. لا تَخافُ دَرَكًا وَلا تَخْشى ».
(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه.
روي أن موسى عليه السلام لما قطع البحر رجع ليضربه بعصاه حتى يلتئم خوفا من فرعون وجنوده أن يتبعوه، فأمر أن يتركه كما هو حتى يدخلوه.
وإنما أخبر موسى بغرقهم ليطمئن قلبه فيترك البحر كما هو.
ولما أخبر بغرقهم ذكر ما خلفوه فقال:
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ. وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم من بساتين فيحاء، وحدائق غنّاء، وزروع ناضرة، وقصور شاهقة، فقد كانوا في بلهنية من العيش، وسعة في الرزق، وخفض ودعة، وسرور وحبور.
ثم أكد هذا بقوله:
(كَذلِكَ) أي هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا وخالف أمرنا.
(وَأَوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ) أي وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم، ونعيم عظيم، قوما غير أهلها ممن لا يمتون إليهم بقرابة ولا دين، فقد تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا، والحبش حينا آخر، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ثم الرومان من بعدهم، ثم العرب ثم الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والمماليك البرية والبحرية والترك والفرنسيون والإنكليز. وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ونتمكن من استقلال بلادنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد « قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».
ثم سخر منهم واستهزأ بهم حين هلكوا فقال:
(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) كان هؤلاء القوم يستعظمون أنفسهم ويظنون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك على ما جرت به العادة في مهلك العظيم أن يقولوا بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح ونحو ذلك. قال يزيد بن مفرّغ:
الريح تبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه
فأخبر سبحانه بأن هؤلاء كانوا دون ذلك فما بكت عليهم سماء ولا أرض.
(وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي وما أمهلوا لتوبة أو تدارك تقصير، بل عجّل لهم العذاب.
ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه، أردف ذلك ذكر إحسانه إلى موسى وقومه فقال:
(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، إلى نحو ذلك من وسائل الخسف والضيم إذ كان جبارا مستكبرا مسرفا في الشر والفساد، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية، إذ قال أنا ربكم الأعلى.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعًا ».
وبعد أن بين طريق دفعه للضّر عنهم، أردف ذلك ذكر ما أكرمهم به فقال:
(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولقد اصطفيناهم على عالمى زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا فيهم من الرسل، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل.
(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي وأعطيناهم من الأمور ذوات الخطر الدالة على كرامتهم عندنا، ما فيه عبرة لمن تأمل فيه، فأنجيناهم من عدوهم، وظللنا عليهم الغمام، وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى، إلى نحو أولئك.
(9 - مراغى - الخامس والعشرون)
قال الحسن وقتادة: البلاء المبين النعمة الظاهرة على نحو ما جاء في قوله: « وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا » وقوله: « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ».
[سورة الدخان (44): الآيات 34 الى 37]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
تفسير المفردات
بمنشرين: أي بمبعوثين، يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا أحياهم، وتبّع: واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين، وهم طبقتان:
الطبقة الأولى ملوك سبإ وريدان من سنة 115 قبل الميلاد إلى 275 بعده. والطبقة الثانية ملوك سبإ وريدان وحضرموت والشّحر من سنة 275 بعد الميلاد إلى سنة 525، وأولهم شمر برعش، وآخرهم ذو نواس ثم ذو جدن، ومنهم ذو القرنين أو إفريقش، ويسمى الصعب. وبعده عمرو زوج بلقيس ثم أبو بكر ابنه ثم ذو نواس، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة شمر برعش وذو القرنين وأسعد أبو كرب.
المعنى الجملي
عود على بدء - كان الكلام أولا في كفار قريش، إذ قال فيهم: بل هم في شك يلعبون، أي إنهم في شك من البعث والقيامة، ثم بين كيف أصروا على كفرهم، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا في إصرارهم على الكفر كهؤلاء، وقد أهلكهم الله وأنجى بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو إنكارهم للبعث وقولهم إنه لا حياة بعد هذه الحياة، فإن كنتم صادقين فاسألوا ربكم يعجل لنا إحياء من مات حتى يكون ذلك دليلا على صدق دعواكم النبوّة والبعث في القيامة، ثم توعدهم بأنه سيستنّ بهم سنة من قبلهم من المكذبين، فقد أهلك من هم أقوى منهم بطشا وأكثر جندا، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان، فحذار أن تصرّوا على الكفر حتى لا يحيق بكم بأس ربكم.
الإيضاح
(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون: ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور.
ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور، وهم النبي وأصحابه وقالوا لهم:
(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان البعث حقا كما تقولون، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا إن كنتم صادقين فيما تدّعون.
وهذه حجة داحضة، فإن المعاد يوم القيامة بعد انقضاء الدار الدنيا حين يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لردّ ما قالوا، بل قال لهم مهددا متوعدا منذرا بأسه الذي لا يرد:
(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نظراءهم المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع أهلكهم الله وخرّب ديارهم وشرّدهم في البلاد شذر مذر، وقد كانوا أقوى منهم جندا وأكثر عددا، وكانت لهم دولة وصولة، وهؤلاء ليسوا في شيء من ذلك - وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد وثمود إذ كانوا في خسران مبين بكفرهم وإنكارهم للبعث والنشور، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ».
[سورة الدخان (44): الآيات 38 الى 42]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
تفسير المفردات
لاعبين: أي عابثين، بالحق: أي بسبب الحق وهو الإيمان بالله والطاعة له، يوم الفصل: هو يوم القيامة، سمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الحق والباطل، ميقاتهم: أي وقت موعدهم، يغنى: أي ينفع، مولى: أي ابن عم أو حليف.
الإيضاح
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا الخلق عبثا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا، واتباع أمرنا ونهينا، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته، والعاصي على معصيته، بل خلقناهم لنبتلى من أردنا امتحانه منهم بما شئنا، ولنجزى الذين أساءوا بما عملوا، ونجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقد سبق نحو هذا في سورة « يونس » وسورة « المؤمنون » حيث قال: « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » وفى سورة ص إذ قال: « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ».
(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالحق، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما، ووجوب طاعته، والإنابة إليه، لعظمته وجبروته كما جاء في الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبه عرفوني ».
