الرئيسيةبحث

تفسير المراغي/الجزء الثالث


☰ جدول المحتويات

[تتمة سورة البقرة]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة البقرة (2): آية 253]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بني إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم، فقام أولو الرأي فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله، وقتل داود - وكان في عسكر طالوت - جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين. وما تمّ هذا إلا بفضل داود الذي آتاه الله الملك والنبوة، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.

ثم ذكر بعد هذا أنه لو لا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره.

وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير، وهذا دليل على أنه من المرسلين.

وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.

الإيضاح

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله: « وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وخلاصة هذا - إنهم كلهم رسل الله، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال:

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام، كما قال تعالى في سورة النساء « وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا » وفي سورة الأعراف « وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ » وفي الآية بعدها « قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي » (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف، والمراد به محمد ﷺ كما رواه ابن جرير عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم، مع أن دينهم واحد في جوهره، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط.

ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله في سورة القلم « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » وقوله: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ».

ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال: « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ».

ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وقد روى البخاري أنه ﷺ قال: « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ».

وروي عنه أنه قال: « فضّلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ».

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البينات هي ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال: « وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ » وأيدناه: أي قوّيناه، وروح القدس هو روح الوحي الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبي ﷺ « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ».

وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) قوله: من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات: أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم، وقوله: ولكن اختلفوا: أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.

وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية، وجعل ارتقاءه في إدراكه وأفكاره كسبيا، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون، وهذا هو منشأ الاختلاف.

ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة، وهذا هو منشأ التخاصم، وسبب التنازع والقتال، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك، فتفرقوا طرائق قددا، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.

وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف، وأمرهم بالاتحاد والوئام، فامتثلوا أمره في عهد النبي ﷺ وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.

وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين، ولحماية الدين من طغيان الملحدين، ولله في خلقه شئون.

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة - لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، لكنه أودع في غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة، ومنهم القوي الذي يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأي والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.

(وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار إرادته تعالى فلا مرد له، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.

[سورة البقرة (2): آية 254]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

تفسير المفردات

المراد باليوم هنا يوم الحساب، لا بيع فيه: أي لا فداء فيتدارك المقصّر تقصيره، ولا خلّة: أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة، والظالمون: هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال - وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل - فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة، والإنفاق المستحب أيضا.

ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة، أو انتشر المرض في أبنائها، أو كثر الجهل في أفرادها، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال - وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.

وفي قوله « مِمَّا رَزَقْناكُمْ » حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.

وقوله « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ... » إلى آخره أي منقبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال، ولا تنفع فيه الصداقة، ولا تجدى الشفاعة.

وخلاصة ذلك - إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له.

ونحو الآية قوله تعالى: « وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ».

وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت في الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، إذ وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه في غير وجهه، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » مكان ومن لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله: « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ».

ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة، أن حب المال أعلى في قلب المانع من حب الله تعالى، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا، وأعظم في وجدانها وقعا.

وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغبثه، أو مضطر يكشف ضرورته، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء، أو ترفع من قدرها، أو تزيل العقبات من طريقها - من أقبح أنواع الظلم، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.

وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم، لينشلوها من بحار الجهل التي هي غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، حتى عمّ الفقر والشقاء، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها.

ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام، ولا أن يكونوا من المسلمين، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهو أرجح من رضوان ربه، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ».

وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله: « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ».

[سورة البقرة (2): آية 255]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

تفسير المفردات

الله هو المعبود بحق، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما، ولا تدرك كنهها وحقيقتها، وكل ما ألّهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبى استقلالا أو تبعا لسواه، والحي هو ذو الحياة، والحياة هي مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو، وهي بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة، والقيوم القائم على حلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والأخذ: الغلبة والاستيلاء، والسّنة: النعاس، وهو فتور يسبق النوم، قال عدي بن الرقاع:

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت في عينه سنة وليس بنائم

والنوم: حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور، والكرسي: هو العلم الإلهي، وآده الشيء: يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة، والعلي: هو المتعالي عن الأشباه والأنداد، والعظيم: هو الكبير الذي لا شيء أعظم منه.

المعنى الجملي

أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، ولا يغني مال يعطى فدية عن العاصين، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء وذوي الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا، وبها تحلّ كل مهمة - هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب الطاعة لأمره، والإذعان لحكمه، والوقوف عند حدوده، وبذل المال في سبيله، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.

الإيضاح

(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد، ذو الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، القائم بتدبير أمر عباده، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار.

وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة، ثم ما يتبعها وهو النوم، وبعبارة أخرى - هو ترقّ في نفى النقص عنه، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى.

والخلاصة - إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة، ضعيف القيام بشئون نفسه، وبشئون غيره.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده، خاضعون لمشيئته، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم. وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي من ذا الذي يستطبع من عبيده أن يغيّر ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته، من تعذيب ذوي العقائد الباطلة، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه، ونحو هذا قوله. « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ». وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه - وإذنه غير معروف لأحد من خلقه - وفي ذلك قطع لأمل الشافعين، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها، وأمور الآخرة التي يستقبلونها.

وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة، إذ من كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف، مما يستحيل عليه تعالى، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم. وما ورد من أحاديث الشفاعة، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلى أنه سيفعله، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه، ولا يحدث تأثيرا في إرادته، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل في الخطايا، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله: « يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ » وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه، ولا كرسي ولا قيام ولا قعود، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.

والخلاصة - إن الكرسي شيء يضبط السموات والأرض، نسلم به بدون بحث في تعينه، ولا كشف عن حقيقته، ولا كلام فيه بالرأي دون نص عن المعصوم.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها، ولا يشق عليه ذلك، وإنما لم يذكر ما فيهما، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، العظيم على كل شيء سواه، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.

والخلاصة - إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم، فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة بالدين، فخويت القلوب من ذكر الله، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة (الشَّفاعَةَ) ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له، ويمده في الغي.

فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله، ولم تستشعر بالحياء منه، ولم تحترم دينها وشريعتها، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل.

وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم، وتركوا المبالاة بالدين.

[سورة البقرة (2): الآيات 256 الى 257]

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

تفسير المفردات

لا إكراه في الدين: أي لا إكراه في دخول الدين، وبان الشيء واستبان: وصح وظهر، ومنه المثل: تبيّن الصبح لذي عينين، والرشد: بالضم والتحريك، والرشاد: الهدى وكل خير، وضده الغي، والجهل كالغي إلا أن الأول في الاعتقاد، والثاني في الأفعال، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم، وزوال الغي بالرشد، والطاغوت: من الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الشيء، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى: « أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ » وقال: « يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » والعروة من الدلو والكوز ونحوهما: المقبض الذي يمسك به من يأخذهما، والوثقي: مؤنث الأوثق، وهو الحبل الوثيق المحكم، والانفصام. الانكسار أو الانقطاع، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه، والولي: الناصر والمعين، والظلمات: هي الضلالات التي نعرض للإنسان في أطوار حياته، كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصدّ عن النظر فيه أو تحول دون فهمه، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السموات والأرض، وبيان أن علمه محيط بكل شيء وأنه العلى العظيم.

والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة، وترشد إليه المشاهدات الكونية، فأماراته واضحة، والنّصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام، فمن هدى إليه فقد فاز بالسعادة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي ﷺ: ألا أستكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي ﷺ. فقال يا رسول الله: أيدخل بعضى النار وأنا أنظر، فنزلت فخلّاهما.

الإيضاح

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا إكراه في الدخول فيه، لأن الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان.

وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين، بل من أوليائه، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره، فكان يعرض على الناس، فإن قبلوه نجوا، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.

والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء، فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلى مستخفيا والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة، فإن غزوة بني النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة، اللهم لا هذا ولا ذاك.

هذا، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول في دينهم.

ثم أكد عدم الإكراه بقوله:

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غي وضلال.

ثم فصل ذلك فقال:

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما، أو تقليد رئيس، أو طاعة هوى، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه، ولا يرجو شيئا من أحد سواه، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة - فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة، وأمتن وسائل الحق، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل.

ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال:

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لأقوال من يدعى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى، ومن انطوى قلبه على شيء من نزعات الوثنية، ونسب ما جهل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى، فقد حق عليه العذاب، وكان جزاؤه جزاء الدين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

وجاء بمعنى الآية قوله: « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ ».

وقد جعل المسلمون قوله: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أسّا من أسس الدين، وركنا عظيما من أركان سياسته، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه. وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتتنا فيه أو الاعتداء علينا، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة.

وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصدّ من يقاوم هذه الدعوة، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة، وكف شر الكافرين عن المؤمنين، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا، ومن ثم قال سبحانه: « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ » أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب، ولن يكون كذلك إلا إذا كفّت الفتن عنه وقوى سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.

والفتن تكفّ بأحد أمرين:

(1) بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان، وبدا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه.

(2) بقبول الجزية وهي جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال: « إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ».

فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه - بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصّرون في تنميق هذه الشبهات، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان في نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة. ونحن لا نبحث عن حقيقتها، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب، جزاء ما قدمته أيدي العاصين من سيئ أعمالهم.

[سورة البقرة (2): آية 258]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

تفسير المفردات

الاستفهام للتعجيب والإنكار، وحاجّ جادل وقابل الحجة بالحجة، فبهت: أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا، الظالمين: أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولي الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولي الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها، فبيّن أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرضها عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته، وأن الذي حاجّه كيف عمى عن نور الحق، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى، وتردّى في مهاوى الهلاك بولاية الطاغوت له.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه - ويقال إنه نمروذ بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام.

(أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) أي إن الذي أورثه الكبر والبطر، وحمله على الإسراف في الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم - هو إيتاء الله إياه الملك.

ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال:

(إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفّه أحلام عابديها، فسأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب.

و(قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله.

وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم ﷺ، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها، وإزالة الحياة بالموت - وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع، والسنن الحكيمة التي نشاهدها، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي فدهش ولم يجد جوابا، وكأنما ألقمه حجرا.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت، ويترك ما أعطاه الله من الفهم، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا.

[سورة البقرة (2): آية 259]

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

تفسير المفردات

القرية: الضيعة، والمصر: الجامع، وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المارّ عليها، بل اقتصر على موضع العبرة، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به، ومن ثم اختلف المفسرون فيها فمن قائل إنها بيت المقدس وإن المار عليها هو عزير بن شرخيا، ومن قائل هي دير هرقل على شط دجلة والمار هو أرميا من سبط هارون عليه السلام، وخاوية: أي ساقطة من خوى البيت إذا سقط، والعروش: واحدها عرش وهو سقف البيت وكل ما هيئ ليستظل به، والمراد منه أن العروش سقطت أوّلا ثم سقطت الحيطان عليها، وأنى: بمعنى كيف، والحياة هنا العمران، والموت: الخراب، وأماته: أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف، والبعث: الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقتها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أوّلا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحسّ والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله، وآخرون ناموا أكثر من ذلك، ومتى ثبت هذا فالذي يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به، والتجارب التي عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته، ولم يتسنه: أي لم يتغير ولم يفسد، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام، وآية: علامة دالة على قدرة الله، وننشزها: أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر محاجة إبراهيم لذلك الكافر وإلزامه الحجة، بإثباته أن لهذا الكون إلها قادرا على كل شيء، واحدا لا شريك له في الملك والتدبير، ذكر هنا ما يدل على إثبات البعث والنشور، ويرشد إلى هداية الله للمؤمنين، وإخراجهم من ظلمات الشبه إلى نور اليقين، ولا غرابة في وقوع الشبهة للمؤمن ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان، فيهديه الله بما له من الولاية والسلطان على نفسه، ويخرجه من الحيرة التي تعرض له إلى الطمأنينة التي تثلج قلبه وتملؤه بردا ويقينا.

الإيضاح

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أرأيت مثل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، أي ما رأيت مثله فتعجب منه، لأن حاله بلغت من الغرابة حدّا لا يرى لها مثل.

(قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي قال: كيف يعمر الله هذه القرية بعد حرابها؟ ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرّق أهلها.

(فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي فجعله الله فاقد الحسّ والحركة دون أن تفارق الروح البدن، ثم أعاده إلى ما كان عليه أوّلا.

(قالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي قال له بعد مبعثه كم يوما لبثت يا عزير؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه، فقال له: ما لبثت هذا المقدار؟ بل لبثت مدة متطاولة. ومع ذلك لم يلحق طعامك وشرابك تغيّر مما تجرى العادة بمثله حين مرور الزمان وتطاول الأعوام.

والقصد من السؤال إظهار عجزة عن الإحاطة بشئونه تعالى، وليطّلع أثناء ذلك على بدائع قدرته بإبقاء الغذاء الذي لم يتسارع إليه الفساد مع مضى الزمن الطويل، وليعلمه أن إحياءه كان بعد مدى طويل، وبذا يزول من نفسه الاستبعاد الذي خطر على باله أولا.

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه، وتقطعت أوصاله وتمزقت، ليستبين لك طول لبثك، وتطمئن بذلك نفسك.

(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك، وحفظ ما معك من الطعام والشراب، ليزيل تعجبك، ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك، ولنجعلك آية للناس.

أما كونه آية له فواضح، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدى بها من يشاهدها، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه. وبعد أن أراه الآية التي تكون حجة على من رآها في قوله: (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) نبهه إلى الدليل الذي يحتج به على إمكان البعث في كل مكان وزمان، وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فقال:

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا) أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حي - قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا.

وخلاصة ذلك - إننا كما أطلعناك على بعض آياتنا الخاصة الدالة على قدرتنا على البعث، نهديك إلى الآية الكبرى الدالة على كيفية التكوين، وبمثل هذا يحتج القرآن في مثل قوله: « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » وفي قوله: « كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ » وفي قوله: « فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ».

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا قال: أعلم علما يقينيّا مؤيدا بآيات الله في نفسي وفي الآفاق، أن الله على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته، قدير لا يستعصى عليه أمر.

[سورة البقرة (2): آية 260]

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

تفسير المفردات

فصرهن: أي ضمهن، سعيا: أي مسرعات طيرانا ومشيا، وعزيز: أي غالب على أمره، حكيم: أي لأنه جعل أمر الإعادة وفق حكمة التكوين.

المعنى الجملي

ذكر في هذه الآية مثالا آخر يدل على إثبات البعث، وفيه دلالة على ولاية الله للمؤمنين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكرر المثل لإثبات البعث، ولم يذكر إلا مثالا واحدا لإثبات الربوبية، لأن منكري البعث أكثر من منكري الألوهية.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟) أي واذكر وقت قول إبراهيم لربه، أرنى كيف يكون إحياء الموتى؟ وما وقع حينئذ من عجيب صنعه تعالى لتقف على هدايته تعالى للمؤمنين وولايته لهم.

وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات لأمرين:

(1) أن إيجاب ذكر الوقت يستلزم ذكر ما وقع فيه.

(2) أن ذكر الوقت يشتمل على ما فيه بالتفصيل، فإذا استحضر كان كل ما فيه حاضرا لا يشذ عنه شيء.

وصرح بذكر إبراهيم دون الذي مرّ على القرية، لأن في سؤاله من الأدب مع الله والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك، فالصورة في الأول صورة الإقرار مع طلب الزيادة في العلم، والصورة في الثاني صورة الإنكار.

وبدأ سؤاله بكلمة (رب) المفيدة لعنايته تعالى بعبيده، وتربيته لعقولهم وأرواحهم استعطافا وثناء على الله أمام الدعاء.

وخلاصة المعنى - يا رب أرني بعيني كيفية إحيائك للموتى.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) أي قال: ألم تعلم ذلك وتؤمن يأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني إراءته؟ قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر، ولكن تاقت نفسي للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبي بالعيان بعد خبر الوحي.

وفي قوله تعالى لإبراهيم: « أولم تؤمن » وهو العليم بإيمانه ويقينه - تنبيه وإرشاد إلى ما ينبغي أن يقف عنده الإنسان ولا يعدوه، فإن الإيمان بهذا السر الإلهي والتسليم فيه لخبر الوحي، هو غاية ما يطلب من البشر، ولو كان وراء ذلك سبيل آخر لبينه الله تعالى.

وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه.

وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات.

فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحي والدليل.

وإنا الآن لا نؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا ولا نعرف كيفيتها، ونودّ لو نعرفها، فهذا الأثير (التلغراف اللاسلكي) ينقل أخبار العالم في لحظة، ولا نعرف كيفية ذلك، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية، والقارات البعيدة، ومثله أصوات المذياع (الراديو) التي تنشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات، وتسمع في أرجاء المعمورة، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم.

ثم بين سبحانه أنه أجابه إلى ما طلب.

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن إبراهيم بعد أن طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى - أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير، فيقطعهنّ أجزاء، ثم يفرقها على عدة جبال بحضرته وأرضه، ثم يدعوها فتجيبه مسرعة - والطير أشد الحيوان نفورا من الإنسان غالبا - وقد فعل إبراهيم ذلك.

قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته (الإسلام والطب الحديث) أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت على أيدي الأنبياء ليتجلى لك ما ربما غاب عن فكرك، وندّ عن بالك، وتفهم ذلك حقّ الفهم قال:

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة، بخلاف ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونموّ الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لتعوّدنا إياه، ولكن إن أتي الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحدث المعجزات إلا على أيدي الأنبياء، لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

وصفوة القول - إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية، وهي لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريق صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهي طبيعي، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان - هذا كلامه باختصار.

[سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 264]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

تفسير المفردات

سبيل الله: ما يوصل إلى مرضاته تعالى، الحبة: واحدة الحب، وهو ما يزرع ليقتات به، المنّ: أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن إليه ويظهر به تفضله عليه، والأذى: أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه كأن يقول له: إني قد أعطيتك فما شكرت، قول معروف: أي كلام حسن وردّ جميل على السائل كأن يقول له: رزقك الله، أو عد إلي مرة أخرى أو نحو ذلك، ومغفرة: أي ستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره مما يثقل على النفوس احتماله، وخير: أي أنفع وأكثر فائدة، رئاء الناس: أي مراءاة لهم لأجل أن يروه فيحمدوه، ولا يقصد ابتغاء رضوان الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الأمة بالقيام بما يصلح شؤنها، فمثله: أي فصفته، وصفوان: أي حجر أملس، والوابل: المطر الشديد، والصلد: الأملس الذي ليس عليه شيء من الغبار، ويقال فلان لا يقدر على درهم: أي لا يجده ولا يملكه.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذي مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفّون فيها أجورهم بغير حساب، في يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله - ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المنّ والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان.

الإيضاح

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته كمن يزرع حبة في أرض مغلة فتنبت سبع سنابل: أي تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب في كل سنبلة منها مائة حبة كما يرى في كثير من الحب كالذرة والدّخن.

وقد عنى بتطبيق هذا المثل علميا بعض أعضاء الجمعية الزراعية بمصر في مزارع القمح التي لها في التفتيش النموذجى وفي غيره، فهدتهم التجارب إلى أن الحبة الواحدة لا تنبت سنبلة واحدة بل أكثر، وقد وصلت أحيانا إلى أربعين، وأحيانا إلى ست وخمسين، وأحيانا إلى سبعين، كما دلتهم أيضا على أن السنبلة الواحدة تغل أحيانا ستين حبة أو أكثر، وقد عثر في عام (1942 م) أحد مفتشى الجمعية على سنبلة أنبتت سبعا ومائة حبه وعرض نتيجة بحثه على الإخصائيين من رجال الجمعية وغيرهم في حفل جامع، ورأوا تلك السنبلة وعدوها عدّا، فاتفقت كلمتهم على صدق ما عدّ ورأى، وشكروه على جهوده الموفقة - والزمان كفيل بتأييد قضايا الكتاب الكريم مهما طال عليها الأمد وكلما تقدم العلم ظهر صدق ما أخبر به.

وخلاصة ذلك - إن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زرع في أخصب أرض، فنما نموّا حسنا فجاءت غلته سبعمائة ضعف.

(وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فيزيده زيادة لا حصر لها.

أخرج ابن ماجه عن علي وأبي الدرداء كلهم يحدث عن رسول الله ﷺ قال: « من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم » ثم تلا هذه الآية. وعن معاذ بن جبل أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.

(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحد عطاؤه، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة كالمنفقين في إعلاء شأن الحق، وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار ذلك في قوة ملتهم وسعادة أمتهم جنوا من ذلك أجلّ الفوائد وعاد ذلك عليهم بالخير الوفير.

ولنعتبر بما نراه في الأمم العزيزة الجانب التي ينفق أفرادها في إعلاء شأنها بنشر العلوم والمعارف وتأليف الجماعات الخيرية التي تقوم بها المصالح العامة، ولنوازن بين هؤلاء وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة، نر صعاليك الأولين ذوي عزة ومنعة لا يجاريهم فيها ثراة الآخرين. هذا وإن الناس بمقتضى الفطرة يقتدى بعضهم ببعض، فمن بذل شيئا في سبيل المصلحة العامة كان قدوة لمن يبذل بعده، فالناس يتأسى بعضهم ببعض من حيث لا يشعرون. والفضل الأكبر للسابقين الأولين في عمل الخير، فهم الذين يضعون الأسس لعمل الخير، فهم الفائزون برضوان الله، ولهم أجرهم وأجر من اقتدى بهم

أخرج الترمذي وأبو داود أن النبي ﷺ قال: « من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ».

ثم بين ثواب الإنفاق في الآخرة بعد بيان منافعه في الدنيا فقال:

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين يبذلون أموالهم يبتغون بذلك مرضاة ربهم، ولا يتبعون ذلك بمنهم على من أحسنوا إليهم ولا بإيذائهم، لهم عند ربهم ثواب لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس وتفزعهم الأهوال، ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم.

والحكمة في تعليق هذا الثواب على ترك المنّ والأذى، أن الإنفاق في سبيل الله يراد به وجه الله وطلب رضاه، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه لأنه لا يد له قبله، ولا صنيعة له عنده، تستحق - إن لم يكافئه عليها - المن والأذى فعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه.

ثم وضع سبحانه دستورا لحسن المعاملة بين الناس فقال:

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي كلام حسن وردّ جميل على السائل، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى، لأنه وإن خيّب رجاءه فقد أفرح قلبه وهوّن عليه ذل السؤال، وهذا القول تارة يتوجه إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة أخرى يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا احتيج لجمع المال لدفع عدوّ مهاجم أو بناء مستشفى أو مدرسة أو نحو ذلك من أعمال الخير والبر ولم يكن لدى المرء مال، فعليه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث العاملين على العمل، وينشطهم إليه، ويبعث عزيمة الباذلين على الزيادة في البذل، أما الصدقة التي يتبعها أذى فهي مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء، ومن آذى فقد بغّض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.

ومن الخير للأمة أن يظهر أفرادها في مظهر المتعاونين كما قال: « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى » وذلك مما يعزز مقامها، ويحفظ كرامتها، ويجعلها مهيبة في أعين الناس أجمعين.

وخلاصة المعنى - إن مقابلة المحتاج بكلام يسره وهيئة ترضيه، خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فارق بين أن يكون المحتاج فردا أو جماعة، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه، وإظهار استهجانه، وتشكيك الناس في فائدته، لا توازى إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب المساعدة له، والإغضاء عن التقصير الذي ربما يقع من

العاملين فيه، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك أجدى لها من شيء من المال تعطيه مع مقالة السوء وفعل الأذى.

وقد قررت هذه الآية مبدأ عامّا في الشريعة وهو « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح » فقد دلت على أن الخير لا يكون طريقا إلى الشر، وعلى أن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالية من الشوائب التي تفسدها وتذهب بفائدتها كلها أو بعضها، وعلى أن من عجز عن نوع من أنواع البرّ فعليه أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدى إلى مثل غايته، فمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذي، فعليه أن يجبر قلب الفقير بقول المعروف.

(وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أي والله غني عن صدقة عباده، فلا يأمرهم ببذل المال لحاجة إليه، بل ليطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية، ليكونوا أعزاء، بعضهم لبعض ناصر ومعين.

فهو غني عن صدقة يتبعها منّ أو أذى، لأنه لا يقبل إلا الطيبات، حليم لا يعجل بعقوبة من يمنّ أو يؤذي.

وفي هذه الجملة سلوة للفقراء، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغنى الحليم، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم، وعدم تعجيل العقوبة على كفرهم بنعمته تعالى، إذ من وهبهم المال فإنه يوشك أن يسلبه منهم.

وبعد أن أبان سبحانه فيما سلف أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على الإنفاق في سبيله - أقبل يخاطب عباده المؤمنين وينهاهم نهيا لا هوادة فيه عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي إن المن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها، وهو تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة للأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتها إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة - إذ أن كل عمل لا يؤدى إلى الغاية منه فقد حبط وبطل كأن لم يكن، فما بالك إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟.

ونحو ذلك ما يقال: إن صلاة المرائي باطلة، على معنى أن الغرض منها وهو توجه القلب إلى الله واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه لم يحصل، لأن قلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه لا إلى ذي العظمة والجبروت، والملك والملكوت.

وفي ذلك مبالغة أيّما مبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين اللتين قد أولع الناس بهما فالنفوس مغرمة بذكر ما يصدر منها من الإحسان تمدحا وتفاخرا، وذلك طريق إلى المن والإيذاء، ولا سيما إذا آنس المتصدق تقصيرا في شكر الناس له على صدقته، أو احتقارا لها، فهو حينئذ لا يكاد يملك نفسه عن المنّ والأذى.

(كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا تبطلوا صدقاتكم بإحدى هاتين الرذيلتين فتكونوا مشبهين من ينفق ماله مرائيا الناس: أي لأجل أن يروه فيحمدوه، لا لابتغاء مرضاة الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين، وترقية شأن الأمة بما يصلح شئونها، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا.

والخلاصة - إن كلا من المرائي وذي المن والأذى أتى بعمل غير مقبول ولا صحيح بل هو باطل ومردود عليه.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) أي إن صفة عمل المنافق المرائي كصفة تراب على حجر أملس نزل عليه ماء مطر شديد، فأزاله وترك الحجر صلدا نقيا لا تراب عليه.

والوجه المشترك بينهما، أن الناس يرون أن لهؤلاء المرائين أعمالا كما يرى التراب على الصفوان، فإذا جاء يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله وذهب، لأنه لم يكن لله، كما يذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان، فيتركه أملس لا شيء عليه

(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي إنهم لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثمرة لا في الدنيا ولا في الأخرى، أما في الدنيا فلأن المنان المؤذى بغيض إلى الناس، كالبخيل الممسك، والمرائي لا يخفى على الناس فعله.

ثوب الزياء يشفّ عما تحته فاذا اكتسيت به فإنك عار وأما في الآخرة فلأن المنّ والأذى كالرياء مناف للإخلاص، ولا أجر عند الله إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرّون تزكية نفوسهم وإصلاح أحوالهم.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما فيه خيرهم ورشادهم، فإن الإيمان هو الذي يهدى قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها، والاحتراس من الإتيان بما يذهب فائدتها. وفي هذا تعريض بأن كلا من الرياء والمنّ والأذى من صفات الكافرين التي ينبغي للمؤمنين أن يتجنبوها.

