→ الجزء السابع والعشرون | تفسير المراغي الجزء الثامن والعشرون أحمد مصطفى المراغي |
الجزء التاسع والعشرون ← |
☰ جدول المحتويات
سورة المجادلة
هي مدنية وعدة آيها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة المنافقين.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أن الأولى ختمت بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي.
(2) أنه ذكر في مطلع الأولى صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن - وذكر في مطلع هذه أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى.
[سورة المجادلة (58): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
شرح المفردات
سمع: أي أجاب وقبل، كما يقال سمع الله لمن حمده، والتي تجادلك في زوجها: هي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وتجادلك: أي تراجعك الكلام في أمره وفيما صدر منه في شأنها، وتشتكى إلى الله: أي تبثّ إليه ما انطوت عليه نفسها من غمّ وهمّ وتضرع إليه أن يزيل كربها، وزوجها: هو أوس بن الصامت أخو عبادة ابن الصامت، والسمع: صفة تدرك بها الأصوات أثبتها الله تعالى لنفسه، والتحاور: المرادّة في الكلام، والكلام المردّد، كما يقال كلمته فما رجع إلي حوارا: أي ماردّ علي بشىء، والظهار: لغة من ظاهر ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض فيقال ظاهر فلان فلانا: أي نصره، وظاهر بين ثوبين: أي لبس أحدهما فوق الآخر، وظاهر من امرأته: أي قال لها أنت علي كظهر أمي، أي محرمة، وقد كان هذا أشدّ طلاق في الجاهلية، والظهار شرعا: تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم لا بقصد الكرامة، ولهذا المعنى نزلت الآية، « إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ »: أي ما أمهاتهم، والمنكر: ما ينكره الشرع والعقل والطبع، وزورا: أي كذبا، فتحرير رقبة: أي عتق عبد أو جارية، أن يتماسا: أي يجتمعا اجتماع الأزواج، متتابعين: أي متواليين، فمن لم يستطع: أي لم يقدر على ذلك لكبر سنّ أو ضعف أو شبق إلى النساء، حدود الله: أي أحكام شريعته، وللكافرين: أي للذين يتعدّون الأحكام ولا يعملون بها.
المعنى الجملي
روي أن هذه الآيات الأربع نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ومن حديث ذلك: « أن أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل على خولة يوما فراجعته بشىء فغضب، فقال لها: أنت علي كظهر أمي (وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه) وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فندم لساعته، فدعاها (طلب ملامستها) فأبت، وقالت: والذي نفسي بيده لاتصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله، فأتت الرسول ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أوسا تزوجنى وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سنى ونثرت بطني (كثر ولدي) جعلنى عليه كأمه إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة تنعشنى بها وإياه فحدثنى بها، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما أمرت في شأنك بشىء حتى الآن، وفى رواية ما أراك إلا قد حرمت، قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله ﷺ مرارا ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي، وما يشق علي من فراقه، وفى رواية أنها قالت: أشكو إلى الله فاقتى وشدة حالى، وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال رسول الله ﷺ: يا خولة أبشرى، قالت خيرا فقرأ عليها « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ » الآيات.
روى البخاري في تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه، وما يمنعنى أن أستمع إليها وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ » الآيات.
والشارع اعتبر الظهار يمينا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي:
(1) تحرير رقبة (عتق عبد أو جارية).
(2) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
(3) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر (رطل وثلث) أو صاع من تمر أو شعير.
الإيضاح
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل الله شكوى التي جادلت رسوله ﷺ في شأن زوجها، وبثّت أمرها إلى ربها، وسمع ما سمع من تحاورها مع رسوله، والله سميع لما يقال، خبير بحال عباده، فأنزل فيها ما أزال غصّتها، وفرج كربتها، وأقرّ به عينها، وبلّ ريقها، وأرجع إلى كنفها صبيتها، الذين كانوا مصدر شقوتها، وبهم اعتلّت (تعلّلت واحتجت) على رسوله.
وقد فصل ما أنزل من الحكم في حادثتها وأمثالها فقال:
(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أي الذين يقع منهم الظهار من نسائهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد أنك علي حرام، كما أن أمي علي حرام - مخطئون فيما صنعوا.
(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فكيف يجعلونهن كذلك، ما أمهاتهم إلا من ولدنهم، فلا ينبغي تشبيههن بهن.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبالغ في الاستهجان فقال:
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) أي وإنهم ليقولون قولا منكرا لا يجيزه شرع، ولا يرضى به عقل، ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبّه من يسكن إليها وتسكن إليه وجعل بينه وبينها مودة ورحمة، وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت، بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنوّ والإجلال والتعظيم، إلى أن الرجل قوّام على المرأة له حق تأديبها إذا اعوجّت، وهجرانها في المضاجع إذا جمحت ولم يعط ذلك لابن ليعامل به أمه، فهذا زور وبهتان عظيم.
وغير خاف ما في هذا من الاستهجان، وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه.
ثم فصل حكم الظهار فقال:
(1) (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي والذين يقولون هذا القول المنكر ثم يتدار كونه بنقضه ويرجعون عما قالوا فيريدون المسيس فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماسّ إن كان ذلك لديه.
ثم بين السبب في شرع هذا الحكم فقال:
(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس، ليكون ذلك زاجرا لكم عن ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر، وحافظوا على ما شرع لكم من الحدود، ولا تخلوا بشىء منها.
(2) (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، فإن أفطر يوما من الشهرين ولو اليوم الأخير لعذر أو مرض أو سفر لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع.
(3) (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) أي فمن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين لكبر سنّ أو مرض لا يرجى زواله - فعليه إطعام ستين مسكينا لكل منهم نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر قبل التماس أيضا.
(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك الذي بيّناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار، لتقروا بتوحيد الله وتصدقوا رسوله وتنتهوا عن قول الزور والكذب، وتتبعوا ما حده الدين من حدود، وبينه لكم من فرائض، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها.
وأطلق اسم (الكافر) على متعدّى هذه الحدود تغليظا للزجر كما قال في المتهاون في أداء فريضة الحج « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ».
[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
شرح المفردات
يحادون: أي يشاقون ويعادون، وأصل المحادّة الممانعة ومنه قيل للبواب حداد، كبتوا: أي خذلوا، وقال المبرد: كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل: مكبوت، آيات بينات: أي حججا وبراهين مبينة لحدود شرائعنا، مهين: أي يلحق بهم الهوان والذل، فينبئهم بما عملوا: أي يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم، أحضاه الله: أي أحاط به عدّا لم يغب عنه شيء منه، شهيد: أي مشاهد لا يخفى عليه شيء، ألم تر: أي ألم تعلم، ما يكون: أي ما يوجد، والنجوى: التناجي والمسارّة كما قال: « لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ » وقد يستعمل في المتناجين كما قال: « وَإِذْ هُمْ نَجْوى » أي أصحاب نجوى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحكام كفارة الظهار وبيّن أنه إنما شرعها تغليظا للناس حتى يتركوا الظهار، وقد كان ديدنهم في الجاهلية، ويتبعوا أوامر الشريعة، ويلين قيادهم لها، ويخلصوا لله ربهم في جميع أعمالهم، فتصفو نفوسهم، وتزكو بصالح الأعمال؛ أردف هذا ببيان أن من يشاقّ الله ورسوله ويعصى أوامره، يلحق به الخزي والهوان في الدنيا وله في الآخرة العذاب المهين في نار جهنم ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد فبين أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فهو عليم بمناجاة المتناجين، فإن كانوا ثلاثة فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر فهو معهم أينما كانوا، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم، وسينبئكم بها عند العرض والحساب، وحين ينصب الميزان، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله، ويضعون شرائع غير ما شرعه، سيلحقهم الخزي والنكال في الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله، وقد تحقق ذلك يوم الخندق.
وفي هذا بشارة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم.
كما أن فيه وعيدا عظيما للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله، وألزموا رعاياهم العمل بها، والجري على نهجها، وعينوا لذلك قضاة يحكمون بها، ونبذوا ما جاء في شرعهم، والله يقول: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا ».
نعم إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحلّ والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي، والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حد معين، بل فوض الأمر فيها للإمام، وليس في ذلك محادة لله ورسوله، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل.
(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكيف يفعلون ذلك وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة وتوضح حدودها، وتفصل أحكامها وتبين سرّ تشريعها؟ فلا عذر لهم في مخالفتها، والانحراف عن سننها.
(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم.
والخلاصة - إن لهؤلاء المحادين عذابا في الدنيا بالخزي والهوان، وعذابا في الآخرة في جهنم وبئس القرار.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرا لهم وخزيا على رءوس الأشهاد، والله قد حفظه وضبطه وهم قد نسوه، والله شهيد على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء، ولا ينسى شيئا.
وفي هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم والتنديم، ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب، إنما كان من جراء أعمالهم وقبيح أفعالهم.
ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شيء فقال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون، ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد ولا أقل منها إلا وهو عليم بها، وعليم بزمانها ومكانها لا يخفى عليه شيء من أمرها.
وإنما خص هذه الأعداد، لأن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة - ثلاثة فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيا وإثباتا، والثالث كالحكم بينهما، وحينئذ تكمل المشورة ويتم الغرض، وهكذا في كل جمع اجتمعوا المشورة لا بد من واحد يكون حكما مقبول القول، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردا كما جاء في الآية ونحوها قوله: « أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » وقوله: « أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ».
(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم ينبئ هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة، وإنه لعليم بنجواهم وأسرارهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم.
وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو للتنديم وزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلاما لهم.
[سورة المجادلة (58): الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
شرح المفردات
الذين نهوا عن النجوى: هم اليهود والمنافقون، بالإثم: أي بما هو معصية وذنب، والعدوان: الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته، لو لا يعذبنا الله: أي هلا يعذبنا بسبب ذلك، حسبهم جهنم: أي عذاب جهنم كاف لهم، يصلونها: أي يقاسون حرّها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه عليم بالسر والنجوى، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل، ومجازيهم على ما يكون من التناجي - خاطب رسوله معجّبا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لما نهوا عنه، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاءوا الرسول حيّوه بغير تحية الله، فيقولون له: السام عليك (يريدون الموت) ثم يقولون في أنفسهم: لو كان رسولا لعذبنا الله للاستخفاف به، وإن جهنم لكافية جد الكفاية لعذابهم ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم، بل يتناجون بالبر والتقوى ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان ولن يضيرهم شيء منه إلا بإذن الله، فعليه فليتوكلوا.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) « روى أن اليهود كانوا إذا مر بهم أحد من أصحاب النبي ﷺ جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، حتى إذا رأى ذلك خشيهم، فترك طريقهم، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله الآية ».
ثم بيّن ما به يتناجون فقال:
(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم في نفسه ووباله عليهم، وبما هو تعدّ على المؤمنين، وتواص بمخالفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر جرما آخر يقع منهم فقال:
(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة « أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال عليه السلام: وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أوما سمعت ما أقول: وعليكم؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) الآية ».
(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإبهام السلام وهم يريدون شتمه، ويحدّثون أنفسهم أنه لو كان نبيّا حقا لعذبنا الله بما نقول، لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيا حقا لعاجلنا بالعقوبة في الدنيا فردّ الله عليهم بقوله:
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.
ثم قال تعالى مؤدبا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل اليهود والمنافقين فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي إذا حدث منكم أيها المؤمنون تناج ومسارّة في أنديتكم وخلواتكم، فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين.
(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتناجوا بما هو خير واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
ثم بين الباعث لهم على هذه النجوى والمزين لهم ذلك فقال:
(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي إنما التناجي بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه.
ثم ذكر السبب الذي حداه إلى ذلك فقال:
(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إنما فعل ذلك يسوء الذين آمنوا بإيهامهم أن ذلك في نكبة أصابتهم، وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله ومشيئته.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين إن وقع، فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته، فلا يكترثنّ المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلنّ على الله ولا يحزننّ.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي إذا كان في ذلك أذى لمؤمن.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه ».
[سورة المجادلة (58): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
شرح المفردات
تفسحوا: أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عنى أي تنحّ، يفسح الله لكم: أي في رحمته ويوسع لكم في أرزاقكم، انشزوا: أي انهضوا للتوسعة على المقبلين، فانشزوا أي فانهضوا ولا تتباطئوا، يرفع الله الذين آمنوا: أي يرفع منزلتهم يوم القيامة، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات، أي ويرفع العالمين منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان - أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعض: من التوسع في المجالس حين إقبال الوافد، والانصراف إذا طلب منكم ذلك. فإذا فعلتم ذلك رفع الله منازلكم في جناته، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله، إذا قيل لكم توسعوا في مجالس رسول الله أو في مجالس القتال، فافسحوا يفسح الله في منازلكم في الجنة.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال: « كان ﷺ يوم جمعة في الصّفّة وفى المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم ثابت بن قيس وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله ﷺ فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي ﷺ ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على رسول الله ﷺ فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، قم يا فلان، فأقام نفرا بمقدار من قدم، فشق ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وطعن المنافقون وقالوا: والله ما عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه، أقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت الآية ».
وقال الحسن: كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة، ومن الآية نعلم:
(1) أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله ﷺ لسماع حديثه، لما فيه من الخير العميم، والفضل العظيم، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: « ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى ».
(2) الأمر بالتفسح في المجالس وعدم التضامّ فيها متى وجد إلى ذلك سبيل، لأن ذلك يدخل المحبة في القلوب، والاشتراك في سماع أحكام الدين.
(3) إن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة.
وعلى الجملة فالآية تشمل التوسع في إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام « لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ».
(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله ﷺ فقوموا، لأن الرسول ﷺ كان يؤثر الانفراد أحيانا لتدبير شئون الدين، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد.
وقد عمموا هذا الحكم فقالوا: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه قوموا ينبغي أن يجاب.
ولا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه، فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: « لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسحوا وتوسعوا ».
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان.
والخلاصة - إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، فلا يظننّ أن ذلك نقص في حقه، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزى به في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم جميعا بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.
[سورة المجادلة (58): الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
شرح المفردات
ناجيتم الرسول: أي أردتم مناجاته والحديث معه، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة: أي فتصدقوا قبلها، أطهر: أي أزكى، لتعويد النفس بذل المال وعدم الضنّ به، أشفقتم: أي خفتم، تاب الله عليكم: أي رخص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة.
المعنى الجملي
علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله ﷺ لسماع أحاديثه ولمناجاته في أمور الدين، وأكثروا في ذلك حتى شقّ عليه ﷺ وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة، والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربه في خلواته.
من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه، لما في ذلك من منافع ومزايا:
(1) إعظام الرسول وإعظام مناجاته، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.
(2) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
(3) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا - من المؤمنين حقّ الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.
قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناحى الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه - فليقدم صدقة قبل هذا، لما في ذلك من تعظيم أمر الرسول ﷺ ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقا والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ومن دفع التكاثر عليه ﷺ من غير حاجة ملحّة إلى ذلك.
ثم ذكر العلة في هذا فقال:
(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي إن في هذا التقديم خيرا لكم لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع في جمع المال وحب ادخاره، وتعويدها بذله في المصالح العامة كإغاثة ملهوف، ودفع خصاصة فقير، وإعانة ذي حاجة، والنفقة في كل ما يرقّى شأن الأمة ويرفع من قدرها، ويعلى كلمتها، ويؤيد الدين وينشر دعوته.
ثم أقام العذر للفقراء فقال:
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن لم تجدوا الصدقة أيها الفقراء وعجزتم عن ذلك فالله قد رخص لكم في المناجاة بلا تقديم لها، لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها.
وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق، فلما تم هذا الغرض انتهى ذلك الحكم ورخص في المناجاة بدون تقديم صدقة، فقال:
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات، ووسوس لكم الشيطان أن في هذا الإنفاق ضياعا للمال؟
(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به، وشق ذلك عليكم، خفف عليكم ربكم فرخص في المناجاة من غير تقديم صدقة، فتداركوا ذلك بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال:
(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي فأدوا الصلاة وقوّموها بأدائها على أكمل الوجوه، لما فيها من الإخبات إلى الله والإنابة إليه والإخلاص له في القول والعمل، ونهيها عن الفحشاء والمنكر، ولما في الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشح بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام.
وأطيعوا الله فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات، وينهاكم عنه من الموبقات.
ثم وعد وأوعد فقال:
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو محيط بنواياكم وأعمالكم، ومجازيكم بما قدمتم لأنفسكم من خير أو شر، كما قال « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » وقال: « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ».
[سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 19]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
شرح المفردات
ألم تر: أي أخبرني وهو أسلوب من الكلام يراد به التعجب وإظهار الغرابة المخاطب، والمراد من الذين تولوا: المنافقون، والتولي: من الموالاة وهي المودة والمحبة، والقوم: هم اليهود، وغضب الله: سخطه والطرد من رحمته، ما هم منكم ولا منهم: أي لأنهم مذبذبون، على الكذب: أي على أنهم معكم على الإيمان، جنة: أي وقاية وسترا عن المؤاخذة، على شيء: أي من جلب منفعة أو دفع مضرة، استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به قال المبرد ويقال حاوزت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها، قالت عائشة: كان عمر أحوذيا نسيج وحده: أي سائسا ضابطا للأمور لا نظير له، فأنساهم ذكر الله: أي لم يمكنهم من ذكره بما زين لهم من الشهوات، وحزب الشيطان: جنوده وأتباعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله ﷺ لتلقى الدين عنه والاهتداء بهديه حتى كان يضيق بهم المجلس، فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا - ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، فهم عيون لهم عليهم، وإذا لاقوا المؤمنين قالوا لهم: إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون في كل ما يقولون وقد جعلوا الإيمان وقاية لستر ما يبطنون، فأمنوا من المؤاخذة وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدين ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابا شديدا يوم القيامة، وما هم فيه من مال وولد في الدنيا لن يغنى عنهم شيئا حينئذ ثم ذكر أن الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان، فقد استولى على عقولهم، وزين لهم قبيح أعمالهم، فأنساهم عذاب اليوم الآخر ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان، وجنود الشيطان لن تفلح في شيء، وسيرد الله عليهم كيدهم في نحورهم، ويحبط سعيهم، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين إن حالهم لتستدعى العجب، يقابلون كل قوم بوجه، فهم مع اليهود نصحاء أمناء يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابا لصداقتهم وودهم، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم، وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم والحقيقة أنهم يخدعون الفئتين كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي فلا هم بالمؤمنين حقا بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراة للمؤمنين وخوفا من بطشهم، ولا هم مع اليهود، لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدين الحق، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا، وأن يحتفظوا بمودتهم إذا احتاجوا إليها، فهم كما قال الله فيهم: « مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ » وفي الخبر « مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين » أي المترددة بين قطيعين « لا تدرى أيّهما تتبع »
ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة فقال:
(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا آمنا وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له: نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما يقولون، لأنهم لا يعتقدون صدقه.
ثم ذكر مآلهم وبيّن ما يلقون من النكال والوبال فقال:
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أرصد الله لهم نكالا وعذابا أليما جزاء صنيعهم بغش المسلمين واطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم.
ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال:
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وتستروا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون وبهذه الوسيلة صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام بتحقير شأنه في نظرهم.
ثم بين ما كافأهم به على عملهم فقال:
(فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فلهم عذاب يلحقهم به الذل والهوان في النار جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبا.
ثم أرشد إلى أن ما ظنوه منجيا لهم من عذاب الله من المال والأولاد - لبس بنافع لهم حينئذ فقال:
(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تغنى عن هؤلاء المنافقين الأموال فيفتدوا بها من عذاب الله، ولا الأولاد فينصروهم وينقدوهم من العذاب إذا هو عاقبهم، فأولئك هم أهل النار وهم خالدون فيها أبدا، وقد تقدم مثل هذا في غير موضع من الكتاب الكريم.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم، فيحلفون له قائلين: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » كما كانوا يحلفون لكم في الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم.
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ) أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الضّير، كما كان ذلك شأنهم في الدنيا، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى.
ثم رد عليهم منكرا لهم فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروّجه لدى المؤمنين في الدنيا.
ونحو الآية قوله: « ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ».
ثم بين السبب الذي أوقعهم في الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال:
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه، فلم يمكنهم من ذكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم في دركات جهنم، وبئس المصير.
(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون في صفتهم، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، واستبدلوا به العذاب الأليم، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه.
[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
شرح المفردات
يحادون: أي يعادون ويشاقون، في الأذلين: أي في جملة أذلّ خلق الله، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر، كتب الله: أي قضى وحكم، لأغلبنّ: أي بالحجة والسيف، وأيدهم: أي قواهم، بروح من عنده: أي بنور يقذفه في قلب من يشاء من عباده، لتحصل له الطمأنينة والسكينة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا - بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا الله ورسوله وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة في الدنيا والآخرة، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذي العشيرة، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقوّاهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصر ودينه، وحزب الله مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة في الدارين كما قال: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه، هم في جملة أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم في الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود، وفى الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه: « رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ».
وفي هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى الله وحكم في أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجرى مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم (والحرب بين نبينا وبين المشركين، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال.
وعن مقاتل قال: لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ».
ونحو الآية قوله تعالى: « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ».
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله الذي له الأمر كله - قوي على نصر رسله لا يغلب على مراده، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال: « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».
(لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وموادّة أعداء الله ورسوله، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالى كافرا، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالى عدوه، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له في الدين والدنيا، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت في أخريات الأمم، وأبناؤها في شمال إفريقية وفى مصر وغيرها يوالون الإفربحة وينصرونهم على أبناء جنسهم، ولو كان في هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بالغ في الزجر وأبان أنه لا ينبغي لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.
والخلاصة - إنه لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.
أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا « يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتى من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي »
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله ﷺ « اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ».
قيل إن الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي ﷺ فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال نعم، قال لا تعد، قال والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته.
وقيل نزلت في أبى عبيدة بن عبد الله الجراح، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: جعل والد أبى عبيدة يتصدى له يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت: (لا تَجِدُ قَوْمًا) الآية.
(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت الله في قلوبهم الإيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ الله ورسوله.
وفي هذا مبالغة في الزجر عن موادة أعداء الله.
ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال:
(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق، فلا يبالون بموادة أعداء الله ولا يأبهون لهم.
ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال:
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا.
ثم ذكر السبب فيما أفاض الله عليهم من نعمة فقال:
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى - عوضهم الله بالرضا عنه، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال:
(أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده وأهل كرامته، وهم أهل لفلاح والسعادة والنصرة في الدنيا والآخرة.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) ألفة الأزواج في المنازل.
(2) ألفة الأصحاب في المجالس.
(3) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم، لكثرة أعمالهم.
(4) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم.
(5) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها، وبالنفاق والشقاق، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها.
سورة الحشر
هي مدنية، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(1) إن في آخر السالفة قال: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وفى أول هذه قال: « فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ».
(2) إن في السابقة ذكر من حادّ الله ورسوله، وفى أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله.
(3) إن في السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا، وفى هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم. « روى أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله ﷺ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت في التوراة، لا نردّ له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل النبي ﷺ بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه الله.
وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول الله ﷺ واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم حتى إذا نزل في بني النضير وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا ذرنا نبكى شجونا، ثم ائتمر أمرك، فقال: اخرجوا من المدينة، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب، ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فحصنوا الأزقة وحاصروهم إحدى وعشرين ليلة، وقذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشام، إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم هما آل أبى الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض النبي ﷺ أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة ».
[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
شرح المفردات
الذين كفروا: هم بنو النّضير (بزنة أمير) قبيلة عظيمة من اليهود كبنى قريظة، والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر، ولأول الحشر: أي في أول حشرهم، أي جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام، وآخر حشر: إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، والحصون: واحدها حصن وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة، مانعتهم حصونهم من الله: أي مانعتهم من بأسه وعقابه، فأتاهم الله: أي جاءهم عذابه، من حيث لم يحتسبوا: أي من حيث لم يخطر لهم ببال، وقذف الشيء: رميه بقوة، والمراد هنا إثباته وركزه في قلوبهم، والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر يخربون: أي يهدمون، فاعتبروا: أي فاتعظوا، والاعتبار: النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وأجليت القوم عن منازلهم: أي أخرجتهم منها، وجلوا: خرجوا، وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين: أن الأول لا يكون إلا لجماعة، والثاني: يكون لواحد ولجماعة، وأن الأول ما كان مع الأهل والولد والثاني يكون مع بقائهما، واللينة: النخلة ما لم تكن عجوة.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن اليهود نقضوا عهد رسول الله ﷺ وظاهروا المشركين اتكالا على مساعدة المنافقين لهم ومناعة حصونهم، فتهيأ رسول الله ﷺ وسار لقتالهم، فلما علموا بقدومه حصنوا الأزقة فحاصرهم عليه الصلاة والسلام عدة أيام وألقى الله الرعب في قلوبهم، فطلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء وأخرجهم من حصونهم بعد تخريبها بأيديهم وأيدي المؤمنين، ولو لا جلاؤهم لعذبهم في الدنيا بالقتل والأسر، ولهم في الآخرة عذاب شديد، وما كان ذلك إلا بإذن الله وتقديره للأمور وفقالحكمة والمصلحة.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه ويمجده، إما باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء لا معقّب لحكمه.
ونحو الآية قوله تعالى: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ».
ثم بين بعض آثار عزته، وأحكام حكمته فقال:
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي هو الذي أجلى بني النضير من المدينة بقوة عزته، وعظيم سلطانه، وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم الذل قبلها، لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة، وآخر حشر لهم إجلاء عمر رضي الله عنه لهم من خيبر إلى الشام.
ثم بيّن فضل الله على المؤمنين، ونعمته عليهم في إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرا فقال:
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما خطر لكم ذلك أيها المؤمنون ببال، لشدة بأسهم ومنعتهم، وقوة حصونهم، وكثرة عددهم وعددهم.
وفي ذكر هذا تعظيم للنعمة، فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب كانت مكانتها في النفوس أعظم، وكانت بها أشد سرورا وابتهاجا.
والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين، وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مردّ له، وصدق الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
ثم ذكر ما جرّأهم على مشاكسة النبي ﷺ وتأليب المشركين عليه فقال:
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء، فلا يستطيع جيش مهما أوتى من بأس أن يصل إليهم بأذى، فاطمأنوا إلى تلك القوة، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول ﷺ والمشركين، طمعا في القضاء عليه، بعد أن أصبحت له الزعامة الدينية والسياسية في المدينة، وسيكون في ذلك القضاء عليهم لو صبروا، وقد غبروا دهرا وهم أصحاب السلطان فيها، لأنهم من وجه أهل كتاب، ومن وجه آخر هم أرباب النفوذ المالى فيها، وأصحاب الثروة والجاه العريض.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:
(فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فجاءهم بأس الله وقدرته الذي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال، وصدق فيهم ما قيل: قد يؤتى الحذر من مأمنه.
فأجلاهم النبي ﷺ من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالى الشام، وطائفة إلى خيبر على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.
ثم بين أسباب هذا الاستسلام السريع، والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العدد والعدد فقال:
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي بثّ في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله ﷺ وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلا.
ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم، وإرسال المدد إليهم، وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول، فهم قد أوقدوا نارا كانوا هم حطب لهيبها، وفتحوا ثغرة برءوسهم قد سدّوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة.
ثم بين مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم فقال:
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى كالخشب والعمد والأبواب، ويخربها المؤمنون من خارج ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.
ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار فقال:
(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء من أمور عظام، وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، بأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى كنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة، وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره، وإياكم والغدر، والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.
ثم بين أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر فقال:
(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولو لا أن الله قدّر جلاءهم من المدينة، وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين، لعذبهم في الدنيا بما هو أفظع منه من قتل وأسر كما فعل مع المشركين في وقعة بدر، وكما فعل مع بنى قريظة في سنة خمس للهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعي في إطفاء نور الإسلام حتى لا تقوم لهم قائمة - إلى ما أعد لهم من عذاب مقيم، ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة، وتجازى كل نفس بما كسبت.
ثم بين السبب فيما حل بهم وذكر علته فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه إنما فعل ذلك بهم، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد ﷺ، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ثم ذكر مآل من يعادى الله ورسوله فقال:
(وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان في الدنيا، والنكال السرمدي في الآخرة.
ثم ذكر أن كل شيء بقضاء الله وقدره فقال:
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي أي شيء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان ولم تتعرضوا له بشىء فذلك بأمر الله الذي بلّغه إليكم رسوله لتطهر البلاد من شرورهم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر بقطع نخلهم وحرقه قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل وتحريقها، وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فقالوا لنسألنّ رسول الله ﷺ، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله الآية:
(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي فعل ذلك ليعزّ المؤمنين، وليخزى الفاسقين، ويذلهم ويزيد غيظهم، ويضاعف حسرتهم، بنفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم.
والخلاصة - إنكم بأمر الله قطعتم، ولم يكن ذلك فسادا بل نعمة من الله، ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه.
[سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
شرح المفردات
قال المبرد: يقال فاء يفىء إذا رجع، وأفاءه الله إليه: أي رده وصيره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بني النضير، ويقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا: إذا أسرع، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع والركاب: ما يركب من الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، والعرب لا تطلق لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسا، يسلط رسله: أي على أعدائه من غير قتال ولا مصاولة بل بإلقاء الرعب في القلوب، فيكون الفيء للرسول يصرفه في مصارفه التي ستعلمها بعد، من أهل القرى: أي من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال، ولذي القربى: أي بنى هاشم وبنى المطلب، قال المبرد: الدّولة (بالضم) الشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا أخرى، والدّولة (بالفتح) انتقال حال سارّة من قوم إلى قوم، أي فالأولى اسم لما يتداول من المال، والثانية اسم لما ينتقل من الحال، آتاكم: أي أعطاكم، وما نهاكم عنه. أي ما منعكم عن فعله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه ما حلّ ببني النضير من العذاب العاجل كتخريب بيوتهم بأيديهم وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع - ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم، فجعله فيئا لله ورسوله ينفق منه على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة، لأنهم لم يقاتلوا لأجله.
روي أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا من الرسول ﷺ أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة في بدر وغيرها بينهم، فبين سبحانه الفرق بين الأمرين، بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم في تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب، والفيء فيما لم تتحملوا في تحصيله تعبا، وحينئذ يكون أمره مفوّضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
الإيضاح
(وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بني النضير فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم، لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقا ورعبا، ولهذا يصرف في وجوه البر والمنافع العامة التي ذكرها الله في هذه الآيات.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: « كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله تعالى ».
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن جرت سنة الله أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ويقذف الرعب في قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال ولا مصاولة، كما سلط محمدا ﷺ على هؤلاء فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب، ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة في الفيء بل يكون أمره مفوضا إلى الرسول يصرفه كيف شاء، ولا يقسمه تقسيم الغنائم.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن وأخرى على غير ما يعهد منها كما جرى لبني النضير من استسلامهم بلا قتال على مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.
وبعد أن أتمّ الكلام في إجلاء بني النضير وفيئهم أعقبه بالكلام في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة فقال:
(ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ما رده الله إلى رسوله من كفار أهل القرى كقريظة والنّضير وفدك وخيبر، فيصرف في وجوه البر والخير ولا يقسم تقسيم الغنائم، بل يعطى للرسول ولذوي قرباه من مؤمنى بنى هاشم وبنى المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل الذي انقطع عنه ماله، ولا يمكن أن يصل إليه لبعد الشّقّة وانقطاع طرق المواصلات، وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة، لكنها الآن سهلة وهي على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف في أي بلد على سطح الكرة الأرضية، ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.
ثم علل هذا التقسيم بقوله:
(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسما بين هؤلاء المذكورين، لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم، ويتكاثروا به، كما كان ذلك دأبهم في الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شيء.
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي وما أعطاكم الرسول من الفيء وغيره فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عنه فابتعدوا عنه ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه: « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ».
أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي في جماعة عن ابن مسعود قال: « لعن الله تعالى الواشمات [1] والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته، قال إن كنت قرأته فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » قالت بلى، قال: فإنه ﷺ قد نهى عنه ».
وعن أبي رافع أن رسول الله ﷺ قال: « لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ».
ثم حذرهم من مخالفة أوامر الله ونواهيه فقال:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله فامتثلوا أوامره، واتركوا نواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه، ورسوله ترجمان عما يريده الله لخير عباده وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
[سورة الحشر (59): الآيات 8 الى 10]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
شرح المفردات
التبوّء: النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل، والمراد من الدار المدينة، والمراد بالحاجة الحسد والغيظ، وأوتوا: أي أعطى المهاجرون دون الأنصار، ويؤثرون: أي يقدمون ويفضلون، والخصاصة: الحاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج وكذا كل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع، والشح: اللؤم وهو أن تكون النفس كزّة حريصة على المنع، قال شاعرهم:
يمارس نفسا بين جنبيه كزّة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
قال الراغب: البخل: المنع، والشح: الحال النفسية التي تقتضى ذلك، وغلّا أي حسدا وبغضا.
المعنى الجملي
بعد أن بين مصارف الفيء فيما سلف، وذكر أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين - ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية، والمناقب الرفيعة، ثم مدح الأنصار ساكني المدينة وبالغ في مدحهم فذكر لهم هذه الفضائل:
(1) إنهم يحبون المهاجرين.
(2) إنهم ليس في قلوبهم حقد ولا حسد لهم.
(3) إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم في أشد الحاجة إليه، وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر.
ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة، ويطلبون من الله ألا يجعل في قلوبهم حقدا وحسدا لهم.
الإيضاح
(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه.
(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم، وهي العزيزة على النفوس، المحببة إلى القلوب.
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
وتركوا الأموال والمال شقيق الروح، وكثيرا ما يقتل المرء في سبيل الذّود عنه، وانتزاعه من أيدي غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين، ورفعة شأنه، وذيوع ذكره، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم، وجزيل الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال، وعظيم الخلال.
روي أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
وعن سعيد قال: قال
رسول الله ﷺ « بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة » أخرجه أبو داود.
ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال:
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع، فهم:
(1) يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين في دور الأنصار معهم، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين، طيّبة بذلك نفوسهم، قريرة به أعينهم.
روى أحمد عن أنس قال: « قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة في قليل، ولا حسن بذل في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم ».
وقال عمر: وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
(2) لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.
