الرئيسيةبحث

ربة عمون



تقول الاديبة ابة ربة عمون /بريهان قمق

مدينتي الملهمة عمان أو ربة عمون الموغلة جدا في القدم ، محتفظة بكبرياءها رغم ما لحقها من ظلم بتجاهل ذاكرتها وعمق حضارتها وإظهارها بمظهر البازغة من العدم واللاشيء في القرن العشرين، إلاّ أنها بصمت شديد تظل دافئة، محبة، معطاءة ،شديدة الطيبة تنصت لما خلف المدى ، تأسرك بشموخ كبرياءها تبوح ذاكرتها بتواضع شديد وعبر دفئها العماني الذي أبدا لا يُضاهى .. لا يخترقها نهرٌ ولا تجاور بحرا ،على المنعطفات الخطرة فاتنة كجنية بحر الحضارات للحبّ الأخوي مسكونة الحدقة في دار مُلك النبؤات تمس روحها روحك بانسيابية واستقامة ضوء.. أثبتت الدراسات الأثرية أن مدينة عمان الحاليّة ،كانت مهدا للإنسان الأول منذ العصور ما قبل الحجرية .حيث أقام الإنسان في الكهوف المنتشرة في المنطقة ، التي اكتشف بعضها في موقع عين غزال والتي تعود آثاره إلى عام (7000) قبل الميلاد.

بدأ العمران في عمان القديمة منذ بداية العصور الحجرية الحديثة التي تميزت بالاستقرار النسبي حيث راح الإنسان الأول بممارسة الزراعة فأنشأ الرجوم والنصب والأبراج والصوامع والجدران المستديرة من الحجارة الضخمة كهياكل لعبادة الشمس وعبادة القمر والنجوم ، بعد ما زالت بقايا آثارها آوابد نتلمسها في الرجم الملفوف في جبل عمان المطل على وادي صقرة ، و جبل القلعة و جبل التاج و المدينة الرياضية و منطقة القويسمة وغيرها ، شاهدة على أنفاس أوليّة للحياة البشرية الفاعلة المتفاعلة مع الطبيعة المنبثقة من غبار الكون المضيء.

ثم تعاقبت على عمّان مستوطنات بشرية وحضارات عديدة ، وشهدت صعودَ وسقوط حضارات عدة . قدم اليها الرعاة الهكسوس و نقلوا معهم بذور حضارة مصر ثم تعاقبت عليها قبائل العمالقة الأقدمين .ثم استقرت فيها قبائل بني عمون أو العمونيين الذين يُعدون أول حضارة بالمفهوم الثقافي الحضاري لكلمة حضارة ، وهم عرب أسسوا مملكتهم في عمّان سنة (3000) ق.م. وشكلوا مواقف حاسمة تاريخيا حسب ما ورد في الشواهد الأثرية والكتابات الدينية .

أطلق العمونيون على مدينتهم اسم "ربة عمون " وتعني دار الملك، ومع تقادم الزمن باتت عمون ومن ثم صارت عمان ...

اندمج العمونيون على التوالي، في الإمبراطوريات الآشورية، والبابلية، والفارسية ومن ثم الإغريقية. ومع مقدم الإسكندر المقدوني للمنطقة ، سيطرت الحضارة اليونانية على هذه المدينة واتخذت اسم فيلادلفيا نسبة إلى القائد بطليموس فيلادلفيوس وتعني ( مدينة الحبّ الأخوي ). وحدث تلاقح ثقافي وتمازج فيما بين العموني والإغريقي بتداخل لربما نتلمسه في الشواهد التاريخية التي تملء المتاحف..

وفي القرن الأول قبل الميلاد، أصبحت فيلادلفيا تحت سيطرة الحكم الروماني وانضمت إلى حلف المدن العشرة (الديكابوليس) ، وشهدت خلال حكم الرومان نشاطا عمرانيا ملحوظا حيث باتت تغطي سبعة جبال ، مثلها مثل مدينة روما،وامتلئت بالمباني والأسواق والمدرجات وقاعات الموسيقى ..

في القرون التالية وتحديدا في عام 324 للميلاد أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية وأصبحت فيلادلفيا مقرا للأسقف. كان ذلك بداية للعهد البيزنطي ، وحصلت عمان على اسمها الحالي في العهد الغساني .