[سورة البقرة (2): الآيات 265 الى 266]

ومَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

تفسير المفردات

ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضوانه، وتثبيتا من أنفسهم أي لتمكين أنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص، والجنة: البستان، والربوة المكان المرتفع من الأرض، وأشجار الربى أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وفعل الشمس فيها، وآتت أكلها: أي أعطت صاحبها أكلها، والاكل كل ما يؤكل والمراد هنا الثمر، وضعف الشيء مثله، والطلّ المطر الخفيف، والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها إلى السماء حاملة الغبار فتكون كهيئة العمود، والنار أي السموم الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمنّ والأذى، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، قفّى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم، فبضدها تتبين الأشياء.

الإيضاح

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوانه تعالى، وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها، كمثل جنة جيدة التربة ملتفة الشجر، عظيمة الخصب، تنبت كثيرا من الغلات، نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها مثلى ما كانت تغلّ، وإن لم يصبها الوابل فطلّ ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها، وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسّع في الإنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدره، فخيره دائم، وبره لا ينقطع.

وإنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم، ولم يقل لأنفسهم، لأن إنفاق المال وجه من وجوه التثبيت والطمأنينة، وبذل الروح وجه آخر، وكماله ببذل الروح والمال معا كما جاء في قوله سبحانه في سورة الحجرات « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ».

وقد هدانا الله بهذا إلى أن نقصد بأعمالنا طلب رضاه وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال، فإن نحن فعلنا ذلك جوزينا خير الجزاء.

(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو يجازى كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، وفي ذلك تحذير من الرياء الذي يظن صاحبه أنه يغشّ الناس بإظهاره خلاف ما يضمر.

فعليك أيها المنفق أن تخلص لربك الذي لا يخفى عليه ما تنطوى عليه سريرتك، ثم ضرب مثلا لمن ينفق ماله ويتبعه بالمنّ والأذى فقال:

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي هل يود الإنسان أن تكون له جنة معظم أشجارها الكرم والنخل - وهما أجلّ الأشجار وأكثرها نفعا - حاوية لأنواع أخرى من الثمرات، تجرى فيها الأنهار فتسقيها ماء غدقا، علّق بها آماله، ورجا أن ينتفع بها عياله، وقد أصابه الكبر وأقعده عن الكسب، وله ذرية ضعفاء لا يستطيعون أن يقوموا بشأنه وشأنهم، ولا مورد له غير هذه الجنة.

وبينا هو على تلك الحال إذا بجنته قد أصابها إعصار فأحرقها بما فيه من سموم النار وهو أحوج ما يكون إليها، وبقي هو وأولاده حيارى لا يدرون ماذا هم فاعلون؟

وهكذا حال من يفعل الخير ويبذل المال ويحبط عمله بالرياء أو بالمنّ والأذى، فإنه يأتي يوم القيامة وهو أشد ما يكون حاجة إلى ثواب ما بذل، لكنه يجد إعصار الرياء والمنّ والأذى أبطل ما فعل من الخير وجعله هباء منثورا فأصبح يقلب كفيه نادما ولات ساعة مندم.

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره، والنخل بشجره، لأن كل شيء في النخل نافع للناس في شئون معايشهم، سواء في ذلك ورقه وجذوعه وأليافه وعثا كيله فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغيرها.

والمراد بقوله (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) مع كون الجنة من نخيل وعنب - المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي مثل هذا البيان بضرب الأمثال التي بلغت الغاية في الوضوح - يبين الله لكم دلائل شريعته وأسرارها وفوائدها وغاياتها، لتتفكروا فيها وتعتبروا بما اشتملت عليه من العبر، فتضعوا نفقاتكم في مواضعها، وتقصدوا بها أن تكون خالصة لوجهه تعالى بدون رياء ولا أذى.

[سورة البقرة (2): آية 267]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

تفسير المفردات

الطيب: هو الجيد المستطاب، وضده الخبيث المستكره، ولا تيمموا أي لا تقصدوا، وتغمضوا أي تتساهلوا وتتسامحوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وحميد أي مستحق للحمد على نعمه العظام...

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص لله فصد تزكية النفس والبعد عن الرياء، وما يجب أن يتحلى به بعد البذل من البعد عن المنّ والأذى على أبلغ وجه وآكده، وفيه الإرشاد إلى ما يختص بالباذل وبطرق البذل.

أشار هنا إلى ما ينبغي أن يعني بشأنه في المال المبذول وهو أن يكون من جيد أمواله وأحبها إليه ليتم الإرشاد والنصح في وجوه البذل والنفقة في سبيل الله.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها قال تعالى: « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ».

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصّوه بالإنفاق منه.

وقد روى في سبب نزول الآية أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر (أي رديئه).

وروى من وجه آخر أن الرجل كان يعمد إلى التمر فيضرمه، ثم يعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، وكما نهينا عن تعمد تخصيص الصدقة بالخبيث، نهينا عن تكليف المتصدق بدفع الجيد من ماله فحسب، فقد قال ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن « أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم »

فالواجب أخذ الوسط (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموص الحق، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدي، لأن إهداءه يشعر بقلة الاحترام لمن أهدى إليه، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه، أو لخوف الحق، والله لا يحتاج فيغمض.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن الله غني عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه، ومن الحمد اللائق بجلاله تحرّى إنفاق الطيب مما أنعم به

[سورة البقرة (2): الآيات 268 الى 269]

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)

تفسير المفردات

يعدكم أي يخوّفكم، والفقر: سوء الحال وضيق ذات اليد، ويأمركم أي يغريكم، والمراد بالفحشاء هنا البخل، والمغفرة الصفح عن الذنب، والفضل الرزق والخلف، والحكمة العلم النافع الذي يكون له الأثر في النفس، فيوجه الإرادة إلى العمل بما تهوى مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة

المعنى الجملي

بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له: لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر

الإيضاح

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي إن الشيطان يخوّف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل، ويخيّل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان، وسمى ذلك التخويف وعدا [وَالوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يضف مجىء الفقر إليه ] مبالغة في الإخبار بتحقق وقوعه، وكأن مجيئه بحسب إرادته وطوع مشيئته.

(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) أي إن الله وعدكم على لسان نبيكم، وبما أودعه في الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر - مغفرة لكثير من خطاياكم، وخلفا في الدنيا من جاه عريض، وصيت حسن بين الناس، ومال أزيد مما أنفق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ».

روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: « ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا » ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف أن يسهل له أسباب الرزق، ويرفع شأنه عند الناس، والبخيل محروم من مثل هذا. ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف أن يذهب ماله حيث لا يفيده.

(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إن الله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون، وهو عليم بما تنفقون، فلا يضيع أجركم، بل يجازيكم أحسن الجزاء (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) أي إنه تعالى يعطى الحكمة والعلم النافع المصرّف للإرادة لمن يشاء من عباده، فيميز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، وفهم الأمور على حقيقتها - ومن أوتى ذلك عرف الفرق بين وعد الرّحمن ووعد الشيطان، وعضّ على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا.

وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات - لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق.

والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع مالها من المعاني، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم، ويرشده إلى هداية العقل، ووجيهه الوجهة الصحيحة - فقد هدى إلى خيري الدنيا والآخرة، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء، ويعدّها لتنفيذ ما يرغب فيه، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسوّاه، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها، اعتقادا منه أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وبهذا يستريح باله، وتهدأ ثائرته، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالي والأيام.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به، ويجعل الإرادة مصرفة له، خاضعة لمشيئته، إلا ذوو العقول السليمة، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة، وبه سعادتها، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى - حشرنا الله في زمرة أولئك

[سورة البقرة (2): آية 270]

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)

تفسير المفردات

النذر في اللغة: العزم على التزام شيء خاص فعلا أو تركا. وفي الشرع التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تعالى حكم النفقة والبذل في سبيله - عمم الحكم هنا في كل نفقة، سواء أكانت في طاعة أم في معصية، وبين أن الله عليم بها ومجاز عليها. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فعلينا أن نختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه ربنا عنا.

الإيضاح

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في خير أو شر، صادرة عن إخلاص أو عن رياء، أتبعت بمنّ أو أذى أو لم تتبع بذلك، سرا كانت أو علانية.

(أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) في طاعة أو في معصبة فهو قسمان:

(1) نذر قربة وبرّ، وهو ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى كأن ينذر بذل مقدار معين من المال، أو صلاة نافلة، كقوله إن شفى الله مريضى فلله علي أن أتصدق بكذا.

(2) نذر لجاج وغضب، وهو ما يقصد به حث النفس على شيء أو منعها عنه، كقولك إن كلمت فلانا فعلي كذا.

واتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالأول، وهو مخير في الثاني بين الوفاء بما التزمه، وكفارة يمين. وكل هذا إن كان النذر في طاعة، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فإن نذر فعل معصية جرم عليه فعله، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله ﷺ: « النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفره ما كفر اليمين ».

ومن نذر مباحا فعله، لأن فسخ العزائم من ضعف الإرادة، ومن ثم أمر النبي ﷺ من نذرت أن تضرب بالدّف وتغني يوم قدومه بالوفاء.

(فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) ويجازى عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل، أو من رذيلة المن والأذى، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة - من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم، وهذا كقوله: « ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ».

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لأولئك الباخلين بمالهم من المسلمين على المصالح العامة التي فيها خير للأمة، وفيها سعادتها وعزها، فالمال هو قطب الرحى، وعليه تدور مصالح الأمم في هذا العصر عصر المال، ومن ثم تدهورت الأمم الإسلامية وصارت في أخريات الأمم مدنية ورقيّا وحضارة وتقدما، وفشا الجهل بين أفرادها، وأصبحت في فقر مدقع، وقد كان في مكنتهم أن ينشلوها من وهدتها، ويرفعوها من الحضيض الذي وصلت إليه يبذل شيء من المال الذي يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، والفضل الكبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[سورة البقرة (2): آية 271]

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الله يعلم ما تنفقون ويجازيكم عليه إن خيرا وإن شرا - بيّن هنا سبيل إعطاء الصدقات، وما يتبع في ذلك من السر والعلانية، وأيهما الأفضل.

الإيضاح

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي إن تظهروا الصدقات فنعم عملا إظهارها، لما فيه من الأسوة الحسنة، فيقتدى بالمتصدق كثير من الناس، ولأن الصدقة من شعائر الإسلام التي لو أخفيت لتوهم منعها.

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تعطوها الفقراء خفية فهو أفضل، لما في ذلك من البعد عن شبهة الرياء، ولما دلت عليه الآثار والأحاديث، أخرج أحمد عن أبي أمامة « أن أباذر قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ ثم قرأ الآية ». وروى الطبراني مرفوعا « إن صدقة السر تطفئ غضب الرب » وروى البخاري: إن من السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم القيامة، إذ لا ظل إلا ظله « ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ». وعن ابن عباس رضي الله عنهما: صدقة السر في التطوع نفضل على علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا، وهكذا الحكم في جميع الفرائض والتطوع وقال أكثر العلماء: إن أفضلية السر على العلانية إنما هي في التطوع لا في الفريضة، فإن إظهارها أفضل لإظهار شعيرة من شعائر الدين، وقوة الدين بإظهار شعائره، ولما في ذلك من القدوة الحسنة، ولأن احتمال الرياء بعيد في أداء الفرائض، بل قالوا أيضا: إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته ولو كانت تطوعا.

والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة - أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والاقتداء، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب، وقد جرت عادة الجميعات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا.

وقد فهم من قوله (الفقراء) ولم يقل فقراءكم أعنى المسلمين - أن صدقة التطوع تعطى للمسلم والكافر والبر والفاجر، لأن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شيء فقد ورد في الصحيحين: « في كل ذي كبد حرّى أجر » أي في جميع الأحياء وتمنع الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام عن الكافر. ومثلها زكاة الفطر. كما فهم من التصريح به أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه، إذ يدعى الغني الفقر، ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، فعلينا أن نجزى ونعطى الفقراء حقا لا مدعي الفقر.

(وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم، لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب.

(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان، فالله خبير به، عليم بأمره، ومجازيكم عليه، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا.

وقد روى أنه لما نزل قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية قالوا يا رسول الله: أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت الآية (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ...) إلى آخرها.

[سورة البقرة (2): الآيات 272 الى 273]

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

تفسير المفردات

الهدى ضربان: هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة، وهو على الله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو على النبي ﷺ، وابتغاء وجه الله طلب مرضاته، أحصروا منعوا وحبسوا في طاعته لغزو أو تعلم علم، ضربا في الأرض أي سيرا فيها للكسب والتجارة، والتعفف إظهار العفة وهي ترك الطلب ومنع النفس مما تريد، والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء، وإلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغي التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلّته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود. أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله ﷺ « لا تصدّقوا إلا على أهل دينكم » فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهي عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث.

(وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن في الأمة.

وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.

(وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله: « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ».

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقي أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته - لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا.

وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

ثم بين أحق الناس بالصدقة فقال:

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا) أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هي من أجلّ الأوصاف قدرا:

(1) الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وتجب نفقتهم في بيت المال، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية في العصر الحديث، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحلّ له الأخذ من الصدقة.

(2) العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ).

(3) التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدي الناس، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).

(4) أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فربّ سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رثّ الثياب، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بزّة فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ).

(5) ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى - أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال « ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ».

والسؤال محرم لغير ضرورة، روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: « لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي » والمرة بكسر الميم القوة، والسوي هو السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب. وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله ﷺ قال: « من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: ما يغدّيه أو يعشّيه ». وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ منه أو ليستكثر ». وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدّق منه ويستغنى به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ». فمن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل - لا يعطي شيئا، فقد رأى عمر رضي الله عنه سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر فيه فإذا هو خبز، فأمر أن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة.

وقد روي أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله، ولم يكن لأكثرهم مأوى، لذلك كانوا يقيمون في صفّة المسجد (موضع منه مظلّ) وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن. وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به، وحفظ الدين بحفظه، وكانوا يحفظون بيان النبي ﷺ له بسنته القولية وسنته العملية.

وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وقف يوما على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: « أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائي ».

ولا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا، فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان، وإن كان بعضهم قد يتزوج. وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل - أصلا في الكتاب والسنة « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ».

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له في العمل، ولا تحرى النفع به وإيتاؤه أحق الناس به، فهو يجازى عليه بحسب هذا. ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

[سورة البقرة (2): آية 274]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم، وللامة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها، وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة في أعين الأمم الأخرى، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا، بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك.

الإيضاح

المعنى - إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك، لهم ثوابهم عند ربهم في خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.

ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع في قلوبهم، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم، أو أشبعوا بطن جائع، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

وإنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.

وقد روى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار، عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية.

وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علي كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، فقال له رسول الله ﷺ: « ما حملك على هذا؟ قال: حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدنى، فقال له رسول الله ﷺ: ألا إن ذلك لك ».

[سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 281]

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

تفسير المفردات

يأكلون: أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله، والخبط: الضرب على غير اتساق، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى: هو يخبط خبط عشواء [العشواء الناقة الضعيفة البصر] والمسّ: الجنون، يقال مسّ الرجل فهو ممسوس إذا جنّ، والموعظة: العظة والزجر، والمحق: نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر، ويربى: يزيد ويضاعف، لا يحب: أي لا يرتضى، والكفار: المقيم على الكفر المعتاد له، والأثيم: المنهمك في ارتكاب الآثام، اتقوا الله: أي قوا أنفسكم عقابه، وذروا: أي اتركوا، فأذنوا: أي فاعلموا، بحرب من الله: أي بغضب منه، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كل عصر، لا تظلمون: أي لا تفعلون الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بنقص شيء من رأس المال، العسر: الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع، والنظرة: الانتظار، والميسرة: اليسار والسعة.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله - وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.

وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.

الربا ضربان: ربا النسيئة، وربا الفضل فالأول: يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير: إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال: أخر عنى دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه ا هـ.

والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث « لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده »

والثاني: يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصرى بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما جاء في الخبر من قوله ﷺ « لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق (الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ». والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.

أسرار تحريم الربا

زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة، ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغنى لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.

وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا نتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء؟.

وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عاثقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى: « فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » وقال: « فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ».

فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا، وكان الدين وحده هو العاصم لنا. فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.

فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.

ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلي:

(1) إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.

(2) إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.

ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.

(3) إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال ﷺ « حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ». ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.

(4) إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير « إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ ».

والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليو سنة 1951 وقد جاء فيها: أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.

فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له، والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.

فهل يطيب لكم أن تدرسوا معى المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟

إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.

نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.

ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته « وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله » هذه كما ترونها موعظة سلبية: أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (16 - 67) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.

أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر (2 - 219) حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة (4 - 43).

وكذلك لم يجىء النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة (2 - 130) وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » (2 - 278 - 281).

هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التأريخي.

وإنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرق بين الربا الفاحش وغيره (وهي الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ قدم في علوم القرآن) لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامي بعد أن تقدم إلى نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع على أعقابه ويتدلى إلى وضع غير كريم، بل إنها قلبت الوضع التأريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية، بينما هو لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف في ذلك محدّث ولا مفسّر ولا فقيه.

على أنا لو فرضنا المحال ووقفنا معهم عند هذا النص الثالث، فهل نجد فيه ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال، والربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا، فإنه قبل كل شيء لا دليل في الآية على أن كلمة الإضعاف شرط لا بد منه في التحريم، إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلى تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقلّ عنها في الشذوذ. ومن جهة أخرى فإن قواعد العربية تجعل كلمة « أضعافا » في الآية وصفا للربا لا لرأس المال كما قد يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين، ولو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ 600 من رأس المال. بينما لو طبقنا القاعدة العربية على وجهها لتغير المعنى تغيرا تاما بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضى النص الذي يتمسكون به.

أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة. ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقي للكلمة. أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع.

وبعد، فإنا لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالى، لأن الذي يعني رجل القانون في تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له - تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين، إذ تأذن للغني بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟.

إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة، فإن الرسول صلوات الله عليه لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد في القرآن الكريم، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية.

والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة في تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما. ا هـ ببعض تصرف.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) يقال لمن يتصرف في شيء من مال غيره، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول.

والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضريت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك في الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة. والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ.

وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.

وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا: « إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول - الخيانة في مغنم وغيره - فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ».

وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون، وكذلك يعتقدون أن الجني يمسّ الإنسان فيختلط عقله، ويقولون رجل ممسوس: أي مسه الجن، ورجل مجنون: إذا ضربته الجن، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات.

فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه، كما جاء قوله تعالى في وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار « طلعها كأنّه رءوس الشّياطين » وما رأى أحد رءوس الشياطين، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.

تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال: « وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ».

إذ في البيع ما يقتضى حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه - ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله - فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم، وبلوغه الموعظة من ربه، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم.

(وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم، فهم أهل النار خالدين فيها.

والخلود هنا المكث الطويل، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى.

ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا - إيثار لحب المال أو اللذة به، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث « لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ».

فالذي يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين، وإن أنكر ذلك بلسانه، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.

(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، فلا ينتفع به أحد من بعده، ويضاعف ثواب الصدقات، ويزيد المال الذي أخرجت منه.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ».

وقال العلماء: المراد بالمحق ما يلاقي المرابى من عداوة المحتاجين، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، فقد قام الفقراء يعادون الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم. فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه، بل عن أهله وولده، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة.

وقصارى ذلك - إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان، والحب الشديد للمال، ومقت الناس له، وكراهتهم إياه، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة، وهي أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدر الخير لهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع، فكان كمن محق ماله وهلك.

وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وقد تقدم إيضاح هذا.

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال، لأنه لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسى به المحتاجين من عباده، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم، وأخذ أقواتهم، وامتص دماءهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين - وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان - وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه، وحبه لربه ومراقبته له، فتسهل عليه طاعته في كل شيء، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر - وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات النفسية والبدنية - لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء، ولا يحزنون على ما فات، ولا يخافون مما هو آت.

وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه.

وقد عهد في كلام العرب أن يقال: إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف.

وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من قوله ﷺ « لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ».

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه.

وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها.

وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس.

وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين، فلكم رءوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء، ولا تنقصون منها شيئا، بل تأخذونها كاملة.

روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بنى المغيرة كانا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا).

وأخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي ﷺ على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله ﷺ فنزلت فكتب بها رسول الله ﷺ إلى عتاب وقال: « إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب »

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين.

روي أن بني المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أصل نصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه. وفي هذا حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر، لما فيه من التعاطف والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة، كما يرشد إلى ذلك الحديث: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ».

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.

وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.

ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال:

(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.

والخلاصة - إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم.

عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله ﷺ بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل أحدا وثمانين يوما.

[سورة البقرة (2): الآيات 282 الى 283]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

تفسير المفردات

تداينتم: داين بعضكم بعضا، إلى أجل مسمى: أي موعد محدود بالأيام والشهور والسنة ونحوها مما يفيد العلم، لا بالحصاد وقدوم الحاج مما فيه جهالة، بالعدل أي بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين، ولا يأب أي لا يمتنع، كما علمه الله أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق، وليملل أي وليلق على الكاتب ما يكتبه والإملال والإملاء بمعنى، يقال أملّ على الكاتب وأملى عليه، ولا يبخس أي ولا ينقص، سفيها أي ضعيف الرأي لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله، أو ضعيفا أي صبيا أو شيخا هرما، أو لا يستطيع أن يملّ أي بأن كان جاهلا أو ألكن أو أخرس، واستشهدوا شهيدين أي اطلبوا أن يشهد رجلان، ترضون أي ترضون دينهم وعدالتهم، أن تضل أي تخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها، ولا تسأموا أي لا تملوا ولا تضجروا، أقسط أي أعدل، وأقوم أي وأعون على إقامتها على وجهها، وأدنى أي أقرب، ألا ترتابوا أي إلى انتفاء الريب في جنس الدين وقدره وأجله، تديرونها أي تتعاطونها بالتعامل يدا بيد، الجناح الإثم والذنب ولا يضارّ أي ولا يفعل الضرر بالمتعاملين بالامتناع عن الكتابة أو الشهادة أو بالتحريف أو الزيادة أو النقص، فسوق أي خروج عن الطاعة، والرهان واحدها رهن بمعنى مرهون.

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهي عن الربا لما فيه من القسوة - ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه، إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة، وينهى عن ترك الربا لا بدّ له من كسب ينّمى ماله ويحفظه من الضياع، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه.

وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله، ولا مذموما في دين الله، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.

وكأنّ هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، والتشديد في تحريم الربا، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعض الأديان السابقة وكأنه يقول: إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال، وتنفقوا منه في وجوه البر والخير، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء خوفا من ضياعه بقوله: « وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا » أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم.

روى أحمد والطبراني حديث عمرو بن العاص « نعمّا المال الصالح للمرء الصالح » وإنما يذم المال إذا استعبد صاحبه، فبخل في إنفاقه، واشتط في جمعه من الحلال والحرام، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم [ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل ] ويسميه العامة (الغاروقة) وبيع الأعيان إلى أجل معين - أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها.

وقد تبين الله تعالى كيفية الكتابة، ومن يتولاها فقال:

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي وليكن الكاتب الذي يكتب لكم الديون عادلا يساوى بين المتعاملين، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا، وكان عادلا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.

وقدم صفة العدالة على صفة العلم، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغي أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.

وفي ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصّنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه.

وفي التعبير بقوله (ولا يأب) رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس، إذا دعى إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبّى الدعوة، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال:

(فليكتب) وهذا الأمر بعد النهي عن الإباء كالتأكيد، لأن الموضوع هامّ لتعلقه بحفظ الحقوق، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولا.

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة.

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال، بأن يذكر ما عليه كاملا، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوى بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب.

ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال:

(وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه، وعرضة للطمع، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شيء من الحق، أو الإبهام في الإقرار الذي يملى على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة.

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص.

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أي واطلبوا أن يشهد على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله: « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ».

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: البيّنة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين، فليستشهد رجل وامرأتان.

(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، وإنما جىء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، ومن ثم فوّض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي حذر أن تضل إحداهما وتخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى.

وخلاصة هذا - أنه لما كان كل منهما عرضة للخطأ والضلال: أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى وتتم شهادتها، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى، ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغي أن يتبع في نحو هذا.

أما الرجلان فيفرق بينهما، فإن قصر أحدهما أو نسى شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق.

وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوى تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم. لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي ولا ينبغي للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة.

روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها، فالامتناع عن كل منهما محرم، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعى إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه.

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ) أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين، قليلا كان أو كثيرا، مبينين بذلك أجله المسمى.

وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير، وعلى أنه لا ينبغي التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شيء منها، وهذا قاعدة من قواعدة الاقتصاد في العصر الحديث، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات.

ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس، وأثلج للقلب قال:

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها.

وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها.

وقوله: أدنى ألا ترتابوا أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات - وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطى بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك، إذ لا يترتب عليه شيء من التنازع والتخاصم.

وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه، وهذا منتهى الرقى المدني، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد، فاكتفى بالإشهاد.

أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود، إذ هي مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أصل يضارّ يضارر (بكسر الراء) وهذا نهى للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما، ويؤيده قوله بعد (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم، ولو لا هديه لكم لم تعلموا شيئا، وهو العليم بكل شيء، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه.

وجاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع ما تضمنته من الأحكام - وهذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها أحكاما، وفيها مبالغة في التوصية بحفظ المال وصونه من الضياع، ليتمكن المرء من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عما يوجب سخطه من التعامل بالربا وغيره، ومن المواظبة على تقواه التي هي الوسيلة لكل فوز وفلاح.

ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال:

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة، أولم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا، فاستوثقوا برهن تقبضونه.

وذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن في غير ذلك، فقد رهن النبي ﷺ درعه في المدينة ليهودي بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.

وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر، لا في مواطن الإقامة، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، فليؤدّ المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به، وليتق الله ربه فلا يتخوّن من الأمانة شيئا، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى، وسمى الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به.

والآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هي الأصل، والعزيمة للاحتياط في الديون - وهذه الآية رخصة أباحها الله لناحين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه في مثل هذه الحال، فالله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلّته إذا هو ائتمنه.

ثم أكد وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) بقوله:

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي ولا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب.

وسرّ هذا التأكيد أن الكتّاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم، فعليهم ألا يقصروا في ذلك، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع.

ونسب الإثم إلى القلب، لأنه هو الذي يعى الوقائع ويدركها ويشهد بها، فهو آلة الشعور والعقل، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا »

فأسند إلى الفؤاد: أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر. ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد. والآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضرّ غيرها.

وكل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين، والكتابة أقوى من الشهادة، والشهادة عون لها، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكّر واطمأن قلبه كما قال: « ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا » للكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هي، فهي التي يرجع إليها ويعمل بها.

[سورة البقرة (2): آية 284]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

المعنى الجملي

جاءت هذه الآية متممة لقوله: « وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ودليل عليه، لأن كل شيء هوله، وهو خالقه فهو العليم به، ونحو الآية قوله: « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ». وإذا كان كل شيء في السموات والأرض له، فهو يعاقب من كتم الشهادة، لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله:

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر الآية، إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه، فإن شاء عفا عمن أجرم، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواه على ذلك.

الإيضاح

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شيء منهما فلا يعبد فيهما سواه، ولا يعصى فيما يأمر وينهى، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف.

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان لأنه « يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان، وحركات الأبدان.

والمراد بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الأشياء التي لها قرار في أنفسكم، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما - ذاك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازى به، لأنه مشى معها قدما باختياره، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها، فالمظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه.

وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعي في إزالة نعمته، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها - وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هي آثار لها، إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة.

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله ﷺ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فأتوا رسول الله ﷺ ثم جثوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق - الصلاة والصيام والجهاد والصدقة - وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؟ فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها « آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ » الآية، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها » إلى آخرها.

وقوله نسخها الله: أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر.

وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها، وأثرت في قلوبهم عاداتها، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به. وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.

(فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل، ومن العدل أن يجازى المسيء بقدر إساءته، والمحسن على قدر إحسانه، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد، ولا يضاعف السيئة. والذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة - اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين « رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

ومحاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة، ويسألهم لم فعلوها؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله يغفرها له، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها، وهو المختار يفعل ما يشاء. ولا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنه قال: أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.

[سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

تفسير المفردات

لا نفرق بين أحد من رسله: أي إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء لا يفضل بعضهم بعضا، سمعنا: أي سماع تدبر وفهم، والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة، والوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، والاكتساب يفيد الجد في العمل، والمؤاخذة المعاقبة لأن من يراد عقابه يؤخذ بالقهر، ما لا طاقة لنا به: أي ما لا قدرة لنا عليه ويشقّ علينا فعله، والإصر: العبء الثقيل يأصر صاحبه ويحبسه مكانه، إذ لا يطيق حمله لثقله، والمراد به التكاليف الشاقة، مولانا: أي مالكنا ومتولى أمورنا.

المعنى الجملي

افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه، وأنه هدى للمتقين، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، وحاجّ الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد - وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه وللمؤمنين، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم، وميزهم بالفطر السليمة والخلق الكامل، وطهر نفوسهم وزكاها من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة، وفازوا بخيري الدارين، وهذا منتهى الكمال الإنساني، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر.

الإيضاح

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي صدّق الرسول بما جاء به الوحي من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان، وتخلّق به كما قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن، وكذلك المؤمنون من أصحابه.

وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وعلت هممهم فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمة مما شهد لهم به أعدى أعدائهم، وسجله لهم التاريخ في سجلّ الدول العظيمة الرقي والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد وجعلها تتنفس في جوّ من الحرية لم تر مثله - وكفى بالله شهيدا لهم.

(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته، وتمام حكمته في نظام خليقته، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله.

وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله - بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله: « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ » الآية.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى: « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ » إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة.

وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وقالوا بلّغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه.

والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة، ويأبون إلا الكمال، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا:

(غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال. وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة، وبهذا يمّحى أثر الذنب من النفس في الدنيا، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية.

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة، وهو كقوله: « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله، ولا يصعب عليهم عمله. وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) من المشقة والتعسير.

(لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل، وعليها ضرّ ما جدّت فيه من شر. وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير، وتفعل الشر بالتكلف والتأسى، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان، ولا يحتاج إلى مشقة في فعله بل يجد لذة في عمله، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله، لأن شكر المنعم مغروس في طبعه. وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها، ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها ممقوتة في نظر الناس، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم. فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر، فتراه يشعر بقبحه، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له: لا تفعل، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه. والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».

والخلاصة - إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر.

وفي هذا ترغيب في عمل الخير، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته.

وبعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة، وطلبهم المغفرة مما يتّهمون به نفوسهم من التقصير، وذكر فضله على عباده في عدم تكليفهم ما لا يطيقون - علمهم ما يدعون به ربهم فقال:

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا)

علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه، وإحسانا علينا، إذ كان ينبغي العناية والاحتياط والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، أو يقل وقوعها منا، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة.

ذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء، وترك إجالة الفكر فيه، ليستقر في النفس، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمه، ويؤاخذ الناس بعضهم بعضا بالنسيان، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك.

وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروّى، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية.

وبهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ.

والخلاصة - أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله ورجاء فضله، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير.

وما رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس مرفوعا « إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فهو وعد من الله بالتجاوز عنها يوم القيامة رحمة منه وفضلا.

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبني إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو من ذلك.

وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشقّ علينا كما صرح بذلك في قوله: « وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر، فيجب علينا أن نشكره لذلك، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات أو من البلايا والمحن، ولا ما يشق علينا من الأحكام، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرّطين في دينهم.

(وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها.

(وَارْحَمْنا) بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين.

وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ (رَبَّنا) فاعف عنا مقابل لقوله (لا تُؤاخِذْنا) واغفر لنا مقابل لقوله (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا) وارحمنا مقابل لقوله (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة.

(أَنْتَ مَوْلانا) أي أنت مالكنا ومتولى أمورنا، فأنت الذي منحتنا الهداية، وأيدتنا بالتوفيق والعناية.

(فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا، فإنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب.

وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هي طريق الاستجابة، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان، مع مخالفة أحكام الشريعة، وتجافى السنن التي سنها الله، فهو بدعائه كالساخر من ربه، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.

ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته، وتنكبنا سنته في خليقته، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء، وكنا نحن الجانين على أنفسنا، المستحقين لهذا الخذلان.

فإذا اتخذ المسلمون العدّة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم، فقد ورد في الأثر: إن هذه الأمة لا تغلب من قلة.

وفّقنا الله إلى العمل بسنته، والسير وفق شريعته، إنه نعم المولى ونعم النصير.

خلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة

(1) دعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم.

(2) عدم اتخاذ أنداد له.

(3) ذكر الوحي والرسالة، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده، وتحدى الناس كافة بالإتيان بمثله

(4) ذكر أسّ الدين وهو توحيد الله.

(5) إباحة الأكل من جميع الطيبات.

(6) ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأحكام الصيام، والحج والعمرة، وأحكام القتال والقصاص.

(7) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله.

(8) تحريم الخمر والميسر.

(9) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.

(10) أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة.

(11) تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه.

(12) أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.

(13) وجوب أداء الأمانة.

(14) تحريم كتمان الشهادة.

(15) خاتمة ذلك كله، الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به.

وعلى الجملة فقد فصلت فيها الأحكام، وضربت الأمثال، وأقيمت الحجج، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه، ومن ثم سميت فسطاط القرآن.

سورة آل عمران

هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور:

(1) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به - فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا.

(2) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.

(3) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.

(4) إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.

(5) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله: « وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 9]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

تفسير المفردات

(الم) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأي الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هي حروف للتنبيه كألا، ويا، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان. ثلاثة) وتمد اللام والميم، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله: هو المعبود، والحي: ذو الحياة وهي صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة، والقيوم: القائم على كل شيء بكلاءته وحفظه، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم، وعبر عن الوحي مرة بالتنزيل، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه، ما بين يديه هي الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، والتوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق، وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهي كتب مختصرة في سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا. والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا، ألا ترى إلى قوله تعالى: « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ » والانتقام من النقمة وهي السطوة والتسلط، يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام واحدها رحم وهي مستودع الجنين من المرأة، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، والراسخون في العلم: هم المتفقهون في الدين، ومن لدنك: أي من عندك، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء، لا ريب فيه: أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله ﷺ وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي ﷺ: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال: ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّى كما يغذى الصبى، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله « الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » إلى آخر تلك الآيات.

ووجه الرد عليهم فيها - أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذي بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما: أي قامت به السموات والأرض وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحي وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبي مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال: إنه لا يخفى عليه شيء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به، وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين: فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة.

الإيضاح

(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه (مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين، فإنه أثبت الوحي وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم، وهذا تصديق جملى لأصل الوحي إليهم، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد ﷺ في جميع ما أخبر به، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها صحته فقط.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال: « وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك، ففي سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها - أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، ليكون هناك شاهدا عليكم، لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم - إلى أن قال لهم: وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها).

وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد.

(فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده).

إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة، والقرآن يثبت ذلك، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده، وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان أمرها، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، ولكن من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.

وأنزل الله الإنجيل على عيسى، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك، فإن التوراة كتبت زمن نزولها، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.

وخلاصة ذلك - إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته - ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وجاء في آية أخرى « الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان » والميزان هو العدل.

فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.

وقصارى ذلك - إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل - الفرقان والميزان - كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك - لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم - وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.

(إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه، ولا حال الكافر، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه - إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزّه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل « ليس في الإمكان أبدع مما كان ».

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة، بعيد من الاحتمال والاشتباه، ومتشابه وهو ضربان:

(1) ما يدل اللفظ فيه على شيء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.

(2) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.

وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله: « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ » وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته، ووصفه بالمتشابه في قوله: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا » بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال: « وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا » وقوله: « وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا » أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله - أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله: « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ».

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان:

(1) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة، وجعل قوله: والراسخون في العلم كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، واستدلوا على ذلك بأمور منها:

(ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.

(ب) أن قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.

وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بن كعب وعائشة.

(2) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله: (يَقُولُونَ آمَنَّا) كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون - وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة، وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله.

وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم، وبأن قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لا ينافى العلم، فإنهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب، فإن الجاهل في اضطراب دائم، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.

ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة - ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن، ولا يعلم تأويل ذلك: أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل من عالم الغيب، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، إنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة (الله).

أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلى حمله على ظاهره، ومثل هذا هو الذي يأتي فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم - هي تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كلّ حكمه كما تقدم، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه.

وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه، ولا يجوز لهم التهجم عليه.

وقد يخطر على البال سؤال وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟

أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها:

(1) إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به، إذ لو كان ما جاء في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد، لما كان في الإيمان به شيء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله.

(2) إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلى لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات، والدين أعز شيء على الإنسان، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شيء، ومن ثم قال والراسخون في العلم، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، إذ بحثه يستلزم النظر في الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند فهم المحكم، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هي الأصول، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب: إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغي للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال:

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، فيخافون أن يقعوا في الخطأ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ كثيرا ما يدعو « يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك » قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: « ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ».

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به، لأنك أخبرت به وقولك الحق، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 10 الى 13]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

تفسير المفردات

تغني: أي تنفع، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه، والدأب: العادة من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب، ثم غلب في العادة، والمهاد: الفراش، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه، والآية: العلامة على صدق ما يقول الرسول.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به - شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد ﷺ سواء كانوا من بني إسرائيل أم من كفار العرب - لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم في الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، فردّ الله عليهم بقوله: « وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال:

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد ﷺ وكفرهم بشريعته، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ودأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال:

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله ﷺ للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكّوا، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله ﷺ فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي ﷺ لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا له: لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي، وتساقون في الآخرة إلى جهنم سوقا، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين، وأجلوا بني النضير المنافقين، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال:

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم: لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها، لا لمثل من نعتهم الله بقوله: « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى، وقوله (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ترشد إلى السر في هذا الفوز، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة، وما أمكنها من تدبير واستعداد، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده، يرشد إلى هذا قوله تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم، وبالطاعة لرسوله، وكان هو القائد في تلك الواقعة - واقعة بدر - وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله، فنصرهم وفاء بوعده « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، والآخر لمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا، رأسهم عقبة بن ربيعة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين - وكانوا نحو ثلاثمائة - أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر « وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأي العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

تفسير المفردات

الشهوات: واحدة شهوة وهي رغبة النفس في الحصول، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه، والأنعام واحدها نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة، والمسوّمة: هي التي ترعى في الأودية والقيعان، والحرث: الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغي أن تجعل هي غاية الحياة، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) معنى تزيين حب الشهوات للناس، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا، وضارّا لا نافعا، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

المعنى - إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال: « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وقال: « كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ». وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى: « وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال:

(مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ).

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم في شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة، وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى: « أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث « الولد مجبنة مبخلة ».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع، وهي حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها:

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم، وقيل هي المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين، انظر إلى قوله تعالى: « سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية في جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة، والطرق التي تعنّ له، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله ﷺ « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا: المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية، يقال سام الدابة: رعاها، وأسامها: أخرجها إلى المرعى، كما قال تعالى: « وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ». وقال ابن جرير: المسوّمة: المعلّمة من السّومة وهي العلامة. قال النابغة:

بسمر كالقداح مسوّمات عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء - من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون، حتى لقد يتغالى بعضهم في ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهي مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله: « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء، فلا يستغنى عنهما حي من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المتاع ما يتمتع به، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال: « رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 17]

قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات، والتقوى: هي الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه، والمطهرة: الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا، والصبر: حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله، والصدق يكون في القول والعمل والوصف يقال فلان صادق في قوله، وصادق في عمله، وصادق في حبه، والقانتين: أي المداومين على الطاعة والعبادة، والمستغفرين بالأسحار: أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا - أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي قل لقومك وغيرهم: أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هي من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى يعطى امرأته حق غيرها، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال:

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسماني وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا. فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا، ففي مثلها يرغب. ومنهم من ارتقى إدراكه، وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله: « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع) نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم، العليم بسرهم ونجواهم، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال:

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين: ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك: « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة - إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به - هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال:

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهي:

(1) الصبر وأكمل أنواعه: الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة، وهو الحافظ لشرف الإنسان في الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع. وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: « وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار: أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح، والعمل وفق حدود الدين، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه، أو غرّ في معاملته لربه، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

[سورة آل عمران (3): الآيات 18 الى 20]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال: « ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة، بالقسط: أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان: منها الجزاء، والطاعة والخضوع، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله - وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت - والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا »

وحاجوك: جادلوك، وأسلمت: أي أخلصت، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة، البلاغ: أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء - ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به، والعدل في العبادات والآداب والأعمال، فعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله: « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله:

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط، ولا يخرج من الخليقة شيء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال:

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك، مخلصا في أعماله مع الإيمان من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين:

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره، ولا يجزى إلا به.

وخطب علي كرم الله وجهه قال: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين - والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر سنة 628 م، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته، ويمدنا بروح من عنده فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق، حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه، ويترك الإذعان لها - فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هي آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم - وقد كان النبي ﷺ يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له - بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات، وجئتهم بالحق - فقل لهم: أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له، معرضا عما سواه، أنا ومن اتبعني من المؤمنين.

والخلاصة - إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟) أي وقل لليهود والنصارى ومشركي العرب - وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة - أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟ ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه، ثم يقول له: أفهمتها؟

وفي ذلك تعيير لهم بالبلادة وجمود القريحة وتوبيخ لهم على العناد وقلة الإنصاف (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن أسلموا هذا الإسلام الذي هو روح الدين، فقد فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوى الضلال، فإن إسلامهم على هذا الوجه يستتبع اتباعك فيما جئت به، لأن من هذه حاله فهو مستنير القلب متجه إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى لاح له وظهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه فلن يضيرك ذلك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد أديته على أتم وجه وأكمله.

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ.

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 22]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

تفسير المفردات

المراد بالذين يكفرون هم اليهود خاصة، وقوله بغير حق أي بغير شبهة لديهم، وحبط العمل بطل، والبشارة والبشرى الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، واستعمالها في الشر جاء على طريق التهكم والسخرية.

المعنى الجملي

بعد أن بين في الآيات السابقة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركي العرب للنبي ﷺ، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ.

انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعيّر الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لا حقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة. وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم همّوا بقتل النبي ﷺ زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما همّ بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم.

وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجئوا إليه، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما، لا مع الأشخاص والأصناف.

أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح قال: « قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف، ثم قرأ الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم ».

(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شيء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.

ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلي أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة.

انظر إلى الفارق بين دعوة النبي ﷺ وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقاربه، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة. وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث « أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم » وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة: « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هي أحسن لمن هم في المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.

والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق.

فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن أحقّ بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز؟ كما قال تعالى: « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ - يحبسوك - أَوْ يَقْتُلُوكَ ».

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس، إذ هم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله، وذلك هو حبوطها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ثواب لها، بل قد أعد لهم العذاب الأليم، والخلود في الجحيم.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم - جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين.

وقد جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف:

(1) اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم.

(2) زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة ففي الدنيا بإبدال لمدح بالذم والثناء باللعن، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».

(3) دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

[سورة آل عمران (3): الآيات 23 الى 25]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

تفسير المفردات

ألم تر: استفهام لتعجيب النبي ﷺ من حالهم، والذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، والنصيب: الحظ، والكتاب: التوراة، ليحكم بينهم: أي ليفصل بين اليهود والداعي لهم وهو النبي ﷺ، والتولي: الإعراض بالبدن، والإعراض يكون بالقلب، والافتراء: الكذب، واليوم: هو يوم الحساب والجزاء، ما كسبت: أي ما عملت من خير أو شر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم - انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصى ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.

أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله ﷺ المدارس - مدرسة اليهود لدراسة التوراة - على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله ﷺ: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود - كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟ (وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها).

وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي ﷺ وهم ماضوا العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم، فقد زنى بعض أشرافهم وحكّموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.

وقوله نصيبا من الكتاب هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به.

فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية، وإنما كانت لغته المصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة، ومن ترجمها؟

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع، وقد كان من دواعى الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه، إذ هو أصل دينهم، وعليه بنيت عقيدتهم.

وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم في عامة أحوالهم.

وإنما جىء بكلمة (فريق) للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي ﷺ.

ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ) أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.

وخلاصة ذلك - إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم.

ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه - تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.

والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.

أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

والمراد بالأيام المعدودات هي أربعون يوما وهي مدة عبادتهم للعجل، وقال الأستاذ الإمام: إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء.

(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وقد أطمعهم وخدعهم ما كانوا يفترون على الله من نحو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه إلا تحلّة القسم (مدة قصيرة).

والخلاصة - إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأي ولا بالفكر، بل بالوحي من الله، والعهد منه كما قال في سورة البقرة « وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ ».

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون، واستعظام لما أعدّ لهم، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه، وأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمّع بما لا يكون.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاصّ، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهناك العدل الكامل، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شيء، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها، واستغرق وجدانها، كانت خالدة في النار، لأن عملها لم يدع للإيمان أثرا صالحا يعدّها لدار الكرامة، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح، أو استوى الأمران، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

تفسير المفردات

الملك: السلطة والتصرف في الأمر بيدك الخير: أي بقدرتك التي لا يقدر قدرها، الخير كلّه تتصرف فيه أنت وحدك، الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخال، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل والعكس بالعكس بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان.

المعنى الجملي

كان الكلام في حال النبي ﷺ مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشى في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبي ﷺ في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء.

روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله ﷺ مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الإيضاح

(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوي الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بني إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) للعزة آثار وللذل مثلها، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق.

والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدّوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي ﷺ والمؤمنين، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى: « يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ».

والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم، وما ذاك إلا لفشوّ الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، والسعي في إزالة طغيانه، وتحكمه في الرقاب والبلاد.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك، ولا يملكه أحد سواك، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله:

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز، وأن يذكّره بأن الخير كله بيده، فلا يعجزه أن يعطى نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ».

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي إنك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك.

والخلاصة - إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الموين (الليل والنهار) ما يكون سببا في نقص الآخر.

فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتى النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعهما ممن تشاء كبني إسرائيل، فما مثل تصرفك في شئون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر (والحياة والموت معنويان) والنخلة من النواة والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة (والحياة والموت حسيان).

(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر.

وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل.

قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث: قيل في تفسير ذلك: كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ولكن النطفة هي حيوانات حية، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حي من حي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم، فإذا قيل: إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حي من ميت فهذا صحيح، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم، لأنها تشير إلى أن الخلق شيء عادى يحصل يوميا بدليل ورودها بعد (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بالتعاقب وهذا شيء اعتيادى، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا.

والتفسير الحقيقي هو (إخراج الحي من الميت) كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميت، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى لحمها، وهذه أهم علامة على أنها حية، وكذا الطفل يتغدى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.

وأما إخراج الميت من الحي، فهو الإفرازات مثل اللبن (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات) فإن اللبن سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والله أعلم بمراده ا هـ.

وقد استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا.

وهذه العبارة - يخرج الحي من الميت - إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام.

وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام، وبها الإبداع والإحكام.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شيء عليك.

وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه.

(1) بمعنى التعب كما في هذه الآية.

(2) بمعنى العدد كما في قوله « إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »:

(3) بمعنى المطالبة كما في قوله « فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 28 الى 30]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

تفسير المفردات

الأولياء واحدهم ولي وهو النصير، تقاة: أي اتقاء وخوفا، ويحذركم: أي يخوفكم، والأمد: المدة لها حد محدود، محضرا: أي حاضرا لديها.

المعنى الجملي

بعد أن نبّه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء - أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجىء إلى غير جنابه.

وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر.

وروي عن ابن عباس أنه قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون (يلازمون) نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشئون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.

وخلاصة هذا - نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.

فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها، فقد حالف النبي ﷺ خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ) أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شيء، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ».

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية « أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التّقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقى ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه مليء بالإيمان وفيه نزلت الآية « مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ».

وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة: أتشهد إني رسول الله؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إني أصمّ (ثلاثا) فقدّمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائما، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى « فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » وقال: « فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ».

وكان النبي ﷺ وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه.

ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع فقد أخرج الطبراني قوله ﷺ « ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة » وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله ﷺ وأنا عنده فقال رسول الله ﷺ « بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة » ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة: « إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه » رواه البخاري.

وروى قوله ﷺ « إنا لنكشر (نبتسم) في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم » (تبغضهم).

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر (نفسه) الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شيء عنه.

وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته.

(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيجزى كلا بما عمل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوى عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادّونهم أو تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض، لأنه الخالق لها كما قال: « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ».

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه، إذ ما من معصية خفيّة كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها، فيكون ذلك غبطة وسرورا لها، وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته.

ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء « وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ».

(وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه ا هـ.

ومن رأفته أيضا أن جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.

[سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

تفسير المفردات

المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، فيدعوها ذلك إلى التقرب إليه، يغفر لكم: أي يتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة، فإن تولوا: أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد ذلك بالوعيد الشديد - ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه.

روي أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله ﷺ كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا « نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إني رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعوني وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض عنكم.

الإيضاح

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي قل لهم: إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده، فاتبعوني بامتثال ما نزل به الوحي منه إلي، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة، والاعتقادات الباطلة، ويبوئكم في جوار قدسه، إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله.

وهذا حجة على من يدعى محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه، فهو كما قال الورّاق:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحبّ مطيع

(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته، وتقرب إليه باتباع نبيه، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها.

روي أنه لما نزل قوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ...) قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله:

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي قل لهم: أطيعوا الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنته والاهتداء بهديه. وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته لأنه رسوله، لا كما يقول النصارى في عيسى.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه - فإن الله لا يحب الكافرين، الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 37]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

تفسير المفردات

الاصطفاء: أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمحرر: المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر، والتقبل: أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول، أعيذها بك: أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به، يقال عاذ بفلان إذا استجار به، والرجيم: أي المرجوم المطرود من الخير، ومريم بالعبرية خادم الرب، وتقبل الشيء وقبله: أي رضيه لنفسه، وأنبتها: أي رباها بما يصلح أحوالها، وكفلها زكريا: أي وجغل زكريا كافلإلها، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد، أني لك هذا: أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب، بغير حساب: أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول ﷺ وطاعته - ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.

الإيضاح

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم. فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى: « ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » وكان من ذريته النبيون والمرسلون. وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية. فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم. وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.

وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم، على نحو قوله تعالى « الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله: « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهي حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها، العليم بصحة نيتها وإخلاصها، وهذا يستدعى تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.

وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة، والأنثى لا تصلح لذلك.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور.

وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هي خير مما كانت ترجوه من الذّكران.

(وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي وإني غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، وإني أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.

روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « كل بنd آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها »

والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه ﷺ ولو بالوسوسة (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.

(وَأَنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي. وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأي.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.

روي أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.

(قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.

وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي ﷺ ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر. وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني، واصطفى إبراهيم وآله على البشر، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا ﷺ على العالمين كما اصطفى أولئك فالله يصطفى من خلقه من يشاء، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 38 الى 41]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)

تفسير المفردات

الذرية: الولد، وتقع على الواحد والكثير، والطيب: ما تستطاب أفعاله وأخلاقه، سميع الدعاء: أي مجيبه كما يقال: سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع، وكلمة الله: عيسى عليه السلام، والسيد الرئيس يسود قومه، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال، من الصالحين: أي من أصلابهم، والصلاح صفة تجمع الخير كله إني يكون لي؟ أي كيف يحصل لي، بلغني الكبر: أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ، عاقر: أي عقيم لا تلد، آية: أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر، ألا تكلم الناس: أي لا تستطيع الكلام، والرمز: الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه، والعشى: الوقت من الزوال إلى الغروب، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

الإيضاح

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد، وركب السفن، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس، وأنت إنما سمعته من واحد.

ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.

(وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي نادته بهذه البشرى، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم « إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو معرب يوحنا، ففي إنجيل متى: إنه يدعى يوحنا المعمدانى، لأنه كان « يعمّد » الناس في زمانه.

والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء:

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن لأمر قضاه الله في الناس من بدّ

فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.

(مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله (كُنْ فَيَكُونُ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة، ناشئا من أصلاب قوم صالحين، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.

روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.

ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب إني يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) قال الأستاذ الإمام: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها، والرازق لما عندها، هو من يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.

ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه واستجابة دعائه - سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله:

(قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته: كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال: رب اجعل لي علامة تدلنى على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء.

[سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 44]

وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

تفسير المفردات

الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال، والتطهير يعم التطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هي مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود، والقنوت: الطاعة مع الخضوع، والسجود: التذلل، والركوع: الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة والوحي جاء في القرآن لمعان:

(1) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى: « نُوحِي إِلَيْهِمْ ».

(2) وللإلهام كما قال تعالى: « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ».

(3) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى: « بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ».

(4) وللإشارة كما قال تعالى: « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ».

فالوحي تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها، ويختصمون: أي يتنازعون في كفالتها.

المعنى الجملي

هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم: « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا »

وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ »

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.

(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية، واختصك بولادة نبي دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده قوله ﷺ « سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون »

أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه ﷺ قال: « كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة ».

وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال:

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل الفضل والذين، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب ديني إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.

وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه ﷺ لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته، لأنه نشأ بين قوم أميين، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحي أو المشاهدة، والوحي ينكرونه، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.

ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » وقوله بعد قصة موسى وشعيب « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ».

والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم: إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد ﷺ وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها، حتى إن أعظمها وأشهرها وهي الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها، ولا الزمن الذي كتبت فيه، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 51]

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

تفسير المفردات

المسيح: لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية، والوجيه: ذو الجاه والكرامة، والمهد: مفر الصبى حين رضاعه، والكهل: من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين، والكتاب: الكتابة والخط، والحكمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع، والتوراة: كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه، والإنجيل: هو الكتاب الذي أوحى إليه به، والخلق: التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع، والهيئة: الصورة، والأكمه: الذي يولد أعمى، والأبرص: هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.