روى « أن رسول الله ﷺ قال للأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله ﷺ أو غير ذلك؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر، فقالوا نعم يا رسول الله ».
(3) يقدمون ذوي الحاجة على أنفسهم، ويبدءون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: « أتى رجل رسول الله ﷺ فقال: أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول الله ﷺ، قالت والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله ﷺ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ».
ثم بين سوء عاقبة الشح فقال:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا « لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا ».
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: « اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم ».
وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل - ففرق بين الشح والبخل.
وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك، فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: « برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة ».
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا في الدين الذين سبقونا بالإيمان.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاث منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.
وفي هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له في الفيء.
وإنما بدءوا في الدعاء بأنفسهم لقوله ﷺ: « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ».
(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون الله ألا يجعل في قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا.
والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة، وسائر أنواع الفجور.
ونحو الآية قوله في سورة براءة « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »
وفي الآية إيماء إلى وجوب محبة من تقدمهم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم لإخوّتهم في الدين والسبق بالإيمان.
(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك، كثير الرحمة لهم، فأجب دعاءنا.
وفي الآية حثّ على الدعاء للصحابة، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم.
وعن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: « لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ » ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال لا، ثم قرأ عليه « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ » الآية، ثم قال هؤلاء الأنصار فأنت منهم؟
قال لا، ثم قرأ عليه: « وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ » الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.
[سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
شرح المفردات
نافقوا: أي أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا في إخفاء عقائدهم، والإخوان: الأصدقاء واحدهم أخ، والأخ من النسب جمعه إخوة، لننصرنكم: أي لنعاوننكم، ليولنّ الأدبار: أي ليفرّن هار بين، أشد رهبة في صدورهم من الله: أي إنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم لله، لا يفقهون: أي لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته، جميعا: أي مجتمعين، محصنة: أي بالدروب والخنادق وغيرها، جدر: أي حيطان واحدها جدار، بأسهم: أي حربهم، وشتى: أي متفرقة، واحدها شتيت، وبال أمرهم: أي سوء عاقبتهم، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم سيىء العاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت - أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ورفقته لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم ومحاربتهم رسول الله ﷺ بما قصه الله علينا وفصّله أتمّ تفصيل، ليكون في ذلك عبرة لنا وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركونهم في حيرة من أمرهم لا يجدون لهم مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس: أنها نزلت في رهط من بنى عوف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما قصه الله علينا في كتابه.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا). تقدم أن قلنا في غير موضع إن مثل هذا الأسلوب (أَلَمْ تَرَ) يراد به التعجيب من حال المحدّث عنه، وأن أمره غاية في الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة.
فهؤلاء قوم من منافقى المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم عبد الله بن أبي وشيعته رأوا رسول الله ﷺ شرع يحاصر بني النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم: إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا، ولا نسلمكم لمحمد أبدا فجدّوا في قتالهم، ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار، وأوغل المسلمون في الدخول في ديارهم، وتحريق نخيلهم، وهدم بيوتهم رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وأنهم بين أمرين:
(1) الاستسلام وقبول حكم محمد عليهم.
(2) إفناؤهم وتخريب ديارهم.
وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم، فاختاروا الدنيّة، وقبلوا الجلاء عن الديار واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان.
وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطب حالهم، وليبين له مبلغ خبث طويّتهم، وشدة جبنهم، وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لا كتها ألسنتهم وقلوبهم منها براء فقال:
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد ﷺ لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير.
وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز، فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.
والخلاصة - إن بني النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء.
ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال فقال:
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي إنهم يخافونكم أشد مما يخافون الله، ومن ثمّ لم يجرءوا على الدخول معكم في قتال، وأسلموا اليهود يحكم عليهم الرسول بما يشاء.
ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون الله فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي وكانت هذه الرهبة لكم في صدورهم أشد من رهبتهم لله من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم.
ونحو الآية قوله: « إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ».
ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم فقال:
(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن هؤلاء اليهود والمنافقين قد ألقى الرعب في قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.
ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف - التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب فقال:
(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم عدوّ لبعض، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم في تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا.
وفي هذا عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات، وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرّقوهم شذر مذر، وجعلوهم عبيدا أذلاء في بلادهم والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النّفاية وفتات الموائد. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتي بالفتح أو نصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم:
فيوما لنا ويوما علينا ويوما نساء ويوما نسرّ
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال:
(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خلتهم متفقين وهم مختلفون غاية الاختلاف، لما بينهم من إحن وعداوات، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.
وفي هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحثّ للعزائم الصادقة على حربهم، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا وازدادت حميّته وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.
ثم بين أسباب النفرة وانحلال الوحدة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هي سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة.
ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع في الكافرين، بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم فقال:
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مثل بني النضير مثل اليهود من بنى قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي ﷺ يوم السبت في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وأجلاهم إلى أذرعات بالشام، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بني النضير التي كانت سنة أربع للهجرة.
والخلاصة - إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع، فجروحهم لا تزال دامية، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأي العين.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر أشد نكالا وأوجع إيلاما فقال:
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير النصرة إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أخرجوا، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم - كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه وقال: إني أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك، لئلا يشركنى معك في العذاب.
والخلاصة - إن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: لئن قوتلتم لننصرنكم، ولما جدّ الجدّ واشتد الحصار والقتال تخلّوا عنهم وأسلموهم للهلكة - كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه تبرأ منه وتنصل وقال: « إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ». ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادّكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح فقال:
(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه - الخلود في النار أبدا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.
[سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
شرح المفردات
ما قدمت: أي أي شيء قدمت، وغد: هو يوم القيامة سمى بذلك لقربه، فكل آت قريب كما قال: وإن غدا لناظره قريب. نسوا الله: أي نسوا حقه فتركوا أوامره، ولم ينتهوا عن نواهيه، فأنساهم أنفسهم: أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المضلين من المنافقين، وبيّن أن ما يقولون غير ما يبطنون، وأن مثلهم كمثل الشيطان في الإغواء والإضلال، ثم أعقبه بذكر الضالين من بني النضير وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلّابة التي كانت عليهم وبالا ونكالا، وكان فيها سوء حالهم في دنياهم ودينهم - شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى، وأن يعملوا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم، والنعيم المقيم، وألا ينسوا حقوق الله، فيجعل الرين على قلوبهم، فلا يقدموا لأنفسهم ما به رشادهم وفلاحهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب حيارى.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) تكرير للتوكيد، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هي الزاد في المعاد.
ثم وعد وأوعد وبشر وأنذر فقال:
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من شئونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك.
ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرا وإنذارا فقال:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالا بعيدا، فجازاهم بما هم له أهل، وما هم مستحقون، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال:
(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة.
ونحو الآية قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ».
خطب أبو بكر فقال: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم فقال: « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشّقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: « إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ » لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
ثم وازن بين من يعمل الحسنات، ومن يجترم السيئات فقال:
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوي الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة.
ونحو الآية قوله تعالى: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ » وقوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ ».
ثم بين عدم استوائهما فقال:
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
وفي هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباعهم للشهوات الفانية، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وشاسع البون بين أصحابهما، وأن الفوز لأصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبّهوا له، كما تقول لمن عقّ أباه: هو أبوك - تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضى البر والعطف.
[سورة الحشر (59): الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
تفسير المفردات
خاشعا: أي منقادا متذللا، متصدعا: أي متشققا، خشية الله: أي خوفه وشديد عقابه، الغيب: ما غاب عن الحسّ من العوالم التي لا نراها، والشهادة: ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها، القدوس: أي المنزه عن النقص، السلام: أي الذي سلم الخلق من ظلمه، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم، المؤمن: أي واهب الأمن فكل مخلوق يعيش في أمن فالطائر في جوّه، والحية في وكرها، والسمك في البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا، العزيز: أي الغالب على أمره، الجبار: أي الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه، المتكبر: أي البليغ الكبرياء والعظمة، سبحان الله عما يشركون: أي تنزه ربنا عما يصفه به المشركون، الخالق: أي المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، والبارئ: أي المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له، المصوّر: أي الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد، الأسماء الحسنى: أي الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى، استعدادا ليوم القيامة - ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما وإماما هاديا هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة. لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا وفهمه وتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم، ولا تخشع وتتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه.
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزّل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السموات والأرض وينقادون لحكمه، وأمره ونهيه.
الإيضاح
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم أيها البشر، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.
وهذا تمثيل لعلوّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، وفيه توبيخ للانسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات.
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها، واقتضاها الحال من نحو قوله: « وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ » وقوله: « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » وقوله: « وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى » الآية - جعلناها تبصرة وذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضى ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها ونأى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقى ولا تذر.
ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات، التي هي سر العظمة والجلال، لخالق الأرض والسموات فقال:
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إنه لا ربّ غيره، ولا إله في الوجود سواه، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك فهو باطل، وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السموات، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو الله المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن كل عيب ونقص، الذي أمن خلقه أن يظلمهم، وهو الرقيب عليهم كما قال « وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » وقال: « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والذي عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته، فلا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما ورد في الصحيح: « العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعيى واحدا منهما عذبته » تنزه ربنا عما يقوله المشركون من الصاحبة والولد فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
(هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي هو الله الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها كما قال: « فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »، وله الصفات الحسنى التي وصف بها نفسه لا يشركه فيها أحد سواه.
(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم الكلام في هذا في مثل قوله: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ».
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم، فهو كامل القدرة كامل العلم.
اللهم وفقنا للهدى والرشاد في يوم المعاد.
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد والأغراض
(1) تنزيه الله لنفسه من كل نقص.
(2) ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه.
(3) تقسيم الفيء الذي أخذ من بني النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها.
(4) أخلاق المنافقين المضلين، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم.
(5) ذكر نصائح للمؤمنين.
(6) إعظام شأن القرآن وإجلال قدره.
(7) وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.
سورة الممتحنة
هي مدينة، وآيها ثلاث عشرة، نزلت بعد الأحزاب.
ومناسبتها لما قبلها.
(1) إنه ذكر هناك موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر هنا نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، لئلا يشبهوا المنافقين.
(2) إنه ذكر هناك المعاهدين من أهل الكتاب، وذكر هنا المعاهدين من المشركين.
[سورة الممتحنة (60): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
تفسير المفردات
تلقون إليهم بالمودة: أي ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم، يخرجون الرسول وإياكم: أي من مكة، أن تؤمنوا بالله: أي لأجل إيمانكم بالله، ضل: أي أخطأ، وسواء السبيل: أي الطريق المستوي وهو طريق الحق، إن يثقفوكم: أي يظفروا بكم، وأصل الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف، بالسوء: أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم، وودّوا لو تكفرون: أي وتمنوا كفركم، أرحامكم: أي قراباتكم، يفصل بينكم: أي يفرق بينكم من شدة الهول.
المعنى الجملي
روى البخاري ومسلم وغيرهما « أن سارّة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله ﷺ بنى عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحملوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة (مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزّى) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، هذا صورته:
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله ﷺ يريدكم فخذوا حذركم، فأخبره جبريل به، فبعث إليها عليّا وعمارا وطلحة والزّبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع) فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهمّوا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ﷺ، وسلّ سيفه وقال لها: أخرجى الكتاب، أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من عقاص شعرها، فأحضر رسول الله ﷺ حاطبا وقال له: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتى، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فصدّقه رسول الله ﷺ وقبل عذره، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال ﷺ: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فنزلت: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ » الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أي لا تجعلوا الكفار أنصارا وأعوانا لكم.
ثم فسر هذه الموالاة فقال:
(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تبلغونهم أخبار الرسول ﷺ التي لا ينبغي لأعدائه أن يطلعوا عليها من خطط حربية، أو أعمال نافعة في نشر دينه وبثّ دعوته. بسبب ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم ذكر أن مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين:
(1) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) أي وقد كفروا بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله عليكم! فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارا وتسرّون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم، ويعوق نشر دينكم.
(2) (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) أي يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولم يكن لهم جريرة ولا جرم سوى ذلك.
ونحو الآية قوله: « وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » وقوله « الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ».
وفي هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم، ثم زادهم تهييجا بقوله:
(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلى، باغين مرضاتى عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم حنقا عليكم وسخطا لدينكم.
ثم توعد من يفعل ذلك وشدد النكير عليه وذكر ما فيه أعظم الزجر له فقال:
(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يفعل هذه الموالاة ويبلغ أخبار الرسول ﷺ لأعدائه فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان الله تعالى.
ثم ذكر أمورا أخرى تمنع موالاتهم فقال:
(1) (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة يكونوا حربا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل.
(2) (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبّكم وشتمكم، فكيف ترونهم على هذه الحال وتتخذونهم أصدقاء وأولياء.
(3) (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي وتمنوا لو تكفرون بربكم، لتكونوا على مثل الذي هم عليه، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة.
والخلاصة - إن هؤلاء يودون لكم كل ضر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة، وتوثقون عرا الإخاء، فهذا مما لا يرشد إليه عقل، ولا يهدى إليه دين.
ثم ذكر أن ما جعلوه سببا من المحافظة على الأهل والولد لا ينبغي أن يقدّم على شئون الدين فقال:
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لن تنفعكم يوم القيامة أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عنهم - فتدفع عنكم عذاب الله إن عصيتموه في الدنيا وكفرتم به.
ثم بين السبب في عدم نفعهم فقال:
(يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي يفرّق الله بينكم وبينهم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر كما قال: « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ».
ثم أوعد من يفعل ذلك فقال:
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي والله بأعمالكم ذو بصر بها، لا يخفى عليه شيء منها، فهو محيط بها جميعها، ومجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروه.
[سورة الممتحنة (60): الآيات 4 الى 6]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
شرح المفردات
الأسوة: (بضم الهمزة وكسرها وبهما قرئ) من يؤتسى به، كالقدوة لمن يقتدى به والجمع أسى، برآء واحدهم بريء كظرفاء وظريف: أي متبرئون ومنكرون لما تعملون، وما تعبدون: أي الأصنام والكواكب وغيرها، البغضاء: أي البغض والكراهة، لا تجعلنا فتنة للذين كفروا: أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نحتمله، من قولهم: فتن الفضة: أي أذابها، يرجو الله: أي يؤمل ثوابه، واليوم الآخر، أي مجيئه، ومن يتولّ: أي ومن يعص النصيحة.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار، وتمنى الكفر لهم، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى - أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرءوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم: إنا برآء منكم، قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله؟ لتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان.
الإيضاح
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد.
ثم فسر هذه البراءة بقوله:
(كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا ما أنتم عليه من الكفر، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله، فلا نعتدّ بكم ولا بآلهتكم، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة، ولا الأحلام الحصيفة فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضر « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ».
(وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي وها نحن أولاء قد أعلنّا الحرب عليكم، فلا هوادة بيننا وبينكم، وسيكون هذا دأبنا معكم، لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة ولاية، والبغضاء محبة.
(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوّا لله تبرأ منه.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه فأنزل الله عز وجل: « ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ».
والخلاصة - لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة وتستغفروا لهم، كما فعل إبراهيم لأبيه، لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما مات على الكفر تبين له ذلك، فترك الاستغفار، وأنتم قد استبانت لكم عداواتهم بكفرهم بالرسول، وإخراجكم من الديار، فلا ينبغي أن تستغفروا لهم.
(وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وليس في وسعى إلا الاستغفار لك، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا، فإن أراد الله عقوبتك على كفرك فلا أدفعها عنك.
ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبوءوا منهم ولجئوا إلى الله وتضرعوا إليه.
(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي ربنا اعتمدنا عليك في قضاء أمورنا، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب.
(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال قتادة: أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقّ هم عليه.
(وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه، الحكيم في تدبير خلقه، وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم.
ثم أعاد ما تقدم مبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين، لمن كان منكم يرجو لقاء الله وجزيل ثوابه، والنجاة في اليوم الآخر.
وفي هذا تهييج إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، والعضّ عليهما بالنواجذ، وبيان أنهما ملاك الأمر كله يوم العرض والحساب.
ثم أوعد على تركهما بقوله:
(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن أعرض عما ندبه الله إليه منكم وأدبر واستكبر، ووالى أعداء الله، وألقى إليهم بالمودة فلا يضرنّ إلا نفسه، فإن الله غني عن إيمانه وطاعته، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه عليهم.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ».
[سورة الممتحنة (60): الآيات 7 الى 9]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
شرح المفردات
عسى: كلمة تفيد رجاء حصول ما بعدها، فإذا صدرت من الله فما بعدها واجب الوقوع، أن تبروهم: أي تفعلوا البر والخير لهم، وتقسطوا إليهم: أي تعدلوا فيهم بالبر والإحسان، المقسطين: أي العادلين، وظاهروا: أي ساعدوا، أن تولوهم: أي أن تكونوا أولياء وأنصارا لهم.
المعنى الجملي
لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه - حملهم ذلك على أن يظهروا براعتهم من أقربائهم، والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه - أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس في قلوبهم محبة الإسلام، فيتمّ التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفي ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطيب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد في جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا - صناب (صباغ يتخذ من الخردل والزبيب) وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها أن تسأل رسول الله ﷺ عن هذا فسألت فأنزل الله « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ » الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة وبنى الحرث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله ﷺ على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
الإيضاح
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لعل الله يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة.
وقد تمّ ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون في دين الله أفواجا، وثم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات كما قال تعالى: « واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها » وقال: « هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».
ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال:
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي لا ينها كم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله ﷺ على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبيانا فقال:
(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينها كم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال:
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك.
[سورة الممتحنة (60): الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
شرح المفردات
فامتحنوهن: أي فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنّهن في الإيمان، علمتموهن: أي ظننتموهن، إلى الكفار: أي إلى أزواجهن الكفار أجورهن: أي مهورهن، وعصم: واحدها عصمة، وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: واحدتهن كافرة: فعاقبتم: أي فكانت العقبى لكم، أي الغلبة والنصر لكم، حتى غنمتم منهم.
المعنى الجملي
الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:
(1) أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: « قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ » الآية.
(2) أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله: « عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ».
(3) أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: « إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ » الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) أي إذا جاءكم أيها المؤمنون النساء اللاتي نطقن بالشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك - مهاجرات من بين الكفار فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هنّ منافقات، وكان رسول الله ﷺ يقول للمتحنة: بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، بالله ما خرجت التماسا لدنيا، بالله ما خرجت إلا حبّا لله ورسوله.
ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب فقال:
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) منكم وهو يتولى السرائر، وفى هذا بيان أنه لا سبيل إلى ما تطمئن إليه النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله بعلمه.
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن، فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
ثم بيّن العلة في النهي عن إرجاعهن بقوله:
(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لا المؤمنات حلّ للكفار، ولا الكفار يحلون للمؤمنات.
(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما أنفقوا من المهور.
روي أن النبي ﷺ عام الحديبية أمر عليّا أن يكتب بالصلح فكتب:
باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يرده إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فرد رسول الله ﷺ: أبا جندل بن سهيل، ولم يأت رسول الله ﷺ أحد من الرجال إلا ردّه في مدة العهد، وإن كان مسلما، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولادهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه في أمرها ليردها إلى قريش فنزلت الآية، فلم يردها عليه الصلاة والسلام، ثم أنكحها زيد بن حارثة.
وعن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفى بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلب ردّها فأنزل سبحانه الآية فلم يردها وأعطاه ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله عنه.
ْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أيواسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم إذا ارتددن ولحقن بهم.
(وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم، والمراد أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك.
(ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي ذلكم الذي ذكر هو حكم الله فاتبعوه، يحكم به بينكم فلا تخالفوه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم للهور اللاتي دفعت لهن، ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن من الغنيمة مثل ما أنفقوا.
روي عن ابن عباس أنه يعطى الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس أي قبل أن تقسم أخماسا، كما هي القاعدة في تقسيم الغنائم كما تقدم في سورة الأنفال.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه.
[سورة الممتحنة (60): آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
شرح المفردات
يبايعنك: أي يلتزمن لك الطاعة، ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات والمراد بالبهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن: الولد الذي كانت ألصقته بزوجها كذبا، والافتراء: الكذب، في معروف: أي في أمر برّ وتقوى، فبايعهن: أي فالتزم لهن ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء.
المعنى الجملي
روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله ﷺ كان يمتحن من هاجر إليه بهذه الآية: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ - إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ ». فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله ﷺ « قد بايعتك » كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك.
وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: « أتيت رسول الله ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: ألّا نشرك بالله شيئا - حتى بلغ - ولا يعصينك في معروف فقال: فيما استطعتن وأطقتن، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة ».
الإيضاح
أي أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات ألا يشركن بالله شيئا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كنّ يفعلن ذلك في الجاهلية، ولا يلصقن أولاد الأجانب بأزواجهن كذبا وبهتانا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه كالنّوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وألا تخلو امرأة بغير ذي رحم محرم - فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هن أطعنك في كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفّين بما بايعن عليه.
وعن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: « جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله ﷺ فأخذ عليها: ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين » الآية، قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّى أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت فنعم، فبايعها بالآية ».
[سورة الممتحنة (60): آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
شرح المفردات
غضب الله عليهم: أي طردهم من رحمته، من الآخرة: أي من ثوابها ونعيمها، من أصحاب القبور: أي من رجوع موتاهم إليهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
المعنى الجملي
نهى سبحانه أول السورة عن موالاة المشركين، وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم، ثم أوعد على ذلك، ولما كان الأمر في ذلك جدّ خطير في سياسة الدولة الإسلامية ونشر الملة - كرر النهي عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودا كانوا أو نصارى، ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبي بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية، ويجعلون شئون الدنيا مقدمة على شئون الدين.
روي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين، ليصيبوا من ثمارهم فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته - أولياء لكم وأصدقاء تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة، ويحول دون تقدم شئون الملة.
ثم بيّن أوصافهم ومعتقداتهم فقال:
(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها، لعنادهم رسول الله ﷺ المبشّر به في كتابهم، المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له وعلموا أن لا سبيل لهم لنيل نعيمها، كما يئس الكفار من بعث موتاهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) النهي عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك.
(2) ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه.
(3) امتحان النساء المؤمنات المهاجرات وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر.
(4) مبايعة النساء المؤمنات في دار الإسلام.
(5) تأكيد النهي عن موالاة المشركين، حرصا على شئون الملة، ونشر الدعوة.
سورة الصف
هي مدينة وعدد آيها أربع عشرة، نزلت بعد التغابن.
ومناسبتها ما قبلها - أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفى ذلك تأكيد للنهى الذي تصمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين.
روى أحمد بسنده عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيّكم يأتي رسول الله ﷺ فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل رسول الله ﷺ إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة:
(الصف) كلها.
[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
شرح المفردات
(لِمَ) أي لأي شيء تقولون قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لم تفعلوا؟ والمراد بذلك التأنيب والتوبيخ على صدور هذا الكذب منهم، كبر: أي عظم، والمقت: أشد البغض وأعظمه، ورجل مقيت وممقوت إذا كان يبغضه كل أحد، والمرصوص: المحكم، قال المبرد: تقول رصصت البناء إذا لا أمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
المعنى الجملي
قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيّه، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي شهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرهما من صفات الكمال جميع ما في السموات والأرض، وهو الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، الحكيم في تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن، وأرشد إليه من ضروب الهداية.
وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟) أي لأي شيء ولأي غرض تقولون لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا؟ والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به، وإنما وجّه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة، وأنهم عملوا جرمين. فهم تركوا فعل الخير.
وقد وعدوا بفعله.
وبهذه الآية استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد، وبما ثبت في السنة من قوله ﷺ « آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان ».
ثم بين شدة قبح ذلك وأنه بلغ الغاية في بغض الله له فقال:
(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم، وجميل الخصال، وبه تكون الثقة بين الجماعات، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض، ويكونون يدا واحدة فيما انتووا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا في أمة خلف الوعد قلّت الثقة بين أفرادها، وانحلت عرا الروابط بينهم، وأصبحوا عقدا متناثرا لا ينتفع به، ولا يخشى منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات، وعظمت الخطوب، لما يكون بينهم من التواكل، وعدم ائتمان بعضهم بعضا.
وبعد أن ذمّ المخالفين في أمر القتال وهم الذين وعدوا ولم يفعلوا، مدح الذين قاتلوا في سبيله وبالغوا فيه فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يحب الذين يصفّون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبّت صبا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش في العصر الحاضر.
وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا في الطعان والنزال، والكرّ والفرّ، إلى ما في ذلك من إدخال الرّوع والفزع في نفوس العدو، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف في الصلاة، وألا يجلس المصلى في صف خلفى إلا إذا اكتمل ما في الصف الأمامي، وهكذا تراعى الأمم في عصرنا الحاضر النظام في كل أعمالها، في أكلها ونومها ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجدّ وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك، ولهذا لا يوجد تواكل ولا تراخ في الأعمال، ولا تحاذل فيها، ومن ثم جاء في الأثر. « أفضل الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ ».
[سورة الصف (61): الآيات 5 الى 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
شرح المفردات
تؤذوننى: أي تخالفون أمري بترك القتال، زاغوا: أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، أزاغ الله قلوبهم: أي صرفها عن قبول الحق، الفاسقين: أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية، وأحمد: من أسماء نبينا محمد ﷺ، قال حسان:
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه والطيّبون على المبارك أحمد
المعنى الجملي
بعد أن أنّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: « لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ » ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بني إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين بقوله: « يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ » فلم يمتثلوا أمره وعصوه أشد العصيان، و« قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ » وقالوا: « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ » وأصروا على ذلك وآذوه أشدّ الإيذاء، فوبخهم على ذلك بما جاء في الآية الكريمة، وقد صرفهم الله عن قبول الحق وألحق بهم الضيم والذل في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضا في عصيانهم مثل بني إسرائيل حين قال لهم عيسى: إني رسول الله، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه وقال: إني مبشر برسول سيأتي من بعدي يسمى أحمد، فعصوه وكذبوه ولم يمتثلوا أمره.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟) أي واذكر لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله حين قال لقومه: لم تؤذوننى وتخالفون أمري فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به من رسالة ربى؟ وفى هذا تسلية لرسوله محمد ﷺ فيما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال ﷺ « رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر »
كما أن فيه نهيا للمؤمنين أن ينالوا من النبي ﷺ أو يوصلوا إليه أذى كما جاء في قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ».
ثم بين عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله:
(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، وأصرّوا على ذلك، صرف الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الحيرة والشك، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من الذنوب والآثام، ومخالفة أوامر رسوله، وانهما كهم في الطغيان والمعاصي، فران على قلوبهم، وطمس على أعينهم، فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل، ولا تبصر ما ترى من برهان كما قال: « وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ».
ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله:
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله، بما يرين على قلبه من الضلالة، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت في الكون، وجعلت منارا للعقول، وشفاء للصدر.
(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر لقومك ما قال عيسى ابن مريم لقومه: يا قوم إني مرسل إليكم من الله، وإني مصدق بالتوراة وبكتب الله وأنبيائه جميعا من تقدم منهم ومن تأخر.
(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي وداعيا إلى التصديق بهذا الرسول الكريم الذي جاءت البشارة به في التوراة. فقد جاء في الفصل العشرين من السّفر الخامس منها: أقبل الله من سينا، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه. « سينا مهبط الوحي على موسى، وساعير مهبط الوحي على عيسى، وفاران جبال مكة مهبط الوحي على محمد ﷺ ».
وفيها في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيّا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامى في فيه، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي، أنا أنتقم منه ومن سبطه.
وكذلك جاء في الإنجيل ما هو بشارة به - ففي إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي، يعلمكم كل شيء.
وفيه أيضا: قال المسيح من يحفظ كلمتي يحبني، وأبى يحبه، وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، أستودعكم سلامي، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني تفرحون بمضيي إلى الأب.
وفيه أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته، وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب.
(والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد، ففي مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل، وسحر واضح لا شك فيه.
ونحو الآية قوله تعالى: « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » الآية.
[سورة الصف (61): الآيات 7 الى 9]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
شرح المفردات
الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل، والمراد من إبطال نور الله بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام، بنحو قولهم هذا سحر مفترى، والله متم نوره: أي والله متم الحق ومبلغه غايته، بالهدى: أي بالقرآن، ودين الحق: أي بالملة السمحة، ليظهره: أي ليعليه، على الدين كله: أي على سائر الأديان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته ﷺ من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى - أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح، والبرهان الساطع.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ثم بين أن السبب في ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم في صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بقية، وإني له بذاك؟ فالله متم نوره، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون في إطفائه فالرسول ﷺ ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؟
وتلخيص المعنى - أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع، فلا يجيب الداعي بل يفترى على الله الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا؟
والمراد أنه أظلم من كل ظالم، لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة وراءه ظهريا.
ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال:
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا تفهم الأدلة المنصوبة في الكون، ولا تهتدى بهدى العقل، بل تسير في عماية وتمشى في ظلام دامس لا تلوى على شيء.
ثم ذكر جدّهم واجتهادهم في إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم في مقاومتهم لدعوة الدين، وجدّهم في إخماد نوره - مثل من ينفخ في الشمس بفيه ليطفىء نورها، ويحجب ضياءها، وإني له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب في حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار في الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله معلن الحق ومظهر دينه، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون به.
روي عن ابن عباس « أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا، أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره، فخزن الرسول ﷺ فنزلت. « يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ » الآية.
ثم بين العلة في إخماد دعوتهم، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول فقال:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي هو الله الذي أرسل محمدا ﷺ بالقرآن والملة الحنيفة، ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، وقد أنجز الله وعده، فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وإنما قال أوّلا: ولو كره الكافرون، وقال ثانيا ولو كره المشركون، لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر، لأنه ستر وتغطية، وذكر ثانيا الحاسدين للرسول وأكثرهم من قريش، فناسب ذكر المشركين.
[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
شرح المفردات
التجارة هنا: ما يقدمه المرء من عمل صالح، لينال به الثواب كما قال سبحانه: « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » طيبة: أي طاهرة مستلذة، جنات عدن: أي بساتين إقامة وخلود، قريب: أي عاجل وهو فتح مكة، وحواري الرجل: صفيه وخليله، وأنصار الله: أي الناصرون لدينه، فأيدنا: أي قوّينا وساعدنا، على عدوهم: أي الكفار، ظاهرين: أي غالبين.
المعنى الجملي
بعد أن حث في الآية السابقة على الجهاد في سبيله، ونهاهم أن يكونوا مثل قوم موسى في التواكل والتخاذل، إذ قالوا له: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ونهاهم أيضا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى في العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوته - ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس في سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل، والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة في الدنيا والغلبة على العدو وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى في الآخرة بغفران الذنب، ورضوان الرب، والكرامة في جنات الخلود والإقامة، ولا فوز أعظم من هذا.
ثم ضرب لهم مثلا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة آمنت به وهم حواريه، وفرقة كفرت به وهم البقية الباقية منهم، فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله كما هي سنة الله في البشر كما قال: « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقال: « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله: ألا أدلكم على صفقة رابحة، وتجارة نافعة، تنالون بها الربح العظيم، والنجح الخالد الباقي.
وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتي بعده، كما تقول: هل أدلك على عالم عظيم ذي خلق حسن، وعلم فياض؟ هو فلان، فيكون ذلك أروع في الخطاب وأجلب لقبوله.
ثم بين هذه التجارة بقوله:
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي اثبتوا على إيمانكم، وأخلصوا لله العمل، وجاهدوا بالأنفس والأموال في سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته.
والجهاد ضروب شتى: جهاد للعدو في ميدان القتال لنصرة الدين، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع في أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم، وجهاد فيما بين المرء والدنيا بألا يتكالب على جمع حطامها، وألا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع، وتقره العقول السليمة.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء في الدنيا من نفس ومال وولد، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها.
ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة، وقد فصل كلا الأمرين وقدم الثانية فقال:
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أيإن فعلتم ذلك فآمنتم بالله وصدقتم رسوله، وجاهدتم في سبيله - ستر لكم ذنوبكم ومحاها، وأدخلكم فراديس جناته وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس، وتقرّ بها العيون في دار الخلد الأبدى، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده.
ثم ذكر الفوز العاجل في الدنيا فقال:
(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم على هذا فوز في الدنيا بنصركم على عدوكم، وفتحكم للبلاد، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أنجز الله وعده، فرفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من العالم في زمن وجيز لم يعهد التاريخ نظيره، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق.
ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، فارفعوا شأن دينه، وأعلوا كلمته، كما فعل الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ قالوا له: نحن أنصار الله وأنصار دينه.
وقصارى ذلك - كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم، وأنفسكم وأموالكم، كما استجاب الحواريون لعيسى.
(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لما بلّغ عيسى عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من الحواريين من وازره، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة أخرى إما جحودا لرسالته ورميه هو وأمه بالعظائم كما فعل اليهود، وإما بالغلو وإعطائه فوق ما أعطاه الله من مرتبة النبوة فمن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، الأب والابن وروح القدس، ومن قائل إنه الله.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا للمؤمنين على من عداهم، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » فغلبوا أعداءهم وظهروا عليهم كما قال « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا » فله الحمد على ما أعطى، والمنة على ما أنعم، وصل ربنا على محمد وآله.
ما جاء في أثناء السورة من موضوعات
(1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
(2) البشارة بمحمد على لسان عيسى.
(3) محمد ﷺ أرسل بالهدى والدين الحق.
(4) التجارة الرابحة عند الله هي الإيمان والجهاد في سبيله.
(5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم.
سورة الجمعة
مدنية وعدد آيها إحدى عشرة، نزلت بعد الصف.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه ذكر في السورة قبلها حال موسى مع قومه وأذاه لهم، ناعيا عليهم ذلك، وذكر في هذه حال الرسول ﷺ وفضل أمته، تشريفا لهم، ليعلم الفرق بين الاثنين.
(2) إنه حكى في السورة قبلها قول عيسى: « وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » وذكر هنا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى.
(3) لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية.
[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
شرح المفردات
القدوس: المنزه عن النقائص المتصف بصفات الكمال، الأميين: هم العرب، واحدهم أمي نسبة إلى الأم التي ولدته، لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على الجبلة الأولى، يزكيهم: أي يطهرهم بتلاوة آياته، وآخرين واحدهم آخر بمعنى غير، لما يلحقوا بهم: أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم من جاء بعد الصحابة إلى يوم الدين.