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون ذلك، فهم لا يخافون من سخطه عقوبة لهم على ما اجترحوا من السيئات، ولا يرجون ثوابا على خير فعلوه لتكذيبهم بالميعاد والعودة إلى دار أخرى بعد هذه الدار.
وخلاصة ما تقدم - إن هؤلاء لقلة تدبرهم لا يعتقدون أن الأمر كذلك، وهم واهمون فيما يظنون، إذ لو لم توجد دار للجزاء لما امتاز مطيع من عاص، ولا محسن من مسىء، والعقل قاض بغير هذا.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن هذا اليوم الذي يفصل الله فيه بين خلقه، فيحق الحق، ويبطل الباطل، لآت لا محالة وهو وقت حسابهم، وجزائهم على ما كسبت أيديهم من خير أو شر.
ونحو الآية قوله: « لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ » وقوله: « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتًا ».
ثم وصف أهوال هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم فلا تنفع الناس إلا أعمالهم، فمن أصاب خيرا في دنياه سعد به، ومن أصاب شرا شقى به، ولا يغني القريب عن القريب، ولا يدفع عنه شيئا من عذاب الله، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب.
وقصارى ذلك - لا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصره ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما.
ونحو الآية قوله: « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ » وقوله « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ ».
(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) أي لكن من رحمه الله فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه، ولا إلى ناصر ينصره قاله الكسائي.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
[سورة الدخان (44): الآيات 43 الى 50]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
تفسير المفردات
شجرة الزقوم: هي شجرة ذات ثمر مرّ تنبت بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت في الجحيم، والأثيم: أي الكثير الآثام والذنوب وهو الكافر، والمهل: دردىء الزيت، والجميم: الماء الذي تناهى حره، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك وتذهب به إلى حبس أو محنة. وقال ابن السكيت: عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دفعته دفعا عنيفا، وسواء الجحيم: وسطها.
الإيضاح
(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ) أي إن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي في الجحيم - طعام للكافر كثير الذنوب والآثام.
(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي وهذا الطعام الذي يشبه دردىء الزيت الأسود - يغلى في بطون الكفار ويكون كالماء الحار إذا اشتد غليانه.
(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي ويقال للزبانية « خدم جهنم » خذوا هذا المجرم فادفعوه دفعا إلى وسط جهنم، لينال قسطه من عذابها.
(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي وبعد أن تدخلوه فيها صبّوا فوق رأسه من الماء الساخن الذي ذكرنا صفته.
ونحو الآية قوله تعالى: « يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ».
ثم ذكر ما يقال له آنئذ تقريعا وتهكما.
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي ذق هذا الذل والهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وها هو ذا قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين، فأين ما كنت تقول وتدعى من العز والكرامة؟ فهلا تمتنع من العذاب بعزتك.
أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لفى رسول الله ﷺ أبا جهل فقال له: إن الله أمرني أن أقول لك: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فنزع يده من يده وقال بأى شيء تهددنى، ما تستطيع أنت ولا صاحبك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه، لقد علمت إني أمنع أهل بطحاء على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيّره بكلمته، فأنزل « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ».
(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي إن هذا العذاب. الذي تعذبون به هو العذاب الذي كنتم تشكّون فيه في الدنيا، فتختصمون فيه، ولا توقنون به، فقد لقيتموه فذوقوه.
ونحو الآية قوله تعالى « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ».
[سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
تفسير المفردات
في مقام أمين: أي في مجلس أمنوا فيه من كل همّ وحزن، سندس: أي ديباج رقيق، إستبرق: أي حرير فيه بريق ولمعان، زوّجناهم: أي قرناهم، بحور عين: أي بجوار بيض حسان واسعات العيون، يدعون: أي يطلبون، وقاهم: أي حفظهم ارتقب: أي انتظر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما يرونه من الأهوال في ذلك اليوم - أعقب هذا بوعد المتقين بما يلاقونه في جنات النعيم من ضروب التكريم في الملبس والزوجات والمآكل، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدي خالد لا يعقبه موت ولا تحوّل ولا انتقال، ثم ختم السورة بالمنة على العرب في نزول القرآن بلغتهم لعلهم يعتبرون ويتعظون به، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم، والنصر له عليهم، كما هي سنته في أمثالهم من المكذبين « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ».
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي إن المتقين لله في الدنيا الخائفين عقابه، المنتظرين فضله وثوابه - يكونون في الآخرة في مجالس يأمنون فيها من الموت ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام.
وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان:
(1) مساكنهم كما قال « فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ » والمسكن يطيب بأمرين:
(ا) أن يكون من فيه آمنا من جميع ما يخافه ويحذر منه، وهو المقام الأمين.
(ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون، وذلك قوله: « فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ».
(2) ملابسهم، وهي التي عناها سبحانه بقوله:
(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) وقد تقدم بسط الكلام في ذلك في سورة الكهف.
(3) استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل، وهو ما أشار إليه بقوله:
(مُتَقابِلِينَ) أي ينظر بعضهم إلى بعض، وهو أتمّ للأنس.
(4) الأزواج كما قال:
(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وهذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ.
(5) المأكول كما قال:
(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها، ومن غائلة أذاها ومكروهها، فهي ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها ونخاف مكروه عاقبتها، أو نخاف نفادها في بعض الأحايين.
وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم، بيّن أن حياتهم في هذا النعيم دائمة لا يلحقها موت ولا فناء فقال:
(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي لا يخشون في الجنة موتا ولا فناء أبدا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: « يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت »
وقد تقدم هذا في سورة مريم.
وروى أبو هريرة وأبو سعيد أن رسول الله ﷺ قال: يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا » رواه مسلم.
وخلاصة ذلك - لا يذوقون فيها الموت، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا كذا قال الزجاج والفرّاء.
(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وهم مع هذا النعيم قد نجاهم من العذاب الأليم، في دركات الجحيم، فأعطاهم ما يطلبون، ونجاهم مما يهزبون.
(فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ) أي نجاهم من ذلك تفضلا منه وإحسانا.
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة، هو الفوز العظيم بما كانوا يطلبون إدراكه في الدنيا، بأعمالهم، وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه، فيما امتحنهم به من الطاعات، واجتنابهم للمحرمات.
ولما أتمّ المقاصد التي أراد ذكرها في هذه السورة لخصها بقوله:
(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما سهلنا إليك قراءة القرآن الذي أنزلناه إليك بلسانك، ليتذكر به قومك ويتعظوا بعظاته، ويتفكروا في آياته إذا تلوتها عليهم، فينيبوا إلى ربهم، ويذعنوا للحق الذي تبيّنوه.
ولما كان القرآن مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس وعاند، قال تعالى مسليّا رسوله وواعدا له بالنصر، ومتوعدا من كذبه بالهلاك.
(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فانتظر فإنهم منتظرون، وسيعلمون لمن تكون النصرة والغلبة، والظفر وعلوّ الكلمة في الدنيا والآخرة - ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين كما قال: « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ».
وقصارى ذلك - ارتقب النصرة من ربك، إن المشركين مرتقبون بك ما يتمنونه من الغوائل، وما يتربصونه بك من الدوائر، ولن يضيرك ذلك بفضل ربك عليك، وسيتم نصرك، ويفلج حجتك، ويعلى كلمتك.
اللهم يا من بيدك الخير، وأنت على كل شيء قدير، وفقنا لإتمام تفسير كتابك، واجعله لنا نورا يوم العرض والحساب.
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
(1) بيان بدء نزول القرآن.
(2) وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم.
(3) عدم إيمانهم مع توالى النكبات بهم.
(4) عظة الكافرين بقصص فرعون وقومه مع موسى عليه السلام، وقد أنجى الله المؤمنين، وأهلك الكافرين.
(5) إنكار المشركين للبعث وقولهم: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (6) إقامة الدليل على نبوة محمد ﷺ.
(7) وصف أهوال يوم القيامة.
(8) وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال.
(9) وصف نعيم المتقين وحصولهم على كل ما يرغبون.
سورة الجاثية
هي مكية إلا الآية الثامنة فمدنية.
وعدة آيها سبع وثلاثون، نزلت بعد سورة الدخان.
ومناسبتها لما قبلها: أن أول هذه مشاكل لآخر سابقتها في الأغراض والمقاصد.
[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) واخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
تفسير المفردات
لآيات: أي لعبرا، يبث: أي يفرق وينشر، اختلاف الليل والنهار: أي تعاقبهما ليل بعد نهار ونهار بعد ليل، من رزق. أي من مطر، وسمى بذلك لأنه سبب له، وتصريف الرياح: أي تغييرها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال.
الإيضاح
(حم) قد عرفت الكلام في أمثالها من قبل.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي إن هذا الكتاب الكريم أنزله العزيز الغالب القاهر لكل شيء، الحكيم في تدبيره لكل ما خلق، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية والروحية، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد في النبات والحيوان والأجسام الإنسانية ودوران الكواكب وانتظامها في سيرها، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة في صنعها، ومن ثم أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة فقال:
(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن في السموات السبع اللاتي منهن ينزل الغيث، وفى الأرض التي منها يخرج الخلق - لأدلة واضحة للمصدقين بالحجج إذا تأملوها وفكروا فيها تفكير من يسلك السبيل القويم، فيرتب المقدمات، ليصل منها إلى النتائج، التي هي لازمة لها بحكم النظام الفكرى، والترتيب العقلي.
وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي في الآفاق أتبعها بذكر الأدلة التي في الأنفس فقال:
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن في خلق الله إياكم على أطوار مختلفة من تراب ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسي، وفى خلق ما تفرق في الكون من الدواب - لحججا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء فيقررونها بعد العلم بصحتها.
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن في تعاقب الليل والنهار عليكم، هذا بظلمته وسواده، وذاك بنوره وضيائه، وفيما أنزل الله من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم، وفى تصريف الرياح لمنافعكم شمالية مرة وجنوبية أخرى، صبا مرة، ودبورا أخرى - لأدلة وحججا لله على خلقه الذين يعقلون عنه حججه ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر.
وقصارى ما سلف - إنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة في السموات والأرض آمنتم بوحدة خالقها وقدرته، فإذا ازددتم علما، ازداد تثبتكم وفهمكم، فصرتم موقنين بها لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه أصبحتم من ذوي العقول الناضجة، والأفكار النافذة في أسرار هذا الكون وبديع صنعه، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه وتسخروه لمنافعكم في هذه الحياة المليئة بالمطالب.
وإجمال ذلك - إن أول المراتب الإيمان بالله، فإذا ازداد المرء علما وحكمة وبحثا في دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنا به، وكلما ازداد بحثا ازداد عقله دراية وفهما لأسرار هذا الكون، فسخره لمنافعه، واستفاد من نظمه التي وجد عليها وعرف أنه لم يخلق عبثا، بل خلق للانتفاع بما في ظاهره وباطنه، علويّه وسفليه، أرضه وسمائه، نوره وظلامه، فكأنه يقول: إنا أمرناكم بالنظر في العالم لتؤمنوا، فإذا ازددتم علما أيقنتم بي، وذلك كله مما يربى عقولكم، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية.
[سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 11]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
تفسير المفردات
الأفاك: كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الإثم والمعاصي، والإصرار على الشيء: ملازمته، من ورائهم: أي من بعد آجالهم، يغنى: أي يدفع، أولياء: أي أصناما، والرجز: أشد العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر آيات القرآن العظيم - أشار إلى ما لها من علوّ المرتبة، ورفيع الدرجة ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها، وأصروا على كفرهم بها - بالويل والثبور، وعظائم الأمور، ثم بين أن عاقبتهم النار، وبئس القرار، ولا تنفعهم أصنامهم شيئا، ولا تدفع عنهم ما قدّر لهم من العذاب.
الإيضاح
(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج وبينات، نتلوها عليك متضمنة للحق.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأي حديث أيها القوم بعد حديث الله الذي يتلوه على رسوله، وبعد حججه وبرهاناته التي دلكم بها على وحدانيته - تصدقون إن كذبتم به.
والخلاصة - إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات ولا تنقادون لها، فبم تؤمنون؟ وإلام تنقادون؟
وبعد أن بين للكفار آياته، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأي حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه بالوعيد العظيم لهم فقال:
(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي فالويل أشد الويل، والعذاب أقسى العذاب، لكل كذاب في قوله، أثيم في فعله.
وبعد أن وصف هذا الأفاك بالإثم أولا، أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات فقال:
(يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي إذا سمع آيات الله تقرأ عليه، وهي مشتملة على الوعد والوعيد، والإنذار والتبشير، والأمر والنهي، والحكم والآداب، أصرّ على الكفر بها، وجحدها عنادا كأنه ما سمعها.
ثم أوعده على ما فعل عذابا أليما في نار جهنم فقال:
(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم الموجع في جهنم وبئس القرار.
وفي تسمية هذا الخبر المحزن بشرى، وهي لا تكون إلا في الأمر السار - تهكم بهم، واحتقار لشأنهم، فهو من وادي قوله للكافر « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » وقول الشاعر:
تحية بينهم ضرب وجيع
نزلت الآية في النضر بن الحارث وكان يشترى أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، وهي عامة في كل من كان صادّا عن الدين مستكبرا عن اتباع هدايته.
(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا) أي وإذا وصل إليه خبرها، وبلغه شيء منها، جعلها هزوا وسخرية، فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه: تزقّموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا شهدا، وحين سمع قوله « عليها تسعة عشر » أي على النار قال: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.
ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال:
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أولئك الأفاكون المتصفون بتلك الصفات لهم العذاب الذي يهينهم ويذلهم في نار جهنم بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوا.
(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر جهنم، والمراد أنها من قدامهم، لأنهم متوجهون إليها.
(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئًا) أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد.
(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغنى عنهم أصنامهم التي عبدوها من دون الله شيئا.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولهم من الله يومئذ عذاب عظيم لا يقدر قدره.
(هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم لمن اتبعه وعمل بما فيه.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآياته الكونية في الأنفس والآفاق وآياته المنزلة على ألسنة رسله لهم العذاب المؤلم الموجع يوم القيامة.
[سورة الجاثية (45): الآيات 12 الى 15]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
تفسير المفردات
سخر: هيأ، الفلك: السفينة، والابتغاء: الطلب، يغفر: أي يعفو ويصفح، لا يرجون: أي لا يتوقعون حصولها، وأيام الله: وقائعه بأعداء دينه كما يقال لوقائع العرب أيام العرب، والقوم هم المؤمنون الغافرون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته ووحدانيته - أردف ذلك ذكر آثارها، فمن ذلك تسخير السفن في البحار حاملة للأقوات والمتاجر رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم، ومنها تسخيره ما في السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال، لتنتفعوا بها في مرافقكم وشئونكم المعيشية.
ثم أمر المؤمنين بأحاسن الأخلاق، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ويوم القيامة يعرضون على ربهم ويجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده - هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملة أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشئونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى، ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وسخر لكم جميع ما خلقه في سمواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلا، وكل هذه أدلة على أنه الله الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر.
والخلاصة - إن العالم كله كأنه جسم واحد يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس، ولا تسير سفن إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك، فالعالم كله كساعة منتظمة لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها.
وعن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق فقال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدرى، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال مم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس: « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ » فقال الرجل ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.
ولما علّم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة - أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق فقال:
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي قل للذين صدقوا الله ورسوله: اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين الذين لا يخافون بأس الله ونقمته، إذا نالكم منهم أذى ومكروه قاله مجاهد.
روى الواحدي والقشيري عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبي في غزوة بنى المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقى فأبطأ عليه، فقال ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبي ﷺ وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل « سمّن كلبك يأكلك » فبلغ عمر قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية:
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببا آخر قال: لما نزل قوله تعالى: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا » قال يهودي بالمدينة يسمى فنحاصا، احتاج رب محمد. قال فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فجاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: إن ربك يقول لك: « قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ » فبعث رسول الله ﷺ في طلب عمر فلما جاء قال: (يا عمر ضع سيفك) قال يا رسول الله صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول الله ﷺ الآية. فقال عمر: لا جرم والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي.
ثم علل الأمر بالمغفرة فقال:
(لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزى الله تعالى يوم القيامة قوما بما كسبوا في الدنيا من أعمال طيبة، من جملتها الصبر على أذى الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه - ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم في جنات النعيم.
ولما رغب سبحانه ورهّب وقرر أنه لا بد من الجزاء - أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال:
(مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل من عباد الله بطاعته، فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه - فلنفسه عمل، ولها طلب الخلاص من عذابه، والله غني عن كل عامل، ومن أساء عمله في الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى، ولها اكتسب الضر.
ثم بين وقت الجزاء فقال:
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
[سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 20]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
تفسير المفردات
الكتاب: المراد به الكتب التي نزلت على أنبيائهم، الحكم: الفصل بين الناس في الخصومات، لأنهم كانوا ملوكا، بينات من الأمر: أي دلائل واضحات في أمر الدين، ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام، بغيا: أي حسدا وعنادا، على شريعة من الأمر: أي على طريقة ومنهاج في أمر الدين. وأصل الشريعة مورد الماء في الأنهار ونحوها، وشريعة الدين يرد منها الناس إلى رحمة الله والقرب منه، بصائر للناس: أي معالم للدين بمنزلة البصائر في القلوب.
المعنى الجملي
اعلم أن الله سبحانه بين أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم كثيرة، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيا وحسدا، وجاء ذكر هذا تسلية لرسوله بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، بل طريقهم طريق من تقدمهم، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق، ولا يكون له غرض سوى إظهاره، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية تهتدى بها القلوب الضالة عن طريق الحق، فتلزم الجادّة وتصل إلى طريق النجاة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) امتنّ سبحانه على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم من وافر النعم الدينية والدنيوية وذكر من ذلك:
(1) إنزال التوراة على موسى فيها معالم للهدى وشرائع للناس تهديهم إلى سواء السبيل.
(2) إرسال الرسل، فكثر فيهم الأنبياء بما لم يكن لأمة مثله.
