الرئيسيةبحث

الروح/المسألة السادسة عشرة/فصل وصول ثواب الحج

فصل وصول ثواب الحج

و أما وصول ثواب الحج ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أ فأحج عنها؟ قال: «حجي عنها، أ رأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا اللّه، فاللّه أحق بالقضاء» [1].
و قد تقدم حديث بريدة وفيه أن أمي لم تحج أ فأحج عنها؟ قال حجي عنها.
و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: [أمرت] [2] امرأة سنان بن سلمة الجهني [أن يسأل] [3] رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أمها ماتت ولم تحج، أ فيجزئ أن تحج عنها؟ قال: «نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها أ لم يجزئ عنها [فلتحج عن أمها] [4]. رواه النسائي [5].
و روي أيضا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة سألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن [أبيها] [6] مات ولم يحج قال: «حجي عن [أبيك]» [7].
و روي أيضا عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه إن أبي مات ولم يحج أ فأحج عنه؟ قال: «أ رأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه»؟ قال: نعم، قال: «فدين اللّه أحق» [8]. وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي أو من غير تركته، وقد دل عليه حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الآن بردت جلدته».
و أجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أن ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي. فإذا سقط من ذمة الحي بالنص والإجماع على إمكانه أدائه؟؟؟؟؟ نفسه ولو لم يرض به بل رده، فسقوطه من ذمة الميت بالإبراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى وأحرى، وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفع بالهبة والإهداء. ولا فرق بينهما، فإن ثواب العمل حق المهدي الواهب فإذا جعله للميت انتقل إليه، كما أن ما على الميت من الحقوق من الدين وغيره وهو محض حق الحي فإذا أبرأه وصل الابراء إليه وسقط من ذمته فكلاهما حق للحي، فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما ويمنع وصول الآخر.
هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته.
و قد نبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب لا يطلع عليه إلا اللّه وليس بعمل الجوارح، وعلى وصول ثواب القراءة التي هي عمل باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى.
و يوضحه أن الصوم نية محضة وكف النفس عن المفطرات، وقد أوصل اللّه ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية بل لا تفتقر إلى النية، فوصول ثواب الصوم إلى الميت فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال.
و العبادات قسمان: مالية، وبدنية. وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار وباللّه التوفيق.
أدلة المانعين:
قال المانعون من الوصول قال اللّه تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [53:39] وقال: ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[36:54] وقال: ﴿هَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[2:286]. وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعد [9]. فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب إليه في الحياة وما لم يكن قد تسبب إليه فهو منقطع عنه. و أيضا فحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه المتقدم وهو قوله: «إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته علما نشره». فالحديث يدل على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبب فيه.
و كذلك حديث أنس يرفعه: «سبع يجري على العبد أجرهم وهو في قبره بعد موته: من علّم علما، أو أكرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا صالحا يستغفر له بعد موته».
و هذا يدل على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلا لم يكن لحصر معنى.
قالوا: والإهداء حوالة، والحوالة إنما تكون بحق لازم، والأعمال لا توجب الثواب، وإنما هو مجرد تفضل اللّه وإحسانه، فكيف يحيل العبد على مجرد الفضل الذي لا يجب على اللّه، بل إن شاء آتاه وإن لم يشأ لم يؤته، وهو نظير حوالة الفقير على من يرجو أن يتصدق عليه، ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهبته، كصلة ترجى من ملك لا يتحقق حصولها.
قالوا: وأيضا فالإيثار بأسباب الثواب مكروه، وهو الإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية، فإذا كره الإيثار بالوسيلة فالغاية أولى وأحرى.
و كذلك كره الإمام أحمد التأخر عن الصف الأول، وإيثار القبر به، لما فيه من الرغبة عن سبب الثواب، قال أحمد في رواية حنبل: وقد سئل عن الرجل يتأخر عن الصف الأول ويقدم أباه في موضعه قال: ما يعجبني، يقدر أن يبر أباه بغير هذا.
(قالوا) وأيضا لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ نقل الثواب والإهداء إلى الحي. وأيضا لو ساغ ذلك لساغ لهذا نصف الثواب وربعه وقيراط منه.
و أيضا لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه، وقد قلتم: إنه لا بد أن ينوي حال الفعل إهداءه إلى الميت، وإلا لم يصل إليه، فإذا ساغ له نقل الثواب فأي فرق بين أن ينوي قبل الفعل أو بعده.
و أيضا لو ساغ الإهداء أساغ إهداء ثواب الواجبات على الحي، كما يسوغ إهداء ثواب التطوعات التي يتطوع بها.
قالوا: وإن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل، فإن المقصود منها عين المكلف العامل المأمور المنهي، فلا يبدل المكلف الممتحن بغيره، ولا ينوب غيره في ذلك، إذ المقصود طاعته هو نفسه وعبوديته، ولو كان ينتفع بإهداء غيره له من غير عمل منه لكان أكرم الأكرمين أولى بذلك، وقد حكم سبحانه أنه لا ينتفع إلا بسبعة وهذه سنته تعالى في خلقه وقضاؤه كما هي سنته في أمره وشرعه، فإن المريض لا ينوب عنه غيره في شراب الدواء، والجائع والظمآن والعاري لا ينوب عنه غيره في الأكل والشرب واللباس، قالوا: ولو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه.
قالوا: ولهذا لا يقبل اللّه إسلام أحد عن أحد ولا صرته عن صرته فإذا كان رأس العبادات لا يصح إهداء ثوابه فكيف فروعها.
قال: وأما الدعاء فهو سؤال ورغبة إلى اللّه أن يتفضل على الميت ويسامحه ويعفو عنه، وهذا إهداء ثواب عمل الحي إليه.
قال المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة كالصدقة والحج والعبادات نوعان:
نوع لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام، فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه ولا ينقل عنه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره.
و نوع تدخله النيابة كرد الودائع وأداء الديون وإخراج الصدقة والحج، فهذا يصل ثوابه إلى الميت، لأنه يقبل النيابة ويفعله العبد عن غيره في حياته، فبعد موته بالطريق الأولى والأخرى.
قالوا: وأما حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه. فجوابه من وجوه:
أحدهما: ما قاله مالك في موطئه قال: لا يصوم أحد عن أحد، قال: وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه.
الثاني: إن ابن عباس رضي اللّه عنهما هو الذي روى حديث الصوم عن الميت، وقد روى عنه النسائي:
(أخبرنا) محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحوال، حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد».
الثالث: أنه حديث اختلف في إسناده هكذا قال صاحب المفهم في شرح مسلم.
الرابع: أنه معارض بنص القرآن كما تقدم من قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [53:39].
الخامس: أنه معارض بما رواه النسائي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».
السادس: أنه معارض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه».
السابع: أنه معارض بالقياس الجلي عن الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد.
قال الشافعي فيما تكلم به على خبر ابن عباس لم يسم ابن عباس: ما كان نذر أم سعد، فاحتمل أن يكون نذر حج أو عمرة أو صدقة فأمره بقضائه عنها، فأما من نذر صلاة أو صياما ثم مات فإنه يكفر عنه في الصوم ولا يصام عنه ولا يصلى عنه ولا يكفر عنه في الصلاة ثم قال: فإن قيل أ فروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أمر أحدا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روى ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟ قيل:
حديث الزهري عن عبيد اللّه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نذرا ولم يسمه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد اللّه لابن عباس، فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد اللّه أشبه أن لا يكون محفوظا.
فإن قيل: فتعرف الرجل الذي جاء بهذا الحديث، فغلط عن ابن عباس، قيل نعم: روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: أن الزبير حل من متعة الحج، فروى هذا عن ابن عباس أنها متعة للنساء، وهذا غلط فاحش.
فهذا الجواب عن فعل الصوم. وأما فعل الحج فإنما يصل منه ثواب الإنفاق، وأما أفعال المناسك فهي كأفعال الصلاة إنما تقع فاعلها.
(قال) أصحاب الوصول: ليس في شي ء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنّة، واتفاق سلف الأمة، ومقتضى قواعد الشرح، ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف.
أما قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [53:39] فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية. فقالت طائفة المراد بالإنسان هاهنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له بالأدلة التي ذكرناها. قالوا وغاية ما في هذا التخصيص وهو جائز إذ دل عليه الدليل.
و هذا الجواب ضعيف جدا ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده بل هو المسلم والكافر وهو كالعام الذي قبله وهو قوله تعالى ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[35:18]. و السياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله تعالى:
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى۝40ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى۝41﴾ [53:40—41] وهذا يعم الشر والخير قطعا، ويتناول البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ۝7وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ۝8﴾ [99:7—8] وكقوله في الحديث الإلهي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهو كقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [84:6] ولا تغتر بقول كثير من المفسرين في لفظ الإنسان في القرآن، الإنسان هاهنا أبو جهل، والإنسان هاهنا عقبة ابن أبي معيط، والإنسان هاهنا الوليد بن المغيرة، فالقرآن أجل من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [103:2] و﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [100:6] و﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [70:19] و﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى۝6أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى۝7﴾ [96:6—7] و﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾[14:34] و﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[33:72] فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه، وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه وتوفيقه له ومنته عليه، لا من ذاته، فليس له من ذاته إلا هذه الصفات، وما به من نعمة فمن اللّه وحده، فهو الذي حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وهو الذي كتب في قلبه الإيمان، وهو الذي يثبت أنبيائه ورسله وأولياءه على دينه، وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء. وكان يرتجز بين يدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:
واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا[10]
و قد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[10:100] وقال تعالى ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾[74:56]. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [81:29] فهو رب جميع العالم ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال.
و قالت طائفة: الآية إخبار بشرع من قبلنا، وقد دل شرعنا على أنه له ما سعى وما سعى له، وهذا أيضا أضعف من الأول أو من جنسه، فإن اللّه سبحانه أخبر بذلك إخبار مقرر له محتج به، لا إخبار مبطل له، ولهذا قال ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى﴾ [53:36] فلو كان هذا باطلا في هذه الشريعة يخبر به إخبار مقرر له محتج به.
و قالت طائفة: اللام بمعنى على، أي: وليس على الإنسان إلا ما سعى.
و هذا أبطل من القولين الأولين، فإنه قلب موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه، ولا يسوغ مثل هذا ولا تحتمله اللغة، وأما نحو: (و لهم اللعنة) فهي على بابها، أي نصيبهم وحظهم وأما أن العرب تعرف في لغاتها: لي درهم بمعنى علي درهم فكلا.
و قالت طائفة في الكلام حذف تقديره: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [53:39] أو سعى له وهذا أيضا من النمط الأول، فإنه حذف ما لا يدل السياق عليه بوجه وقول على اللّه وكتابه بلا علم.
و قالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[52:21] وهذا منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، وهذا ضعيف أيضا، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس رضي اللّه عنهما ولا غيره أنها منسوخة، والجمع بين الآيتين غير متعذر ولا ممتنع، فإن الأبناء تبعوا الآباء في الآخرة كما كانوا تبعا لهم في الدنيا، وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم، وأما كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعي منهم، فهذا ليس هو لهم، وإنما هو للآباء، أقر اللّه أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة، وتفضل على الأبناء بشي ء لم يكن لهم، كما تفضل بذلك على الولدان، والحور العين، والخلق الذين ينشئهم للجنة بغير أعمال، والقوم الذين يدخلهم الجنة بلا خير قدموه ولا عمل عملوه، فقوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [53:38] وقوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [53:39] آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تعالى وحكمته وكماله المقدس، والعقل والفطرة شاهدان بهما، فالأول يقتضي أنه لا يعاقب بجرم غيره، والثانية يقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله وسعيه، فالأولى تؤمن العبد من أخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حسن اجتماع هاتين الآيتين.
و نظيره قوله تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [17:15] فحكم سبحانه لأعدائه بأربعة أحكام هي غاية العدل والحكمة:
أحدها: إن هدى العباد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه لا لغيره.
الثاني: إن ضلاله بفوات ذلك وتخلفه عنه على نفسه لا على غيره.
الثالث: أن أحدا لا يؤاخذ بجريرة غيره [11].
الرابع: أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه برسله، فتأمل ما في ضمن هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والرد على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل باللّه وأسمائه وصفاته.
قالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان هاهنا الحي دون الميت، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد.
و هذا كله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينقذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها، وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعا يبطله السياق والاعتبار وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا ثم يرد كلما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائل لا يبالي بأي شي ء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا.
و قالت طائفة أخرى: وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل قال: الجواب الجيد عندي أن يقال: الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه وأهدوا له العبادات، وكان كذلك أثر سعيه، كما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه». ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:
«إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية عليه، أو ولد صالح يدعو له».
و من هنا قول الشافعي: إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سببا لوجوب الحج عليه، حتى كأنه في ماله زاد وراحلة، بخلاف بذل الأجنبي.
و هذا جواب متوسط يحتاج إلى تمام، فإن العبد بإيمانه وطاعته للّه ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين من عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره، كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل: إن الصلاة يضاعف ثوابها بعود المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه [12]. ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. وقد أخبر اللّه سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم. وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ..
فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه فكأنه من سعيه. يوضحه أن اللّه سبحانه جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه، وقد دل على ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص: «إن أباك لو كان أقر بالتوحيد نفعه ذلك» يعني العتق الذي فعل عنه بعد موته. فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في عمل يوصل إليه ثواب العتق. وهذه طريقة لطيفة حسنة جدا.
و قالت طائفة أخرى: القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها.

هامش

  1. أخرج البخاري في كتاب الإيمان والنذور باب من مات وعليه نذر (7/ 233) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أتى رجل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم، قال: «فاقض اللّه فهو أحق بالقضاء».
  2. ساقطة من المطبوع.
  3. وردت في المطبوع: سألت.
  4. ساقطة من المطبوع.
  5. أخرجه النسائي في باب الحج عن الميت الذي لم يحج (5/ 116).
  6. وردت في المطبوع: ابنها والتصحيح من النسائي.
  7. وردت في المطبوع: ابنك والتصحيح من النسائي. والحديث أخرجه النسائي في باب الحج عن الميت الذي لم يحج (5/ 116).
  8. أخرجه النسائي في باب قضاء الحج بقضاء الدين (5/ 118).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الوصية باب ما يخلف الإنسان من الثواب بعد وفاته وأخرجه أبو داود في كتاب الوصايا باب ما جاء في الصدقة على الميت برقم 2880 وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام باب في الوقف برقم 1376.
    قال الخطابي في معالم السنن عن هذا الحديث قال: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة، وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه، وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطي إن كان حج عنه بمال.
  10. أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
    اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
    فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
    إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
    و رفع صوته: أبينا، أبينا.
    انظر دلائل النبوة (3/ 413).
  11. أي لا يؤاخذ أي إنسان بما فعله غيره، لأن كل إنسان مؤاخذ بما يفعله هو: وكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
  12. أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب نصر المظلوم، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، وأخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم.