الرئيسيةبحث

النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية/الفصل الثالث


الفصل الثالث
فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات


المسيح عليه السلام ما ادعى الربوبية ولا الألوهية. فإن كنتم مستدلين على ربوبيته بأنه أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء وصعد إلى السماء وصير الماء خمرا وكثر القليل، فيجب أن تنظروا إلى كل من فعل مثل هذه الأمور فتجعلونه ربا وإلها.

[إحياء الموتى]

فإن كتاب سفر الملوك يتضمن أن إلياس أحيى ابن الأرملة، [1] واليسع أحيى ابن الإسرائيلية، [2] وأن حزقيال أخيى خلقا كثيرا. ولم يكن أحد من هؤلاء بإحيائه الموتى إلها.

[الإبراء]

وأما إبراء الأكمه فإن التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، [3] وموسى طرح العصا فصارت حية [4] لها عينان تبصر بهما، [ وضرب الرمال فصارت لكل واحدة منهن عينان، ] ولم يكن واحد منهما بذلك إلها.

أما إبراؤه الأبرص فإن كتاب سفر الملوك يخبر أن رجلا من عظماء الروم اسمه نعمان برص، فرحل من بلده قاصدا اليسع ليبرئه، فوقف على بابه أياما فلم يؤذن له في الدخول إليه، وأخبر اليسع به فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل وقل له: انغمس في الأردن سبع مرات، فمضى وفعل ذلك فذهب عنه البرص، ورجع إلى بلدته فتبعه خادم اليسع وأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر بذلك ودفع إليه شيئا كثيرا، فرجع وأخفى ذلك عن اليسع فقال له: تبعت النعمان وأومته عني كذا وكذا وأخذت منه مالا وأخفيته في موضع كذا، وحيث قد فعلت ذلك فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص الخادم في الحال. فهذا اليسع أبرأ أبرصَ، وأبرص صحيحا. وهو أعظم مما فعل المسيح، ولم يكن في فعله إلها.

[المشي على الماء]

وأما قولكم إنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن إلياس صار إلى الأردن ومعه تلميذه اليسع، فأخذ عمامته وضرب بها الأردن فاستيبس حتى مشى عليه، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع فلما رجع إليه، إلى الأردن، ضرب الماء فاستيبس له حتى مشى عليه. [5] ولم يكن واحد فيهما بمشيه على الماء إلها.

[تحويل الماء خمرا]

وأما قولكم إنه صير الماء خمرا، فكتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقال له: يا نبي الله، إن [ على ] زوجي دينا قد فدحه، [6] فإن رأيت أن تدعو الله لنا أن يقضي ديننا فافعل، فقال لها: اجمعي كل ما عندك من آنية واجمعي من جيرانك كل ما قدرت عليه من آنيتهم، ففعلت ثم أمرها أن تملأ تلك الأواني ماء ثم قال لها: اتركيه ليلتك هذه على حاله، ومضى من عندها فأصبحت المرأة فوجدت الماء زيتا، [7] فباعوه وقضوا دينهم وعاشوا بما تخلف معهم مدة. وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا. ولم يكن اليسع بذلك إلها.

[تكثير الخبز]

وقولكم إن المسيح كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة. فإن كتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن إلياس نزل بامرأة أرملة وكان القحط قد عم الناس وأجدبت الأرض ومات الخلق ضرا، وكان إلياس في جيش فقال للمرأة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط، فقال: أحضريه فلا بأس عليك، فأتت به فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل منه هي وأهل بلدتها بعد أن أكل إلياس وجيشه حتى فرج الله عن الناس. [8] فقد فعل إلياس أكثر مما فعل المسيح لأن إلياس كثر القليل فأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد. ولم يكن إلياس فيما فعله إلها.

[المعجزات والآيات من الله]

فإن قلتم إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال وإن الصنع والقدرة لله عز وجل وهو أجراها على أيديهم، فقد صدقتم. وكذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من الأعاجيب إذا كان الله أظهر ذلك. وهكذا قال المسيح في نفسه في الأنجيل: إنني لا أستطيع أن أصنع شيئا إلا بأمر الله. [9] فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء وما الحجة في ذلك؟

فإن قلتم إن الأنبياء كانوا إذا أرادوا أن يظهر الله على أيديهم شيئا تضرعوا إلى الله ودعوا وأقروا له بالربوبية وشهدوا على أنفسهم بالعبودية، والمسيح لم يكن كذلك.

قلنا ما كان سبيله إلا سبيلهم. وقد كان يدعو الله ويتضرع ويعترف بربويته ويقر له بالعبودية. والإنجيل يتضمن أن المسيح لما أراد أن يحيي رجلا يقال له عازر قال: إنني أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتستجيب لي، وأنا أدعوك لأجل هؤلاء الحضور ليعلموا أنك أرسلتني وفي كل وقت تجيبني. [10]

وقال وهو على الخشبة: « إيل إيل لما نشتو قلال » معناه: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ [11] وقال: « يا أبتاه اغفر لهم ما يعملون فإنهم لا يدرون ما يصنعون » [12] وقال أيضا: « يا أبي إن شئت فلتعرني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك » [13] وقال أيضا: « لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أفكر فيه إلا باسم إلهي. » [14] « لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده ولا الرسول يكون أعظم من مرسله. » [15]

وقال: إن الله – تبارك وتعالى – لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم، ولم يراه أحد من خلقه، [16] ولا رآه أحد إلا مات.

والمسيح قد أكل وشرب وولد ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته. وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.