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما في السموات والأرض، إذا نظرت إليه دلك على وحدانية خالقه، وعظيم قدرته، كما قال سبحانه: « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ».
(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو المالك لما في السموات والأرض المتصرف فيهما بقدرته وحكمته، المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هو الغالب عباده المسخّر لهم بقدرته، الحكيم في تدبير شئونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم، ويوصلهم إلى سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
ثم وصف الرسول ﷺ بصفات المدح والكمال فقال:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي هو الذي أرسل رسوله ﷺ إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: « إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب ».
وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب، ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها، وإلى ذلك أشار البوصيري بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم فقد جاء العموم في آيات أخرى كقوله: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » وقوله: « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا » وقوله: « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ».
ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيا مثلهم، ليفهموا ما أرسل به ويعرفوا صفاته وأخلاقه، ليسهل اقتناعهم بدعوته.
وخلاصة ما سلف: أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول، وأجملها في أمور:
(1) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ، لئلا يكون هناك مطعن في نبوته، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين كما أشار إلى ذلك بقوله: « وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ».
(2) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين إليه في أعمالهم وأقوالهم، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره، من ملك أو بشر أو حجر.
(3) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة: أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه، والغرض الذي يفعله لأجله، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان، وقد تقدم مثل هذا في سورة آل عمران.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ذاك أن العرب قديما كانوا على دين إبراهيم، فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدا ﷺ بشرع عظيم فيه هداية للبشر، وبيان ما هم في حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم، والتمتع بنعيم جناته، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وبعثه في غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة وهم من جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين من جميع الأمم كالفرس والروم وغيرهم، روى البخاري عن أبي هريرة قال: « كنا جلوسا عند النّبى ﷺ فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ « وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ » قال رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا، فوضع رسول الله ﷺ يده على سلمان وقال: « والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء ».
وقد تكلم في هذه الرواية جمع من المحدّثين.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو ذو العزة والسلطان، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر في غيرها من الأمم روح العدل والنظام بإرسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم.
ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال:
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيا مطهرا لهم، هاديا معلما فضل من الله وإحسان منه إلى عباده، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم في جميع أمورهم في دنياهم وآخرتهم، في معاشهم ومعادهم، فلا يجعلهم في حيرة من أمرهم تنتابهم الشكوك والأوهام، ولا يجدون للخلاص منها سبيلا، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم، ويغتصب أموالهم ويسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكفّ اللاعبين، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدى هملا لا صلاح لهم في دين ولا دنيا.
[سورة الجمعة (62): الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
شرح المفردات
حمّلوا التوراة: أي علّموها وكلّفوا العمل بها، لم يحملوها: أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما في تضاعيفها، والأسفار: واحدها سفر وهو الكتاب الكبير، هادوا: أي تهوّدوا وصاروا يهودا، أولياء لله: أي أحباء له، بما قدمت أيديهم: أي بسبب ما اجترحوه من الكفر والمعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه التوحيد والنبوة، وذكر أن الرسول بعث للأميين قال اليهود: إن الرسول لم يبعث لنا، فرد الله عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق الفهم، وعملوا بما فيها، لرأوا فيها نعت الرسول والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتباعه، وما مثلهم في حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعا.
ثم رد عليهم مقالا آخر إذ قالوا نحن أحباء الله وأولياؤه وإنه لن يدخلنا النار إلا أياما معدودات - بأنه لو كان ما تقولونه حقا لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار، وتذهبوا إلى دار النعيم، وإنكم لن تفعلوا ذلك فأنتم كاذبون فيما تدّعون، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة؟ وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه، إن خيرا وإن شرا.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا) يقول سبحانه ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثم لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار يحمل الكتب لا يدرى ما فيها، ولا كنه ما يحمل، بل هم أسوأ حالا من الحمر، لأن الحمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها، فهم كما قال في الآية الأخرى: « أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».
وصفوة القول: إن هذا النبي الذي تقولون إنه أرسل إلى العرب خاصة، هو ذلك النبي المنعوت في التوراة والمبشّر به فيها فكيف تنكرون نبوته، وكتابكم يحض على الإيمان به؟ فما مثلكم في حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يدرى ما فيها، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهي حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل.
ثم بين قبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره فقال:
(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي ما أقبح هذا مثلا لهم، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله لو كانوا يتدبرون ويتفكرون، إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوي العقول والحجا من ملك أو إنس، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه وهو الحمار.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلّان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يشجّ فلا يرثى له أحد
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم الذين دسّوها حتى أحاطت بهم الخطيئة وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم، فلم تر نور الحق، ولم تشعر بحجة ولا برهان، بل هي في ظلام دامس لا تهتدى لطريق، ولا تصل إلى غاية.
ولما كان من شأن من يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبّا للحياة تاركا لكل ما ينفعه في الآخرة قال آمرا رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين فيما تزعمون، وقد تقدم الكلام في مثل هذه المباهلة (الملاعنة) لليهود في سورة البقرة في قوله: « قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران في قوله: « فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » ومباهلة المشركين في قوله: « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ».
ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدا لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم فقال:
(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم لكفرهم بآيات الله وتدسبتهم أنفسهم بالمعاصي والشرور والآثام.
روي أن رسول الله ﷺ قال لهم: « والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غصّ بريقه »: فلم يتمنّ أحد لعلمهم بصدقه وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم، وحق عليهم الوعيد، وحل بهم العذاب الشديد.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولما ذا تمتنعون من المباهلة خوفا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفادها.
(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السموات والأرض، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من حسن وسيىء، ثم يجازيكم على كلّ بما تستحقون.
وغير خاف ما في هذا من شديد التهديد وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.
[سورة الجمعة (62): الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
شرح المفردات
نودى للصلاة: أي النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله ﷺ إذا خرج فجلس على المنبر، أما النداء الأول على الزوراء (أعلى دار بالمدينة حينئذ بقرب المسجد) فقد زاده عثمان لكثرة الناس، فاسعوا: أي فامشوا، وذكر الله: هو الصلاة، وذروا البيع: أي اتركوه، فانتشروا: أي فتفرقوا، من فضل الله: أي من رزقه، والمراد باللهو: الطبول والمزامير ونحوها، انفضّوا: أي انصرفوا، قائما: أي على المنبر وأنت تخطب.
المعنى الجملي
بعد أن نعى على اليهود فرارهم من الموت حبّا في الدنيا والتمتع بطيباتها - ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا وخيراتها مع السعي لما ينفعه في الآخرة كالصلاة يوم الجمعة في المسجد مع الجماعة، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معا، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة كما ورد في الأثر « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ».
ثم نعى على المسلمين في عهد الرسول ﷺ تشاغلهم عن سماع عظاته وهو يخطب على المنبر بأمور الدنيا من تجارة وضرب دفّ وغناء بالمزامير ونحو ذلك، وأبان لهم أنّ ما عند الله من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي إذا أذّن المؤذن بين يدي الإمام وهو على المنبر في يوم الجمعة للصلاة فاتركوا البيع واسعوا لتسمعوا موعظة الإمام في خطبته، وعليكم أن تمشوا الهوىنى بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد.
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (تسرعون) وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا ».
وعن أبي قتادة قال: « بينما نحن نصلى مع النبي ﷺ إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا » رواه البخاري ومسلم.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلكم السعي وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى، فهي المنافع الباقية، أما منافع الدنيا فهي زائلة، وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوي العلم الصحيح بما يضر وما ينفع.
ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة فقال:
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم في آخرتكم، واطلبوا الثواب من ربكم، واذكروا الله وراقبوه في جميع شئونكم، فهو العليم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية من أموركم، لعلكم تفوزون بالفلاح في دنياكم وآخرتكم.
وفي هذا إيماء إلى شيئين:
(1) مراقبة الله في أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأيّ الوسائل من حلال وحرام.
(2) إن في مراقبته تعالى الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأن من راقبه لا يغشّ في كيل ولا وزن ولا يغيّر سلعة بأخرى، ولا يكذب في مساومة، ولا يحلف كذبا، ولا يخلف موعدا، ومتى كان كذلك شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق، وأما في الآخرة فيفوز برضوان ربه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » وبجنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين.
وعن عراك بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: « اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين ».
ثم عاتب سبحانه عباده المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال:
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا) أي وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا أسرعوا وتركوك قائما وأنت تخطب الناس.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي في جماعة عن جابر بن عبد الله قال: « بينما النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير (إبل محملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت) فابتدرها أصحاب رسول الله ﷺ حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى: « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا » إلى آخر السورة.
والذي قدم بهذه التجارة دحية الكلبي من الشام، وكان إذا قدم لم تبق عاتق (الشابة حين أدركت) بالمدينة، إلا أتته ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرجوا ليبتاعوا منه، وكان ذلك طريق الإعلان عن التجارة حينئذ.
ثم رغبهم في سماع العظات فقال:
(قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي قل لهم مبينا خطأ ما عملوا: ما عند الله مما ينفعكم في الآخرة خير لكم مما يفيدكم في الدنيا من التمتع بخيراتها، وكسب لذاتها، فتلك باقية، وهذه فانية.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه سبحانه فاسعوا، ومنه فاطلبوا الرزق، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته، فالله كفيل برزقكم، ولن ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة، وحين سماع العظات والنصائح.
ولله الحمد في الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه ترجعون.
خلاصة موضوعات السورة
(1) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.
(2) صفات النبي الأمي الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
(3) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.
(4) طلب مباهلة اليهود.
(5) الحث على السعي للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.
(6) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.
(7) عتاب المؤمنين على تركهم النبي ﷺ وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو.
سورة المنافقين
هي مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج.
ووجه اتصالها بما قبلها - أنه ذكر في الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول الله ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرّع بها المنافقين.
[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
شرح المفردات
المنافق: من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، جنّة: أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم، آمنوا: أي بألسنتهم، كفروا: أي بقلوبهم، طبع: أي ختم عليها كما يختم بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شيء، لا يفقهون: أي لا يعلمون، تعجبك أجسامهم: أي لصباحتها وتناسب أعضائها، تسمع لقولهم: أي لفصاحتهم وحسن حديثهم، خشب: واحدها خشباء وهي الخشبة التي نخرجوفها، والصيحة: الصوت، قاتلهم الله: أي لعنهم وطردهم من رحمته، يؤفكون: أي يصرفون عما هم عليه.
المعنى الجملي
وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هي منتهى الشناعة والقبح:
(1) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.
(2) أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا، سترا لنفاقهم، وحقنا لدمائهم.
(3) أنهم جبناء، فهم على ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.
الإيضاح
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبي وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك في صدقها، إنك رسول من عند الله حقا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم إني بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تحقيقا لرسالته فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم في مقالهم الذي حدّثوا به فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم في هذه الشهادة.
ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال:
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.
قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم.
وفي هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.
ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهي إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال:
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإسلام، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.
وقصارى ذلك - أنهم أجرموا جرمين:
(1) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
(2) أنهم يمنعون الناس عن الدخول في الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين قبح مغبّة ما يعملون، ووبال ما يصنعون فقال:
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالا ووبالا في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: « ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنّهم كفروا بالله ورسوله ».
وأما في الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد.
ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم، وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق، ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.
ثم ذكر ما لهم من جمال في الصورة واعتدال في القوام فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم، وجمال صورهم.
كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال:
(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.
ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال:
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال في المنظر، وقبح في المخبر، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهي مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل، ولا يستفاد منها خير، ولله در أبى نواس:
لا تخذعنك اللحى ولا الصّور تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسراب منتشرا وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم مثل له رواه وما له ثمر
ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال:
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة - ظنوا أن العدو قد فجأهم، وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة، ولقد قالوا: يكاد المريب يقول خذونى، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه في يدي، لما ألقى من الرعب في قلوبهم، فهم يخافون أن تهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
ونحو الآية قوله تعالى: « أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ » وقد نظر المتنبي إلى الآية في قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
(هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية في العداوة.
(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوي، والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه في ذمهم وتوبيخهم، وعجّب من حالهم فقال:
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.
وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم، فكأنه قال: قولوا قاتلهم الله.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.
وإن تعجب من شيء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة، وأعجب بها نقمة، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم، وقبح فعالهم
[سورة المنافقون (63): الآيات 5 الى 8]
وإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
شرح المفردات
لوّوا رءوسهم: أي حوّلوها استهزاء، يصدون: أي يعرضون عن القائل، الفاسقين: أي الخارجين من طاعة الله وطاعة الرسول، المنهمكين في أنواع الشرور والآثام، حتى ينفضّوا: أي حتى يتفرقوا، خزائن السموات والأرض: أي خزائن الأرزاق فيهما، لا يفقهون: أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال الله وقدرته، والأعزّ: أي المنافقون، والأذل في زعمهم رسول الله ﷺ وصحبه، والعزة: الغلبة والنصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كذب المنافقين في قولهم للرسول ﷺ: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن شنيع أفعالهم، بترويجها بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال، وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقا أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير، ويبرئهم من النفاق فمن ذلك:
(1) أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول ﷺ ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب، أمالوا رءوسهم وأعرضوا استكبارا وأنفة أن يفعلوا.
(2) أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها.
ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه.
روي أن رسول الله ﷺ حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر - ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب، وسنان الجهني، وكان حليف عبد الله بن أبي، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال: يا للمهاجرين، وصرخ سنان وقال: يا للأنصار، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا فقال عبد الله بن أبي للمهاجرين: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، ثم قال لقومه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال: إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد ﷺ أنه يهيج الشر) قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا، قال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟. ثم قال لعبد الله: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول ﷺ) لكاذب، فنزلت هذه الآيات، فقال رسول الله ﷺ لزيد: يا غلام إن الله صدّقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فأذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك فلوّى رأسه وقال: أمرتمونى أن أومن فآمنت، وأمر تمونى أن أزكّي فزكيت، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد الله بن أبي: هلموا إلى رسول الله ﷺ يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم، صدوا وأعرضوا، استكبارا وعتوّا.
قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله ﷺ وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله ﷺ حتى يستغفر لك ويرضى عنك، قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوّى رأسه فنزلت.
ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال:
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا، لأن الله قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم، وبما اجترحت من الفسوق والآثام، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن الله لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعا في فؤاده، فأنى للقلب أن يهتدي، وللعقل أن يرعوي، وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟
ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.
ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال:
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته.
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن الله في خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا في الحصول عليها.
ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهي أعظمها فقال:
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد الله ابن أبي ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء، وأنتم الضعفاء الأذلاء.
ثم رد عليهم مقالهم فقال:
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولله الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.
روى « أن عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مؤمنا مخلصا، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال: لله علي ألا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك ».
وروي « أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال مالك ويلك؟ قال والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله ﷺ فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقى رسول الله، وكان إنما يسير ساقة (فى آخر الجيش)، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي ﷺ أن خلّ عنه يدخل ففعل ».
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره كما قال « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء.
ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب، في تلك القوّة التي يمد بها من يشاء، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وإن الله منجز وعده لنبيه، كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
[سورة المنافقون (63): الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
شرح المفردات
لا تلهكم: أي لا تشغلكم، وذكر الله: العبادات المذكرة به، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا، الخاسرون في تجارتهم: إذ باعوا العظيم بالحقير، لو لا: كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.
المعنى الجملي
بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء، وأن المؤمنين هم الأذلاء، اغترارا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا، ويؤدون فرائضه، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم في أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنّى لهم ذلك ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرا وإن شرّا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله، وهذا ما عناه الحديث: « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ».
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » وقوله: « يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ».
ثم توعد من يفعل ذلك فقال:
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه، وخسرت تجارته، إذ باع خالدا باقيا، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟
ومن أهم ما يقرب العبد من ربه، ويجعله يفوز برضوانه - رحمة البائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه التي فيها سعادة الأمة، وإعلاء شأن الملة، وانتشار الدعوة، ومن ثم قال:
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب، فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه في صناديقكم، وتدعوه لوارثكم، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا، بل يكسبكم ذما وقدحا.
وقد جاء في الخبر: « أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام »
وجاء أيضا: « يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدّقت فأبقيت ».
ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأي العين، ثم تتمنون أن لو مدّ الله في الأجل، وأطال العمر، لتتداركوا ما فات، وتحسنوا العمل، وتساعدوا البائسين وذوي الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فأتى للعمر أن يطول، وللحياة أن تزيد، ولكل نفس أجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقص فماذا يفيد التمني، وماذا ينفع الندم والحسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله:
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد « فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ ».
وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ولم يفرّط في أداء الحقوق والواجبات.
ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم في كل ما يأتون وما يذرون فقال:
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا، وبعدا عن رضوانه: إنك لا تجنى من الشوك العنب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
تضمنت هذه السورة شيئين
(1) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
(2) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.
سورة التغابن
هي مدينة، وآياتها ثماني عشرة، نزلت بعد التحريم.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه في السورة قبلها ذكر حال المنافقين، وخاطب بعد ذلك المؤمنين، وهنا قسم الناس قسمين مؤمن وكافر.
(2) نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر الله، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة.
