منصور بن نصر (أو نصير) الجشمي الطنبذي . ولي طرابلس الغرب لزيادة الله بن الأغلب أمير إفريقية ، ثم استاء منه زيادة الله الأول فعزله . و قد خرج على زيادة الله الأول بتونس سنة 209 هـ (824 م) بثورة كانت أخطر ما واجهته دولة الأغالبة من ثورات .
لمّا تحقق زيادة الله من أن منصور بن نصير الطنبذي يسعى في المخالفة عليه ، سيّر إليه قائدًا اسمه محمد بن حمزة في ثلاث مائة فارس موصياً إيّاه بكتمان حركته حتى يبغت منصورا ، فيقبض عليه و يأتي به مصفدا .
ودخل محمد تونس فوجد أنّ منصورًا قد توجه إلى قصره بطنبذة (و لها يُنسب) في إقليم المحمدية . فنزل دار الصناعة و أرسل إليه شجرة بن عيسى قاضي تونس و معه أربعون شيخا يقبحون له الخلاف وينهونه عنه و يأمرونه بالطاعة فقال منصور: ما خالفت طاعة الأمير وأنا سائر معكم إلى محمد ومن معه إلى الأمير ولكن أقيموا معي يومنا هذا حتى نعمل له ولمن معه ضيافة.
فأقاموا عنده و سَيّر منصور لمحمد و لمن معه الإقامة الحسنة الكثيرة من الغنم و البقر و العلف و أحمال القهوة و كتب إليه يقول: إنني صائر إليك مع القاضي و الجماعة ، فركن محمد إلى ذلك وأمر بالغنم و البقر فذبحت و أكل هو و من معه و شربوا .
فلما أمسى منصور سجن القاضي و من معه في قصره و أخذ دوابهم فجعل عليها أصحابه، و جمع خيله وأشياعه ، و زحفوا سرًا إلى تونس ، حتى إذا كان بالقرب من دار الصناعة ، أمر بالطبول ، فضربت و أمر أصحابه فكبروا ، فوثب ابن حمزة و أصحابه إلى سلاحهم ، والتحم القتال على الليل . وكثر الناس عليهم ، فقتل من كان مع ابن حمزة ، ولم يسلم منهم إلا سبح البحر ، وذلك يوم الإثنين الخامس و العشرون من صفر .
وأصبح منصور فاجتمع عليه الجند و قالوا : نحن لا نثق بك ، و لا نأمن أن يخليك زيادة الله و يستميلك بدنياه فتميل إليه ، فإن أحببت أن نكون معك فاقتل أحدًا من أهله ممن عندك ، فأحضر عامل زيادة على تونس إسماعيل بن سفيان بن سالم بن عقال و ابنه فلما حضرا أمر بقتلهما معا.
فلما سمع زيادة الله الخبر سير جيشًا كثيفا واستعمل عليهم غلبون و اسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب وهو وزير زيادة الله إلى منصور الطنبذي فلما ودعهم زيادة الله تهددهم بالقتل إن انهزموا فلما وصلوا إلى سبخة تونس خرج إليهم منصور فقاتلهم فانهزم جيش زيادة الله في العاشر من ربيع الأول . فقال القواد الذين فيه لغلبون: لا نأمن زيادة الله على أنفسنا فإن أخذت لنا أمانًا حضرنا عنده وفارقوه واستولوا على عدة مدن منها : باجة و الجزيرة و صطفورة و بنزرت و الأربس و غيرها ، يمتنعون فيها من عقوبة زيادة الله التي توعدهم بها .
و قدم غلبون على زيادة الله ، فأعلمه بما كان من أمره و نغل الجند فكتب إليهم زيادة الله صكوك أمان، و بعث بها إليهم ، فلم يثقوا بها منه، وخلعوا الطاعة . فاضطربت إفريقية و دخل الجند كلهم في طاعة منصور لسوء سيرة زيادة الله معهم .
و لمّا كثر جمع منصور سار إلى القيروان فوصل في الخامس من جمادى الأولى . حاول علماء إفريقية التوسط بين زيادة الله والطنبذي كأبي محرز و أسد بن الفرات ، و لكن الحرب لم تتوقف . و خندق منصور الطنبذي على نفسه فكانت بينه و بين زيادة الله وقائع كثيرة ، ثم دخل منصور القيروان و عمّر سورها فوالاه أهلها و حاربوا معه فدامت الحرب بين منصور وبين عسكر زيادة الله أربعين يوما .
ثم عبأ زيادة الله أصحابه و جمعهم و سار معهم الفارس و الراجل فكانوا خلقًا كثيرا . فلما رآهم منصور راعه ما رأى وهاله و لم يكن يعرف ذلك من زيادة الله لما كان فيه من الوهن . و التقت الفئتان، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم منصور و ولى هاربا و قتل أصحابه قتلا ذريعا ، في منتصف جمادى الآخرة .
وانتهى زيادة الله إلى القيروان فأمر برفع القتال و تمادى منصور في هزيمته إلى أن دخل قصره بتونس ، و الناس لا يشعرون . و لم ير زيادة الله بمشورة من أهل العلم و الدين معاقبة أهل القيروان و نار الحرب مازالت متأجّجة فعفى عن أهل القيروان ، و صفح عن جميعهم غير إنه جعل عقوبتهم هدم سور القيروان حتى ألصقه بالأرض.
ولما انهزم منصور فارقه كثير من أصحابه الذين صاروا معه منهم : عامر بن نافع و عبد السلام بن المفرج إلى البلاد التي تغلبوا عليها ، ثم إن زيادة الله سير جيشا سنة مائتين و تسعة إلى مدينة سَبِيبة و استعمل عليهم محمد بن عبد الله بن الأغلب و كان بها جمع من الجند الذين صاروا مع منصور عليهم عمر بن نافع فالتقوا في العشرين من المحرم واقتتلوا فانهزم ابن الأغلب وعاد هو و من معه إلى القيروان فعظم الأمر على زيادة الله و جمع الرجال و بذل الأموال.
و كان عيال الجند الذين مع منصور بالقيروان ، فلم يعرض لهم زيادة الله ، فقال الجند لمنصور: الرأي أن تحتال في نقل العيال من القيروان ، لنأمن عليهم فسار بهم منصور إلى القيروان ، و حاصر زيادة الله ستة عشر يوما و لم يكن منهم قتال ، و أخرج الجند نساءهم و أولادهم من القيروان و انصرف منصور إلى تونس ، و لم يبق بيد زيادة الله من إفريقية كلها إلا قابس و الساحل و نفزاوة و طرابلس فإنهم تمسكوا بطاعته ، و ساعده خلاف نشب بين منصور الطنبذي و عامر بن نافع أحد قادته ، إذ انقلب عامر على الطنبذي و اعتقله وسجنه في جزيرة جَرْبة ثم قُتل صبرا و حمل رأسه في قصبة .