وفي ظل العهدين الأموي والعباسي ، شهدت عمّان ازدهارا اقتصاديا وعمرانيا ملحوظا ، فشيدت المساجد والحصون والقلاع و دار لسك النقود ..

... منذ أواخر القرن الرابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لحق بها دمار شديد إثر عدة هزات أرضية وكوارث طبيعية فخلت من السكان وهُجِرَت تماما، وبقيت منسية تئن وحشة تسف آثار انسانها الريح بناي حزين لمن راحوا في غياهب النسيان .

وفي عام 1887 بدأت الهجرات الشركسية إليها من أقاصي الشمال القفقاسي إثر مأساة انسانية ومؤامرات دولية تتكرر حتى زماننا هذا لشعوب أخرى ، سكنوها ومنحوها دفئ و فروسية روحهم وثقافتهم لتدب الحياة فيها من جديد ..

مما أدى إلى إحداث تغيرات جذرية ، فشهدت المدينة نشاطا ملحوظا في الحركة العمرانية والتجارية والزراعية واستقطاب الجموع البشرية من شتى الجنسيات والمنابت والأديان .. فعادت الأضواء اليها واستعادت مكانتها السياسية في الثاني من آذار عام 1921، حيث اختارها الأمير عبدالله لتصبح مقرا للحكومة. ويعتبر هذا التاريخ بداية التاريخ الحديث لعمان والأردن ، وفور حصول الأردن على استقلاله في الخامس والعشرين من أيار عام 1946 أصبحت عمّان رسميا عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية ..

ربّة عمون او عمّان مدينة كحورية من بحر النبؤات جميلة أنيقة في النهار حيث طريقة بناءها الأرستقراطي، وملهمة عذبة في الليل بسبب الإضاءة العشوائية الملتصقة المشعة من أبنية فقراءها بحميمة أخاذة ، والملفت للنظر أن ثمة تداخل وتناغم بين الأحياء الراقية والفقيرة إلى حد يثير الدهشة..

وأهل عمّان ( فقراء وأغنياء) لا يحبون الأبنية الشاهقة ولا يسكنون فيها ، بل متمسكون بسهرة ليلية تحت دالية عنب تنسل عبر أغصانها أنفاس نجمات ساهرات ، أو فنجان القهوة الصباحية تحت شجرة توت بيتية ، يعشقون الورد والياسمين والقرنفل والفل والريحان والبانسية والست المستحية ، لذا يصرون على حدائقهم الصغيرة المليئة بكل مالا يخطر على بال من شجر وزهر .

ورغم مشكلات شح المياه المتفاقمة التي تعاني منها حاليا المدينة ، إلاّ أن الطبيعة تفاعلت واحترمت هذا العشق العمّاني فصارت تنمو و تكبر الأشجار والأزهار بالشحيح جدا ، مكتفية بأمطار الشتاء وبحبات ندى المعشّق بروح ربيع ربّة عمّون..

يغازل الشباب الصبايا :

{ بنات عمان ما احلاهم

مثل النعنع بالشاي ما ازكاهم} ..

فيروح الكبار في غيبوبة عبق الذاكرة لاحتساء الشاي بالنعناع والزعتر والميرمية . يستذكرون ذكريات علقت على تلال عمان السبعة ، لربما قادمة من فلسطين ، الشام ، السودان ، الجزائر، المغرب ، مصر، العراق ، قفقاسيا ، تركيا ، ارمينيا ، أفغانستان ، بخارى ، يوغسلافيا .. أو ، أو.. فما أكثر الجهات التي جاءت ربّة عمّون لتصير جهة وطقسا واحدا ، لذلك لم تعد سبعة بعد امتداها الأفقي المثير العجيب ، بل صارت مئات الجبال والتلال وراحت بعباءتها تحتضن الجميع وتمسك بأناملها المدن الأردنية الأخرى..