(3) في السورة السابقة حث على الإنفاق في سبيل الله، وفى ذكر التغابن حث عليه أيضا.
[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن وجود ما في السموات والأرض دالّ على تنزيه الله وكماله، وإن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له.
(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فهو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلق ويقدر، لأنه مصدر الخيرات، ومفيض البركات.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء.
ثم قسم هذا المخلوق فقال:
(فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة كما جاء في الحديث: « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه »
وقد كانت الأدلة الكونية في الأنفس ولآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم، ولكنكم ما فعلتم ذلك، بل تفرقتم شيعا، وجحدتم الخالق، وكفرتم بأنعمه عليكم، بعد أن أفصح الصبح لذي عينين.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه، وزكاء روحه، فيعطيه ما هو له أهل ومن خبثت طويته، وفسدت سجيته، ودسّى نفسه بكبائر الذنوب والآثام، وسيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم في جهنم « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا ».
وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل فقال:
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالحكمة البالغة المتضمنة لمنافع الدين والدنيا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث أودع فيكم القوى، والمشاعر الظاهرة والباطنة وجعلكم صفوة جميع مخلوقاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته فالإنسان يضم روحا هو من عالم الأرواح، ويدنا هو من عالم الأشباح، وأنشدوا:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في الحياة الآخرة، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، فاصرفوا ما خلق لكم في شكره، والوفاء بحق نعمة المتظاهرة عليكم، ظاهرة وباطنة.
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع، وقدرته الشاملة « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».
ثم خص بعض ما يعلمه، عناية بأمره، إذ عليه الثواب والعقاب فقال:
(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين، لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته.
ثم علل هذا بقوله:
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء في صدره واستكنّ في قلبه، فلا يخفى عليه ما يسرّ وما يعلن.
[سورة التغابن (64): الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
شرح المفردات
ألم يأتكم: هذا الاستفهام للتعجب من حالهم، والنبأ: الخبر الهام وأصل الوبال: الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الطعام الوبيل أي الثقيل على المعدة، والوابل: للمطر الثقيل القطر، ثم استعمل في الضر لأنه يثقل على الإنسان، والأمر: الكفر وعبر به للإيذان بأنه جناية عظيمة وأمر هائل، والبينات: المعجزات، وتولوا: أعرضوا، واستغنى الله: أي أظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم.
المعنى الجملي
بعد أن بسط سبحانه الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه صورهم فأحسن صورهم، وأنه يعلم السر والنجوى - حذّر المشركين من كفار مكة على تماديهم في الكفر، والجحود بآياته، وإنكار رسالة نبيه محمد ﷺ وبيّن لهم عاقبة ما يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم، فقد كذبوا رسلهم، وتمادوا في عنادهم، وقالوا: أيرسل الله من البشر رسلا؟ فحلّت بهم نقمة ربهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر فاصبحت ديارهم خرابا يبابا، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم، فيثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النّهى.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حل بهم عقاب ربهم، وعظيم نقمته وأرسل عليهم ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم، إلى رجفة في الأرض تهلكهم، إلى صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر، وتمحوهم من صفحة الوجود، إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب.
وفي هذا الأسلوب تعجيب من حالهم، وأنه قد كان لهم في ذلك مدّكر، لو كانوا يستبصرون، وعبرة لو كانوا يعتبرون.
ثم بيّن أسباب ما حل بهم من النقمة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاءوهم بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة وقالوا: إن من العجب العاجب أن يكون هدينا على يدي بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح، ولا بسلطان يتملكون به قيادنا. ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا، كما قالت ثمود: « أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ » وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده كما قال: « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ».
وبعد أن أطال عنادهم وتمادوا في غيّهم أهلكهم الله بسلطانه وجبروته، وقطع دابرهم، واستغنى عن إيمانهم، وهو الغنى عن العالمين جميعا، والغنى عن إيمانهم وطاعتهم، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم، ظاهرة وباطنة.
[سورة التغابن (64): الآيات 7 الى 10]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
شرح المفردات
زعم فلان كذا: أي ادعى علمه بحصوله، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل، بلى: كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده كما وقع في الآية، لتبعثن: أي لتحاسبنّ وتجزونّ بأعمالكم، والنور: هو القرآن وسمى بذلك لأنه بيّن في نفسه مبيّن لغيره، والخبير: هو العليم ببواطن الأشياء، يوم الجمع: هو يوم القيامة سمى بذلك لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، والتغابن، من قولهم: تغابن القوم في التجارة: إذا غبن بعضهم بعضا كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته، فهذا غبن للبائع، أو يشتريه بأكثر من قيمته، وهذا غبن للمشتري.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة بقولهم: « أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا »؟ ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا - أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث، ثم بإثبات تحققه وأنه كائن لا محالة، وأن كل امرئ سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد حين يغبن الكفار في شرائهم، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، ويفوز المؤمنون في تجارتهم بالصفقة الرابحة، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلا منه ورحمة.
الإيضاح
(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فقالوا: « أَإِذا كُنَّا تُرابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ »؟ وقالوا: « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ »؟.
فأمر رسوله بالرد عليهم وإبطال زعمهم بقوله:
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي قل لهم: إن البعث كائن لا محالة، وإنكم وربى الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم ستحاسبنّ على أعمالكم وتجزونّ على الكثير والقليل، والنقير والقطمير، وذلك هين عليه يسير.
ونحو الآية قوله تعالى: « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » وقوله: « وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » وقوله: « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ » الآية.
وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا محال معه للإنكار - طالبهم بالإيمان بهما فقال:
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي فصدقوا بالله ورسوله وكتابه الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات.
ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون فقال:
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه أعمالكم، وسيحاسبكم على ما كسبت أيديكم من خير أو اكتسبت من شر، فراقبوه وخافوا شديد عقابه.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي وتذكروا يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب والجزاء في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.
ونحو الآية قوله تعالى: « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ » وقوله: « قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ».
(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين، وفي الصحيح « ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة، ليزداد حسرة ».
والخلاصة - إنه لا غبن أعظم من أن قوما ينعمون، وقوما يعذبون، وأن قوما مغبونين في الدنيا أصبحوا في الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.
ثم بين هذا التغابن وفصله بقوله:
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه - يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، لا نطوائه على النجاة من أعظم المهالك، وأجلّ المخاطر.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد ﷺ أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدا، وبئس النار مصيرا لهم.
[سورة التغابن (64): الآيات 11 الى 13]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
شرح المفردات
المصيبة: ما ينال الإنسان ويصيبه من خير أو شر، بإذن الله: أي بقدرته ومشيئته، يهد قلبه: أي يشرحه لازدياد الخير والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس قسمان: كافر بالله مكذب لرسوله لا يألو جهدا في إيصال الأذى بهم، ومؤمن بالله مصدق لرسله وهو يعمل الصالحات - أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النّظم التي وضعها في الكون، فعلى الإنسان أن يجدّ ويعمل، ثم لا يبالى بعد ذلك بما يأتي به القضاء، لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس في طاقته، ولن يهوله أمره، ولن يحزن عليه، ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، وأبان أن تولّى الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئا، فإنه قد أدى رسالته.
وما على الرسول إلا البلاغ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده، وهو يكفيه شر ما أهمه.
الإيضاح
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي ما أصاب أحدا من خيرات الدنيا ولذاتها أو رزاياها وشرورها - فهو بقضاء الله وقدره بحسب ما وضع من السنن في نظم الكون، فعلى المرء أن يعمل ويجدّ ويسعى لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم هو لا يحزن ولا يغتمّ لما يصيبه بعد ذلك، لأنه قد فعل ما هو في طاقته وما هو داخل في مقدوره، وما بعد ذلك فليس له من أمره شيء.
والخلاصة - إن على المؤمن واجبين:
(1) السعي وبذل الجهد في جلب الخير ودفع الضر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(2) التوكل على الله بعد ذلك، اعتقادا منه أن كل شيء يحدث فإنما هو بقضائه وقدره، فلا يغتم ولا يحزن لدى حلول الشر، ولا يتمادى في السرور عند مجىء الخير.
ثم بين أن الإيمان يضىء القلب، ويشرح الصدر لخير العمل فقال:
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ويشرح صدره، لازدياد الخير والمضي قدما في طاعة الله، وأي نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ في عمل الخير، واستراحة لدى الغم والحزن، واطمئنان للنفس، ووثوق بفضل الله.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي والله عليم بالأشياء كلها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها، فاحذروه وراقبوه في السر والعلن، كما جاء في الأثر « اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وأطيعوا الله فيما شرع، وأطيعوا رسوله فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر، فإن أعرضتم عن ذلك فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة، وهو قد أدى ما عليه، ولا يكلف شيئا بعد ذلك.
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وحدوا الله وأخلصوا له العمل وتوكلوا عليه، ونحو الآية قوله: « رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ».
وفي هذا إيماء إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوّى إلا به، لأنه يعتقد أنه لا قادر في الحقيقة إلا هو، وفيه حث لرسوله ﷺ على التوكل عليه. والتقوّى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن، وهي كالخاتمة والفذلكة لما تقدم.
[سورة التغابن (64): الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
تفسير المفردات
فتنة: أي بلاء ومحنة، ومن يوق: أي من يحفظ نفسه، والشح: البخل مع الحرص، والقرض الحسن: هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغي أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه - ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما، فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقى الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيري الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله قرضا حسنا فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد، وهو العزيز الحكيم في تدبير شئون عباده.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ » في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله ﷺ فرأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله: « وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا » الآية.
وفي رواية عنه أنه قال: كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول: أما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ، فجمع الله بينهم في دار الهجرة فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم، والأعمال الصالحة التي تنفعكم في آخرتكم، وربما حملوكم على السعي في اكتساب الحرام، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم.
روي أن النبي ﷺ قال: « يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك ».
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم، ليكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك، وإن لم يطالبوه فيهلك.
ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا: إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم، وجرّعوهم الغصص والآلام، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم في الدسم أو إلى قتلهم، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر.
والخلاصة - إنه إما يراد بالعداوة، العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة في الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.
ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال:
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها، وتغفروا بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها، فهو خير لكم فإن الله رحيم بكم وبهم، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم.
ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال:
(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أيإنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع في الآثام، وارتكاب كبير المحظورات.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال: « كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ».
أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال ».
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم.
قال رسول الله ﷺ: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ».
ونحو هذا ما جاء في قوله: « اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه.
(وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة، وسعادة الدين والدنيا، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وهذا حثّ على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.
ثم زاد في الحث على الإنفاق فقال:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال - يكن من الفائزين بكل ما يرجو، ونيل كل ما يبغى في دينه ودنياه، فيكون محببا إلى الناس، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه، سعيدا في الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته.
ثم بالغ في الحث على الإنفاق أيضا فقال:
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا في طاعة الله متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس - يضاعف لكم ذلك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم
جاء في الصحيحين: « إن الله يقول: من يقرض غير ظلوم ولا عديم »؟
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « يقول الله: استقرضت عبدي فأبى أن يقرضنى، ويشتمنى عبدي وهو لا يدرى، يقول وا دهراه وا دهراه » وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية » أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.
ونحو الآية ما جاء في سورة البقرة: « فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً ».
ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب في النفقة فقال:
(وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا.
ثم ذكر ما يزيد في الترغيب في النفقة أيضا فقال:
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه في أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم في تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة.
خلاصة ما حوته السورة
(1) صفات الله الحسنى.
(2) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث.
(4) بيان أن ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وتقديره.
(5) تسلية الرسول ﷺ بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
(6) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.
(8) الحث على التقوى والإنفاق في سبيل الله.
سورة الطلاق
هي مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد سورة الإنسان.
ومناسبتها لما قبلها - أنه قال في السورة السابقة: « إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ » وكانت هذه العداوة قد تفضى إلى الطلاق - أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه، فقال:
[سورة الطلاق (65): آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا (1)
شرح المفردات
طلقتم النساء: أي أردتم طلاقهن كما جاء في قوله تعالى: « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ » أي إذا أردت قراءته، لعدّتهن: أي مستقبلين عدتهن بأن تطلقوهن في طهر لا قربان فيه، وأحصوا العدة: أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل الإحصاء العدّ بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديما ثم استعمل في العدّ والضبط، والفاحشة المبينة: هي ارتكاب ما يوجب الحد، أو البذاء على الأحماء أو على الزوج، أو الخروج قبل انقضاء العدة، وحدود الله: شرائعه التي أمر بها ونهى عن تركها، ظلم نفسه: أي أضرّ بها، والأمر: هو الندم على طلاقها والميل إلى رجعتها.
المعنى الجملي
أمر الله المؤمنين أن يطلقوا نساءهم في الطهر الذي يحسب لهن من عدتهن، وهو الطهر الذي لا وقاع فيه، ولا يطلقوهن في حيض لا يعتددن به من قروئهن، كما أمرهم بضبط العدة وحفظها، والخوف من تعدى حدود الله، وعدم إخراجهن من مساكنهن التي كنّ فيها قبل الطلاق حتى تنتهى عدتهن إلا أن يأتين بمعصية ظاهرة كالبذاء على الأحماء والأزواج، أو الخروج من الدار قبل انقضاء العدة، ومن يتعد هذه الحدود فقد ظلم نفسه وارتكب ما يضرها ويجعلها تندم على ما فعلت، ثم أبان حكمة الإبقاء في البيوت، وهي سهولة مراجعتها لميل القلب إليها وتحوّله من بغض إلى محبة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي أيها المؤمنون إذا أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن في زمان الحيض كان الطلاق طلاقا بدعيا حراما، والمراد بالنساء المدخول بهن من ذوات الأقراء، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذوات الأشهر سيأتي حكمهنّ فيما بعد.
أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي في آخرين عن ابن عمر « أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله ﷺ فتغيظ منه ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ».
وخص النبي ﷺ بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، قاله في الكشاف.
والخلاصة - إن السنة في الطلاق أن تطلق المرأة وهي طاهرة دون أن يكون قد لامسها في هذا الطهر، أو أن يطلقها وهي حامل حملا مستبينا، ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقساما ثلاثة:
(1) طلاق سنة، وهو أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملا حملا قد استبان.
(2) طلاق بدعة وهو أن يطلقها حين الحيض أو في طهر قد واقعها فيه، فلا يدرى أحملت أم لا. والسر في هذا أنه بعمله هذا أطال عليها العدة، لأن هذه الحيضة لا تحسب في العدة، وكذا الطهر الذي بعدها، لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل.
(3) طلاق لا هو بسنة ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.
وقد روى عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يستحبون ألا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضى العدة، وما كان أخسّ عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك ابن أنس: لا أعرف طلاقا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة في طهر واحد. وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح.
والخلاصة - أن مالكا يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعى التفريق والوقت، والشافعي يراعى الوقت وحده.
(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واحفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول على المرأة. واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.
وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء، لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أي واخشوا الله ربكم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن، وفى القيام بما للمعتدات من حقوق.
وفي وصفه تعالى بالربوبية مبالغة في وجوب الامتثال لأمره، لما في لفظ الرب من التربية التي هي الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.
ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال:
(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق، غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن، لأن تلك السكنى حق الله تعالى أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة، كانهدام المنزل أو الحريق أو السيل أو خوف الفتنة في الدين.
(وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، إذ السكنى في البيوت حق الشرع، فلا يسقط بالإذن، فإن خرجن ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ولا تنتهى العدة.
ثم استثنى من لزوم المكث في البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال:
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدّا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن، وسوء خلقهن، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأي ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة، وإحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة - هي حدود الله التي حدها لكم، فلا تتعدوها.
ثم بين عاقبة تجاوز تلك الحدود فقال:
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع، وما أبيح له إلى ما لم يبح فقد ظلم نفسه وأضرّ بها من حيث لا يدري.
ثم بين علة هذا الضرر فقال:
(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا) أي لا تعلم أيها المرء أن الله يقلب القلوب، فيجعل في قلبك محبة لها، فتندم على فراقها، وتود الرجعة إليها، فلا يتسنى لك ذلك، لأن الفرصة تكون قد ضاعت، وما جرّ ذلك عليك إلا تعدى حدود الله.
والخلاصة - إن من يتعدّ حدود الله فقد أساء إلى نفسه، فإنه لا يدرى عاقبة ما هو فاعل، فلعل الله يحدث في قلبه بعد ذلك الذي فعل من التعدي - أمرا يدعو إلى عكس ما فعل، فيبدّل البغض محبة، والإعراض إقبالا، ولا يتسنى له تلافى ذلك برجعة أو استئناف نكاح فتضيع الفرصة ويندم، ولات ساعة مندم.
تنبيه
الشريعة الإسلامية - وإن أباحت الطلاق - بغّضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاء رباط الزوجية الذي حبّبت فيه وجعلته من أجلّ النعم، فرغّبت في إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها قبل حدوث الطلاق، لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور، كما رغبت في أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات، لعل النفوس تصفو بعد الكدر، والقلوب ترعوى عن غيها، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما فتكون الفرصة مواتية، ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا.
روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله ﷺ قال: « ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق »
وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: « إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق ».
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ « لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عز وجل لا يحب الذوّافين ولا الذواقات ».
وعن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال: « أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به، حرّم الله عليها رائحة الجنة » أخرجه أبو داود والترمذي.
