الرئيسيةبحث

النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية/الفصل الرابع


الفصل الرابع
في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين – من التوراة والإنجيل وغيرهما


زعمتم أن المسيح عليه السلام أخبر أن لا نبي بعده. وقلتم إن محمدا ﷺ جاء بالسيف دون المعجزات، وأنه لم يأت بآية مثل من تقدمه من الأنبياء، بل بكلام لا يصح أن يكون معجزا؛ والله عز وجل يقول: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وقلتم أن لا أحد من الأنبياء بشر به. وهذا غلط منكم، وليس من شرط صحة نبوة النبي أن يتقدمه نبي فيخبر أنه سيجيء نبي، فإن ذلك يلزم منه أن من صدق بنبي من الأنبياء ولم يتقدم نبي عليه يبشر بمجيئه فقد ضل. فمن أخبر عن موسى وعن أشعيا وأروميا وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام؟

وقولكم إنه لا نبي بعد المسيح، فكتبكم تدل على خلاف ذلك. ولكن الذي أوقع ذلك في قلوبكم قد غشكم. وكيف تقولون هذا وتسمون الحواريين بعد المسيح رسلا، وتسمون بولس الرسول.

[البارقليط]

وقد قال المسيح في الإنجيل: « أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وربي وربكم، ليبعث لكم البارقليط الذي يأتيكم بالتأويل، وذلك أنه يأخذ من الذي أخزت، وهو روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يتكلم كما يقال له يقول. وكل شيء أعد لكم يخبركم به. » [1]

فقد دل قول المسيح أنه يأتي بعده غيره، بخلاف ما تزعمون.

وقال المسيح عليه السلام في إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر: « إن البارقليط الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم كل شيء. » [2]

والبارقليط الذي أرسله الله عز وجل بعد المسيح مصدقا للمسيح هو الذي علم الناس كل شيء لم يكونوا علموا به من قبل. ولم يكن في أصحاب المسيح من علم الناس شيئا غير الذي علمهم المسيح عليه السلام.

وقال أيضا في الفصل السادس عشر من إنجيل يوحنا: « إن البارقليط لم يجئكم ما لم أذهب، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب. » [3]

وقال أيضا: « إني سائل أبي يرسل إليكم بارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد. » [4]

ومعنى قوله "أن يرسله باسمي" أن حقيقة البارقليط: الرسول. والمسيح معناه الرسول أيضا.

[السيف والآيات]

وأما قولكم إن محمدا ﷺ جاء بالسيف دون الحجة والمعجزة، فهذا قول من لم يعرف الأخبار والسير ولم يقف على ما تقدم من الآثار. فالنبي ﷺ كان يتيما فقيرا إلى أن أكرمه الله عز وجل بالرسالة، فدعا الناس إلى الله ثلاثة عشر سنة، وهو في أول أمره كان وحده، ثم في قل من أصحابه يسعى بين أحياء العرب ويقول: قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم. فمنهم من يسخر به ومنهم من لا يلتفت إليه ومنهم من يمسك عنه، حتى أظهر الله تعالى الإسلام وقوي أمره وهاجر إلى المدينة، ثم أمر بالقتال بعد ظهور المعجزة وقيام الحدة ووضوح الدلالة. وما شهر سيفا إلا بعد الإنذار والإعذار، فمن خالفه بعد ذلك وعانده قوتل حتى ظهر أمر الله وهم كارهون.

وقلتم أتى بكلام لا يصح أن يكون معجزة. فهل قدر أحد من العرب مع كثرتهم وفصاحتهم على الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه؟ فإنه إذا تأمله العاقل المنصف لم يجد لعجمي ولا لعربي كتابا جمع من التوحيد والثناء على الله تعالى تقدست أسماؤه والتصديق بالرسل والحث على عمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب في الجنة والتحذير من النار مثله ولا يقاربه.

وإذا تأملت التوراة فإنك تجد أكثرها أنساب بني إسرائيل وسيرهم من مصر وحطهم وترحالهم وأسماء المنازل التي نزلوها. وفيها مع ذلك سنن وشرائع وأحكام.

والإنجيل الذي في أيديكم فإن جله أخبار المسيح عليه السلام ومولده وتصرفه وآداب مواعظه، وليس فيه من السنن والشرائع والأخبار إلا اليسير.

وكتاب أشعيا وأرميا وغيرهما من الأنبياء، فجلها لعن بني إسرائيل وذكر ما أعد لهم من الخزي وإزالة النعم، وأشياء قد قيل فيها إنها محرفة. ومثل قول حزقيال إن الله أمره أن يحلق رأسه ولحيته بسيف صارم حاد. [5] ومثل قول يوشع إن الله أمره أن يتزوج امرأة مشهورة بالزنا فولدت له اثنين، وأمره أن يسمي أحدهما "لا أرحم" والآخر "ليس من حزبي" قالوا ليعلم بنو إسرائيل أني لا أرحمهم ولا أعتدهم حزبي. [6]

فهل يوجد في الفرقان شيء يشبه هذا أو يقاربه؟ بل هو منسوخ [7] بالتوحيد والتمجيد والسنن والشرائع والوعد والوعيد والبشارات والتي تليق بالله سبحانه وتعالى وبسط الأمل والغفران وقبول التوبة وكل ما تستريح إليه الآمال. وهو كما وصفه المتكلم به جل جلاله بقوله: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }

[بشارة جبال فاران]

ثم قول الله عز وجل في التوراة: « جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستنار واستعلن من جبال فاران، وعن يمينه ربوات القديسين، فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لهم بالبركة. » [8]

وهذه نبوءة تنبه على موسى وعيسى ومحمد ﷺ، لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء، والإنجيل على عيسى في جبل ساعير وهو بالشام، وأنزل القرآن على محمد ﷺ في جبال فاران، وهي بالحجاز. وفاران أحد العمالقة السبعة الذين اقتسموا الأرض، فجعلوا لفاران الحجاز.

[بشارة بنبي من إخوة بني إسرائيل]

وفي الفصل الحادي عشر من السفر الخامس من التوراة عن موسى عليه السلام: « إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا مثلي، من بينكم ومن إخوتكم. » [9]

وفي هذا الفصل أن الرب قال لموسى: « إني مقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم، وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنتقم منه. » [10]

وهذا يدل على أن النبي ﷺ الذي يقام لا يكون من بين إسرائيل. لأن من خاطب قوما فقال لهم إني إقيم من إخوتكم رجلا، استفيد من ذلك أنه ليس من أنفسهم. كما أن من قال لبني أمية إنه سيكون من إخوتكم إمام، عُقل منه أنه لا يكون من بني أمية. وكل نبي بعث بعد موسى لم يكن من إخوتهم. والنبي ﷺ من إخوتهم لأنه من ولد إسماعيل. وإسماعيل هو أخو إسحاق. ولو كانت هذه البشارة لنبي من بني إسرائيل لم يكن لها معنى لأن الله تعالى قد بعث بعد موسى خلقا كثيرا من الأنبياء من بني إسرائيل. واليهود تعتقد أنه لا يجيء من بني إسرائيل بعد موسى مثل موسى. [11] وهذا يدل على أن البشارة لنبي من غيرهم. فهذا تصريح باسم النبي محمد ﷺ.

وفي الفصل الثالث والعشرين من التوراة: « اسمعي أيتها الجزائر وتفهمي يا أيها الأمم، إن الرب أهاب بي من بعيد وذكر اسمي وأنا في الرحم وجعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن، وحاطني بظل يمينه وجعلني في كنانته كالسهم المختار، وقال لي إنك عبدي، وصرت محمدا عند الرب، وبإلهي حولي وقوتي. » [12]

فإن أنكر منكر اسم محمد في هذا الكلام، فليكن محمودا. [13] ولن يجد إلى غير ذلك من الدعاوى سبيلا. ولو ذكرت جميع ما في كتب الأنبياء من ذلك لطال الكلام وحصل الضجر والملل من القارئ والسامع. [14]

لكنني أقول – تعجبا منكم يا ذوي العقول الضعيفة – كيف تعتقدون الألوهية في إنسان لا يقدر على تخليص نفسه من الأعداء ولا إنقاذها من البلاء حين ظفروا به كما قلتم وفعلوا معه ما ذكرتم؟ فمن لا يملك لنفسه نفعا ولا من الأعداء منعا كيف يكون إلها قادرا كما تزعمون وسيدا متمكنا كما تتوهمون؟ فأين قدرته أيها الغافلون وأين تمكنه أيها المبطلون؟ بئس والله ما تعتقدون. إنما أنتم في طغيانكم تعمهون. حدتم عن الرشاد وسلكتم طريق العناد وكفرتم بالرحمن واتبعتم سنن الشيطان. فإنهم الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما.