(3) القضاء بين الناس والفصل في خصوماتهم، إذ كان الملك فيهم، فاجتمع لهم حكم الدين وحكم الدنيا.
(4) إيتاؤهم طيبات الأرزاق، فكانوا ذوي ترف ونعيم في معايشهم، وكان منهم الملوك ذوو الحظ الأوفر من العظمة والفضل وسعة الجاه والأمر والنهي وبسطة العيش كداود وسليمان عليهما السلام.
(5) تفضيلهم على الناس جميعا، إذ لم يكن في أمة أنبياء كما كان فيهم، ولم يجمع الله بين الملك والنبوة في شعب كما اجتمع فيهم، فهم أرفع الشعوب منقبة.
قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم اهـ.
وقد آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء بما لم يفعله بغيرهم ممن سبق.
(6) إيتاؤهم أحكاما ومواعظ مؤيدة بالمعجزات، وقد كان هذا مما يستدعى ألفتهم واجتماعهم، وكانوا كذلك لا يختلفون إلا اختلافا يسيرا لا يضر مثله، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي فما حدث فيهم هذا الخلاف إلا بعد قيام الحجة طلبا للرياسة وحسدا فيما بينهم، وقد سبق تفصيله في سورة حم عسق.
ثم وكل سبحانه أمر المختلفين إليه للقضاء بينهم يوم القيامة فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك سبحانه يقضى بين المختلفين من بني إسرائيل بغيا وحسدا فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا بعد العلم الذي آتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، ويجعل الفلج للمحقّ على المبطل، والمقصد من هذا أنه لا ينبغي أن يغترّ المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فهو سيرى في الآخرة ما يسوءه.
وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تسير على نهجهم.
ولما بين أنهم أعرضوا عن الحق بغيا وحسدا - أمر رسوله ﷺ أن يعدل عن هذه الطريقة وأن يستمسك بالحق فقال:
(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ثم جعلناك بعد بني إسرائيل الذين وصفت لك صفتهم - على نهج خاص من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد الله ولا شرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم فتهلك.
ثم علل النهي عن اتباع أهوائهم فقال:
(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته.
ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين فقال:
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وإن الكافرين ليتولى بعضهم شئون بعض في الدنيا، أما في الآخرة فلا ولي ولا شفيع ولا نصير يجلب لهم ثوابا ولا يدفع عنهم عقابا.
(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي والمتقون المهتدون وليهم الله وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، فما أبعد الفرق بين الولايتين:
شتان ما يومى على كورها ويوم حيّان أخي جابر
وقصارى ما سلف - دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته، وأعرض عما سواه.
ثم بين فضل القرآن وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين فقال:
(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبينات تبصّرهم وجه الفلاح، وتعرّفهم سبيل الهدى، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته، وهو تنزيل من رب العالمين.
وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى ورحمة، لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه دون من كذّب به من أهل الكفر فإنه عليهم عمى.
[سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 23]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
تفسير المفردات
الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، والمراد بالسيئات: سيئات الكفر والإشراك بالله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الفارق بين الكافرين والمؤمنين في الولاية، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض، وأن الآخرين وليهم الله - أردف ذلك ذكر الفارق بينهم في المحيا والممات، فالمحسنون مرحومون في الحالين، ومجترحو السيئات مرحومون في الدنيا فحسب، ثم ذكر الدليل على هذا بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق المقتضى للعدل والانتصاف للمظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء في الجزاء، وإذا لم يكن هذا في المحيا كان في دار الجزاء حتما، لتجزى كل نفس بما كسبت، فلا تظلم بنقص ثواب أو بمضاعفة عقاب.
ثم عجّب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه واجتراح الآثام والمعاصي، فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه، فلا يتأثر بعظة، ولا يفكر في آية، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار، فمن بعد الله يهديه؟ أفلا تتذكرون وتتفكرون في هذا؟
روى الكلبي في تفسيره أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلى وحمزة وجمع من المؤمنين: ولله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولونه حقا، لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا، فنزلت الآية « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ » إلخ.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أيأ يظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله وكذبوا الرسل، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين آمنوا به وصدقوا رسله، فنساوى بينهم في دار الدنيا وفى الآخرة - كلا لا يستوون في شيء منهما، فإن أهل السعادة في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا، وفى رحمة الله ورضوانه في الممات، وأهل الشقاء في ذلك الكفر والمعاصي وهوانهما في المحيا، وفى لعنة الله والعذاب الخالد في الممات، فشتان ما بينهما وما أبعد ما بين الثريا والثرى.
ونحو الآية قوله تعالى: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » وقوله: « أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ » (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أيساء ما ظنوا وبعد أن نساوى بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفى هذه الدار.
وفي الآية إرشاد إلى تباين حالى المؤمن العاصي والمؤمن الطائع.
وقد أثر عن كثير من الناسكين المخبتين لربهم أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية حتى سموها مبكاة العابدين.
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال:
قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ » الآية لم يزل يكررها ويبكى حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلى فمرّ بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) فلم يزل يردّدها حتى أصبح.
وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعرى من أي الفريقين أنت؟
ثم أقام الدليل على عدم التساوي وأبان حكمة ذلك فقال:
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلم، بل خلقهما للحق والعدل، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء في العاجل والآجل.
(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليثيب كل عامل بما هو له أهل، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به، أو يجعل للمسىء ثواب إحسان غيره.
والخلاصة - كل عامل يجزى بما كسبت يداه، ولا يظلم بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب.
ثم بين أحوال الكافرين وذكر جناياتهم على أنفسهم فقال:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟) أي انظر واعجب من حال من ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع الهوى، فكأنه جعله إلها يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئا إلا فعله، لا يخاف ربا ولا يخشى عقابا، ولا يفكر في عاقبة ما يعمل.
وفي هذا إيماء إلى ذم اتباع هوى النفس، ومن ثم قال وهب بن منبّه: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التّسترى: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال الإشبيلى الزاهد:
فخالف هواها واعصها إنّ من يطع هوى نفسه ينزع به شرّ منزع
ومن يطع النفس اللجوجة تزده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال البوصيري في بردته:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، قال تعالى « وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ » وقال: « وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا » وقال « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ».
