أبو المظفر شاه إسماعيل الهادي الوالي، أو إسماعيل الصفوي (25 رجب 892 هـ/25 يوليو 1487م - 18 رجب 930 هـ= 31 مايو 1524م) مؤسس الدولة الصفوية في إيران.
فهرس |
يمثل تاريخ الدولة الصفوية في إيران منعطفا خطيرا في تاريخها، فبقيامها اتخذت إيران المذهب الشيعي الإثنا عشري مذهبا رسميا، وكان لهذا التحول آثاره البعيدة في تاريخ إيران خاصة وتاريخ العالم الإسلامي عامة.
وينتسب الصفويون إلى أحد شيوخ التصوف يسمى "صفي الدين الأردبيلي" المولود عام (650هـ= 1334م)، وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل، وكان رجلا نشيطا دائب الحركة والسعي؛ استطاع أن يجذب الأتباع حوله في أذربيجان. ثم انتقل الأمر إلى ابنه، ثم إلى حفيده صدر الدين خواجة علي سياهبوش، حليف تيمور لنك. وهو أول من غير مذهبه إلى المذهب الشيعي الإثنا عشري.
نجح أبناء الأردبيلي وأحفاده في نشر المذهب، والتمكين له بين المحبين والمريدين، وصارت لهم قوة وقدرة على المشاركة في الأحداث السياسية في المناطق التي يقيمون بها، وتحولوا من أصحاب دعوة وشيوخ طريقة إلى مؤسسي دولة لها أهدافها السياسية والمذهبية.
وكانت الأجواء التي تعيشها إيران في أواخر القرن التاسع الهجري من التمزق السياسي وشيوع الفوضى أفضل مناخ استغله الصفويون لجذب المزيد من الأنصار، والتطلع إلى قيام دولة تدين بالمذهب الشيعي الإثني عشري لأول مرة في تاريخ الإسلام (حيث كانت الدول الشيعية السابقة إما زيدية وإما إسماعيلية كالقرامطة والفاطميين). حيث سيطرت على إيران قبيلتان من قبائل التركمان هما قراقويونلو أي أصحاب الخراف السوداء، وآق قويونلو أي أصحاب الخراف البيضاء. وكان القتال مستمر بين تلك القبائل، مما زاد تمزق إيران بعد تعرضها لتدمير المغول ثم لتدمير تيمورلنك.
هناك خلاف بين المؤرخين حول الأصل العرقي للصفويين. فغالب المؤرخين يذهبون إلى أنهم من القبائل التركمانية. والبعض ينسبهم للفرس، وهناك رأي ضعيف ينسبهم للأكراد. وبالرغم من مزاعم الصفويين بالنسب الهاشمي، فإن أحداً لم ينسبهم للعرب أما الصفويين فهم يدعون بأنهم أسرة هاشمية علوية ويرجع نسبهم إلى الأمام موسى الكاظم من أبنه حمزة فنسب الشاه أسماعيل مؤسس الدولة الصفوية هو إسماعيل بن السيد حيدر ( قتل سنة 893هـ ) بن حيدر بن صدر الدين جنيد بن إبراهيم بن علي بن صدر الدين بن صفي الدين إسحاق بن جبرائيل بن احمد بن رشيد بن محمد الحافظ بن عوض الخواص بن فيروز شاه بن محمد بن محمد بن ابي الحسن بن محمد بن إبراهيم بن جعفر ابن إسماعيل بن محمد بن احمد العراقي بن محمد القاسم بن حمزة بن الإمام موسى الكاظم وحمزة بن الأمام موسى الكاظم لجأ إلى شمال إيران في العصر العباسي بسبب الاضطهادات التي تعرض لها العلويين على يد العباسيين وقبره الان في مدينة الري جنوب العاصمة الايرانية طهران .
ولد إسماعيل الصفوي في (25 رجب 892 هـ/25 يوليو 1487م)، وعاش بعد وفاة أبيه في كنف "كاركيا ميرزا" حاكم "لاهيجان" الذي كان محبا للصفويين. ظل إسماعيل الصفوي 5 سنوات تحت سمع هذا الحاكم وبصره، حتى شبّ قويا محبا للفروسية والقتال، قادرا على القيادة والإدارة.