الإيضاح

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.

والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا »

وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شيء قد خلق بكلمة التكوين، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين - أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.

وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح، وعن الملك بالمسيح. والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد. وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها، إذ ليس له أب.

(وَجِيهًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام في النفوس، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شيء مما في أيديهم من متاع الحياة، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.

ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله يوم القيامة، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا، قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.

والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا، وعاش ثلاثين سنة، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.

والخلاصة - إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه، وأمره ونهيه.

(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي قالت: كيف يكون لي ولد وليس لي زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.

(قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب - يخلق الله ما يشاء.

ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل، وفي الثانية بيخلق، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال خلق الله السموات والأرض، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.

وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة - أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة، فالتعبير عنه بالخلق أليق.

(إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء. وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع، يفعل ما يطلب منه على الفور. وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب، وقوفا عند العادة، وذهولا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادا من قبل، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة. والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا. وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن - ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي ويعلمه الكتابة والخط، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة، ويعلمه أسرار أحكامها، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

(وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ويرسله رسولا إلى بني إسرائيل، روى أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا « إني قد جئتكم بآية من ربكم » ثم فسرها بقوله:

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إني أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا حيا كسائر الطيور بأمره تعالى، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة - إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن، إني أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق في جو السماء كما تفعل بقية الطيور.

وقد روي أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.

وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) وإنما خصا بالذكر، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.

وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في زمنه فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره، وأعطى محمدا معجزة القرآن، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان. وقد روي عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما.

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية: [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا]. والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شيء يعرفه، فإن لم يمكنه بقي متحيرا، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.

وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لا داعي للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هي (كن فيكون).

ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.

وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شيء مهمّ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة، لأننا نراها على أيدي أشخاص كثيرين، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا فالإنسان أوّلا يشك ويقول: ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى، ولكن الله يقول بعد ذلك: وأحيى الموتى لكي لا يدع مجالا للشك مطلقا. إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه خلق من نطفة الأم فقط، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.

وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا...

ثم قال: المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.

وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحصل المعجزات إلا على أيدي الأنبياء، وذلك لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي نفسه لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى... وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى، وأغلبها ينتهى إلى شيء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته، ومن أمكنه استعاضة شيء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية، وبواسطة أطباء العيون، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ.

وكذلك صنع أرجل جديدة، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول - إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا، وصنع واحدة كصنع الكل، وهذا معنى قوله تعالى: « لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ » ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط، ولكنها كلها من نوع واحد، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض: إن العلوم تتقدم، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة - وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي للمعجزات لم يفهم، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة - كما يسميها الطبيعيون - لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر - هو من الاستعانة بهذه القواعد فالذي يتكلم في أوربا ويسمعه آخر في مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر، وهي مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشىء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية.

أما المعجزة فهي أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة، وهي خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار.

وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار، والفرق بين الاثنين ظاهر، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع.

والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.

ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفي للآن شيء مدهش، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟

وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود.

ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية في ثقب فيها، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص، أيقن أن للأولى صانعا، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنساني كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها.

وصفوة القول - أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية، وهي لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريقة صنعها.

أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهي (طبيعي) ولذلك هو يتكرر دائما في الظروف نفسها على يد كل إنسان، انتهى كلامه بتصرف.

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل، وما تخبئونه للغد في بيوتكم، وقد كان يخبر الرجل بما أكل، وبما سيأكل.

والفرق بين إخباره بالغيوب، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبيائه ورسله، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيّه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدّعية علم ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتي، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به إني محق في قولي لكم إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به إني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها.

(وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي وجئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بني إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم، فأحلها عيسى كما قال تعالى: « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتي بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.

وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه.

ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال:

(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، ونظيره ما جاء في الحديث « قل آمنت بالله ثم استقم ».

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوي الذي أجمع عليه الرسل قاطبة، وهو الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 58]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

وأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

تفسير المفردات

في الأساس: أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر، وما أحسسنا منه خيرا، وهل تحس من فلان بخير، وفي الكشاف أحس: علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس، والأنصار: واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف، والحواريون: واحدهم حوارى، وحواري الرجل صفيّه وناصره، ومسلمون: أي منقادون لما تريده منا، والمكر تدبير خفي يفضى بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى: « وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ».

والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبّر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله، فكانت حاجة المربي أو القوّام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه، والتوفي: أخذ الشيء وافيا تامّا ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى: « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بني إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.

وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

الإيضاح

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي فلما شعر من قومه بني إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى: ما أكل فلان البارحة، وما ادخر في بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم. وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.

وفي هذا عبرة وتسلية للنبي ﷺ، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان.

وحين رأى منهم ذلك:

(قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟) أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف « كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ » أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى، وينخلعون عما كانوا فيه، وينصرفون إلى تأييد رسوله! (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي قال خاصة أصحابه وناصروه: نحن أنصار دين الله، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك. والمنصرفون عن التقاليد السالفة.

وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.

(آمَنَّا بِاللَّهِ) هذا جار مجرى السبب في نصره، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه، ومحاربة أعدائه.

(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون منقادون لأوامره.

وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلف الأنبياء في بعض صوره وأشكاله، وأحكامه وأعماله.

وإنما طلبوا شهادته، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) هذا تضرع إلى الله، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم.

(وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي وامتثلنا ما أتى به منك.

وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء، فإذا حاول العمل به لم يحسنه، ويتبين له أنه كان محطئا في دعوى العلم به.

(فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود، بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه، ورفع عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.

(وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.

(إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلي. وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم.

وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان:

(1) أن فيها تقديما وتأخيرا، والأصل: إني رافعك إلي ومتوفيك، أي إني رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك - وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.

(2) أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي.

والمعنى - إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي كما قال في إدريس عليه السلام « وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا ».

وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها.

ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة. ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.

فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار، وسنة الرسول ﷺ مبينة لذلك.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، وصدقوك في قولك « وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » ثم آمنوا بمحمد ﷺ بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك.

وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم.

وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم مصيركم إلي يوم البعث، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.

ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي - فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال:

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له، فهو يجازيه بما يستحق.

وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بني إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل.

وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة، وأسرار الاجتماع البشري.

وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران، ويهود بني إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئنهم به من الحق

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 63]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

تفسير المفردات

المثل: الحال الغريبة والشأن البديع، والامتراء: الشكّ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء، يقال ماله بهله الله: أي لعنه، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته: أي يدعوه، والقصص: تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى: « وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها، والعزيز: أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، والحكيم: ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.

أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.

وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.

والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.

وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.

وقد روي في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله ﷺ: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال:

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.

وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم - مما لا ينبغي أن يكون ولا يسلمه العقل.

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ ».

ثم أكد صدق هذا القصص فقال:

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.

وتوجيه هذا النهى للنبي ﷺ مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين:

(1) أنه إذا سمع ﷺ مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.

(2) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه ﷺ على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟

وخلاصة ذلك - دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي فقل لهم: أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.

وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم - إيذان بكمال أمنه ﷺ وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.

وقد ورد من طرق عدة أن النبي ﷺ دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله ﷺ فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا، فقالا له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس « أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله ﷺ منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة، فصالحوه على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم ».

وروي أن النبي ﷺ اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.

وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية: أن النبي ﷺ أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.

وفي الآية عبرة لمن ادّكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل.

وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شيء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.

وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندري ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الذي خلق كل شيء وليس كمثله شيء.

وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندّا له في ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساويه في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال المفسدين في الدين ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم، وسىء أعمالهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

تفسير المفردات

أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، تعالوا: أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه، وسواء: أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض، والإله: هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية، والربّ: هو السيد المربى الذي يطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل، مسلمون: أي منقادون لله مخلصون له، تحاجون: أي تجادلون، والحنيف: المائل عن العقائد الزائفة، والمسلم: هو الموحد المخلص المطيع له.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته ﷺ الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته.

دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم: اشهدوا بأنا مسلمون.

الإيضاح

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي قل: يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

ثم بين هذه الكلمة فقال:

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله - ألا نعبد إلا الله - ووحدانية الربوبية في قوله - ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله -. وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وجاء به موسى، فقد ورد في التوراة قول الله له (إن الربّ إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا، ففي إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد ﷺ بمثل هذا « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ».

وخلاصة المعنى - أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شيء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

وقد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهي مسألة كان لها أثر خطير في المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهي فرقة (البروتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

روى عدي بن حاتم قال: « أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ » فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال: أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم، فقال عليه السلام: هو ذاك ».

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحلّ إلا ما أحله الله، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله.

وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير، وإلا كان ذلك إشراكا في الربوبية، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ » وقوله « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ».

أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به، وعلى الرعية أن يقبلوه.

وهذه الآية هي الأساس والأصل الذي دعا النبي ﷺ أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية ».

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي أيها اليهود والنصارى: لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟.

(وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه).

وهو لم يكن على شيء من تقاليدكم، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد ﷺ، وإلى هذا أشار بقوله:

(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي وما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال، وقد قالوا: إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟.

وخلاصة ذلك - أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟.

وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر عيسى عليه السلام، وقد قامت عليكم الحجة، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته، ومنكم من فرّط وقال إنه دعي كذاب، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.

(فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟) من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد ﷺ؟.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم، أو أدركتم علمه بالسماع.

ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال:

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) أي إن اليهود والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم - كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى، إذ هو مطيع لله، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها، خاشع له بقلب متذلل، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

وصفوة القول - إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه - لم يكن على ملة أحد منهم، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية، مسلما لله، مخلصا له.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه: أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته - هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمد ﷺ والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.

وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال:

(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 74]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

تفسير المفردات

ودّ الشيء: أحبه، طائفة: أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد ﷺ، وتلبسون: أي تخلطون، وجه النهار: أي أوّله تقول: أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار، آمن له: صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف « وما أنت بمؤمن لنا » والفضل: الزيادة، والمراد به هنا النبوة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.

أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ».

روي أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

الإيضاح

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي ﷺ من الآيات البينات الدالة على نبوته، فهم يعبثون بعقولهم، ويفسدون فطرتهم باختيارهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم، وأنهم ألغوا عقولهم، فلم تفكر في الحجج التي آتاها الله لنبيه، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم. وفي نفي الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟) أي لأي سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد ﷺ وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده، والبشارة بنبي من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى « يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وتكتمون شأن محمد ﷺ وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم - يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل - إلى قوله واسع عليم.

ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول، بل هم قد فعلوا ذلك.

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد ﷺ عند ما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا).

وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها، ويكون ذلك وازعا لهم.

وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد ﷺ.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن، وما يصدر من سواهم قبيح.

وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا، وهم الذين أسلموا منهم، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضلّ له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) هذا من كلام اليهود، وجملة (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه.

والمعنى - لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

وتلخيص المراد - لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي ﷺ لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

وصفوة القول - ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي قل لهم: إن الرسالة فضل من الله ومنة، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق، فيعطيه من هو له أهل. وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بني إسرائيل، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 77]

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

تفسير المفردات

تأمنه، من أمنته بمعنى ائتمنته، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا، والمراد بالقنطار العدد الكثير، وبالدينار العدد القليل، والأميون: هم العرب، والسبيل: المؤاخذة والذنب، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا، ويشترون: أي يستبدلون، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة، والثمن القليل: هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل، ولا خلاق لهم: أي لا نصيب لهم، ولا يكلمهم الله: أي يغضب عليهم، ولا ينظر إليهم: أي يسخط عليهم ويستهين بهم، ولا يزكيهم: أي لا يثني عليهم

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

الإيضاح

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بني إسرائيل.

والخلاصة - إن أهل الكتاب طائفتان:

(1) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

(2) طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة. ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشd دينارا فجحده.

ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.

وخلاصة هذا - إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

فرد الله عليهم بقوله:

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين، ولا أكل أموالهم بالباطل، وهم يعلمون ذلك حق العلم، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأي والهوى، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: « لما نزلت (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي ﷺ: كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ».

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له في حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهد، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره.

والعهد ضربان:

(1) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

(2) عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

واليهود لم يفوا بشيء منهما، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي ﷺ واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر - محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.

وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.

وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأي من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهي الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم: لنؤمننّ به ولننصرنّه - ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا - أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.

قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا هـ.

وصفوة القول - إن الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.

فالوفاء بها آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.

والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي ﷺ جعله علامة النفاق فقال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان ».

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: « لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ».

فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله ﷺ وحكم الأمانات وغيرها، وأخذوا على ذلك الرّشا.

وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال: « كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها، فقدته إلى رسول الله ﷺ فقال: ألك بينة؟ قلت لا، فقال لليهودي احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) الآية ».

قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك، والعمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.

[سورة آل عمران (3): آية 78]

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

تفسير المفردات

لي اللسان بالكتاب: فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.

المعنى الجملي

بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

روي عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله ﷺ كثيرا الإيذاء له والإغراء به، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي ﷺ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

الإيضاح

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما، يفتلون ألسنتهم بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم.

وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي ﷺ يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.

وجاء في سورة النساء قوله تعالى: « مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ » فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.

وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

ثم أكد ما سبق بقوله:

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.

وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير).

فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

[سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 80]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

تفسير المفردات

البشر: الإنسان ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو جمعا، والحكم: الحكمة وهي فقه الكتاب ومعرفة أسراره، وذلك يستلزم العمل به، والعباد: واحدهم عبد بمعنى عابد، والعبيد: جمع لعبد بمعنى مملوك، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله، والربانيين واحدهم رباني وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ﷺ وقد دعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصراني من أهل نجران: أوذاك تريد؟ فقال رسول الله ﷺ: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فأنزل الله الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بلغني « أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين ».

الإيضاح

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا ينبغي لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمي الناس الكتاب.

ومعنى قوله من دون الله: أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى: « قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ».

ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة، ومن ثم قال تعالى: « فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ »

الآية.

فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا، ويقول ﷺ « قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معى غيري تركته وشركه، وفي رواية: فأنا منه بريء، هو للذي عمله » رواه مسلم وغيره.وقال ﷺ: « إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » رواه أحمد.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ومثال ذلك أن تقول: ما كان لمحمد أن أكرمه، ثم يهيننى ويستخفّ بي، وقد نقل عن مشركي العرب عبادة الملائكة « وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله » فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره، ومن ثم قال:

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له، إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة، وأرواحا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.

وأثر عن علي كرم الله وجهه أنه قال: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسّك، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.

وقال رسول الله ﷺ « نعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 81 الى 83]

وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

تفسير المفردات

الميثاق: العهد المؤكد الموثّق، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، وأخذتم: أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى: « إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » والإصر: العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

المعنى الجملي

سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد ﷺ بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم، وإظهارا لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبي من العرب. وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها، وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبي آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.

فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدّقه في الأصول التي هي واحدة في كل دين، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين، فمثل هذا قد يأتي في الشريعة الواحدة، ففي كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام، وآخر بإطعام الطعام، وما سبب هذا إلا حال الشخصين، فكل منهما أدى ما سهل عليه. ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.

وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم، وفي حال البلاد في اليسر والرخاء، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى، والقوانين صارمة في واحدة، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة. وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.

أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي ﷺ بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي ﷺ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.

وصفوة القول - إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد ﷺ والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى - أنه إذا جاء نبي بعده، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره. وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.

(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟) أي قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصر له، وقبلتم العهد على ذلك؟

(قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا أقررنا بذلك، قال الله تعالى: ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم، لا يعزب عن على شيء.

وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد ﷺ، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء.

وبعد أن بين أن دين الله واحد، وأن رسله متفقون فيه - ذكر حال منكري نبوّة محمد ﷺ فقال:

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة في السر والعلن، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟

وصفوة القول - إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.

وفي هذا وعيد وتهديد لهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 85]

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)

تفسير المفردات

الأسباط: الأحفاد واحدهم سبط وهم أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، مسلمون: أي مستسلمون منقادون بالطاعة له فيما به أمر وعنه نهى، والخسران: ذهاب رأس المال، ويراد به هنا تضييع ما جبلت عليه الفطر السليمة من الانقياد الله وطاعته. والإيمان: لغة التصديق إما بالقلب كأن يقول إنسان شيئا فتعتقد صدقه، وإما باللسان كأن تقول له صدقت. والإسلام: الانقياد والخضوع، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا، فأطلق الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأطلق الإسلام على توحيد الله والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله. والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار، ومن ثم عدّا شيئا واحدا في هذه الآيات، وبهما يكون الفوز بالنجاة في الآخرة.

وأما ما جاء في قوله تعالى: « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ » فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لهم بعد، بدليل أنهم امتنّوا على الرسول ﷺ بالإسلام وترك القتال، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين. كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق، فمن اتبعه كان مرضيا عند الله، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد ﷺ وينصروه - ذكر هنا أمر محمد ﷺ أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك.

وخلاصة ذلك - إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه.

الإيضاح

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه في الأكوان.

(وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن المنزل عليه صلوات الله عليه أولا، وعلى أمته بتبليغه إليهم.

(وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أي وصدقنا بأن الله أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى: « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات.

وخص هذين النبيين بالذكر، لأن الكلام مع اليهود والنصارى.

(وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وما أوتى النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم.

وقدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا، مع كونه أنزل قبله - لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه.

فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع، وهو الإيمان بالله وإسلام القلب له مع العمل الصالح، والإيمان باليوم الآخر.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشئون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغى بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا، وتطهيرها من أدارن الذنوب والخطايا.

وقد افتتحت الآية بالإيمان، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبي، فقال تعالى:

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد لله تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدى شيئا، بل تزيد النفوس فسادا، والقلوب ظلاما، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس في الدنيا، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم، والعذاب الأليم.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطر السليمة من توحيد الله والانقياد له كما جاء في الحديث « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه » وخسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى: « قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 86 الى 89]

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

تفسير المفردات

الظلم: هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق، واللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، والإنظار: الإمهال والتأخير.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، ولا يقبل من أحد غيره، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم.

أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن: أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد ﷺ في كتابهم، وأقروا وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم، وأكثر الروايات على هذا.

الإيضاح

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ؟) أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة؟ وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد ﷺ، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.

وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبي ﷺ من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكّبوا عن الطريق القويم وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي هؤلاء يستحقون سخط الله وغضبه، وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى: « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ».

(خالِدِينَ فِيها) أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد.

(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنّسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.

وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم، وتقويم المعوجّ من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 91]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

المعنى الجملي

الكافرون أصناف ثلاثة:

(1) الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله: « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ».

(2) الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله: « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ».

(3) الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله ﷺ وشهدوا أنه حق قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصدّ عن سبيل الله وبالحرب والكفاح، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينمّيه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان، والإيمان كذلك. هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير. وظاهر الآيات يخالف ما صرّح به القرآن في غير موضع، كقوله في الآية السابقة « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا » وقوله: « وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ».

ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى - ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كانها لم تكن، ويكون المعنى في هذه الآية وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا للأثر الأول. وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ». وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.

وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا » (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي إن هؤلاء المتقبلين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم هداية، ولا تقبل منهم توبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا) ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال - فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته، فمن لم ترك نفسه في الدنيا وقسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك - فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جلّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرّحيم.

(وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب، كما يعطى الناس الرّشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحلّ بهم من العذاب.

ونحو الآية قوله تعالى: « فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون مما يبذل، ولا بجاه ينفع، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح فقد أفلج، ومن دسّاها بالكفر وسبى الأعمال فقد خاب وخسر.

وصفوة القول - إنه لا طريق للافتداء على أي حال لو أريد ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم، والأولياء في عنى يفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم.

[سورة آل عمران (3): آية 92]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

تفسير المفردات

نال الشيء نيلا: إذا أصابه ووجده، يقال نال العلم: إذا وصل إليه واتصف به، والبرّ: ما يكون به الإنسان بارّا، وما تحبون هو نفائس الأموال وكرائمها، لأن شأنها عند النفوس عظيم، فكثيرا ما يخاطر الإنسان بنفسه، ويستسهل بذل روحه للدفاع عن ماله.

المعنى الجملي

بعد أن حاج الله تعالى أهل الكتاب فيما ادّعوه من الإيمان، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.

خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية، ولكنكم أيها المدّعون لتلك الدعاوى آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟

الإيضاح

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم

وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول الله: إن أحبّ أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه السلام: بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشي ء) ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم: فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب.

وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة، فقبلها رسول الله ﷺ وحمل عليها ابنه أسامة، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول الله ﷺ ذلك منه قال: أما إن الله قد قبلها.

فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله ﷺ ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما في أيدي الغرباء، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثمّ كان النبي ﷺ يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال، والبعد عنها حين جباية الصدقات.

وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: حضرتنى هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية، فذكرت ما أعطاني الله تعالى، فلم أجد أحب إلي من مرجانة (جارية رومية) فقلت هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده).

فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها، لو لا أن كان مما عوّد نفسه عليه ألا يرجع في شيء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه وعلى الجملة فآثار السلف في الإبثار وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة.

فقد روى أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض، فبحث عنها في المدينة فلم توجد، وبعد مدة وجدت، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم، فشويت وجىء بها على رغيف، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام: لفّها برغيفها وادفعها إليه، فأبى الغلام فردّه وأمره أن يدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرّحمن، فقد أعطيته ذرهما وأخذتها، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه إلا غفر الله له ».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال: إن فلانا كان أحوج مني إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.

وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أي شيء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم، فربّ منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، وربّ فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبرّ، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره. وفي هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة، كى لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوات الله على أنبيائه المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في رجب المعظم من سنة إحدى وستين وثلاثمائة هجرية.

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

3 الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما طال به الأسد 5 فضل محمد ﷺ على غيره من الرسل بمزايا.

7 هداية الدين الكسب لا بالإلهام.

9 الإنفاق في سبيل الله من وسائل النجاة.

10 ظلم الباخل بفضل ماله من أقبح أنواع الظلم.

12 الفرق بين السنة والنوم.

18 فرض الجهاد ليكون سياجا لصد من يقاوم الدعوة

28 أساس المعجزات وعظمتها ليست في نتائجها وغرابتها.

30 أنبتت الجمعية الزراعية أن السنبلة الواحدة أنبتت سبعا ومائة حبة.

33 درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

38 سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره.

41 في الحديث « اللهمّ أعط منفقا خلفا ».

43 النذر قسمان.

44 المال قطب الرحى وعليه تدور مصالح الأمم

45 صدقة السر تفضل صدقة العلانية.

49 الإحصار في سبيل الله.

50 السؤال محرم لغير ذي ضرورة.

51 أهل الصفّة وذكر مناقبهم.

55 الربا ضربان: ربا الفضل وربا النسيئة.

57 السر في تحريم الربا.

63 تخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب.

65 محق الله للربا.

67 حرب الله ورسوله.

75 سر التشريع في قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة.

76 وجوب الإشهاد في البيوع المؤجلة.

78 آثام القلب.

79 الحسد يبعث على الانتقام والسعي على إزالة نعمة المحسود.

82 الذنب المغفور.

84 أثر الإيمان في النفوس.

85 النفس مجبولة على فعل الخير وتفعل الشر بالتكلف والتأسي

87 الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما.

88 النصر بالحجة أقوى من النصر بالسيف

88 الدعاء يستجاب إذا صحبه الإخلاص بعد اتخاذ الوسائل الموصلة للنجاح.

92 معنى كلمتي التوراة والإنجيل والمراد منهما لدى اليهود والنصارى.

96 ليست التوراة الموجودة الآن هي توراة موسى.

97 المراد بالفرقان

99 آراء الأئمة في المتشابه.

101 الحكمة في إنزال المتشابه.

106 قد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة.

109 الشهوات التي ملأت قلوب الناس حبّا.

110 أسباب حب البنين

110 حب المال أودع في غرائز البشر

116 أوصاف المؤمنين

119 شرع الدين لأمرين

120 الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب.

124 دعوة الأنبياء ودعوة الفلاسفة.

125 وعيد الكافرين على ضروب ثلاثة.

126 إعراض اليهود عن دعوة النبي صلى اللهعليه وسلم ليس ببدع ولا غريب فذلك دينهم مع الأنبياء السابقين.

127 قام الدليل لدى الباحثين على أن التوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة.

128 من استخفّ بوعيد الله تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي.

130 المشركون أنكروا النبوة لرجل يأكل الطعام، واليهود أنكروها لرجل من غير بني إسرائيل

131 النبوة إما أن تأتى استقلالا أو تابعة للملك كما وقع لآل إبراهيم

133 أثبت الأطباء أن في النطفة والبيضة والنواة حياة

133 التفسير الحق لإخراج الحي من الميت والميت من الحي.

134 ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه

137 اختيار الأئمة التقية ومداراة الكفرة والظلمة

139 رأفة الله بعباده

140 محبة الله تدعو إلى اتباع رسله

142 تفضيل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين.

146 سيق قصص آل إبراهيم وآل عمران إثباتا لنبوة محمد ﷺ

147 دعاء زكريا ربه الذرية الطيبة حين رأى مريم

149 طلب زكريا آية على حمل امرأته.

150 جاء الوحي في القرآن لأربعة معان.

151 تفضيل مريم على نساء العالمين.

152 ما جاء في القرآن مخالفا للكتب السابقة يعد مصححا لأعلاطها

154 لم أطلق لفظ الكلمة على المسيح؟

155 وجاهة عيسى في الدنيا والآخرة.

156 كن فيكون تمثيل لكمال القدرة.

157 الأمر ضربان أمر تكوين وأمر تشريع.

158 ما روى من إحياء عيسى للموتى.

159 عمل الطين بهيئة الطير ثم النفخ فيه لطف من الله بعباده

160 المعجزات سنة جديدة

163 المعجزات ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله.

164 الفرق بين أخبار الأنبياء بالغيب وأخبار المنجمين والكهان

169 آراء العلماء في رفع عيسى إلى السماء

173 خلق آدم أعجب من خلق عيسى.

174 مباهلة النبي ﷺ للنصارى.

180 التحليل والتحريم لا يؤخذ إلا من قول النبي المعصوم.

184 أهل الكتاب والمشركون كانوا حريصين على إضلال المؤمنين.

185 من حيلهم في إضلال المؤمنين أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره.

186 أهل الكتاب طائفتان طائفة أمينة وأخرى خائنة

190 العهد ضربان

191 وعيد الناكثين للعهد.

193 افتراء اليهود على الله ما لم يقله.

199 لا مانع من تتابع الأنبياء في عصر واحد

201 الدين الحق إسلام الوجه لله والإخلاص له.

202 الإيمان والإسلام لغة وشرعا.

207 التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين.

208 الكافرون أصناف ثلاثة

211 ميزان الإيمان الصحيح الإنفاق في سبيل الله.

212 كان السلف الصالح إذا أحبوا شيئا جعلوه لله.

212 حسن السياسة الدينية لدى الرسول ﷺ.

213 ما روى من الآثار في الإيثار ابتغاء مرضاة الله