[سورة الطلاق (65): الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
شرح المفردات
فإذا بلغن أجلهن: أي قاربن انتهاء العدة، فأمسكوهن: أي فراجعوهن، بمعروف: أي مع حسن عشرة، أو فارقوهن بمعروف: أي مع إعطاء الحق واتقاء المضارة: كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة، بالغ أمره: أي منفذ حكمه وقضاءه في خلقه يفعل ما يشاء، قدرا: أي تقديرا وتوقيتا.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة، ونهى عن تعدى تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم - خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين:
(1) إما أن يراجعها ويعاشرها بإحسان.
(2) وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها مع التفضل والإكرام.
فإذا اختار الرجعة فليشهد على ذلك شاهدين عدلين قطعا للنزاع، ودفعا للريبة.
ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة. وأرشد إلى أن تقوى الله تفتح السبل للمرء وتخرجه من كل ضيق، وتهديه إلى الطريق المستقيم في دينه ودنياه، وأن من يتوكل على ربه، يكفيه ما أهمه، ويفرّج عنه كربه.
ثم ذكر أن أمور الحياة جميعا بقضاء الله وقدره، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب، ولا يفرح ويبطر بما يناله من خيراتها.
الإيضاح
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فإذا قاربت العدة على الانتهاء، فإن شئتم فأمسكوهن وراجعوهن مع الإحسان في الصحبة وحسن العشرة، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة، وإن صممتم على المفارقة فلتكن بالمعروف وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة، مع إيفاء ما لهنّ من حقوق لديكم كمؤخر صداق، وإعطاء متعة حسنة تذكركن بفصلها، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها، ويكون فيها جبر لخاطرهن، لما لحقن من ضرر بالفرق، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس.
ثم بين ما يحسن إذا أردوا الرجعة فقال:
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا على الرجعة إن اخترتموها شاهدين من ذوي العدالة، حسبما للنزاع فيما بعد، إذ ربما يموت الزوج فيدعى الورثة أن مورثهم لم يراجع زوجته، ليمنعوها ميراثها، ودفعا للقيل والقال وتهمة الريبة، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضى عدتها، وتنكح زوجا غيره.
وهذا الإشهاد واجب عند الشافعي حين الرجعة، مندوب حين الفرقة، ويرى أبو حنيفة أن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
ثم خاطب الشهود زجرا لهم فقال:
(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي واشهدوا على الحق إذا استشهدتم، وأدوا الشهادة على الصحة إذا أنتم دعيتم إلى أدائها.
وإنما حث على أداء الشهادة، لما قد يكون فيه من العسر على الشهود، إذ ربما يؤدى ذلك إلى أن يترك الشاهد مهامّ أموره، ولما فيها من عسر لقاء الحاكم الذي تؤدّى عنده، وقد يبعد المكان، أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها.
(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرتكم به، وعرفتكم عنه من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ليعمل على نهجها وطريقتها.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتي، لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله فقال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يخش الله فلا يطلق المرأة في الحيض حتى لا تطول عدتها ولا يضارّ المعتدة فلا يخرجها من مسكنها، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة - يجعل الله له مخلصا مما عسى أن يقع فيه من الغم ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها.
والخلاصة - من اتقى الله جعل له مخلصا من غم الدنيا وهمّ الآخرة وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة.
روي عن ابن عباس أنه قال: « جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله: إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فبم تأمرني؟ قال آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: « لا حول ولا قوة إلا بالله » فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه، فنزلت هذه الآية » أخرجه ابن مردويه.
وفي الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادة في الدارين وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى، إذ هو أبغض الحلال إلى الله لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها، ولما في الاحتياط في العدة من المحافظة على الأنساب وهي من أجّل مقاصد الدين، ومن ثم شدّد في إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إن أجمع آية في القرآن: « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وإن أكبر آية في القرآن فرجا: « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ».
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه - كفاه ما أهمه في دنياه ودينه، والمراد بذلك أن العبد يأخذ في الأسباب التي جعلها الله من سننه في هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها، ويترك السعي والعمل ويفوض الأمر إلى الله، فما بهذا أمر الدين بدليل قوله تعالى: « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ »، وقوله ﷺ: « اعقلها وتوكل » إلى نحو ذلك مما هو مستفيض في الكتاب والسنة.
وروي عن ابن عباس « أنه ركب خلف رسول الله ﷺ يوما فقال له رسول الله ﷺ: يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، لم ينغعوك إلا بشىء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشىء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف ».
ثم ذكر السبب في وجوب التوكل عليه فقال:
(إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا) أي إن الله تعالى منفذ أحكامه في خلقه بما يشاء، وقد جعل لكل شيء مقدارا ووقتا، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شيء مما كنت تؤمل وترجو، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ومقدرة بمقادير خاصة كما قال: « وكلّ شيء عنده بمقدار ».
[سورة الطلاق (65): الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الطلاق السني إنما يكون في طهر لا وقاع فيه، ولم يبين مقدار العدة وكان قد ذكر في سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن، والكبار اللائي يئسن من الحيض، وأنها ثلاثة أشهر، وعدة الحامل وأنها تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها.
أخرج الحاكم والبيهقي في جماعة آخرين عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة في عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن، الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى في سورة النساء القصرى: « وَاللَّائِي يَئِسْنَ » الآية.
وروي أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان « لما سمعوا قوله تعالى: « وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » قال: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: « وَاللَّائِي يَئِسْنَ » الآية.
الإيضاح
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي بلغن سنّ اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذا الصغار اللواتى لم يحضن، إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها.
(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهنّ سواء كنّ مطلقات أو متوفى عنهنّ أزواجهنّ كما روى عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلّت، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن حلّت، وهكذا روى عن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال: من شاء لا عنته أن الآية التي في النساء القصرى « وَأُولاتُ الْأَحْمالِ » الآية نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.
وروي أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي ﷺ فقال: « إن تفعل فقد خلا أجلها ».
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) أي ومن يخف الله ويرهبه، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه - يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجا، وينر له طريق الهدى في كل ما يعرض له من المشكلات، فإن في قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور.
وفي الآية إيماء إلى فضيلة التقوى في أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما.
(ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة في الطلاق والسكنى والعدة - هو أمر الله الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به، وتعملوا وفق نهجه.
ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده في الدنيا والآخرة فقال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) أي ومن يخف الله فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه - يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك في كتابه: « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.
[سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
شرح المفردات
من وجدكم: أي من وسعكم، وقال الفراء: أي على قدر طاقتكم، ولا تضاروهن: أي في النفقة والسكنى، لتضيقوا عليهن: أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه، ائتمروا: أي تآمروا وتشاوروا، بمعروف: أي بجميل في الأجر والإرضاع، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة، وإن تعاسرتم: أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة في الأجر أو يطلب الزيادة، قدر عليه: أي ضيق، آتاه الله: أي أعطاه، ما آتاها: أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل - أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هي رضيت بمثل أجرتها، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع، فالله لا يكلف نفسا إلا ما تطيق.
الإيضاح
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم في الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب حجرتكم فأسكنوها فيها، وإنما أمر الرجال بذلك، لأن السكنى نوع من النفقة وهي واجبة على الأزواج.
ثم نهى عن مضارّة المطلقات في السكنى فقال:
(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن.
ثم بيّن نفقة الحوامل فقال:
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا.
وقال أبو حنيفة: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في المبتوتة: « لها النفقة والسكنى »، لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها.
ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال:
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه.
وفي هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات.
(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات في شئون الأولاد بما هو أصلح لهم في أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة في سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مما كسة في الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولادهم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.
ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين في الإنفاق فقال:
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب في الأجر، أو اشتطت الأم في طلب زيادة لا يؤديها أمثاله، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.
وفي الآية إيماء إلى معاتبة الأم، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى في قضائها: إن لم تقضها فسيقضيها غيرك، وكأنه قال له: إنها ستقضى وأنت ملوم.
وإنما خص الأم بالعتاب، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به في العرف ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به في العادة، فهي إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب.
هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع.
ثم بين مقدار الإنفاق بقوله:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه.
(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.
ونحو الآية قوله: « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها ».
ثم بين أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر والعكس بالعكس فقال:
(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) أي سيجعل الله بعد شدة رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه: « إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ».
وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة في ذلك الحين.
[سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِسابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْناها عَذابًا نُكْرًا (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
شرح المفردات
وكأين من قرية: أي كثير من أهل القرى، عتت: أي تجبرت وتكبرت، نكرا: أي منكرا عظيما، وبال أمرها: أي عاقبة عتوّها، خسرا: أي خسارة في الآخرة، ذكرا: أي قرآنا، رسولا: أي وأرسل رسولا.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بأن الطلاق لا يكون إلا في أوقات خاصة، وبأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر، وذكر مدة العدة وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة، ونهى عن تجاوز حدود الله، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه توعد هنا من خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وسلكوا غير ما شرعه، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها، فأخذها أخذ عزيز مقتدر، وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلا في الآخرين.
الإيضاح
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِسابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْناها عَذابًا نُكْرًا) أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولّجوا في طغيانهم يعمهون، فحاسبناهم حسابا عسيرا، فاستقصينا عليهم ذنوبهم، وناقشناهم على النقير والقطمير، وعذبناهم عذابا نكرا في الآخرة، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما في قوله تعالى: « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ».
ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم فقال:
(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْرًا) أي فجنت ثمار ما غرست أيديها ولا يجنى من الشر إلا الشر كما جاء في أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقدر قدره.
ثم أكد هذا الوعيد بقوله:
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذابًا شَدِيدًا) أي هيأ الله لهم العذاب المرتقب، لتماديهم في طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاءوا به من عند ربهم.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب الله، فأنتم أصحاب العقول الراجحة، والفطر السليمة، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
ثم بين ما يكون مذكرا لهم وداعيا لتقوى الله فقال:
(قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي قد أنزل الله إليكم يا ذوي البصائر ذكرا لكم وهو القرآن الكريم يذكركم به، لتستمسكوا بحبله المتين وتعملوا بطاعته وأرسل إليكم رسولا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه، وهي واضحات لمن تدبرها وعقلها، كى يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أنعم في النظر فيها، وأجال الفكر في أسرارها ومغازيها، فهي النبراس الساطع، والضوء اللامع، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم بين جزاء الإيمان والعمل الصالح فقال:
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) أي ومن يصدق بالله وعظيم قدرته، وبديع حكمته، ويعمل بطاعته - يدخله بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الطلاق (65): آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
المعنى الجملي
بعد أن أنذر سبحانه مشركي مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول ﷺ يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا في الدنيا، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له في الآخرة - ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه، وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلى ليكون ذلك باعثا على اتباع ما شرع من الدين، واستجابة دعوة الرسول، والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي الله هو الذي خلق السموات السبع وخلق مثلهن في العدد من الأرضين.
وهذا الأسلوب في اللغة لا يفيد الانحصار في السبعة، وإنما يفيد الكثرة، فالعرب تعنى في كلامها بذكر السبعة والسبعين والسبعمائة الكثرة فحسب ويؤيد هذا أن علماء الفلك في العصر الحاضر قالوا: إن أقل عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسميها نجوما لا يقل عن ثلاثمائة مليون أرض، ولا شك أن هذا قول هو بالظن أشبه منه باليقين.
روى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: « ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ».
وروي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: « سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ » الآية قوله: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها.
وهذا من الحبر دليل على أن هناك عوالم كثيرة لا يجدر بالعلماء أن يحدثوا عنها العامة، فإن عقولهم تضل في فهمها، فلتبق في صدور العلماء وأهل الذكر حتى لا يفتنوا بها.
(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أييجرى أمر الله وقضاؤه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع، وحكمته في إقامة نظمها، بحسب العدل والمصلحة.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال: « في كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه تعالى، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه عز وجل ».
(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) أي ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك، كى تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، فهو على ما يشاء قدير، ولتعلموا أن الله بكل شيء من خلقه محيط علما لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو قادر على ذلك، ومحيط بأعمالكم لا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
ما تضمنته هذه السورة من الشئون
اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية، ومناهج دينية، وفتاوى إسلامية، وضعت لإقامة العدل بين الخلق وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام، وقبضة من فيضه، وزهرة من شجرته، فإن قضى القضاة على كراسى الحكم بين العباد، فأعطوا زيدا ما يجب على عمرو، وقالوا للحامل عدتك وضع الحمل، فكم بين السموات والأرض من قضاء في هذا
الفضاء الواسع الصامت لفظا، الناطق معنى، وكم من حكم بيننا نرى أثره، ولا نسمع النطق به، نرى الشمس محكوما عليها أن تطلع من مواضع في المشرق، وتغيب في مواضع في المغرب لا تجوزها، ونرى الرياح محكوما عليها، والسحب مأمورة، والأنهار جارية، والمزارع قد حكم عليها أن تكون في زمن خاص، وأمكنة خاصة فليس للقطن أن ينبت في البلاد الباردة، ولا أن يثمر في زمن الشتاء، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس، وسعادتهم في دنياهم.
فانظر أي الحكمين أكثر منفعة؟ أحكم لمصلحة أشخاص متنازعين، أم حكم لسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟.
سورة التحريم
هي مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد الحجرات.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) أن سورة الطلاق في حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي ﷺ تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي ﷺ بذلك، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا.
(2) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي ﷺ.
(3) أن تلك في خصام نساء الأمة، وهذه في خصومة نساء النبي ﷺ، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن.
[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكارًا (5)
شرح المفردات
تحرّم: أي تمتنع، ما أحل الله لك: هو العسل، تبتغى: أي تطلب، فرض: أي شرع وبيّن كما جاء في قوله: « سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها »، وتحلة أيمانكم: أي تحليلها بالكفارة، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين:
(1) أحدهما تحليله بالكفارة كما في الآية.
(2) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء في الحديث: « لن يلج النار إلا تحلة القسم » أي إلا زمنا يسيرا.
مولاكم: أي وليكم وناصركم، بعض أزواجه: هي حفصة على المشهور، نبأت به: أي أخبرت عائشة به، وأظهره: أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة، عرّف: أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته، وأعرض عن بعض: أي لم يخبرها به، إن تتوبا: أي حفصة وعائشة، صغت قلوبكما: أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول ﷺ من تعظيم وإجلال، وإن تظاهرا عليه: أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول، مولاه: أي وليه وناصره، ظهير: أي ظهراء معاونون، وأنصار مساعدون، مسلمات: أي خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات: أي مصدّقات بتوحيد الله، مخلصات، قانتات: أي مواظبات على الطاعة، تائبات: أي مقلعات عن الذنوب، عابدات: أي متعبدات متذللات لأمر الرسول ﷺ، سائحات. أي صائمات، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام كالصائم لا يزال كدلك حتى يجىء وقت الإفطار.
المعنى الجملي
روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: « كان رسول الله ﷺ يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي ﷺ عليها فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز)، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا.
وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي ﷺ، ويقال إن التي دخل عليها النبي ﷺ وحرّم على نفسه العسل أمامها هي حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي ﷺ استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرها به من الحديث الذي يسرها ويسر عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، فالسر كان لها بأمرين:
(1) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب.
(2) أمر الخلافة لأبويهما من بعده.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ؟) أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تلتمس بذلك رضا أزواجك؟
وهذا عتاب من الله على فعله ذلك، لأنه لم يكن عن باعث مرضي، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج.
وفي هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغي لمقامه الشريف أن يفعله.
وفي ندائه ﷺ بيا أيها النبي في مفتتح العتاب حسن تلطف، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما جاء في قوله: « عفا الله عنك لم أذنت لهم؟ ».
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب التائبين من عباده، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب.
وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه، تعظيما لقدره الشريف، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله به، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك.
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها، فعليك أن تكفر عن يمينك.
وقد روي « أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة) ».
(وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي والله متولى أموركم بنصركم على أعدائكم، ومسهل لكم سبل الفلاح في دنياكم وآخرتكم، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم.
(وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم، الحكيم في تدبير أموركم، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة.
ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال:
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثًا، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسر النبي ﷺ إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، وقال لن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه - أخبر حفصة
ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها: كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله وقد حلفت، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه ﷺ ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل الله له.
(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث، قالت من أنبأك بهذا؟ ظمّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها رسول الله ﷺ قال: أخبرني ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما في الأرض والسماء لا يخفى عليه شيء فيهما.
وفي الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة:
(1) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
(2) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه.
(3) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات في العتب والإعراض عن الاستقصاء في الذنب.
ثم وجه الخطاب لحفصة وعائشة مبالغة في العتب فقال:
(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا من ذنبكما وتقلعا عن مخالفة رسوله ﷺ فتخبّا ما أحب وتكرها ما كرهه - فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير، وأديتما ما يجب عليكما نحوه ﷺ من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف.
روي عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله لهما « إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ » الآية.
حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق نزل ليتوضأ فصببت على يديه، فقلت يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله لهما « إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ » الآية؟ فقال وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث.
ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه فلا يضره أذى مخلوق فقال:
(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاونا على العمل لما يؤذيه ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره - فلن يضره ذلك شيئا، فإن الله ناصره في أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون.
وقد أعظم سبحانه شأن النصرة لنبيه على هاتين الضعيفتين، للإشارة إلى عظم مكر النساء، وللمبالغة في قطع أطماعهما بأنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول الله ﷺ وعند المؤمنين لأمومتهما لهم، وكرامة له ﷺ ورعاية لأبويهما، ولتوهين أمر تظاهرهما، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة، وقهر أعداء الدين، إذ قد جرت العادة بأن الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيع زمنا من تفكيرهم فيها، وقد كانوا أحق به في التفكير فيما هو أجدى نفعا، وأجلّ فائدة.
ثم حذرهما بما يلين من قناتهما، ويخفض من غلوائهما، ويطمئن من كبريائهما فقال:
(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكارًا) أي عسى الله أن يعطيه (ﷺ) بدلكن أزواجا خيرا منكنّ إسلاما وإيمانا، ومواظبة على العبادة، وإقلاعا عن الذنوب، وخضوعا لأوامر الرسول، بعضهنّ ثيبات وبعضهنّ أبكارا، إن هو قد طلقكن.
والخلاصة - احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول الله ﷺ والتألب عليه، والعمل على ما يسوؤه، فإنه ربما أخرج صدره فطلقكنّ فأبدله الله من هو خير منكنّ في الدين والصلاح والتقوى، وفى الشئون الزوجية. فأعطاه بعضهنّ أبكارا وبعضهنّ ثيبات.
ولا شيء أشد على المرأة من الطلاق. ولا سيما إذا استبدل خير منها بها.
روى البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية.
وروي عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله ﷺ وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله ﷺ وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ حتى أتيت على زينب، فقالت يا ابن الخطاب: أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأمسكت، فأنزل الله: « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ » الآية.
[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
شرح المفردات
قوا أنفسكم: أي اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي، وأهليكم: أي بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، والوقود (بفتح الواو): ما توقد به النار، والحجارة: هي الأصنام التي تعبد لقوله تعالى: « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » ملائكة: هم خزنتها التسعة عشر، غلاظ: أي غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، شداد: أي أقوياء الأبدان، والتوبة النصوح: هي الندم على مافات والعزم على عدم العودة إلى مثله فيما هو آت.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بعض نساء النبي ﷺ بالتوبة عما فرط من الزلات، وأبان لهم أن الله كالئ رسوله وناصره، فلا يضره تظاهرهن عليه، ثم حذرهن من التمادي في مخالفته ﷺ خوفا من الطلاق وحرمانهم من الشرف العظيم بكونهنّ أمهات المؤمنين ومن استبدالهنّ بغيرهنّ من صالحات المؤمنات - أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة، يوم يقال للكافرين: لا تعتذروا فقد فات الأوان، وإنما تلقون جزاء ما عملتم في الدنيا، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلاتهم، وأن يتوبوا توبة نصوحا، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت، ليكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: ليعلم بعضكم بعضا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم، إنه طاعة الله تعالى وامتثال أوامره، ولتعلّموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها، واحملوهم على ذلك بالنصح والتأديب.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها » وقوله: « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ».
روي أن عمر قال حين نزلت يا رسول الله: نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه السلام « تنهونهن عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار ».
أخرج ابن المنذر والحاكم في جماعة آخرين عن علي كرم الله وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم.
والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
وفي الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلّم ما يحب من فرائض الدين وتعليمها لهؤلاء، وقد جاء في الحديث: « رحم الله رجلا قال يا أهلاه: صلاتكم، صيامكم، زكاتكم، مسكينكم، يتيمكم، جيرانكم، لعل الله يجمعكم معهم في الجنة ».
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكّل عليها ويلى أمرها وتعذيب أهلها تسعة عشر ملكا هم زبانيتها الذين سيأتي ذكرهم في سورة المدثر في قوله تعالى: « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ».
(غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ على أهل النار أشداء عليهم.
ثم بين عظيم طاعتهم لربهم فقال:
(لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون أمره، بل يؤدون ما يؤمرون به في وقته بلا تراخ، فلا يقدمونه عنه، ولا يؤخرونه.
وقد أفادت الجملة الأولى نفى العناد والاستكبار عنهم فهي كقوله: « لا يستكبرون عن عبادته » وأفادت الجملة الثانية نفى الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: « وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ».
وخلاصة ذلك - إنهم يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توان.
وبعد أن ذكر شدة العذاب في النار واشتداد الملائكة في الانتقام من أعداء الله الكافرين - بين أنه يقال للكافرين لا فائدة في الاعتذار لأنه توبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فقد فات الأوان، ولا يجدى رجاء ولا اعتذار، فلات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم بين السبب في عدم فائدة الندم فقال:
(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لأنكم إنما تثابون اليوم وتعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فلا تطلبوا المعاذير منها.
والخلاصة - إن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل، وأنتم قد دسّيتم أنفسكم في الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها، فاجنوا ثمر ما غرستم، واشربوا من الكأس التي قد ملأتم.
وبعد أن ذكر أن التوبة في هذا اليوم لا تجدى نفعا - نبّه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله: ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم - رجوعا لا تعودون فيه أبدا، عسى ربكم أن يمحوا سيئات أعمالكم التي سلفت منكم، ويدخلكم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار حين لا يخزى الله محمدا ﷺ والمؤمنين به.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: التوبة النصوح أن يندم العبد على الذنب الذي أصابة، فيعتذر إلى الله ثم لا يعود أبدا، كما لا يعود اللبن إلى الضّرع، وهكذا روى عن عمرو بن مسعود وأبي بنكعب والحسن وغيرهم.
وقال الإمام النووي: التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور:
(1) الإقلاع عن المعصية.
(2) الندم على فعلها.
(3) العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.
فإن كانت المعصية تتعلق بآدمى وجب رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه، أو تحصيل البراءة منه.
والخلاصة - إن المعصية إن كانت في خالص حق الله كفى فيها الندم كما في الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم العزم على إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب والقتل العمد، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة إذا بلغته، ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش.
وجىء بكلمة (عَسى) التي تفيد الطمع في حصول العفو فحسب، مع أن الله سبحانه وعد بقبول التوبة - جريا على سنن الملوك في التخاطب، فإنهم يقولون إذا أرادوا فعلا: عسى أن نفعل كذا، وإشعارا بأن ذلك تفضل منه سبحانه، والتوبة غير موجبة له، وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء، وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة.
ثم بين ما يكون للنبي والذين آمنوا معه من علامات الظفر والفوز بالمطلوب فقال:
(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبأيمانهم حين الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير لهم.
ثم بين ما يطلبونه من ربهم فقال:
(يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) أي يسألون ربهم أن يبقى لهم نورهم فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط، حين يقول لهم المنافقون والمنافقات: انظرونا نقتبس من نوركم، وقد تقدم نحو هذا في سورة الحديد، ويطلبون أيضا منه أن يستر عليهم ذنوبهم، ولا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب.
ثم ذكروا ما يطمعهم في إجابة الدعاء فقالوا:
(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنك على إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وكل ما نرجو منك ونطمع - قدير يا ربنا، فاللهم أجب دعاءنا، ولا تخيب رجاءنا.
وقد روى أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطئ قدمه، لأن النور على قدر العمل وروى أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق، ويمر بعضهم كالريح، وبعضهم يحبو حبوا ويزحف زحفا، وهم الذين يقولون: « ربّنا أتمم لنا نورنا ».
[سورة التحريم (66): آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
شرح المفردات
الجهاد تارة يكون بالسيف وأخرى بالحجة والبرهان، واغلظ عليهم: أي شدّد، والمأوى: مكان الأبواء والإقامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات إليه، أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون في سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وذكر أن جزاءهم في الآخرة جهنم وبئس المقيل والمأوى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي جاهد الكفار بالسيف وقاتلهم قتالا لا هوادة فيه، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب، وعنّفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم، كما حدث منه ﷺ في المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس فقال: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان، وأخرج منهم عددا كثيرا.
ثم بين سوء عاقبتهم فقال:
(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل.
[سورة التحريم (66): الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
شرح المفردات
ضرب المثل: ذكر حال غريبة لتعرف بها حال أحرى تشاكلها في الغرابة، تحت عبدين: أي في عصمتهما، فخانتاها: أي نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان، وكانت امرأة نوح تقول لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط نزل قومه على نزول أضيافه عليه، فلم يغنيا عنهما: أي لم يفيداهما ولم يجزيا عنهما من الله شيئا، امرأة فرعون: على ما قيل هي آسية بنت مزاحم، نجنى من فرعون وعمله: أي خلصنى منه فإني أبرأ إليك منه ومن عمله، والقوم الظالمون: هم الوثنيون أقباط مصر، وأحصنت فرجها: أي حفظته وصانته، والفرج: شق جيب الدرع (القميص) إذ الفرج لغة كل فرجة بين الشيئين، ويراد بذلك عفتها، وكلمات ربها: أي شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله، والقانتين: أي الطائعين المخبتين إلى الله الممتثلين أوامره.
المعنى الجملي
بعد أن أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح بالندم على ما فات، وعدم العودة فيما هو آت، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة لهم في القول والعمل، ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقبول الإيمان، وفى جوهرها صفاء ونقاء فلا تجدي فيها العظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فقد كانتا في بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام.
كذلك إذا كان جوهر النفس نقيا خالصا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئا، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين ولا عتوّ الظالمين، وضرب لذلك مثل امرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها، وتعتقد ألوهيته هو فأبت وجاهدت في الله حق جهاده حتى لاقت ربها وهي آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل في قلبها من نور الإيمان، وكذلك مريم بنة عمران التي عفّت فآتاها الله الشرف والكرامة، وأنجبت نبي الله عيسى، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه وكانت من العابدين القانتين.
وفي هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبي ﷺ لا تجديهم نفعا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم وجعلهم كالأجانب، بل أبعد منهم كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما، كما تضمن التعريض بأمى المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي ضرب الله مثلا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم - امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانتا في عصمة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصّلا ما فيه سعادتهما في معاشهما ومعادهما، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة، فلم يدفع عنهما قربهما من ذينك السدين الصالحين شيئا، وحاق بهما سوء ما عملتا وسيحل بهما عقاب الله، وسيدخلان النار في زمرة داخليها جزاء وفاقا لما اجترحتا من السيئات، وما دسّتا به أنفسهما من كبير الآثام، وعظيم المعاصي.
وفي هذا تعريض بأمهات المؤمنين، وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ - إن أتين بمعصية - اتصالهنّ بالنبي ﷺ وكونهنّ في عصمته.
وبعد أن ضرب مثلا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئا.
أرشد إلى عكس هذا فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئا فقال:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله حال امرأة فرعون مثلا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار، فقد كانت تحت أعدى أعداء الله في الدنيا، وطلبت النجاة منه ومن عمله، وقالت في دعائها: رب اجعلنى قريبا من رحمتك، وابن لي بيتا في الجنة، وخلصنى من أعمال فرعون الخبيثة، وأنقذنى من قومه الظالمين.
وفي هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدّقة بالبعث، ومن سنن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال مريم وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارا، من قبل أنها منعت جيب درعها جبريل عليه السلام وقالت له: « إنّى أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا » فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت بنبي الله وكلمته عيسى صلوات الله عليه، وصدقت بشرائع الله وكتبه التي أنزلها على أنبيائه، وكانت في عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له.
روى أحمد في مسنده: « سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة »
وفي الصحيح « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام ».
وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المئونة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضربه مثلا ليؤذن بأنها رضي الله عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق، وفصاحة الكلام، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب للبعل، وبحسبك أنها عقلت من النبي ﷺ ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثله الرجال.
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على شيئين:
(1) أخبار نساء النبي ﷺ، وحلفه ﷺ ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ، واطلاع الله له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه، من أول السورة إلى قوله: « وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ».
(2) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية في العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.
فهرس ت أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
5 ما قالته خولة بنت ثعلبة لرسول الله ﷺ تشكو زوجها.
7 أحكام الظهار والعقوبات التي شرعت لذلك.
9 من يشاقّ الله ورسوله يلحقه الخزي والهوان.
11 ما يتناجى ثلاثة إلا والله رابعهم ولا خمسة إلا والله سادسهم.
12 كان اليهود يحيون الرسول بغير تحية الله استهزاء به.
14 نهي المؤمنين عما سيكون سببا للتباغض من التناجي بالعدوان.
16 كان الصحابة يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله ﷺ لسماع حديثه.
18 أمر المؤمنين بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه.
21 كان قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين.
25 المنافقون شاقوا الله ورسوله فكتب عليهم الذلة في الدنيا والآخرة.
27 لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله.
28 اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاشّ علي يدا ولا نعمة فيوده قلبي.
32 نقض اليهود للعهد وإجلاء الرسول ﷺ لهم إلى بلاد الشام
34 قذف الله الرعب في قلوب اليهود فلم يجدوا للمقاومة سبيلا.
37 حكم ما أخذ من أموال اليهود.
39 ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
41 مدح الأنصار.
44 « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ».
47 مناصحة المنافقين كعبد الله بن أبي ورفقته لليهود.
49 نكوص المنافقين في عهودهم لليهود.
53 نصح المؤمنين بلزوم التقوى والعمل بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
54 من مواعظ أبي بكر رضى الله تعالى عنه.
56 القرآن الكريم مرشد وهاد.
61 ما فعله حاطب بن أبي بلتعة من نصيحته للمشركين.
63 ذكر الموانع التي تمنع من مناصحة المشركين.
65 أمر الصحابة بأن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام وأصحابه.
66 كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك.
69 وعد المؤمنين بأنه سيغير من طباع المشركين ويغرس في قلوبهم محبة الإسلام.
71 الكافرون المعاندون أقسام ثلاثة.
73 كتاب الصلح بين النبي ﷺ والمشركين عام الحديبية.
75 مبايعة المؤمنات المهاجرات للنبي ﷺ.
77 كان بعض فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم.
80 أحب الأعمال إلى الله إيمان به، وجهاد لأهل معصيته.
81 أمر المؤمنين بالقتال صفا صفا كأنهم بنيان مرصوص.
84 ما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام.
87 الصادّ عن دعوة الدين كمن يريد إطفاء نور الشمس.
88 فرح اليهود ببطء نزول الوحي على النبي ﷺ.
89 الإيمان بالله والجهاد بالنفس تجارة رابحة.
90 الجهاد على ضروب.
91 رفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من الأرض في زمن وجيز
94 الحكمة في إرسال الرسول عربيا إلى العرب.
96 « لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس ».
97 النعي على المشركين بأنهم لم يفهموا التوراة.
99 آية المباهلة.
101 نهى المؤمنين عن تشاغلهم عن عظات النبي ﷺ.
102 أمر المؤمنين أن يأتوا إلى الصلاة وعليهم السكينة.
102 مراقبة الله تنيل الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
106 وصف الله سبحانه المنافقين بأقبح الصفات.
107 كأنت عدّة المنافقين الأيمان الكاذبة.
108 وصف المنافقين بحسن المنظر وقبح المخبر.
110 ذكر الأدلة على نفاق المنافقين.
113 ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي المنافق.
115 نهي المؤمنين عن تشاغلهم بالدنيا.
119 الإنسان يضم روحا من عالم الأرواح وبدنا من عالم الأشباح.
121 تحذير المشركين من تماديهم في الجحود وإنكار رسالة محمد ﷺ
123 إقامة الأدلة على أن البعث حق لا شك فيه.
126 ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره.
127 على المؤمن واجبان: السعي في جلب الخير ودفع الضر، ثم التوكل على الله
128 من الأولاد والزوجات أعداء للإنسان يثبطونهم عن الطاعة.
130 في الحديث « إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال ».
131 من يقرض غير ظلوم ولا عديم؟ الحديث.
134 الأمر بالطلاق في الطهر الذي يحسب للمرأة.
135 الطلاق أقسام ثلاثة.
136 أمر المطلقة بالمكث في البيت إلا أن تأتى بفاحشة مبينة.
137 « إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق » الحديث.
141 قصص عوف بن مالك الأشجعى مع رسول الله ﷺ.
142 عدّة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللائي يئسن من الحيض.
143 عدة الحامل وضع الحمل ولو بعد ساعة.
145 ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة.
146 نفقة الحوامل.
147 القدر الواجب في النفقة.
149 لا تحل المطلقة لزوج آخر إلا بعد انقضاء عدتها.
152 ما تضمنته سورة الطلاق من الأحكام الشرعية والشئون الدينية.
156 في الحديث « كان رسول الله ﷺ يحب الحلواء والعسل »
157 أسرّ النبي ﷺ إلى حفصة حديثا فأخبرت به عائشة.
158 لا حرج في الإباحة بالسر إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
160 تحذير أمهات المؤمنين من إيذاء رسول الله ﷺ.
163 الآخرة دار جزاء لا دار عمل.
164 شروط التوبة النصوح.
166 الأمر بقتال المشركين الذين يقفون في سبيل الدعوة إلى الإيمان.
167 النفوس إن لم يكن في جوهرها صفاء لا تنفع فيها العظة.
169 ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران.
170 في الحديث « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع ».
هامش
- ↑ الوشم: غرز الإبرة في عضو من الجسم ثم حشوه بالكحل، والمستوشمة: التي تطلب فعل ذلك، والمتنمصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه وغيره، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين الثنايا بطرق صناعية.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |