قال الله تعالى في كتابه الحكيم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِِنَّ الذِينَ تَدْعون مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلَبْهم الذُّبابُ شَيئاً لاَ يَسْتَنْقِذوهُ مِنْه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ". هذه الآية من أبلغ ما أُنزل في تجهيل من عبد غير الله، و تحد لألهتهم أن تخلق مثل هذا الخلق الأقل والأذل، بل فقط أن تسترد ما يخطفه منها.
واعتبر الذباب آفة في بعض الحضارات، فقد كان اليونانيون القدامى يقدمون العجول قربانا للذباب . وكان الآشوريون من قبلهم يقدمون القربان كذلك رجاء تجنب أذى الذباب وإزعاجه الذي لا يطاق، لكنه يقوم بوظيفة مهمة في البيئة.
اعتبر الإنسان الذبابة حشرة حقيرة، يستقذرها ويتقزز منها. وحاول القضاء عليها بكل ما أوتي من قوة وحيلة. ومع ذلك، لم يلزم الإنسان شيء لزوم الذباب، لا يمتنع عليه شيء من بدن الإنسان، ولا من ثوبه، ولا من طعامه، ولا من شرابه، ملحاح يُطرد فلا ينطرد . ولذلك يقال : "ثلاثة أشياء لا يمكن الإفلات منها هي الموت والضرائب والذباب.
فهرس
|
الذُّباب والذِّبان : كانت العرب تجعل الفراش والنحل والزنابير والدبر كلها من الذبان. وقيل : الذبان اسم الواحد، والذباب اسم الجماعة. وإذا أرادوا التصغير والتقليل ضربوا بالذبان المثل. وكانوا يلقبونه بالأقرح، إما لاعتقادهم بأن كل ذباب في وجهه قرحة، أو لأنه أبدا يحك بإحدى دراعيه على الأخرى. وقد وصف عنترة الذباب قائلا:
حادت عليها كل عين ثَـرَّةً ـooـ فتركن كل حديقة كالدرهم
فترى الذباب بها يغني وحده ـooـ هزجا كفعل الشارب المترنم
غـردا يـحـك دراعـه بـدراعـه ـooـ فعل المكب على الزناد الأجدم
وقد شبهه في حكه دراعيه برجل مقطوع اليدين. والعرب تسمي طنين الذبان والبعوض غناءً. وكان معروفا لدى العرب أن تكاثر الذباب دليل على عفن التربة وتخن الهواء. وكانوا يعتبرون أن لاشيء أقذر من الذباب ويتقززون منه. وأبلغ تعبير عن ذلك القولة المشهورة للفرزدق : "ليث أنهم دفعوا إلي نصيبي من الذبان ضربة واحدة، بشرط أن آكله لراحة الأبد منها".
وينسب للحديث : "إن تحت جناح الذباب اليمين شفاء، وتحت جناحه الأيسر سما، فإذا سقط في إناء أو في شراب أو في مرق فاغمسوه فيه، يرفع عند ذلك الجناح الذي تحته الشفاء، ويحط (الجناح) الذي تحته السم". وهذا الاعتقاد كان شائعا لدى بعض الأوساط الشعبية بالمغرب.
وروى الجاحظ في كتاب الحيوان ما يلي : "بينما أنا جالس يوما في المسجد ... إذ أقبل أبو يوسف المسرور... وكان كثير الظرف ... ثم قال مجتهدا: والله الذي لا إله إلا هو إن الخَرْاءَ لحلو... يمينا باتة يسألني عنها يوم القيامة. فقلت له: أشهد أنك لا تأكله ولا تذوقه، فمن أين علمت ذلك؟ ... قال : رأيت الذبان يسقط على النبيذ الحلو، ولا يسقط على الحارز، ويقع على العسل ولا يقع على الخل، وأراه على الخُرء أكثر منه على التمر. أفتريدون حجة أبين من هذه؟".
وكان العرب يسمون الذباب والبعوض عُمّار البيت، فهم سكانه وجيرانهم، ولهم حق الجوار. ويعتقد البعض أن فيه خصلتان من الخصال المحمودة :قرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها، بإغلاق منافذ الضوء تبادر إلى الخروج وتتسابق إلى طلب الضوء والهرب من الظلمة، فسلطان الذباب يقوى في الضياء عكس البعوض. والفضيلة الثانية أن الذبابة تأكل البعوضة وتطلبها وتلتمسها على وجوه حيطان البيوت، وفي الزوايا، ولولا ذلك لما كان لأهل البيت فيه قرار. وكانوا يقتلون الذباب الكبير الشديد الطنين المُلح في ذلك، الجهير الصوت، الذي تسميه العوام أمير الذبان.
وفي الثقافة الشعبية المغربية الكثير من المعاني على استقذار المغاربة للذبان وتقززهم منه. ومن ذلك الأمثلة الشعبية التالية:
وكلنا يذكر مطلع تلك الأغنية الشعبية التي كنا نرددها ونحن صبية: "ألقرع مالك زربان؟ أسيدي ضرني الذبان..."
هناك مائة ألف نوع من الذباب في العالم، فقط عشرة أنواع منها تعيش في المنازل. وأكثرها انتشارا وأشهرها ذبابة المنزل المعروفة ب التي لا يتعدى طولها 7,5 ملم، وأخرى أصغر منها بملميترين والذبابة الأنثى تبيض أزيد من مائة بيضة، تلقي بها وسط روث الحيوانات أو في النفايات الغذائية المتعفنة. بعد يوم واحد تخرج اليرقات فتتغذى وتنمو في محيطها هذا، وفي أقل من أسبوعين يكتمل نموها ويتضاعف وزنها ثمانمائة مرة، وبعد أسبوع واحد من ذلك تأخذ الذبابة شكلها المعروف، فتنطلق لتعيش حياتها القصيرة التي لا تتعدى ستين يوما، وشغلها الشاغل فيها هو الأكل. وجاء في الحديث : "عمر الذباب أربعون يوما. والذباب في النار". وقد اختلف الناس في تفسير معنى "الذباب في النار".
ويمكن للذبابة الواحدة أن تخلف، على مدى أربعة أجيال فقط، ما مجموعه 1,5مليون ذبابة. لكن لحسن الحظ تموت أغلب اليرقات إما بردا أو جفافا أو تأكلها العصافير أو حيوانات أخرى كالعناكب والسحالب والضفاضع. وهكذا يبقى عدد الذباب قارا بفضل التوازن الطبيعي للحياة. لكن خطر الذباب يبقى كامنا في قدرتها على نقل الميكروبات ونشر الأمراض والأوبئة، بسبب تنقلها المكوكي بين المزابل والبيوت، وبين القاذورات والأكل الذي يتناوله الإنسان. وكذلك بسبب طبيعتها البيولوجية، فهي تتذوق بأدرعها، ومكسوة بالشعر، وتسكب إفرازات على المواد الصلبة قبل تناولها لترطيبها، وخاصة أقراص السكر.
ومن أشهر الحملات التي شنت للقضاء على الذباب، تلك التي نظمها الأمريكيون قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كانوا يخصصون خمس دقائق في اليوم لقتل الذباب واصطياده. وهكذا كانت تدق الأجراس وصفارات الإنذار كل يوم في الساعة الواحدة إلا خمس دقائق زوالا، فيخرج الجميع لأداء هذا الواجب طيلة خمس دقائق يعودون بعدها إلي أعمالهم. وكانت تعرف هذه العملية، في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، باليوم الوطني للذباب. والذباب حباه الله بقدرات بيولوجية خارقة تمكنها من أداء مناوراتها البهلوانية المشهورة بيسر وإتقان يضايق الإنسان. فبإمكانها القيام بمائتي خفقة جناح في الثانية. ولها عينان تغطيان معظم الرأس، تتشكل كل واحدة منهما من أربعة آلاف عدسة مستقلة، كل واحدة منها موجهة نحو نقطة مختلفة بقليل عن الأخرى، وهي في مجموعها مندمجة توصل للدماغ صورة كاملة عن محيطها. وهذا البعد البؤري في الرؤية، إضافة إلى ميزات أخرى، تمنحها ردود فعل أسرع من ردود الإنسان بكثير. فعندما يحاول الإنسان إمساكها تراوغ، بسرعة فائقة ويسر كبير، إلي أحد الجانبين، إلى الخلف أو إلى الأمام، وتحوم حول نفسها في دورات مطولة أو قصيرة، ترتفع فتلتصق بالحائط والسقف، وتهوي ساقطة على ما تريد، دون أن تعير أي اعتبار لقانون الجاذبية.