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به »
وقال أبو أمامة: سمعت النبي ﷺ يقول « ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى »
وروى شدّاد بن أوس عن النبي ﷺ « الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال « إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة »
وعنه أنه قال « ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب ».
وحسبك ذمّا لاتباع الهوى قوله تعالى: « وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ».
(وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد، لأنه قد علم أنه لا يهتدى ولو جاءته كل آية، لما في جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام، واتباع الشهوات، فهو يوغل في القبائح دون زاجر ولا وازع.
(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي وقد طبع على سمعه، فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى.
(وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه، فلا يعى حقّا، ولا يسترشد إلى صواب.
(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه أن يبصر حجج الله وآياته في الآفاق والأنفس، فيستدل بها على وحدانيته ويعلم بها أن لا إله غيره.
قال مقاتل: نزلت في أبى جهل. ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي ﷺ، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له مه، وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عنى بنات قريش إني اتبعت يتيم أبى طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت « وختم على سمعه وقلبه ».
ونحو الآية قوله تعالى « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ».
ثم ذكر أن مثل هذا لا أمل في هدايته فقال:
(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي فمن يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدى أبدا، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا.
[سورة الجاثية (45): الآيات 24 الى 26]
وقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين قد اتخذوا إلاههم هواهم، وأن الله قد أضلهم على علم بحالهم، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم وجعل على بصرهم غشاوة - ذكر هنا جناية أخرى من جناياتهم، وحماقة من حماقاتهم، تلك أنهم أنكروا البعث وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام لا مستند لها من نقل ولا عقل، ولم يجدوا حجة يقولونها إلا أن قالوا: إن كان ما تقوله حقا فارجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة، فأمر الله رسوله أن يجيبهم بأنه هو الذي يحهيهم ثم يميتهم، ثم يجمعهم في يوم لا شك فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك.
الإيضاح
(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم: لا حياة بعد هذه الحياة التي نحن نعيش فيها، فنموت نحن وتحيا أبناؤنا من بعدنا - وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد.
وقصارى ذلك - ما ثمّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك بعث ولا قيامة.
(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يفنينا إلا مرّ الليالي والأيام، فمرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس، ويضيفون كل حادث إلى الدهر وأشعارهم ناطقة بذلك قال:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشي
وقد كان العرب في جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر، وقد جاء النهي عن سبّ الدهر، فجاء في الحديث القدسي « يقول الله عز وجل: يؤذينى ابن آدم، يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال « يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطنى، وسبّنى عبدي يقول وا دهراه وأنا الدهر ».
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله ﷺ « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر »: كان العرب في الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء قالوا يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله، فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
ثم نعى عليهم مقالهم هذا الذي لا دليل عليه فقال:
(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر - علم يستند إلى عقل أو نقل، وقصارى أمرهم الظن والتخمين من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة.
وفي الآية إشارة إلى أن القول بغير بينة ولا حجة - لا ينبغي أن يعوّل عليه، وأن اتباع الظن منكر عند الله.
ثم ذكر شبهتهم على إنكار البعث فقال:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أيوإذا تلى على هؤلاء المشركين الذين سبق القول في جرائمهم - آيات الكتاب الدالة على أن البعث حق، وأن الله سيعيد الخلق يوم القيامة وينشئه نشأة أخرى - لم يكن لهم من حجة في دحض هذا إلا أن قالوا إن كان ما تقولونه حقّا فأنشروا لنا آباءنا الأولين وابعثوهم من قبورهم أحياء حتى نعتقد صحة ما تقولون.
وهذا قول آفن وكلام لا ينبغي أن يصدر من عاقل، فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء في الحال كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا - امتناعه فيما بعد إذا قامت القيامة وبعث الله الموتى من قبورهم للعرض والحساب.
وتسمية كلامهم الزائف حجة - ضرب من التهكم بهم على نحو قوله:
تحية بيّنهم ضرب وجيع
ثم أمر سبحانه رسوله أن يرد عليهم فقال:
(قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث: الله يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا، ثم يميتكم فيها متى شاء، ثم يجمعكم جميعا أولكم وآخركم صغيركم وكبيركم يوم القيامة.
ثم أكد ذلك بقوله:
(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ريب في هذا الجمع والبعث، فإن من قدر على البدء قد على الإعادة، والحكمة قاضية بذلك، لتجزى كل نفس بما كسبت، والأديان جميعا متضافرة على تحققه وحصوله يوم القيامة.
وقصارى ما سلف - إن البعث أمر ممكن أخبر به الأنبياء الصادقون، والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده، فهو واقع لا محالة.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس ينكرون البعث ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها وحين تكون عظاما نخرة كما قال: « إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَراهُ قَرِيبًا » أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرونه قريبا، وما دعاهم إلى ذلك إلا جهلهم وقصر نظرهم، لا لأن فيه شائبة ريب.
[سورة الجاثية (45): الآيات 27 الى 29]
ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
تفسير المفردات
جاثية: أي باركة على الركب مستوفزة، وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر ما يكره، إلى كتابها: أي إلى صحيفة أعمالها التي كتبها الحفظة لتحاسب على ما قيّد فيها، ينطق: أي يشهد، نستنسخ: أي نجعل الملائكة تكتب وتنسخ.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فيما سلف أنه تعالى قادر على الإحياء مرة ثانية كما قدر على ذلك في المرة الأولى - ذكر هنا دليلا آخر على ذلك، وهو أنه تعالى مالك الكون كله، فهو قادر على التصرف فيه بالإحياء في الإعادة كما أحياه في البدء، ثم ذكر من أهوال هذا اليوم أن كل أمة تجثو على ركبها وتجلس جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، وكل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب عليها، ويقال لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون، ولا شاهد عليكم أصدق من كتابكم، فهو صورة أعمالكم قد كتبتها الملائكة في دنياكم.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك العالم العلوي والسفلى، جار حكمه فيهما، دون ما تدعون من دونه من الأوثان والأصنام.
ثم توعد الكافرين أهل الباطل فقال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي ويوم تقوم الساعة ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب - سيظهر خسران أولئك المنكرين الجاحدين بما أنزل الله على رسله من الآيات والدلائل - بدخولهم في جهنم وبئس المستقر.
وقد جعلت الحياة والصحة والعقل كأنها رءوس أموال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجرى مجرى تصرف التاجر في ماله طلبا للريح. أما الكفار فقد أتعبوا أنفسهم وتصرفوا فيها بفعل الآثام والإشراك بالله تصرف التاجر الذي أساء في تجارته فوكس فيها، ولم يجد في العاقبة إلا الخسران والخذلان والطرد من رحمة الله، وذلك ما لا يرضاه عاقل لنفسه، يزن الأمور بميزان الحكمة والسداد.
ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم وما تلاقيه من الشدائد انتظارا لفصل القضاء فقال:
(1) (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ركبها لشدة الهول والرعب، واستعدادا لما لعلها تؤمر به حين فصل القضاء.
(2) (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) لذي أنزل عليها لتعبد ربها بهديه، وكتابها الذي نسخته الحفظة من أعمالها، ليطبق أحدهما على الآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خالفه هلك وكان من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ونحو الآية قوله: « وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ».
ثم ذكر أنهم ينذرون ويبشّرون بما سيبنى عليه حكم القضاء فقال:
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم حال دعائهم: اليوم تجازون بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا خيرها وشرها.
ثم بين مستندات الحكم وأدلته فقال:
(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) أي هذا كتابنا الذي كتبته الحفظة ودوّنت فيه أعمالكم - يشهد عليكم شهادة حق دون زيادة ولا نقص، فهو صورة تطابق ما فعلتموه حذو القذّة بالقذّة.
ثم علل مطابقة هذه الشهادة لأعمالهم فقال:
(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنا كنا نأمر الحفظة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم أول فأول في الدنيا، فهي وفق ما عملتم بالدقة والضبط.
وفي هذا إجابة عما يخطر بالبال من سؤال فيقال: ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد العهد؟ فأجيبوا بهذا الجواب.
[سورة الجاثية (45): الآيات 30 الى 37]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
تفسير المفردات
في رحمته: أي في جنته، الفوز: هو الظفر بالبغية، المبين: أي الظاهر أنه لا فوز وراءه، آياتي: أي آيات كتبى التي جاءت في الشرائع السماوية، وعد الله: أي بأنه محيى الموتى من قبورهم، بمستيقنين: أي بمتحققين، وبدا: أي ظهر، سيئات ما عملوا: أي عقوباتها، وحاق: أي حل، ننساكم، أي نترككم، نسيتم: أي تركتم، آيات الله: أي حججه، غرتكم: أي خدعتكم، الحياة الدنيا: أي زينتها، يستعتبون: أي يطلب منهم العتبى بالتوبة من ذنوبهم، والإنابة إلى ربهم، الكبرياء: العظمة والسلطان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أهوال العرض والحساب، وأن أعمال كل أمة تعرض عليها، ويقال لهم هذا ما كتبته الحفظة في الدنيا، فهو شهادة صدق لا شك فيها - أردف هذا بيان أنه بعد انتهاء هذا الموقف يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويوبّخ الكافرون على ما فرط منهم في الدنيا ويقال لهم: لا عذر لكم في الإعراض عن آياتي حين كانت تتلى عليكم إلا الاستكبار والعناد، وقد كنتم في الحياة الأولى إذا قيل لكم إن يوم القيامة آت لا شك فيه، قلتم لا بقين عندنا به، وهو موضع حدس وتخمين، فها هو ذا قد حل بكم جزاء ما اجترحتموه من السيئات، وما كنتم تستهزئون به في دنياكم، إذ قد خدعتكم بزخارفها، فظننتم أن لا حياة بعد هذه الحياة - فلا مأوى لكم إلا جهنم فادخلوها، ولا مخرج لكم منها، ولا عتبى حينئذ، فلا تنفع توبة مما فرط منكم من الذنوب.
الإيضاح
فصل سبحانه في هذه الآيات حالى السعداء والأشقياء فقال:
(1) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي فأما الذين آمنت قلوبهم، وعملت جوارحهم صالح الأعمال التي أمر بها الدين، فيكافئهم ربهم على ما عملوا، ويدخلهم جنات النعيم.
جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال للجنة « أنت رحمتى، أرحم بك من أشاء ».
ثم بين خطر ما نالوا وعظيم ما أوتوا فقال:
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الظفر بالبغية التي كانوا يطلبونها، والغاية التي كانوا يسعون في الدنيا لبلوغها، وهو فوز لا فوز بعده.
(2) (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أي وأما الذين جحدوا وحدانية الله فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: ألم تكن تأتيكم رسلي فتتلوا عليكم آيات كتبى، فتستكبرن عن الإيمان بها؟ ولا عجب فديدنكم الإجرام، وارتكاب الآثام، والكفر بالله، لا تصدقون بميعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي وكنتم إذا قال لكم المؤمنون: إنه سبحانه وتعالى باعثكم من قبوركم بعد موتكم، وإن الساعة التي أخبركم أنه سيقيمها لحشركم وجمعكم للحساب والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، آتية لا ريب فيها، فاتقوا الله وآمنوا به، وصدقوا برسوله، واعملوا لما ينجيكم من عذابه - قلتم لعتوّكم واستكباركم متعجبين مستغربين، ما الساعة؟ نحن لا علم لنا بها، وما نظنها آتية إلا ظنا لا يقين فيه.
ثم ذكر أنهم يقفون موقف المتهم المسئول زيادة في تأنيبهم ثم يحل بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب:
(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا حين قرءوا كتب أعمالهم التي دونتها الحفظة كى لا يكون لهم حجة إذا نزل بهم العذاب ثم جوزوا بما كانوا يهزءون به في الدنيا ويقولون ما هو إلا أوهام وأباطيل، وخرافات قد دونها المبطلون.
ثم ذكر ما يزيد في تعذيبهم وإلقاء الرعب في قلوبهم فقال:
(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وقيل لهم تغليظا في العقوبة وإمعانا في التهكم والسخرية: اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وليس لكم مستنقذ ينقذكم منه، ولا مستنصر يستنصر لكم ممن يعذبكم.
والخلاصة - إنه تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطع الرحمة عنهم، وجعل مأواهم النار، وعدم وجود الأنصار والأعوان، من قبل أنهم أتوا بثلاثة ضروب من الإجرام: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به، والاستغراق في حب الدنيا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي هذا الذي حل بكم من عذاب الله بأنكم في الدنيا اتخذتم حجج الله وآيات كتابه التي أنزلها على رسوله سخرية تسخرون منها، وخدعتكم زينة هذه الحياة فآثرتموها على العمل لما ينجيكم من عذابه، ظنا منكم أنه لا حياة بعد هذه الحياة ولا بعث ولا حساب.
(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي فاليوم لا يخرجون من النار، ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
والخلاصة - إنهم لا يخرجون ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم عليهم أي لا يطلب منهم إرضاؤه لفوات أوانه.
وبعد أن ذكر ما حوته السورة من آلائه تعالى وإحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل التي في الآفاق والأنفس، وما انطوت عليه من البراهين الساطعة على المبدأ والمعاد - أثنى على نفسه بما هو له أهل فقال:
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلله الحمد على أياديه على خلقه، فإياه فاحمدوا، وله فاعبدوا، فكل ما بكم من نعمة فهو مصدرها دون ما تعبدون من وثن أو صنم، وهو مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، ومالك جميع ما فيهنّ.
(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الجلال والعظمة والسلطان في العالم العلوي والعالم السفلى، فكل شيء خاضع له فقير إليه دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
وفي الحديث القدسي: « يقول الله تعالى: الكبرياء ردائى، والعظمة إزاري، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته نارى ». أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أبي هريرة.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، تقدس ربنا جلت قدرته، وعظمت آلاؤه.
وقصارى ذلك - له الحمد فاحمدوه، وله الكبرياء فعظّموه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه.
(2) وعيد من كذب بآياته واستكبر عن سماعها.
(3) طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين.
(4) الامتنان على بني إسرائيل بما آتاهم من النعم الروحية والمادية.
(5) أمر رسوله ألا يطيع المشركين ولا يتبع أهواءهم.
(6) التعجب من حال المشركين الذين أضلهم الله على علم.
(7) إنكار المشركين للبعث.
(8) ذكر أهوال العرض والحساب، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان.
(9) حلول العذاب بالمشركين بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم.
(10) ثناء المولى سبحانه على نفسه وإثبات الكبرياء والعظمة له.
تم تفسير هذا الجزء ليومين بقيا من صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.
فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
4 يوم القيامة مما استأثر الله سبحانه بعلمه
5 المنجمون لا يجزمون بشىء مما يقولون
7 منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال
10 لفت أنظار المشركين إلى التدبر في الآيات قبل إنكارها
11 كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم
12 مجمل ما اشتملت عليه سورة فصلت
14 ما جاء في القرآن من الشرائع فهو على نهج ما جاء في الكتب السالفة من الدعوة إلى التوحيد والإيمان باليوم الآخر
19 لو شاء الله لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس أمة واحدة
20 نهى الرسول عن الاهتمام بإيمان المشركين
24 هذه الشريعة هي التي وصى بمثلها أكابر الأنبياء
27 نهى الرسول ﷺ عن اتباع أهواء المشركين
31 دحض حجة المشركين في الصد عن الدين
32 المشركون يستعجلون الساعة والمؤمنون مشفقون منها
35 بشر هذه الأمه بالسناء والرفعة ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة
36 في الحديث « رأيت عمرو بن لحى بن قمعة يجر قصبه (أمعاءه) في النار ».
41 التوبة وشروط قبولها
45 في الحديث « إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى » إلخ
46 ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
48 في الحديث « ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله؟ »
49 الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر
52 المؤمنون أمرهم شورى بينهم
55 حوار بين عائشة رضي الله عنها وأم المؤمنين زينب
56 كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا
59 حين يعرض الكفار على النار ينظرون من طرف خفي
62 ليس في الإمكان أبدع مما كان
63 الأنبياء يكلمون ربهم على وجوه ثلاثة
66 خلاصة ما تضمنته سورة الشورى
68 القرآن مشتمل على الحكم والأسرار التي فيها سعادة البشر
69 ما بعث الله نبيا إلا استهزأ به قومه
71 المشركون يعترفون بالإله ويعبدون سواه.
72 دل الإله على نفسه بمصنوعاته
77 قال المشركون: الملائكة بنات الله
83 إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء واتبع الدليل
90 محاورة بين أبي بكر وجمع من المشركين
92 القرآن الكريم سرف للرسول وقومه
94 الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه الرسول ﷺ
97 تسلية الرسول عما يلقاه من أذى قومه
98 ما حدث من فرعون وقومه بعد كشف العذاب عنهم بدعوة موسى
99 شبهة فرعون التي تمنع موسى من الرياسة
102 حديث بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة
108 الأخلاء يتعادون يوم القيامة إلا من تخالوا على الإيمان والتقوى
108 ما يقال لأهل الجنة على سبيل البشرى
110 ما يقوله أهل النار لخزنة جهنم
114 أقوال المشركين تخالف أفعالهم
117 خلاصة ما تضمنته سورة الزخرف
123 مشى أبو سفيان إلى الرسول ﷺ وناشده الرحم
134 وصف شجرة الزقوم
135 محاورة بين رسول الله ﷺ وأبى جهل
144 كان المشركون يتخذون آيات الله هزوا
150 ما آتاه الله لبني إسرائيل من النعم
155 ما قاله العلماء في ذم اتباع الهوى
157 حوار بين أبى جهل والوليد بن المغيرة بشأن الرسول ﷺ
159 قال المشركون: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.
160 البعث ممكن والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده
162 يجمع الله للكافرين ثلاثة ألوان من العذاب
164 ما يجده المؤمنون بعد انتهاء الموقف من إكرام الله لهم
165 ما يلقاه الكافرون من التوبيخ والعذاب الأليم والسبب في ذلك
168 خلاصة ما تضمنته سورة الجاثية من المقاصد
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |