الرئيسيةبحث

النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية/الفصل الثاني


الفصل الثاني
في تناقض كلامهم ودعاويهم واختلاف أقوالهم


قالوا إن الاتحاد لم يكن على سبيل ممازجة ولا مساكبة، كاتحاد نقش الفص في الشمع وصورة الوجه في المرآة.

يقال لهم: أليس الاتحاد في الكلمة؟

فإن قالوا نعم، وهو أن يثبت معناها والعلم بها في نفس المسيح؛

قيل: قد ثبت في نفسه وفي نفس الأنبياء، وبغير معنى الأب والابن والروح القدس، فيجب أن تكون الأقانيم الثلاثة متحدة بالمسيح وبالأنبياء وغيرهم. ثم كيف يصح من المسيح الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام من أجل أنه عرف الكلمة، فإن المعرفة بمخترع الإجسام لا تستثني اختراع الأجسام.

وإن قالوا: معنى اتحاد الكلمة به هو أن تحل بمثلها، فحصلت له كلمة مثلها؛ فلم يخل أن يقولوا إن المسيح علم ما علِمه الله عز وجل جميعه أو علم بعض ما علمه. فإن قالوا بعض ما علمه الله، فغيره من الأنبياء قد علم بعض ما علمه الله. فإن قالوا علم جميع ما علِمه الله، فالإنجيل الذي بيدهم الآن على خلاف قولهم هذا لأنه يحكي أن المسيح سئل عن القيامة فقال: « إن هذا لا يعرفه الملائكة ولا الابن، وإنما يعرفه الأب وحده »، [1] فحكم بأن الابن لا يعلم جميع ما يعلمه الأب، مع أن العلم بالأشياء لا يصحح الأفعال الإلهية.

وأما من قال إن معنى الاتحاد أن ظهرت الكلمة بالتدبير على يديه وإظهار المعجزات عليه، فيلزمهم أن لا تكون المعجزات من فعله وهو يأبون ذلك. ويلزمهم أن تكون الكلمة قد اتحدت بكل من ظهرت المعجزات عليه، إذا كانت المعدزات الدالة على الكلمة ظاهرة على أيديهم، ولا يليق هذا بما في التسبيحة من أن الابن تجسد وصار إنسانا وحبل به وولد وقتل وصلب وصعد وجلس عن يمين أبيه.

وأما الشبهة التي وقعت لقوم منهم في قولهم إن المسيح فعل أفعالا إلهية وأفعالا إنسانية، فلذلك قالوا إن للجوهر الإنساني نسبا وقسطا.

والجواب أن الأفعال الإلهية ظهرت عليه ولم يكن هو الفاعل لها، كما ظهرت على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالمظهر هو الله عز وجل دونهم، وإن نسبت إليهم لظهورها على أيديهم. وقيل إن موسى عليه السلام فلق البحر وقلب العصا حية، وكما لم يدل ذلك على أن في موسى ذاتا إلهية فكذلك ما ظهر على يد المسيح عليه السلام.

ويحكون عن المسيح عليه السلام أنه قال: "أنا بأبي وابي بي". وقالوا هذا من الحجة على الاتحاد وليس كذلك. فقد قال يوحنا في الإصحاح السادس عشر من إنجيله أن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: "يا أيها الأب القدوس، احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، وكما أنك أرسلتني فكذلك أرسلهم، فأنا بهم وأنت بي." ومعنى ذلك: أنك معي كما أني مع تلاميذي وأنك أرسلتني إلى الخلق لأدعو إليك وكذلك أرسلتهم إلى عبادك. لو لم يكن كما قلنا لكان معناه على قولهم أن الله بالمسيح بمعنى أن قوامه به، وهذا كفر لأن قوام كل شيء بالله يوجب التداخل والامتزاج، وهو أن يكون الله في المسيح والمسيح في الله، وأن يكون تلامذته متداخلين فيه وهو متداخل في تلامذته، وهذا ظاهر الفساد.

وحكوا عن المسيح أنه قال: "لا يصعد إلى السماء إلا من نزل من السماء".

وهذا الكلام له وجوه في التأويل، منها أن المراد به أن الملائكة التي تصعد إلى السماء هي التي نزلت من السماء. ووجه آخر أنه لا يصعد إلى السماء من أعمال الناس إلا ما كان زكيا مأخوذا عن الوحي والتنزيل. ولو كان كما زعموا وصح ما أوردوا وأخذوا بظاهر ما حكوا، فقد صعد إلى السماء فيما يزعمون غيره ولم يكونوا نزلوا من السماء، وهم أخنوخ وإلياس. فهم في ذلك بين أمرين: إما إبطال الخبر وتكذيب من نقله أو القبول له وتأويله على غير ما أوردوه، ويلزمهم على ذلك أن يكون قد صعد إلى السماء جملة المسيح، أعني جسمه مع لاهوته على قولهم، والناسوت لم ينزل من السماء، فقد صعد إلى السماء من لم ينزل منها.

وحكي عن المسيح أنه قال: "إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا". وهذا مما يحتجون به في إبطال وحدانية الله سبحانه وتعالى.

وهذا إن صح عن المسيح فله في التأويل مساغ، وهو أن يكون إبراهيم أعلمه الله تعالى ذلك، وقد يعبر عن العلم بالرؤية ويقال رأيت بمعنى علمت. وجاء في الخبر أن اليهود أنكرت هذا القول على المسيح فقالت: إنك لم تبلغ بعد أربعين وتزعم أنك رآك إبراهيم؟ فقال المسيح: نعم أقول لكم هذا حق، ثم وصل الكلام فقال: من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا؟ فجعله استفهاما وليس بخبر، كأنه لما قال إن هذا هو الحق على الوجه الذي أولته ونفى ما ظنوا أن يكون من رآه من طريق المعاينة والمشاهدة بهذا التوبيخ الذي خرج مخرج الاستفهام ولم يفهم لليهود ونفروا منه فانصرف من بينهم.

ومما يؤكد ما قلناه أن متى قال في إنجيله: « كان مولد أيشوع المسيح بن داود بن إبراهيم » [2] فإن [ ابن ] إبراهيم لا يكون قبل أبيه. ثم كيف يصح أن يكون قبله على قولهم وهو في هذه الحالة لحم ودم، ولم يكن عندهم قبل إبراهيم لحم ولا دم؟ ولو قالوا ذلك نقضوا تسبيحة إيمانهم أنه تجسد من مريم بعد نزوله، ففي هذا كفاية.

[اختلاف الإنجيليين]

وقد اختلفت التلامذة الأربعة الذين جمعوا الإنجيل وزادوا ونقصوا. فمن ذلك ما ذكره يوحنا إن أول آية أظهرها المسيح بقرية قاطبا الجليل – أنه كان في دعوة فحول الماء شرابا. ولم يذكر هذه الآية أصحابه الثلاثة، فإن هم كانوا قد تركوا ذكرها لأنهم غابوا عنها ولم يكن عندهم من اليقظة والعناية بأمر المسيح وأخباره ما يدعوهم إلى المسألة عنها. وما يؤمنكم أن يكونوا قد غابوا عما هو أعظم وأهم من هذه؟ فكيف يخفى خبر مثل هذه الآية على أمثالهم، بل على بلدانهم، فضلا عن الغرباء والأصحاب؟ وإن جاز على مثلهم هذا الغلط فلعل يوحنا قد أسقط وغلط وغاب مثل غيبتهم، فضاعت أمور وسقطت سنن ونسيت فرائض؛ وأن يوحنا ذكر ما لا يقبله هؤلاء الثلاثة ولا صدقوا به فتحرجوا من ذكره، فيكون هذا طعنا فيه. ومن ذلك أن يوحنا وحده ذكر أن المسيح قام وغسل أقدام تلامذته ومسحها بمنديل كان مشدودا في وسطه،[3] وأمرهم أن يقتدوا به في التواضع والبر. ولم يذكر هؤلاء الثلاثة. ومثل هذا إذا كان في مثل المسيح بحضرة جماعة حوارييه لا يكون مستورا ولا يختص بعلمه واحد دون آخر، بل يتسامع به الناس ويخبر الشاهد الغائب، لأنها سنة أمر بها في التواضع، فقد ضيعوا ذكرها أو لم يصح عندهم الخبر، فيكون طعنا في يوحنا.

ومنها أن يوحنا التلميذ ذكر في الإصحاح الأول أن المسيح أتى [ يوحنا المعمدان ] فيمن كان يأتيه من بني إسرائيل للانصباغ على يده، فلما وقع بصره على المسيح قال: هذا خروف الله الذي تحمل خطايا العالم، وهو الذي قلت إنه يأتي بعدي، وهو أقوى مني، وإني لا أستحق أن أحل مقعد خفيه، وهو الذي في يده المحرقة، ويبقى مدره فيجمع الحنطة في إهابه ويحرق الأتبان بالنار التي لا تطفأ، وهو الذي قلت إنه متقدم لي. [4]

وخالفه في ذلك صاحباه متى ولوقا، وأما مرقس فإنه لم يذكر ذلك البتة.

وأما متى فقال في إنجيله إن يحيى بن زكريا حين رأى المسيح قال له: "إني محتاج إلى أن أنصبغ على يديك، وها أنت قد جئتني لذلك" [5] وقال يحيى بن زكريا أيضا: "إن الذي يجيء بعدي أقوى مني" [6] والمسيح لم يجئ بعده بل معه. فالذي عناه بذلك غير المسيح، بل المراد به النبي محمد ﷺ. وأنه بعد ذلك أرسل إلى المسيح مع تلامذته وقال: أنت الذي تجيء أو نتوقع غيرك؟ [7] فهذا خلاف ما قاله يوحنا. ولئن كان ثلاثة ألفوا ذكر ذلك، وفيه أعظم القوة وآكد الحجة، فما يؤمن أن يكونوا ألفوا ما هو أكثر وأهم منه؟

وفي كلام يحيى معان حسنة، منها أن المسيح يحرق الأتبان بالنار – يعني الفجار – وهو خلاف ما يعتقده النصارى من أن الخطيئة ارتفعت بمجيئه. ومنها أن أكثر ما قيل في المسيح أنه أقوى مني، فهكذا يقول مثل يحيى من الخاشعين الصالحين.

ومن ذلك أن الإنجيل ينسب يوسف النجار الذي كان خطيب مريم. فقال متى إن يوسف بن يعقوب بن مايان. [8] وقال لوقا إن المسيح كان يُظن أنه ابن يوسف بن هاد بن مطث. [9] وهذا خلاف بين وفساد ظاهر. ثم قول لوقا إن المسيح كان يظن أنه ابن يوسف: شك منه، وقبيح بمثله أن ينسب المسيح إلى ما يظن به الجهال أنه مولود من أب ولا يرفع قدره عن ذلك.

ولو ذكرت التخاليط التي ذكرها كل واحد منهم واختلافهم وتناقضهم لطال الكلام.

ولقد حرفوا كتبهم وأفسدوا معانيها وأسقطوا حجج الله سبحانه وتعالى عليهم منها، حتى أنهم يعظمون مثل غريغورس ويقولون إنه يتكلم بروح القدس، وهو القائل في خطبته عن مولد المسيح: إن الذي لا يتألم ولا يضطجع صار مضطجعا، والذي لا يحس صار محسوسا، والذي لا يحد صار محدودا، وصار الخالق مخلوقا. وقال إن من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله.

[أم المسيح]

ولأصل أم المسيح عندكم وجوه. منها البشرى التي أتى بها جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها وقال: « السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. » فلما رأته مريم ذعرت منه فقال لها: « لا ترهبي يا مريم، فقد فزت بنعمة من ربك، منها أنك تحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، ويكون كبيرا ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. » [10] قالت مريم: أنى يكون لي ولد، ولم يمسسني بشر؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك وقوة العلي تحلك، من أجل ذلك يكون الولد الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي.

فلم نر الملك قال لها إن الذي تلدين هو خالق وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله يعطيه كرسي أبيه داود ويصطفيه ويكرمه، وأن داود أبوه وأنه يسمى ابن الله. وما قال أيضا إنه يكون ملكا على الأرض، وإنما جعل الملك على بني إسرائيل فقط.

[معنى ابن الله في كلامهم]

وقد علمتم أن من سمي ابن الله كثيرون لا يحصون. فمن ذلك إقراركم جميعا أنكم أبناء الله بالمحبة، وقول المسيح « أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » [11] في عدة مواضع من الإنجيل. ثم تسمية الله تعالى يعقوبَ وغيره بنيه خصوصا. [12]

فالسبيل في المسيح إذا لم يلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار.

ونسب الملك إياه إلى أن أباه داود، وحلول روح القدس عليه على الجهة التي قالها متى التلميذ للشعب في الإنجيل « لستم أنتم تتكلمون، بل روح أبيكم » [13] فأخبر بأن الروح تحل في القوم أجمعين تتكلم فيهم.

وقال الملك أيضا في بشارته لمريم بالمسيح: « إنه يكون ملكا على آل يعقوب. » فخص آل يعقوب بالملكية عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق.

ومعنى قول جبريل « ربنا معك » مثل قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء « إني معكم »، وقوله تعالى ليوشع بن نون: « إني أكون معك كما كنت مع موسى عبدي. » [14]

ومنه النداء الذي أسمعه الله تعالى ليحيى بن زكريا من السماء في المسيح وشهادة يحيى له. فإن متى قال في إنجيله إن المسيح لما خرج من الأردن فتحت له السماء ونظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة وسمع نداء من السماء أن هذا هو ابني الحبيب الذي اصطفيته. [15]

وقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق. ولم يستنكف المسيح من الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول « إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم » وكل ما يصحح أنه عبد مرسل مربوب مبعوث بأمور، يودي ما سمع ويفعل ما حد له.

وقد وجدنا المسيح احتاج إلى أن يكمل بره بمعمودية يحيى فصار إليه ذلك، وسأله إياه – وليس مرتبة المقوصد دون مرتبة القاصد الراغب – وقال لوقا التلميذ في إنجيله: إن يحيى المعمدان أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: هل أنت الذي يجيء أو نتوقع غير؟ فكان جواب المسيح لرسله: ارجعوا وأخبروه بما ترون، في حال عميان يبصرون وزمنى ينهضون وصم يسمعون، وطوبى لمن لم يغتر أو يزل في أمري. [16]

فوجدنا يحيى - مع محله وجلالة قدره عند الله تعالى، ثم ما شهد به المسيح له أنه ما قامت النساء عن مثله [17] - قد شك فيه واحتاج أن يسأله عن شأنه. ثم لم يكن من جواب المسيح له شيء مما تصفونه من الربوبية ولا قال إني خالقك وخالق كل شيء كما في شريعة إيمانكم، بل حذر من الغلط في أمره والاغترار به. ولا كان من قوله أكثر من ذكر ما أظهره بنبوته من هذه الآيات التي لم يسبقه إلى مثلها أكثر الأنبياء، وما رأينا يحيى زاد في وصفه إياه لما ذكر – مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله – على أن قال إنه أقوى مني وإني لا أستحق أن أحل مقعد خفيه، ولم يقل إنه خالقي. وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى إنه ما قامت النساء عن مثله.

فقد كذبتم يا معشر النصارى ما أتت به الرسل والنبوات في أمر عيسى، وهو أصل دينكم الذي وقع ثناؤكم عليه، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها. وثل الذي عقد هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل يتبرأ من النبوة، لأن المسيح يقول إنه مربوب مبعوث. [18] وجبريل يقول إنه مكرم مصطفى وأن أباه داود وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب. وينادي مناد من السماء بمثل ذلك. ويشهد يحيى وغيره أنه معطى وأن الله معطيه. وتقولون أنتم بل هو رازق النعم وواهبها. وهو يقول إن الله أرسله، وأنتم تقولون بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون أن سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم ويحتمل الخطيئة ويربط الشيطان. وقد وجدنا الخلاص لم يقع والخطيئة قائمة، ولم يزل الشيطان أعتى مما كان، لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه. فقال في بعض أحواله معه: إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز بل بكلمة تخرج من الله. ثم سافر الشيطان إلى بيت المقدس وأقامه على قرن الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فارمِ بنفسك من ههنا، فإنه مكتوب أن الملائكة توكل بك لئلا تتغير رجلك. فقال عيسى: ومكتوب أيضا أن لا يجرب الرب إلهك. ثم سافر إلى جبل عال فأراه جميع ممالك الدنيا وزخارفها وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك، فقال المسيح: اعرف أيها الشيطان أنه مكتوب: اسجد للرب إلهك ولا تعبد شيئا سواه. [19] ثم بعث الله ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق الله سبيل المسيح.

أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله؟ ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يربطه عن خليقته. فهذه الأمور إذا كانت تأملها ذو لب وبحث جيدا لعلم كثرة اختلافها وشدة نقضها واضطرابها.

ثم إنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصار بجهة واحدة، لم يفارقه قط منذ اتحد. وقد مكث على ذلك في بطن أمه مدة الحمل ثم اغتذى باللبن، وتناول بعد ذلك الأغذية حتى بلغ ثلاثين سنة لا تظهر فيه آية للربوبية، ولم يكن بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور ولا حفت به الملائكة بالتهليل ولا ظهر منه في البعث [20] بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله. فقد كلم الله تعالى موسى عليه السلام قبله من العوسجة وأشرق ما حولها، وكلمه في طور سيناء فاضطرم في الجبل النيران، وألبس وجهه النور الساطق حتى كان إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك يتبرقع [21] لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه. [22] ثم سأل موسى ربه لما قرب منه فقال: { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } فقال له تقدست أسماؤه: { لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } فلما أفاق استقال ربه فتاب عليه. وتجلى مجد الله تعالى لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

فإذا كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم تظهر منه آيات باهرات أجلّ من آيات الأنبياء مثل المشي على هون [23] في الهواء والاضطجاع على أكناف [24] الرياح والاستغناء عن المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين ومنع الآدميين من نفسه وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

ثم إنكم تقولون إن الابن الأزلي إنما سمي ابن الله لأنه تولد من الأب وظهر منه. فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول إن الروح تخرج من الأب أيضا. فإن كان الأمر على ما تقولون فالروح ابن لأنها تخرج عن الله عز وجل، وإلا فما الفرق بينهما؟

وقولكم أيضا إن الابن تجسد من روح القدس؛ فما كانت حاجة الابن إلى الروح وهي في قولكم مثله؟ والابن إذًا دون الروح وليس كمثله، فإن الأزلي لا ينفصل عن الأزلي لكونه مثله. وإن كان المسيح من روح القدس كما قال جبريل لمريم، فلم سميتموه "كلمة الله وابنه" ولم تسموه روحه؟ وإنما قال لها جبريل إن الذي تلدينه من روح القدس، والروح غير الابن، فلم تثلثون وتقولون الأب والابن وروح القدس؟

ووجدت النسطورية يقولون: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياةً هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة. ولحياته التي هي روح علم وحياة؛ وإن الله الأب لما رأى استعلاء العدو على خلقه وتلون الأنبياء عند مناداته أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووقاية للناس أجمعين؛ وإن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي في كنائسهم ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم ولا ينتحل رسالة ولا نبوة، حتى انقضت تلك السنوات، فأظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وصلبته وقتلته – على ما تزعمون – ثم قلتم صعد إلى السماء، وكفرتم من خالف. ثم لم تلبثوا أن خالفتم وقلتم: جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حاله، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، والثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور.

فكان معنى قولكم هذا أن المسيح مولود ولكنه ليس مفعولا به. وهو مبعوث مرسل إليكم تستحيون أن تسموه رسولا إذا كنتم لا تفرقون بين الله تعالى ونبيه في شيء من الأشياء.

وأقبلتم على الملكية واليعقوبية بالتكفير والطعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم قدمتم المسيح على الله وبدأتم به في التحميد ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم، فإنه يقوم الإمام منكم على مذبح من مذابحكم – وأهله مرعبون يتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه – فيفتح دعاءه ويقول: لتتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب وبروح القدس إلى دهر الداهرين. ثم يختم صوته بمثل ذلك. فهذا تصريح بالشرك وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن دونه، ومن هو معطى من عند الله قولكم، وجعلتم بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة. وعبتم على اليعقوبية قولهم "إن مريم ولدت الله" وفي شريعة إيمانكم التي ذكرناها وأجمعتم عليها أن المسيح إله حق وأنه ولد من مريم؛ فما الذي تنكرونه من قولهم إن المقتول المصلوب هو الله؟ وفي شريعة إيمانكم تقولون "نؤمن بالرب المسيح الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك وقبر وقام في اليوم الثالث" فهذا قولكم مثل قولهم.

وما يخلو أمر المسيح من أن يكون إما إلها أو إنسانا. فإن كان إلها فإما أن يكون هو واجب الوجود الرب المعبود أو إله آخر غيره، فقد حصل الإشراك. وإن كان إنسانا فلم نسبتموه إلى الربوبية أو الإلوهية؟ فأي القولين اخترتم ففيه نقض شريعتكم.

وعبتم على الملكية قولهم إنه ليس للمسيح إلا أقنوم واحد لأنه الخالق الأزلي، شيئا واحدا لا فرق بينهما. وقلتم بأن له أقنومين لكل جوهر أقنوم على حاله، ثم رجعتم إلى مثل قولهم وقلتم إن المسيح وإن كان مخلوقا مبعوثا فإنه هيكل ابن الله الأزلي ونحن لا نفرق بينهما. فإذا كان الأمر على مثل هذا فلم تنقمون عليهم؟ وما معنى الافتراق وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ فإن كانت الشريعة حقا عندكم فالقول ما قال يعقوب. [25]

وقد وجدنا القوم الذين ألفوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق وهو الذي ولد من مريم، وليس بمصنوع، إله حق من إله، وهو إله حق من جوهر أبيه، وهو الذين أتقن العوالم وخلق كل شيء على يديه، وهو الذي نزل لخلاصكم فتجسد وحملته مريم وولدته وصلب. فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن [26] من ألفها. وإنما أخذت تلك الطائفة كلمات - ذكروا أنهم ذكروها في الإنجيل - مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها وتركت كل ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلامذته عليه بذلك. [27]

[التشبيه بالشمس]

وأما احتجاجكم بالشمس، وأنها هي شيء واحد لها ثلاثة معان، وتشبيهكم ما تقولونه من الثلاثة أقانيم بها؛ فإن ذلك تمويه منكم لا يصح. لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحدها، إذا كان حد الشمس جسما مستنيرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما. [28] ولا يتهيأ أن يقال نورها وحرها جسم مستنير مضيء مسخن دائم الدوران. ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت شريعتكم "إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه"، لكان ما قلتم له مثلا. ولكن هذا القياس لا يقع عليه والحجة فيه باطلة.

وقلتم إن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام.

وهذا من العجب، وأعجب منه من قبِله. ولا أستقبح أن تعقد ديانة اللهَ على مثل هذا المحال ويدعو الناس إليها، وما هو ببعيد ممن عقد ما هو أمحل وأبطل منها. لأنه إن كان الخطيئة بطلت بمجيئه فالذين قتلوه إذا غير مأثومين ولا خاطئين - لأنه لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة. وكذلك الذين قتلوا حوارييه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين. وكذلك من تراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى الآن يقتل ويسرق ويزني ويكذب ويرتكب كل ما نهي عنه غير خاطئين!

[الصلب]

وتقولون إن بصلبوت [29] المسيح بطل الموت وانطفأت فتن الشيطان واندرست.

فأي خطيئة بطلت وأي فتنة للشيطان انطفأت وأي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير حاله؟

وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا يخفى على الصبيان، فأنتم لما هو أعظم من المحال أقبل، وأناجيلكم تكذب هذا القول حيث يقول المسيح فيها: « ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا، أليس باسمك أخرجنا الشياطين؟ فأقول: اغربوا عني يا أيها الفجرة الفارون، فما أعرفكم قط. » [30]

فهذا خلاف قول علمائكم فيما وضعوه لكم.

وقول المسيح عليه السلام:

إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني وعطشت فلم تسقوني وكنت غريبا فلم تؤوني ومحبوسا فلم تزوروني ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النارد المعدة لكم قبل تأسيس الدنيا. وأقول لأهل الميمنة: فعلتم عكس هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا. [31]

فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ارتكبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال إن الخطيئة قد بطلت فقد خالف قول المسيح، وهو من الكاذبين. فكيف تنسبونه إلى الربوبية وتنحلونه اللاهوتية وتجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم؟

فما الحجة عندكم في ذلك؟ وهل نطقت كتب النبوات أو قال هو عن نفسه أو قال أحد تلاميذه والناقلون عنه - الذين هم عماد دينكم ومن أخذتم الشرائع والسنن عنهم ومن كتب الإنجيل أو بينه؟ بل قد أفصح في كل الأناجيل – في كلامه ومخاطبته ووصاياه – بأنه عبد مثلكم مربوب معكم ومرسل من عند ربه وربكم. وحكى مثل ذلك مِن أمره تلاميذه وحواريوه، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت. ولو كان كما زعمتم لأفصح عن نفسه بأنه الله [32] كما أفصح بأنه عبد، لكنه ما ادعى ذلك ولا دعا إليه ولا ادعته كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلاميذه ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم ولا قول يحيى بن زكريا الذي عمده.

هامش

  1. مرقس 13: 32
  2. متى 1: 1
  3. يوحنا 13: 4-5
  4. ر يوحنا 1: 6-36
  5. متى 3: 14
  6. متى 3: 11
  7. متى 11: 2-3
  8. متى 1: 15-16
  9. لوقا 3: 23
  10. لوقا 1: 28-38
  11. يوحنا 20: 17
  12. مثل الخروج 4: 22 « هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. » وفي المزمور 2: 7 قيل لداود « أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. » وفي متى 5: 9 « طوبى لصانعي السلام لأنهم يدعون أبناء الله. » وينظر الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل للغزالي.
  13. ر لوقا 12: 12
  14. يوشع 3: 7
  15. متى 3: 13-16 ومرقس 1: 10-11 ولوقا 9: 35
  16. لوقا 7: 20-34
  17. متى 11: 11
  18. تقدم قول المسيح في يوحنا 20: 17 عن الله إنه إلهه وإلههم « إلهي وإلهكم »، وفي يوحنا 17: 3 « وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته. »
  19. ر متى 4 ولوقا 4
  20. أي أثناء بعثته
  21. يغطي وجهه
  22. الخروج 34: 33
  23. الهون السكينة والوقار
  24. الكنف الجانب
  25. يعني يعقوب البراذعي الذي تنسب إليه طائفة اليعقوبية النصرانية.
  26. من عادة المجامع المسكونية التي انعقدت لتأليف أو تنقيح عقائدهم أن تلعن من خالفها
  27. ينظر كتاب ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وكتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي.
  28. التمويه ناتج عن الخلط المقصود أو جهل الفرق بين الذات وبين صفاتها وآثارها وأفعالها.
  29. أي بصلبه على زعمهم
  30. متى 7: 22-23
  31. ر متى 25: 34-44
  32. في نسخة: إله.


النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية
مقدمة المؤلف | الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم | الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم | الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات | الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد ﷺ من التوراة والإنجيل