ربة عمون صاحبة الامتداد والعمق التاريخي غير المعروف ( للأسف الشديد بين الأوساط عامة بما في ذلك المثقفة) وبحكم سحرها في دمج الأقليات والعرقيات والإثنيات والأديان بتلقائية ودون تخطيط بل رغم أنف كل الحكومات المتعاقبة التي تحاول جهدها في إشعال الفرقة أو التطرف أو غضب وشجار ما ، ليلتهوا ببعضهم البعض عن أخطائها وورطاتها ، لكنهم سرعان ما تهدأ ثائرتهم ويلتفون خلف قرار جمعية حماية المستهلك مثلا فيقاطعوا القهوة بسبب ارتفاع الأسعار ، بحب وطيبة شديدة ووعي أشد يعود المتشاجرون إلى المناكفة والمشاكسة و المعارضة للحكومة ، يأكلون السياسة بخبز كفافهم اليومي تحت خيمة كبارها من العقلاء من الجنسين ، فالمرأة لها مكانتها في المجتمع الأردني ، فمن نسي العالمة والأديبة العظيمة العجلونيّة "عائشة الباعونية" التي كانت من الصوفيات والشاعرات المجيدات، والتي كانت تتبادل قصائد الشعر الصوفي مع أدباء عصرها،وتدلي بدلوها فيما يحدث من أحداث محيطة ..

... رية عمون او عمان التي اختيرت في عام 2002 عاصمة للثقافة العربية ، رفيقة المبدع والمثقف والبسطاء من الناس ، الصغير و الكبير، الرجل و المرأة، العائله و الاصدقاء، العازب و المتزوج، و فيها ما يروق للباحث عن الصخب و الباحث عن الهدوء الباحث عن العقلانية والجنون ..

تتمتع عمّان بثروة من المعالم الأثرية الخالدة التي تعيش جنبا إلى جنب مع اللحظة الراهنة ، فعلى جبل القلعة الذي كان يتوج المدينة القديمة يرتفع هيكل هرقل الذي بناه الرومان في القرن الثاني الميلادي على بقايا معبد عموني قديم ، إلى جانب متحف الآثار الذي يمكن للزائر أن يشاهد فيه أدوات تمثل حياة الإنسان في العهود الموغلة في القدم، وفي وسط المدينة يقع سبيل الحوريات ، وعلى مقربة من السبيل ينتصب المدرج الروماني الكبير الذي يتسع لخمسة آلاف متفرج ،وغيرها من المعالم التي تعيش النشاط الثقافي اليوم وتتألق ليلا بأنفاس عمّانية..

ان كنت اتحدث عن مدينتي بحب شديد وأيضا على شكل ترويجي سياحي ربما مرد ذلك الصفة الرسمية التي أقدمها للقاريء الذي يتعرف على تاريخها وشخصيتها لأول مرة وخاصة وكما أشرت في البداية انه قد وقع عليها ظلم التجاهل ..فهي بحق رئة الجميع ، مدينة الليل والنهار تعرف ما بين التمتمة والدمدمة في فصولها الأربع سر واقعيتها وحسها العميق بالخلود فهي بحالها فصل وطقس في حدقة النجوم ..لا تجاور بحرا ولا يخترقها نهر ومع ذلك تشعر أن زمنك مجدول في سحرها المبلل بندى أنفاسها لما تمتلكه من قدرة عجيبة في أنسنة الطبيعة ، فشقائق النعمان مثلا أو كما نسميها نحن الأردنيين" الدحنون " ما زلنا نجدها بين الفينة والأخرى بجوار الكتل الاسمنتية والحجرية تطل كي تطبع قبلة من بين الفراغات متحدية الأشكال الحداثية ، فعمان باقية في قلب ربة عمّون ، مُعتّقة متجددة مموسقة الجمال ..

الدحنون او شقائق النعمان في عمان يعانق أغرب وأعجب أزهار الدنيا : السوسنة السوداء ، أندر زهور الأرض التي باتت تحت حماية بيئية ، تعيش بغرابتها فقط فوق التلال العمّانية، بعناد ووفاء العشق تنبش في هدنة العمر

لذا فان ابنتها بامتدادها الشركسي ولأشرعة روحها تصير ربة عمون بكل تنوع أهلها ورائحة تلالها وج بالها حرزا وحبة فؤادٍ وعينين ممهورتين بحبر يدور ، مهدورتين ببياض شعشعة الحب تكتب ومضة كاشفة من حكايا ربة عمون الآسرة، المدينة البيضاء المنذورة للحب الأخوي..