وقال في إنجيل يوحنا: إنكم متى دفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو، وشيء من قبل نفسي لا أفعل، لكن كل شيء أعمله هو الذي علمني أبي. [17] وقال في موضع آخر: « من عند الله أرسلت معلما » [18] وقال لأصحابه: « اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته وبيته وأقاربه » [19]

وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت له: أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: صدقت، طوبى لك أيتها المرأة. [20] وقال لتلاميذه: كما بعثني أبي، كذلك أبعثكم. [21]

فاعترف أنه نبي وأنه عبد مألوه مربوب مبعوث لا يستطيع أن يفعل شيئا ولا يفكر فيه إلا باسم الله عز وجل. وقال لتلاميذه إن من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني. [22] وبين في غير موضع أنه نبي مرسل وأن سبيله مع الله سبيل سائر الأنبياء معه.

وقال متى التلميذ في إنجيله يستشهد على المسيح بنبوءة أشعيا عن الله عز وجل: « هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي إليه. أنا واضع روحي عليه ويدعو الأمم إلى الحق. » [23]

فما يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم. وقد أوضح الله أمره وسماه عبدا وأعلم أنه يضع عليه روح ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عندهم. وهذا القول يوافق ما بشر به الملك مريم حين ظهر لها.

وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح: « إن كلامي الذي تسمعون هو كلام الذي أرسلني » [24] وقال في هذا الموضع: « إن أبي أجل وأعظم مني » [25] وقال أيضا: « كما أمرني أبي أفعل » [26] و «أنا الكرم وأبي الفلاح » [27] وقال يوحنا: كما أن للأب حياة في جوهره فكذلك للابن حياة في أقنومه. [28] فالمعطي خلاف المعطى لا محالة. والفاعل خلاف المفعول به. وقال المسيح في إنجيل يوحنا: « إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي وأنا أشهد لنفسي أيضا، ويشهد لي أبي الذي أرسلني » [29]

وقال المسيح لبني إسرائيل: « تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله؟ » [30] وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: « يا أبي، أشكرك على إجابتك دعواي وأعترف لك بذلك. » [31] فأي تضرع وأي إقرار بالرسالة والطلب للإجابة من الله أشد من هذا؟

وقال المسيح في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: « أنا لست بمجنون، ولكني أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي بل مدح أبي لأني أعرفه. ولو قلت أبي لا أعرفه كنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره. » [32]

وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: « يا رجال بني إسرائيل، اسمعوا مقالتي بأن يسوع الناصري ظهر لكم من عند الله بالقوة والأيد والعجائب التي أجراها الله تعالى على يديه وأنكم أسلمتموه وقتلتموه فأقام الله تعالى يسوع هذا من بين الأموات. » [33]

فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول وهو أوثق التلاميذ عندكم، يخبر كما ترون بأن المسيح رجل وأنه جاء من عند الله وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه وأن الذي بعثه من بين الأموات هو الله عز وجل؟

وقال أيضا في هذا الموضع: « اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قبلتموه أنتم ربا ومسيحا » [34] فهذا القول يزيل تأويل من يتأول أن الله جعله ربا ومسيحا؛ والمجعول مخلوق مفعول. وقد سمى الله تعالى يوسف ربا، [35] وأنه بيع بثمن بخس ودخل تحت العبودية.

وقال لوقا في إنجيله إن المسيح عرض لعملوقا ولوقا تلميذيه في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونان؟ فقالا: كأنك أنت وحدك في بيت المقدس غريب إذ كنت لا تعلم بما حدث في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في فعله وقوله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه [36] – على قولهم. فهذا قول لوقا في إنجيله.

وقال داود في الزبور عن الله تعالى في حق المسيح: « أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني أعطك » [37] فقوله "ولدتك" دليل على أنه محدث غير قديم، وكل محدث فهو مخلوق. ثم أكد ذلك بقوله "اليوم" فحد اليوم حدا لولادته وأزال الشك في أنه كان قبل ذلك. ودل بقوله "سلني أعطك" على أنه كان محتاجا إلى المسألة غير مستغن عن العطية.

فهذا قول الله في حق المسيح، وقول المسيح عن نفسه وإقرار تلاميذه وما قد سطروخ في الأناجيل. وكل الأقاويل تدل على أنه نبي مرسل مخلوق مبعوث مأمور وأن الله أيده بروحه كما أيد سائر الأنبياء.

وأنتم تركتم هذه الأقاويل التي في حق المسيح وحدتم عنها، وعقدتم دينكم على بدع ابتدعها أولكم تؤدي إلى الشرك والضلال.

[سيرة المسيح من الأناجيل]

ثم مع أنكم تصفون المسيح بالألوهية قد حكيتم عنه في أناجيلكم مثل هذه الحكايات وأن مريم حبلت به فلما قربت ولادتها أخذها خطيبها يوسف النجار، وأنه كان ابن عمها، وانتزح إلى قرية تسمى بيت لحم. وأنها وضعته بتلك القرية ودرجته في قمط وجعلته في معلف وختى على السنّة العبرية لسبعة أيام خلون من مولده وتربى وقعد في المكتب وقرأ الكتب. فلما بلغ من العمر ثلاثين سنة ظهرت دعوته وأخذ في قول العجائب وعمل المعجزات – من إحياء الموتى وإبراء الأكمه وإقامة الزمنى وفتح أعين العميان – وذلك مدة ثلاثين سنة. وأن اليهود أرشوا أحد تلامذته وهو يهوذا ثلاثين مثقالا من المال وأن يهوذا أسلمه إليهم وأنهم أخذوه في أيام تيطيوس وبيلاطوس الملكين وكتفوه وأوثقوه وجلدوه وحملوه إلى هيرودس القاضي. وأنه سأله عن أشياء كثيرة من حاله فلم يجبه عن شيء منها. وألبسه ثياب القرمز والأرجوان وأهانه هو وغلمانه. ودنا أناس منه وبصقوا في وجهه وطرقا له ولكموا فكيه وغطوا وجهه. وكانوا يقولون له: أيها المسيح ابن الله، بين لنا من ضربك. وأنهم حملوه إلى فيلاطوس وهو مغطى الوجه مكتوف وهم يسخرون منه. ثم جلده أصحاب القاضي بالدرر وأخذوه إلى الملك وتركوا على رأسه إكليلا من عوسج وتركوا قصبة في يمينه. وبينما هم يلهون به ويضحكون منه ويفترون عليه خروا له سجدا استهزاء به ويقولون له: السلام عليك يا ملك اليهود، ويبصقون على وجهه. وأخذوا القصبة من يمينه ودقوا بها على رأسه وكانوا يقولون: هذا ملك بني إسرائيل. وعروه وأخذوا ثياب القرمز التي كانت عليه وصلبوه مع لصين من فاعلي الشر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. ودقوا المسامير في يديه ورجليه وضربوا جنبه بالحربة. وكان المجتازون يفترون عليه ويقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك إن كنت ابن الله وانزل من الصليب. وكانوا يقولون له: من يحيي الموتى ويبرئ من الأمراض لا يقدر أن ينجي نفسه! إن كنت المسيح خلص نفسك لنؤمن بك. وأن أصحاب الشرط أخذوا خلا ومرا وكانوا يسقونه منه على رأس قصبة في قطعة إسفنج. وكان اللصان المصلوبان معه يعيرانه. ثم إن أصحاب الشر جاؤا ليكسروا سوقهم ليموتوا لئلا يدخل السبت، وبدأوا في كسر ساقي اللصين. وأن المسيح قال: أنا عطشان، فغمس أحد أصحاب الشرطة تلك القطعة الإسفنج في الخل والمر وأدناها إلى فمه فصاح بصوت عال: يا أبي، بيدك أضع روحي. ولما قال ذلك طأطأ رأسه ومات.

وإن رجلا من مدينة يهوذا اسمه يوسف ورجلا آخر اسمه نيقاديموس دخلا إلى فيلاطوس والتمسا منه جسد المسيح، وأنهما أخذا الجسد وأحضرا صبرا ومرا وحنطاه ودرجاه في الأكفان وقبراه. وفي ليلة الأحد يقولون إنه قام من بين الأموات واجتمع بوالدته مريم واجتمع بتلاميذه. وأنه صعد إلى السماء بعد أربعين يوما.

وزعمتم أن تلاميذه شكوا فيه عند قيامه بعد موته وما عرفوه بوجهه، وأن بعضهم سأله أن يريه موضع المسامير التي سمر بها جسده فوضع أيديهم عليها كما يزعمون، وإنما كانت غيبته عنهم ثلاثة أيام كما ذكرتم. وحكيتم في أناجيلكم أن المسيح كان في الليلة التي أخذ فيها يصلي ويسجد ويبكي في صلاته ويقول بالعبري: « إلهي إلهي لماذا تركتني » ثم قال لتلاميذه: « ضاقت نفسي حتى الموت » وقال لهم: اثبتوا ههنا. وغاب عنهم بمقدار رمية حجر وخر على ركبته وسقط على وجهه. وكان يقول: « يا أبتاه، ألا ما أعرتني هذه الكاس » وقال أيضا: « أيها الأب، إن أبك فلتجرن هذه الساعة » وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نوما. وأنه قال لشمعون الصفا: نمتم ولم تقدروا أن تسهروا معي ساعة واحدة، انتبهوا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب، وصار عرقه كعبيط الدم. وكان يقول لتلاميذه: طوبى لمن سهر معي وشاركني في ألمي. وقال لهم: اصعدوا فقد قرب وقتي. ثم إنه غاب عنهم وصلى، فلما فرغ من صلاته عاد إلى تلاميذه فوجدهم قد هجعوا فقال لهم: ارقدوا الآن فقد بلغت الغاية ووفت الساعة وهاهو ابن البشر يسلم بأيدي الخطأ، قوموا ننطلق. فبينما هو يتكلم وافى يهوذا أحد تلاميذه وقبله المسيح في فمه وكان معه جمع كثير بنفاطات ومشاعل وسيوف وعصى من قبل عظماء الكهنة والكتاب ومشايخ الشعب. فأخذوا المسيح وفعلوا به كل قبيح كما تقدم شرحه على ما نقل من أناجيلكم.

فكيف تنسبون المسيح إلى الألوهية وتحكون عنه مثل الحكايات؟

تقولون إنه بقي مدة الحمل في أحشاء مريم واغتذى بدم طمثها ورضع لبنها وأكل وشرب وغاط، وأخذته اليهود وفعلت به مما يأنف الإنسان ذكره، وإنه سجد وصلى وتضرع وبكى. فإلى من أشار عند قوله لوالدته بعد قيامه على ما تزعمون: أمضي إلى إخوتي وقوله: « إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » ثم تسميته في غير موضع بابن البشر. وليس من حق الإله أن يصلي ويخضع ويذل ويمتهن ويعذب بكل نوع من أنواع العذاب ويتألم ويدخل عليه الأذى ويلحقه التغيير ويحويه حيز. وهذه جميعها من صفات البشر وليس من صفات من يدعى له بالألوهية.

ولقد حسن في هذا الموضع ذكر قول بعض الشعراء: [38]

عجيبا للمسيح بين أناس ** وإلى خير والد نسبوه

أسلمته إلى اليهود النصارى ** وأقروا بأنهم صلبوه

فإذا كان ما تقولون حقا ** ليت شعري فأين كان أبوه

ويقولون إن المسيح إله كامل وإنسان كامل. فتارة يجعلونه إلها وتارة إنسانا. ومنكم من يقول إنه إله تأنس كاليعاقبة. ومنكم من يقول إنه إنسان تأله كالنساطرة. ويجري بينكم في ذلك مشاجرات، وكل منكم يكفر صاحبه ويستجيز قتله. [39]

ومما استدل به إليا الجاثليق [40] على إثبات لاهوت المسيح وناسوته قول شمعون الصفا « أنت المسيح ابن الله الحي » كلمة دالة على اللاهوت والناسوت معا، لأن اسم المسيح واقع على ماسح وممسوح، مثل اسم الإنسان الواقع على نفس وبدن. فالنفس والبدن شخص كامل. وقال فطروس: [41] إن الله جعل ربا ومسيحا لهذا يسوع الذي صلبتم وأنه قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام وأنه ارتضع لبنا وتربى وأدرج في القمط وختن. فأبان أنه إنسان، ونزل الملك وقال يوم ولادته: لقد ولد لكم اليوم المخلص الذي هو الرب المسيح في مدينة داود، فبين أنه إله، حتى اصطبغ من يوحنا المعمدان، فأبان أنه إنسان. ونادى الأب من السماء: هذا ابني الحبيب الذي به ارتضيت، فبين أنه إله. وصام وجاع وهرب من الشيطان، فبان أنه إنسان. وأشبع من أرغفة يسيرة ألوفا كثيرة وفضل منهم ما حملوه في جفان عدة، فبين أنه إله. كان يطوف المدن والقرى ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماء. فأوضح أنه إنسان. شفى المرضى وطهر البرص وفتح أعين الكمه وأحيى الموتى، فبين أنه إله. ونام في السفينة وأيقظه التلاميذ، فأوضح أنه إنسان. وأنبأ شمعون الصفا بما أسره في قلبه، فبين أنه إله. ووقف على البئر واستراح من نصب الطريق وطلب الماء من السامرية، فأوضح أنه إنسان. أخبر السامرية بأسرارها، فبين أنه إله. سعى إلى بيت نوارس ماشيا، فأوضخ أنه إنسان. أحيا ابنته بعد موتها، فأوضح أنه إله. ورفع يديه إلى السماء وقال بصوت عال: يا لاعازر هلم إلى خارج، فقام لاعازر من قبره، لكونه إلها. رد أذن العبد التي قطعها شمعون إلى مكانها، فبين أنه إله. وكفن بالأكفان وختم ودفن وختم اليهود عليه، فأوضح أنه إنسان. قام في اليوم الثالث وظهر للتلاميذ وقال له توما: آمنت بك ربي.

ولو أتيت بجميع ما زعموا لطال الكلام وأفضى إلى الضجر. وإذا كانت الشهادات منه في نفسه ومن الأنبياء عليه ومن تلاميذه كما سبق ذكره، وما تشهد به كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة تأخذون ذلك؟ وإذا تأملتم ما بينته تأمل إنصاف من أنفسكم علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيء دون اللاهوت.

[البنوة]

فإن قلتم إنه ثبت للمسيح البنوة بقوله أبي. قلنا إن كان الإنجيل نزل على هذه الألفاظ ولم يبدل ولم يغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي [42] ابنا، وقد سماكم جميعا بنيه وأنتم لستم في مثل حاله. ومن ذلك أن الله تعالى قال لإسرائيل في التوراة: أنت بكري. [43] وقال لداود في الزبور: أنت ابني وحبيبي. [44] وقال المسيح للحواريين: أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. [45] فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله. ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون.

فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق اللاهوتية بأن الله سماه ابنا وإلا فما الفرق؟ وقلتم إن داود وإسرائيل ونظراءهما إنما سموا أبناء الله على وجه الرحمة من الله لهم والمسيح ابن الله على الحقيقة. [46] قلنا: هل يجوز لمعارض يعارضكم أن يقول ما تنكرون: أن يكون إسرائيل وداود أبناء الله بالحقيقة والمسيح ابن رحمة؟ وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أنه جاء إلى مقعد وقال له: قم فقد غفرت لك فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت. قلنا: إن إلياس أمر السماء أن تمطر ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر النعمان الرومي أن ينغمس في الأردن ليذهب البرص الذي كان به من غير دعاء ولا تضرع، فذهب.

وقد وجدنا في الإنجيل أن المسيح تضرع وصلى وبكى في صلاته خصوصا في الليلة التي أخذته اليهود على زعمكم. وقال في الإنجيل: يا أبي أشكرك على إجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليوقنوا أنك أرسلتني.

فإن قلتم إن الغفران من الله وإن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: قم فقد غفرت لك. فقد قال تعالى في التوراة لموسى: واخرج أنت وشعبك الذين أخرجت من مصر وأنا أجعل لكم ملكا يغفر ذنوبكم. فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنب المقععد الملك إذا إله لأنه يغفر ذنوب بين إسرائيل، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن الأنبياء قد تنبأت على ألوهية المسيح، فقد قال أشعياء: « العذراء تحمل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمايوئيل – تفسيره: معنا إلهنا » قلنا لكم: إن هذه استعارة، وإن كان الله المتفرد بمعنى الألوهية. وقد قال عز وجل في التوراة لموسى: « قد جعلتك لهارون إلها وجعلته لك نبيا » [47] وقال في موضع آخر: « قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون » [48]

فإن قلتم جعله إلها على معنى الربانية، قلنا: وكذلك قول أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن المسيح قال في الإنجيل: من رآني فقد رأى أبي وأنا وأبي شيء واحد. قلنا: إن قوله "أنا وأبي شيء واحد" إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، وكقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم في ذلك مقامه ويتكلم بحجته ويطالب بحقوقه. وكذلك قوله "من رآني فقد رأى أفعال أبي".

فإن قلتم إن المسيح قال في الإنجيل: "أنا قبل إبراهيم" من جهة الألوهية. قلنا: إن سليمان بن داود يقول في حكمته: "أنا قبل الدنيا، وكنت مع الله حيث مد الأرض." [49] هذا قوله. وقد أعطي من طاعة الجن والأنس والطير والوحش ما لم يعطه المسيح وما تهيأ له، ولا لأحد أن يقول فيه إنه إله. وما قال إنه قبل الدنيا بالألوهية.

وقال داود في الزبور: ذكرتك يا رب من البدء. فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول لأنه من ولد إسرائيل وليس يجوز أن يكون قبل الدنيا؛ وكذلك قول المسيح "أنا قبل إبراهيم" كلام متأول لأنه من ولد إبراهيم ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم. فإن تأولتم تأولنا. وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن تلاميذ المسيح كانوا يعملون الآيات باسم المسيح. قلنا: قد قال الله ليحيى بن زكريا: « قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس » وهي قوة تفعل الآيات، فأضاف القوة إلى إلياس.

وإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال إن إلياس إله لأنه بقوته فعلت الآيات؟

فإن قلتم إن الخشبة التي صلب عليه المسيح بزعمكم ألقيت على قبر ميت فعاش وإن هذا دليل على أنه إله. قلنا: ما الفرق بينكم وبين من قال إن اليسع إله واحتج بأن كتاب سفر الملوك يخبر أن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة فرأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب الميت تراب قبر اليسع عاش ومشى إلى المدينة. فإن زعمتم أن المسح إله لأن الخشبة التي ذكرتم أنه صلب عليها ألصقت بقبر ميت فعاش فاليسع إله لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.

فإن قلتم إن المسيح كان من غير فحل. قلنا: قد كان ذلك، وليس هو مما يوجب الألوهية ولا الربوبية له. لأن القدرة في ذلك للخالق عز وجل لا للمخلوق. كما أن حواء أم البشر خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر أعجب من خلق ذكر من أنثى بغير فحل، وأعجب من ذلك خلقه آدم من تراب.

وهذه الأسباب التي ذكرناها هي الأسباب التي تتعلقون بها في إنجيلكم للمسيح بالربوبية وإضافتكم له الألوهية، قد ذكرناها على حقائقها عندكم وما هو في الكتب التي في أيديكم، وهي التوراة والزبور وكتب الأنبياء والإنجيل.

[المسيح لا يعلم كل شيء]

وقال المسيح في محكم الإنجيل لما سأله تلامذته عن الساعة والقيامة: « إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد ولا الملائكة المقربون ولا الابن، ولكن يعرفه الأب وحده. » [50]

فهذا يدل على إقراره بأنه منقوص العلم وأن الله أعلم منه. وشهادته واضحة بأنه لا يعلم كما يعلمه الله، بل ما علمه وأطلعه على معرفته. وهذا ليس كما تصفون من الربوبية وأنه الله.

[لا صالح إلا الله]

وقد خاطبه رجل فقال له: أيها الخيّر، فقال المسيح: « لم تسمني خيرا؟ ليس الخير إلا الله وحده. » [51]

[المشيئة]

وقال في الإنجيل: « لم آت لأعمل بمشيئتي ولكن بمشيئة من أرسلني. » [52]

ولو كان له مشيئة لاهوتية كما تقولون لما قال هذا القول الذي يبطل دعواكم فيه.

وتدعون أن المسيح كلمة الله وأن قوة الله غير نائية منه ولا معرضة عنه وتستشهدون عليه في الإنجيل بقوله إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم ويتولى الحكم بينهم وأن الله منحه ذلك، إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة.

فإن كان هذا الحال للحكومة يوم الدين، القاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم لا يشك فيه، هو الجسد الذي كان في الأرض، المتوجه به الربوبية، فقد فصلتم بين الله وبينه وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه. وهذا شرك وكفر بالله تعالى. وإن كان خاليا من الألوهية وهي الكلمة وقد عادت إلى الله تعالى كما بدأت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنحلونه إياها.

ثم إنكم تعبرون عن الباري عز وجل بالأقانيم الثلاثة وتقولون إنه جوهر واحد وهو اللاهوتية.

فمن أين أخذتم هذا الاعتقاد؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ وأي قول قاله المسيح حتى استدللتم به على هذا المعنى حتى تدعونه فيه؟ وهل بنيتم إلا على قول التلميذ عن المسيح أنه قال لتلامذته حين أراد أن يفارقهم: اذهبوا فعمدوا باسم الأب والابن والروح القدس.

وهذا الكلام إن كان صحيحا فيحتمل أن يكون قد ذهب فيه بجميع الألفاظ: أن يجتمع له بركة الله وبركة نبيه المسيح وبركة روح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل. وأنتم إذا دعا أحدكم للآخر قال له: صلاة فلان القدس تكون معك. وإذا كان أحدكم عند أحد الآباء مثل جاثليق وممران أو أسقف وأراد أن يدعو له يقول له: صلي علي. ومعنى الصلاة الدعاء. واسم فلان النبي أو فلان الصالح الذي هو يعينك على أمورك.

ويجوز أن يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به. فكيف حكمتم بأنه ذهب إلى هذه الأسماء لما أضافها إلى الله تعالى صارت إلهية؟ وجعلتم له أسماء وهي الأقانيم الثلاثة. وقد عبرتم في لغتكم أن الأقنوم الشخصُ. فكيف استخرجتم ما أشركتموه بالباري تعالى ذكره عما تصفون بالتأويل الذي لا يصح. وقد تقدم القول في هذا المعنى بما فيه كفاية.

وإذا قلتم أقانيم، وكل أقنوم بذاته. فلا بد أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها سميع بصير عليم حكيم منفرد بذاته، كما تقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه. منذ أنكم أخذتم الأقنومين اللذين أخذتموهما مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وحياته روح القدس. وهذه صفات من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير، كذلك ربنا تعالى. وإن كانت صفاتنا لا تبلغ كنه مجده إلا للتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلو صفاته التي هي معناه وليس لسواه، جعلتموها أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة شخص له من الصفات مثل الذي له، وما فيها أقنوم له صفة.

ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله. وإذا كانت هذه الأقانيم الثلاثة عندكم آلهة، وكل صفة للإله من جوهره، فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة أقانيم، إذ كان من جوهره. فيتسع الأمر حتى لا يكون له غاية.

وإذا قلتم بثلاثة أقانيم وأنها في السماء من جوهر قديم. فيلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة لأن الأقانيم يومأ إليها ويقع الحد عليها. وإذا كانت كذلك فسبيلها سبيل الأشخاص، فبماذا تحتجون؟

وتذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير مبعضة ولا منفصلة. وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس. وعقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه. والجالس عن يمين أبيه يكون منفصلا منه. فكيف يصح على هذا القول قياس أو عقد دين؟ تارة تقولون مجتمع، وتارة منفصل. ولما كان الله لم يزل حيا عالما قادرا علمنا أنه حي بنفسه عالم بنفسه قادر بنفسه لا يحتاج إلى ما يكون به حيا قادرا. وبذلك تثبتت له الوحدانية وانتفى عنه العدد من التثليث وغيره.

[مسيح الله]

وأوضح ما جاء في أمر المسيح ما قاله متى التلميذ « إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية قال لتلاميذه: ماذا يقول الناس في ابن البشر؟ قالوا: منهم من يقول إنك يوحنا المعمدان، ومنهم من يقول إنك أرميا أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: أنتم ماذا تقولون؟ فقال شمعون الصفا – وهو رأس التلاميذ – أنت المسيح ابن الله الحي. فقال المسيح: طوبى لك يا شمعان بن يونان، إنه لم يطلعك على هذا لحم ولا دم، ولكن الذي في السماء. [53]

وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر وقال إن شمعان قال له: أنت مسيح الله [54] – ولم يقل ابن الله – وقال المسيح إن شمعون الصفا لم ينطق به لكن بما أوحى الله في قلبه. ولم يدفعكم قط عن أنه مسيح ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم – أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع الاختلاف الواقع في قول التلميذين.

وقد شهد المسيح على نفسه في عدة مواضع من الإنجيل أنه ابن البشر. وتكرر قوله لتلاميذه إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم. [55]

فنقول: إن الله تعالى اختصه بهذا الاسم على سبيل الاصطفاء والمحبة مثل يعقوب وإسرائيل. وقال عز من قائل: أنت ابني بكري. فهذا يثبت به البنوة ولا يوجب له ألوهية، إذ كان الله تعالى قد أشرك في هذا الاسم غيره. وأنتم إذا افتتحتم صلاتكم تقولون: أبونا السماوي تقدس اسمك، ليأت ملكوتك، أعطنا قوتنا يوما يوما. [56] فلم تجعلوه كما جعل نفسه، وهو لم يدع ذلك ولم يرض به. وقد قال كما تقدم ذكره لما سئل عن علم الساعة إن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة ولا الابن أيضا – وأشار إلى نفسه – ولا يعلمه إلا الله وحده. [57] وكما قال للرجل الذي قال له: أيها المعلم الصالح، أي الأعمال خير لي حتى يكون لي حياة إلى يوم القيامة؟ فقال له: « لم تقول لي صالحا؟ ليس صالح إلا الله وحده » [58] فاعترف لله أنه واحد لا شريك له. وقوله للمرأة التي قالت له: أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ طوبى لك أيتها المرأة. وقوله للشيطان لما سامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل: « أمرنا أن لا نجرب الرب إلهك » [59] ثم سامه أن يسجد له فقال: « أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده ولا نعبد شيئا سواه » [60] ثم صلاته لله في سائر الأوقات – آخرها في الليلة التي أخذته اليهود فيها [61] – فإذا كان إلها كما زعمتم، لمن كان يصلي ويسجد؟

ثم قول الجموع الذين كانوا معه لما دخل أورشليم – وهي مدينة بيت المقدس – على الأتان، لمن كان يسأل عن أمره لما ارتجت المدينة بهم: هذا يسوع الناصري، النبي الذي من ناصرة. [62]

ثم قوله في الإنجيل: « اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته وبيته وأقاربه » [63] ثم قول تلاميذه « إنه رجل نبي أتى من عند الله بالأيد والقوة » [64]

وقوله في الإنجيل لما جاءته أم زبدي مع ابنيها وكان من تلاميذه: ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابني أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال لها: ليس إلي ذلك، ولكن لمن أسعد من أبي. [65]

فهذه الشواهد كلها من كتبكم وما رضيتم قوله في نفسه ولا قول تلاميذه فيه ولا قول من أثنى عليه من الأنبياء ولا قول جموعة لمن سألهم عنه من مخالفيهم ولا ما ثبت في إنجيلكم الذي هو إمامكم وحجتكم. فتركتم ذلك كله وأخذتم بآراء قوم من رؤسائكم تأولوا ما تأولوه لكم مع علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي. فبينوا لنا حجتكم في ذلك وهيهات من حجة.

ثم قول المسيح عليه السلام لتلاميذه على لسان لوقا الإنجيلي: « أنتم المقيمون معي في آلامي، فإني أعدكم كما وعدني أبي لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي » [66]

فبين أن الله وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدة. وهذا ما لا يسعكم فيه الشك، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه من الأكل والشرب والنعيم هناك. وليس الأكل والشرب من طباع إله ولا رب يعبد.

ثم قوله عليه السلام لشمعون حين أتته الجموع لأخذه: « لا تظن أني لست قادرا على أن أطلب من أبي فيقيم لي اثنتي عشر جندا من الملائكة أو أكثر، ولكن كيف يتم ما نطقت به الكتب وأنه هكذا ينبغي أن يكون » [67]

ولم يقل إنني قادر على أن أدفعهم عن نفسي ولا أن آمر الملائكة أن يمنعوهم مني، كما يقول من له القدرة والأمر.

ثم إنكم تقولون إن المسيح مولود من أبيه أزلي. ويجب على المدعي بقول أن يثبت الحجة ويعلم أنه مطالب بإيضاحها وبرهانها، لا سيما في هذا الخطب الجليل الذي لا يجب أن يقع التلاعب به. والويل لمن تأول فيه تأويلا لا أصل له ولا حقيقة، فإنه يهلك نفسه وعوالم من الناس معه ممن يتبع قوله.

فإن كان الأمر على ما تقولون "أزليا" على ما في شريعة إيمانكم، فليس بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر. ومعنى المولود أنه حادث مفعول، فله أول. فكيف قلتم ما كان فيه بطلان شريعة إيمانكم؟ وإذا كان الأب قديما فالابن قديم مثله، وإن كان الأب خالقا فالابن أيضا خالق. وشريعة إيمانكم تشهد بذلك في قولها إنه خالق الخلائق كلها وإنه نزل لخلاصكم. ومن قدر على ذلك لم يكن إلا خالقا قادرا. وهذه المعاني تبطل اسم الأبوة والبنوة. وفي بطلانها [ بطلان ] شريعة إيمانكم التي تقول إنه ولد من أبيه. فإذا كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فأي فضل وسلطان للأب على الابن حتى أمره ونهاه فصار الأب باعثا والابن مبعوثا تابعا مطيعا؟

ومما يشهد بصحة قولنا ويبطل ما تأوله رؤساكم في عبودية المسيح أن متى التلميذ حين بنى إنجيله وأسس القول فيه، أول ما ابتدأ به أنه قال: « كتاب ولادة عيسى المسيح الابن لداود فالابن لإبراهيم. ولقد ولد إبراهيم إسحاق وولد إسحاق يعقوب » ونسبه إلى من كان منه على الصحة. ولم يقل إنه ابن الله ولا أنه إله من إله كما تقولون في شريعة إيمانكم.

ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل لمريم عليها السلام في مخاطبته إياها إنه ابن داود، على ما في الإنجيل. فأي حجة في إبطال تأويلكم أوضح من هذا؟

وقلتم في شريعة إيمانكم إن المسيح بكر الخلائق. فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد للرجل، فجائز وهو محقق لقولنا في خلقه وعبوديته. وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا الأول من الأولاد. وبكر الخلائق لا يكون إلا منهم [68] كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما. ومن المحال أن يقال بكر ولد آدم ملَك. وكذلك من المحال أن بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر الخلائق ليس بمخلوق. وقد قال الله تعالى في التوراة: « ابني بكر آل إسرائيل » فهل يوجب لآل إسرائيل الألوهية بهذا القول؟

ومن آكد الحجج في المسيح إقراركم أنه بكر الخلائق وأنه الابن الأزلي، ثم الذي وقعتم فيه من الخلف بينكم وكل فرقة منكم تكفر الأخرى. وغيركم من الملل إنما اختلفوا في فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسيرهم، واختلاف المسلمين في القدر، فمنهم من قال به ومنهم من دفعه. وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد ﷺ على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وأنه واحد لا شريك له ولا ولد، خالق الخلق كلهم، ثم على نبيهم محمد ﷺ وعلى القرآن المجيد وأنه كتاب الله المنزل على نبيه – لا يختلفون في ذلك. فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول كان ما سواه سهلا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين. وإنما البلاء العظيم الاختلاف في المعبود.

ولو أن قوما لم يعرفوا لهم غلها ولا ربا وعرض عليهم دين النصرانية لوجب أن يتوقفوا عنه إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء منه، ودل اختلاف مقالاتهم ومبانيها في كتبهم على باطله.

[تبديل وتحريف الأناجيل]

ثم إنكم تقولون إن الأناجيل التي بيدكم لم تبدل ولم تحرف ولا غير شيء منها ولا زيد فيها ولا نقص منها. وقد جاء في تفسير الأناجيل لإليا بن ملكون الجاثليق – وهذا الرجل من أكبر أحباركم لا يسع أحد منكم جحود فضله وغزارة علمه وله من المصنفات في مذهبكم ما يشهد بحذقه – أن التلاميذ الاثني عشر والحواريين وعدتهم اثنان وسبعون نفرا، أن كل واحد منهم علم إنجيلا، وبقوا على ذلك إلى أيام قسطنطينوس، وأن هذا الملك لما رأى اضطراب حال النصارى واختلاف أناجيلهم وأن كل واحد من التلاميذ والحواريين قد أتى في إنجيله بشيء لم يأت به الآخر وكل منهم قد انقاد له جمع كثير والفتن بين النصارى قائمة وكل فرقة تكذب الفرقة الأخرى وتكفر اعتقادهم، أمر في جميع ممالك النصارى بإحضار البطاركة والجثالقة والأحبار من أقاصي البلدان، وأن يحضروا أناجيلهم. وكان عدة الجماعة الذين حضروا ثلاثمائة وثمانية عشر نفرا، وأنهم أحضروا من الأناجيل ما عجزوا عن حمله، وأن الملك قسطنطينوس أمرهم أن يقتصروا من تلك الأناجيل على إنجيل واحد وأنهم امتثلوا أمر الملك ودخلوا تحت طاعته لما رأوا في ذلك من المصلحة لسكون الفتن الثائرة بينهم وحقن دمائهم، واقتصروا على هذه الأناجيل الأربعة التي بأيديهم وهي لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا، وأسقطوا الباقي. فإن كانت تلك الأناجيل التي أسقطوها غير صحيحة وهي كذب، فهذه الأربعة الأخرى تكون كذبا مثلها.

[إخوة المسيح]

ثم إنكم اختلفتم في إخوة المسيح، وقد جاء في تفسير الأناجيل أن المسيح كان له أربعة إخوة، وهم موسى وشمعون ويهوذا ويوحنا، وثلاث أخوات. فمنكم من قال إنهم أولاد مريم عليها السلام من يوسف النجار، وأنهم أتوا بعد ولادة المسيح عليه السلام. واستدلوا على ذلك بما نطقت به الأناجيل، وهو أن جبريل عليه السلام تراءى ليوسف خطيب مريم وقال له: خذ خطيبتك مريم واصعد إلى الجبل ولا تباشرها حتى تلد ابنها البكر. ومنهم من قال إن يوسف النجار تزوج امرأة أخرى وكان اسمها أيضا مريم وأولد منها هذه الأولاد، وبينما هم يتحاورون في ذلك إذا بصبي يقال له موانيس وأنه قال: حاشا الجسد الذي حل فيه جسد المسيح المخلص أن يحل فيه جسد آخر، وقد كان أمامهم صورة مريم في جدار وأن تلك الصورة نطقت، وقالت صدقت بفم الذهب. فسمي ذلك الصبي بفم الذهب، وقصته مشهورة. وانقطع الكلام وجزموا بما نطقت به تلك الصورة.

هامش

  1. الملوك الأول 18: 17-24
  2. الملوك الثاني 4: 8-37
  3. التكوين 46: 4
  4. الخروج 4: 3
  5. ر الملوك الثاني 2
  6. فدحه الدين أي أثقله
  7. الملوك الثاني 4: 1-7
  8. الملوك الأول 17: 11-16
  9. ر يوحنا 6: 38-40
  10. ر يوحنا 11: 39-48
  11. متى 27: 46 ومرقس 15: 34
  12. فالله من يغفر الذنوب. لوقا 23: 34
  13. فسلم المشيئة إلى الله. متى 26: 42
  14. يوحنا 5: 30
  15. يوحنا 13: 16
  16. ر يوحنا 1: 18
  17. ر يوحنا 8: 28
  18. ر يوحنا 7: 16
  19. فوصف نفسه بأنه نبي. مرقس 3: 5
  20. ر يوحنا 4: 25-26
  21. يوحنا 20: 21
  22. مرقس 9: 37
  23. فجعل المسيح عبدا لله. متى 12: 18
  24. ر يوحنا 12: 44
  25. يوحنا 14: 28
  26. ر يوحنا 5: 30، 10: 25، 10: 32
  27. يوحنا 15: 1
  28. ر يوحنا 5: 26
  29. ر يوحنا 5: 31، 8: 18
  30. يوحنا 8: 40
  31. ر يوحنا 11: 41
  32. ر يوحنا 5: 18-23، 7: 28-29
  33. أعمال 2: 22-24
  34. أعمال 2: 36
  35. تكوين 45: 9
  36. لوقا 24: 15-20
  37. المزمور 2: 7-8
  38. المعري
  39. ينظر كتاب التاريخ المجموع لابن البطريق.
  40. لعله مطران نصيبين إيليا النصيبني بن شينا 399 – 440.
  41. ترجم له ابن العبري.
  42. العبد
  43. الخروج 4: 22
  44. مزمور 2: 7
  45. يوحنا 20: 17
  46. ترجيح بلا مرجح.
  47. ر الخروج 4: 16
  48. الخروج 7: 1
  49. ر أمثال 8: 23-30
  50. متى 24: 36 ومرقس 13: 32
  51. متى 19: 16-17 ومرقس 10: 17-18 ولوقا 18: 18-19
  52. يوحنا 5: 30
  53. فالله في السماء وليس على الأرض. متى 16: 13-17
  54. لوقا 9: 20 ومرقس 8: 28
  55. يوحنا 20: 17
  56. متى 6: 9 ولوقا 11: 2
  57. مرقس 13: 32
  58. متى 19: 17
  59. متى 4: 7
  60. متى 4: 10
  61. متى 26: 39
  62. متى 21: 11
  63. متى 13: 57
  64. لوقا 24: 19
  65. متى 20: 20 مرقس 10: 35
  66. لوقا 22: 28-30
  67. متى 26: 53
  68. أي أنه مخلوق ليس بخالق


النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية
مقدمة المؤلف | الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم | الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم | الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات | الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد ﷺ من التوراة والإنجيل