وفي أثناء هذه الفترة كانت الدولة تعيش فترة صراعات بين أفراد أسرة آق قويونلو التي كانت تحكم فارس آنذاك، وهو ما استغله أنصار الصفويين، وأمّروا عليهم إسماعيل الصفوي، وكان صغيرا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، لكنه كان مهيأ للقيادة والزعامة بفضل الرعاية التي أحاطه بها حاكم لاهيجان.
تمكن إسماعيل الصفوي وأنصاره من خوض عدة معارك ضد حكام بعض المناطق في إيران والتغلب عليهم، وتساقطت في يده كثير من المدن الإيرانية، وتوج جهوده بالاستيلاء على مدينة "تبريز" عاصمة آق قويونلو، ودخلها دخول الفاتحين، ثم أعلنها عاصمة لدولته.
وبدخول إسماعيل مدينة تبريز تم تتويجه ملكا على إيران، ولقبه أعوانه بأبي المظفر شاه إسماعيل الهادي الوالي، وذلك في سنة (907 هـ = 1502م) وأصدروا العملة باسمه.
كانت إيران سنية المذهب، ولم يكون فيها سوى أربع مدن شيعية هي: آوه، قاشان، سبزوان، قم. وعقب تتويج إسماعيل الصفوي ملكا على إيران أعلن فرض المذهب الشيعي مذهبا رسميا للدولة دون مقدمات. توجهت أنظار إسماعيل إلى منطقة جبل عامل في لبنان التي كانت آنذاك أحد معاقل الشيعة، وفيها الكثير من علمائهم. يقول الباحث حسن غريب: "رأى مؤسس الدولة الصفوية – الشاه إسماعيل– أنه من العسير عليه أن يوفر للناس حقيقة المعتقد وترسيخ مبادئه في نفوسهم، ووجد أيضاً أن الكتب غير متوفرة، فعمد إلى ملء الفراغ من خلال استحضار علماء الشيعة من جبل عامل. وقد غادر هؤلاء العلماء إلى إيران بدعوة وبغير دعوة.وفي عهد الملك الصفوي طمهاسب، أصبحت استمالة علماء جبل عامل للتوجه إلى إيران من السياسات الأساسية للحكومة هناك، وهكذا استمرت هجرة العلماء العامليين منذ ذلك الحين، وحتى سقوط الحكم الصفوي. لم يستطع علماء الشيعة في جبل عامل مقاومة الإغراءات الصفوية للقدوم إلى إيران، فنصرة المذهب ودعمه وترسيخ دعائمه في إيران احتل لديهم مكانة كبيرة، لكن أسباباً أخرى دفعتهم للهجرة إلى إيران إذ "كان المهاجرون عموماً يجدون في إيران ظروفاً مواتية، والذين تجاوبوا مع الحكومة الصفوية وتضامنوا معها، كانوا يحصلون على عطايا وهدايا، على شكل أملاك وأموال نقدية وعينية". ومن الأسباب التي شجعت علماء جبل عامل بلبنان للتوجه إلى إيران المكانة الكبيرة التي حصلوا عليها: وقد وصل احترام الملوك الصفويين للعلماء والفقهاء العامليين – خصوصاً - إلى حد أنهم فوضوا إليهم كافة المهام القضائية في البلاد، ومنحوهم السلطات والصلاحيات اللازمة، فأصبحوا المصدرين والمنفذين للحكام والحدود الشرعية وعقوبات القصاص في كل مدن إيران". ويقدر مؤلف كتاب "هجرة علماء الشيعة" عدد علماء جبل عامل الذين هاجروا إلى إيران في العهد الصفوي بـ (97) عالماً ، لم يعد منهم إلى جبل عامل سوى سبعة فقط. أما حسن غريب فيقول إن الذين ذكرتهم كتب التاريخ يبلغ عددهم 63 عالماً، أما من لم يذكر فعددهم كثير.