لو كان فيكم رجل عليم له عقل سليم لتفكر في أمر النبيين وبحث عن أصول الدين حتى يقف على اليقين، لعرف أن الدين عند الله الإسلام وأن شريعة محمد سيد الأنام هي الشريعة الواضحة وميزان أمته هي الميزان الراجحة. لكن غلب عليكم الجهل واحتجبت عنكم طريقة العقل، فعميت أبصاركم ووهنت أحلامكم.

{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }

ولقد بان لكم الحق فأنكرتموه وصح لكم الصدق فدفعتموه، وجحدتم ما تعلمون وعدلتم عما تعرفون.

{ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }

فلو كشف الله عن أبصاركم لعلمتم أنكم من القوم الظالمين ولما جحدتم نبوة سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، ولا كذبتم برسالته وأنكرتم حجته. ولو فحصتم عما أتى به من المعجزات والبراهين والآيات لعلمتم ما جهلتم واتضح لكم ما أنكرتم وانكشف لكم ما لبسه عليكم الذين أخذتم عنهم دينكم وظهر لكم غلطهم وفساد اعتقادهم وخلافهم وعنادهم، ولم يخف عليكم أنهم ضلوا وأضلوا، ولشهدت عقولكم بصدق محمد ﷺ وآمنتم بما أنزل عليه من القرآن وما أظهره من العجائب والبرهان حتى ظهر دينه على كل الأديان ودحض كل زور وبهتان.

ودلائل آياته أوضح من فلق الصبح، ولكن جهلكم يحملكم على دفعها وجحودها ومنعها حتى رضيتم دينكم الضعيف فأذلكم واتبعتم الهوى فأضلكم، فأنتم كما قال عز من قائل:

{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا }

هذا وقد اختصرت من أحوال النصارى ولخصت في فساد اعتقاداتهم وضعف دينهم ما يستدل به على وهنهم. وهذه الخلاصة كافية تغني عن الإطالة ولا تدعو إلى الملالة. وأنا أحمد الله على حسن توفيقه وما عرفني من نفسه وألهمني من شكره ودلني عليه من الإخلاص في توحيده وجنبني من الإلحاد والشك في أمره حمدا لا منتهى له ولا غاية لحده. وأثني عليه ثناء يكون وصلة إلى طاعته وعفوه وسببا إلى رضوانه وذريعة إلى مغفرته وطريقا إلى جنته وخفيرا من نقمته وحاجزا عن معصيته وهاديا إلى الاعتراف بوحدانيته وتنزيهه عن الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد – تقدست أسماؤه وتظاهرت آلاؤه ولا إله إلا هو، واحد فرد صمد، لا شريك له، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }

{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }

{ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين والتابعين لهم إلى يوم الدين. آمين.


هامش

  1. ر يوحنا 15: 26-27، 16: 12-14
  2. يوحنا 15: 26-27
  3. يوحنا 16: 12-13
  4. يوحنا 16: 14
  5. حزقيال 5: 1 وما بعده
  6. هوشع 1: 2-6
  7. أي نسخته مملوءة، مكتوب بالمذكور
  8. التثنية 33: 2-3
  9. التثنية 18: 15
  10. التثنية 18: 18-19
  11. التثنية 34: 10
  12. ترجمة علي بن ربن الطبري في كتابه الدين والدولة. ينظر أشعياء 49: 1-3
  13. أي إن لم تكن ترجمة الكلمة كذلك.
  14. ينظر إظهار الحق لرحمة الله الهندي.


النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية
مقدمة المؤلف | الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم | الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم | الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات | الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد ﷺ من التوراة والإنجيل