يعتبر علي بن عبد العالي الكركي، المعروف بالمحقق الكركي أو المحقق الثاني أبرز المهاجرين العامليين إلى إيران، فقد هاجر في السنوات الأولى لتأسيس دولة الصفويين، وليس هذا فحسب، بل إنه تبوأ في هذه الدولة منزلة لا تدانيها منزلة، إذ يقول الشاهرودي عن الكركي وتنقله في الأمصار ثم استقراره في إيران: "ثم رحل إلى بلاد إيران هادفاً الترويج للمذهب الشيعي، وقد لقي من السلطان الشاه إسماعيل الصفوي آيات الاحترام والتكريم والتقدير، وأناط إليه الشاه وظائف كثيرة وجعل له مرتباً سنوياً كبيراً ليصرفه في تحصيل العلوم ويفرقه بين الطلاب والمشتغلين بالعلم، كما كان في دولة السلطان الشاه طهماسب الأول، ثاني ملوك السلالة الصفوية، معظماً مبجلاً في جميع أرجاء بلاد إيران، نافذ الكلمة مطاعاً، وعينه الشاه حاكماً في الأمور الشرعية في عموم البلاد، وأعطاه فرماناً "مرسوماً" ملكياً بذلك، وقد بلغ شأنه في تحديد الوظائف والمراتب حتى قيل: إن كل من يعزله الشيخ الكركي لا يعين ثانية، وإن كل من ينصبه الشيخ لا يعزل بالمرة"
بعد الكركي: لم ينته تأثير علماء جبل عامل بعد وفاة الكركي، ذلك أن عدداً من المهاجرين هم أيضاً تبوءوا المراتب العليا في الدولة الصفوية، وساهموا في النهضة الشيعية، نذكر منهم على وجه الاختصار: 1- كمال الدين درويش محمد بن الحسن العاملي: يوصف بأنه أول من نشر أحاديث الشيعة في عهد الصفوية، وقد فرغ نفسه كلياً للتدريس مبتعداً عن الشأن السياسي خلافاً للكركي. 2- علي بن هلال الكركي: ترك جبل عامل وذهب إلى النجف والهند ثم إيران "ناقلاً معه مكتبة ضخمة يبلغ تعدادها أربعة آلاف مجلد، حيث خلف أستاذه الكركي في منصب شيخ الإسلام". 3- حسين بن عبد الصمد الجباعي: قيل إن الشاه طمهاسب كان يأمر واليه في خراسان بأن يحضر ولده – أي ولد الشاه محمد خدابنده – إلى مجلس الشيخ لسماع درسه ووعظه، وبأن ينفذ فتاواه وأحكامه". 4- بهاء الدين العاملي: وهو ابن حسين بن عبدالصمد الذي سبق ذكره، عيّنه الشاه عباس الكبير شيخاً للإسلام في عاصمته الجديدة "أصفهان"، وهو أعلى منصب ديني رسمي في البلاد، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1030 هجرية، (1621م)، وأصر الشاه عباس على نقل الجثمان إلى مدينة مشهد ليدفن جوار ضريح الإمام الرضا ثامن الأئمة عند الشيعة الاثنى عشرية، وما يزال قبره مزاراً مشهوداً. ونشط العاملي في التأليف، وبلغت مؤلفاته من الأهمية بمكان عند الشيعة للحد الذي اعتبروا فيه كتابه "جامع عباسي" أحد أعظم الكتب تأثيراً في تاريخ الشعوب الإسلامية. وكتابه الآخر "خلاصة الحساب" ظل يدرس في المدارس الإيرانية حتى أمد قريب، وكذلك أشعاره بالفارسية. أما كتاباه "زبدة الأصول" و"الفوائد الصمدية" فهما دائران حتى اليوم في الحوزات العلمية، درج عليهما مئات الألوف من طلابها، ويكفي أن نلقي نظرة على قائمة الشروح والحواشي والتعليقات التي وضعت على مختلف كتبه لنتصور وكأنها كانت شغل الناس الشاغل. 5 ـ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ولد سنة 1033هـ وهو أحد أكبر علماء الدولة الصفوية في مراحلها الأخيرة، وأحد أهم علماء جبل عامل على الإطلاق، هاجر إلى إيران في سنة 1073هـ ، وأعطي منصب شيخ الإسلام وقاضي القضاة في (مشهد)، وفيها توفي سنة 1104هـ (1692م). من مؤلفاته الهامة كتابه "أمل الآمل في علماء جبل عامل" لكن أهمها على الإطلاق هو "وسائل الشيعة إلى تحصل مسائل الشريعة"، وقد ألّفه في مدة 18 سنة، وهو كتاب في الحديث له مكانته الكبيرة عند الشيعة. ويعتبر الشيعة أن كتاب (وسائل الشيعة) للحر العاملي، وكتاب (الوافي) للفيض الكاشاني، و(بحار الأنوار) للمجلسي، "من أهم ما أضافه العصر الصفوي إلى المكتبة الشيعية، في حقل الدراسات الفقهية والعلوم المهيئة لها". واعتبروا أن كتب الحديث الثلاثة السابقة (وسائل الشيعة، والوافي، وبحار الأنوار) قد أكملت سلسلة كتب الحديث الأربعة القديمة، ذات القيمة التاريخية لفقه الإمامية وتطوره. الخلاصة: إن دراسة هجرة علماء لبنان وعلى الأخص منطقة جبل عامل إلى إيران منذ السنوات الأولى لقيام الدولة الصفوية وحتى نهايتها، وتقلدهم أعلى المناصب؛ لا تدع مجالاً للشك في أن العلماء الشيعة العرب وعلى وجه الخصوص اللبنانيون كان لهم التأثير البالغ في التشيع الصفوي، فقد نشروا العلوم الشيعية وألفوا الكتب الكثيرة وأقاموا الحوزات والمعاهد، فالحوزة العلمية في أصفهان مثلاً لم تزدهر إلاّ في عهد البهائي العاملي. ويؤكد الباحث الإيراني مهدي فرهاني أن علماء جبل عامل ساهموا بتربية جيل من الفقهاء الإيرانيين الذين مارسوا الشأن السياسي في الدولة الصفوية بعد ذلك، وهو ما يجسد ما قام به العامليون من إغناء الفقه الشيعي في أبعاده السياسية مؤكداً أن قيادة التيار الديني الفقهي في العصر الصفوي كانت للعنصر العربي.
بعد أن فرغ إسماعيل الصفوي من القضاء على منافسيه المتفرقين في مختلف أنحاء إيران، بدأ يوجه همه إلى تدعيم الوحدة السياسية لدولته، ويعد العدة ليضع يده على كل بلاد فارس، وكان لا بد من الاصطدام بقبائل الأوزبك التي كانت تموج في المناطق الشمالية الشرقية من فارس.
كانت قبائل الأوزبك تعتنق المذهب السني، وتحت زعامة محمد شيباني الذي نجح في أن يقيم ملكا على حساب الدولة التيمورية، وأن يستولى على عاصمتها "سمرقند" وأن يمد سيطرته على "هراة" في مطلع سنة (913هـ = 1507م).
وهكذا أصبح الأوزبك وجها لوجه أمام إسماعيل الصفوي، وزاد من الصراع بينهما التراشق المذهبي بينهما، وبلغ من اعتداد محمد شيباني أن أرسل إلى إسماعيل الصفوي يدعوه إلى ترك المذهب الشيعي والعودة إلى مذهب السنة والجماعة، ويهدده بحرب ضروس في قلب إيران ذاتها، وبهذا أصبح لا مفر من الحرب بينهما.
كان شيباني يتصف بالجرأة والإقدام، لكنه لم يكن على مستوى عدوه إسماعيل الصفوي في المراوغة والخداع في الحروب، فاستغل إسماعيل ذلك، وجرَّ خصمه إلى معركة كان قد استعد لها تماما، وتمكن من إلحاق هزيمة مدوية به في "محمود آباد" -وهي قرية تبعد قليلا عن مرو- وذلك في سنة (916هـ= 1510م).
استشهد شيباني نفسه في المعركة، وبعد استشهاده أعمل إسماعيل الصفوي القتل في أهل مرو، وأمضى فصل الشتاء في هراة، وأعلن فيها المذهب الشيعي مذهبا رسميا، على الرغم من أن أهالي هذه المناطق كانت تدين بالمذهب السني.
اتسمت العلاقات بين الدولة الصفوية الناشئة والعثمانيين بالهدوء، وساعد على ذلك أن السلطان بايزيد الثاني الذي تولى بعد محمد الفاتح كان رجلا يحب السلام ويحب الأدب والفلسفة، ويميل إلى دعم العلاقات العثمانية الصفوية، لكنه حين علم أن إسماعيل الصفوي يتمادى في إلحاق الأذى بالسنة، مما جعلهم يهربون إلى الأراضي العثمانية كتب إليه أن يلتزم بالعقل والحكمة في معاملتهم.
ومع تولي السلطان سليم الأول مقاليد الحكم في العثمانية ازداد التوتر بين الدولتين، وكان سليم الأول ينظر بعين الارتياب إلى تحركات الصفويين، ويخشى من تنامي قوتهم وتهديدهم لدولته؛ فعزم على مهاجمة خصمه وتسديد ضربة قوية قبل أن يستعد للنزال.
جمع السلطان سليم الأول رجال الحرب والعلماء والوزراء في مدينة أدرنة في (19 من المحرم 920هـ= 16 من شهر مارس 1514م)، وذكر لهم خطورة إسماعيل الصفوي وحكومته الشيعية في إيران، وأنه اعتدى على حدود الدولة العثمانية، وأنه فصل بدولته الشيعية المسلمين السنيين في وسط آسيا والهند وأفغانستان عن إخوانهم في تركيا والعراق ومصر.
ولم يجد السلطان العثماني صعوبة في إقناع الحاضرين بضرورة محاربة الصفويين؛ لأنهم صاروا خطرا داهما يهدد وجود العثمانيين، وخرج بعد 3 أيام من هذا الاجتماع على رأس جيش كبير متجها إلى إيران، ولم ينس وهو في طريقه أن يكتب إلى "عبيد الله خان" قائد الأوزبك يذكره بقتل عمه شيباني، ويحثه على الانتقام من إسماعيل الصفوي، ومهاجمة خراسان بمجرد وصول الجيش العثماني إلى إيران، وكان هدف سليم من ذلك أن يجعل إيران بين شقي الرحى من الغرب بهجومه، ومن الشرق بهجوم عبيد الله خان على خراسان.
حين علم إسماعيل الصفوي بقدوم القوات العثمانية -وكان مشغولا بإخراج الأوزبك من خراسان- عمل على تعطيل وصولها، فأمر بتخريب الطرق والقرى الواقعة في طريق الجيش العثماني؛ الأمر الذي أخّر وصول العثمانيين وأنهك قواهم، لكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة السير إلى إيران، والإقامة في "سيواس" انتظارا للمعركة الحاسمة.
لم يبد إسماعيل الصفوي حماسا للمعركة، وحاول أن يتجنب ملاقاة العثمانيين باستدراج الجيش العثماني إلى داخل إيران، ليقطع خطوط الإمدادات عليه، لكن سليم الأول كان منتبها لما يدور في ذهن خصمه، فعزم على الإسراع في لقاء الصفويين، وخاصة بعد أن بدأ التذمر يشق طريقه إلى جنود العثمانيين من طول الانتظار وكثرة الانتقال من مكان إلى آخر.
التقى الفريقان في صحراء جالديران في شرق الأناضول في (2 رجب سنة 920هـ = 24 من أغسطس 1514م) وانتهت المعركة بهزيمة إسماعيل الصفوي هزيمة نكراء، وفراره من أرض المعركة إلى أذربيجان، ووقوع كثير من قواده في الأسر.
وفي (14 من شهر رجب 920هـ= 5 من سبتمبر 1514هـ) دخل سليم الأول مدينة تبريز عاصمة الصفويين واستولى على أموال إسماعيل الصفوي وبعث بها إلى إستانبول، ثم قفل راجعا إلى بلاده، مكتفيا بهذا النصر الكبير، غير راغب في اقتفاء أثر إسماعيل الصفوي والتوغل في بلاده.
وعلى الرغم من الهزيمة المدوية التي لحقت بإسماعيل الصفوي، فإنها لم تحسم الصراع لصالح العثمانيين، وظل كل طرف يتربص بالآخر وينتهز الفرصة للانقضاض عليه، ونظرا لفداحة خسائر الصفويين؛ فقد حاول إسماعيل الصفوي أن يبرم صلحا مع السلطان سليم الأول، لكن محاولته لم تلق قبولا لدى السلطان العثماني.
وترتب على انتصار سليم الأول أن نهض رؤساء كردستان -وهم من الشافعية السنة- لمساندة العثمانيين. فلم يمض وقت طويل حتى انضمت 25 مدينة للحكم العثماني، على الرغم من الاستحكامات العسكرية التي أقامها الصفويون بها. فتوسع العثمانيون وضموا إليهم ديار بكر وسائر مدن كردستان حتى أصبح الجزء الأكبر من أراضي الأكراد في يد العثمانيين، وأصبح الإيرانيون وجها لوجه أمام العثمانيين، وبات من الصعب على الصفويين التوسع على حساب العثمانيين.
تركت الهزيمة التي لقيها إسماعيل الصفوي آثارا قاسية في نفسه، ولم يكن قد لحقت به هزيمة قبل ذلك؛ فانصرف إلى العزلة، وغلب عليه اليأس، وارتدى لباسا أسود اللون، ووضع على رأسه عمامة، وكتب على أعلامه السوداء كلمة "القصاص"، وانصرف إلى معاقرة الخمر حتى أدمنها، وشغل نفسه بالتفكير في طريقة الانتقام من غريمه سليم الأول، إلا أن المنية عاجلت سليم الأول سنة (926 هـ = 1520م) وهو في طريقه لغزو إيران مرة أخرى.
شجعت وفاة سليم الأول المفاجئة إسماعيل الصفوي على أن تستحكم منه الرغبة في الانتقام من العثمانيين من جديد، غير أن الموت اغتال أمنياته؛ فمات متأثرا بالسل وعمره سبعة وثلاثون عاما في (18 رجب 930 هـ= 31 مايو 1524م) على مقربة من أذربيجان، ودفن في أربيل إلى جوار أجداده، وخلفه في الحكم طهماسب الأول.
ليس ثمة شك في أن إسماعيل الصفوي كان يتمتع بصفات مؤسس الدولة من الذكاء والصبر والقدرة على التحمل، والقيادة والشجاعة، والقدرة على حشد الأتباع والتأثير فيهم والسيطرة عليهم، ووضع نظم الإدارة، وكان حظه من ذلك موفورا؛ فقد تولى الحكم يافعا، لكن صغر سنه لم يحل بينه وبين تأسيس دولة وصلت حدودها إلى ما كانت عليه أيام الساسانيين؛ فشملت فارس والعراق وخوزستان وكرمان وخراسان.
ولكن يؤخذ عليه إدمانه الخمر، وغلبة طابع الفجور على كثير من فترات حياته، وقسوته البالغة مع أعدائه وخصومه، وميله إلى التشفي والانتقام منهم حتى بعد وفاتهم. إذ يحكي التاريخ عن جور وظلم الشاه إسماعيل الصفوي، وقيامه بحركة جادة عامة لنقل أهل السنة - الذين كانوا يشكلون أغلبية المسلمين في إيران في ذلك الحين - إلى التشيع بأي وسيلة حتى ولو احتاج الأمر إلى شتى صور التعذيب وسفك دماء الألوف. وخير شاهد على هذا أنه إسماعيل الصفوي قتل في يوم واحد 140 ألف من أهل السنة والجماعة، وحتى الآن يذكر أهل السنة في منطقة خراسان جيلاً عن جيل على سبيل القصص المرة أن الحكومة الصفوية الشيعية قتلت العلماء، وهدمت المساجد، وأحرقت الكتب، حتى أنه أمر بأن يرمى من مآذن مساجد ومدرسة خردحرد - في منطقة خواف من خراسان (70) عالماً وطالب علم يومياً. هذا ما يعترفون به في كتبهم التاريخية الموجودة حالياً في جامعة طهران[1].
ويجب التنويه إلى أن سياسة إسماعيل الصفوي فتحت بابا لظهور النفوذ الأجنبي، لا في إيران بل في منطقة الخليج العربي، وألحقت ضررا بالإسلام بعد تصعيد حدة الصراع بين العثمانيين والصفويين، وتحول الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة إلى صراع مسلح.