هو أبو اسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي ،من علماء الأندلس ، وشهد له العلماء بملآثره العديدة .
اسمه وكنيته و نسبه
هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي ، و كنيته التي عرف بها أبو إسحاق ، أما نسبه فليس بالعربي مع أنه نال علوم العربية فبرع بها, فلم ينته نسبه إلى قبيلة من قبائل العرب ، بل هو عالم أعجمي بربري من من سبق أجداده للإسلام ، و نسب إلى لخام و غر ناطة و شاطبة فقيل اللخمي و الغرناطي و الشاطبي.
ولادته و نشأته و وفاته
تعرض الريسوني لمكان ولادة الشاطبي فقال : " فالأظهر أنه ولد بغرناطة" و سبب هذا أن الإمام الشاطبي نشأ و ترعرع بها و لم يُعلم أنه غادرها ، و سبب عدم ترحاله أن أسفار العلماء كانت طلبةً للعلم ، أما الشاطبي فكان العلم حاضر بلدته ،أما عن و فاته فهي يوم الثلاثاء من شهر شعبان سنة 790 هجري .
شيوخ الشاطبي
تتلمذ الشاطبي على يد الكثير من العلماء من شيوخ الغرناطيين و الوافدين الذين أحسنوا إعداده الأدبي و العلمي في شتى الفروع العلمية ، ومن هؤلاء
أولاً : علماء غر ناطة
من أبرز شيوخه ابن الفخار البيري ، و أبو جعفر الشقوري ، و أبو سعيد بن لب ، و أبو عبد الله البلنسي .
ثانياً: العلماء الوافدين إلي غر ناطة
أما شيوخه من العلماء الوافدين فمنهم : أبو عبد الله الشريف التلمساني ،أبو عبد الله المقري ،أبو القاسم السبتي ابن مرزوق الخطيب " الجد" أبو علي الزاوي . تلاميذ الشاطبي تتلمذ على يد الإمام الشاطبي الكثير من العلماء الأجلاء الذين شُهد لهم بالفضل في العلم و قد تنوعت علومهم و إبداعاتهم في جوانب شتى من العلم و قد اشتهر منهم ، العلامة أبو يحيى بن عاصم ، و القاضي الفقيه أبو بكر بن عاصم, و الفقيه أبو عبد الله البياني ، وأبو جعفر القصار ، و أبو عبد الله المجاري .
طلبه للعلم
كان الإمام الشاطبي شغوفاً بالعلم طالباً له من أهله ، باحثاً عن كنوزه كاشفاً لأسراره ، حيث جمع أصول العلوم الشرعية ففقه العربية وفنونها على يد شيخه ابن الفخار ، و فقه النحو على يد شيخه أبي جعفر الشقوري ، وفقه الفقه و الفتوى على يد شيخه أبي سعيد بن لب ، و فقه التفسير على يد شيخه أبي عبد الله البلنسي ، و فقه أصول الفقه على يد شيخيه أبي عبد الله الشريف التلمساني و أبي علي الزاوي ، و فقه القواعد الفقهية على يد شيخه أبي عبد الله المقري ، و فقه العلوم اللسانية على يد شيخه أبي القاسم السبتي ، و فقه علوم الحديث على يد شيخه ابن مرزوق ، الملقب بالجد. فيكون بذلك الإمام الشاطبي حاز فنون كل علوم الشريعة ، و هذا ما أهله بعد ذلك لينتج نظرياته الفقهية و الأصولية التي أوقفت أهل العلم عندها طلاب ، و أفصحت عن مراد الشارع ، و كشفت لأهل العلم عنه الحجاب ، حيث عمت به فائدة كبيرة لأهل العلم.
==منزلته العلمية بين العلماء و مؤلفاته== لقد تميز الشاطبي بمنزلة عالية رفيعة بين علماء الشريعة الإسلامية ، فتمهر على يديه الكثير من العلماء الذين خرًّجوا الكثير من العلماء ، فكان الشاطبي ، نجماً ساطعاً بين علماء عصره ، حيث ارتقى الشاطبي ، مرتبة العلماء الذين خلد التاريخ ذكرهم ، فهم الذين أثْرَََو المكتبة الإسلامية بالفكر الذي تستند الأمة عليه ، و قد وصفوه فقالوا :" هو الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد الأصولي المفسر الفقيه المحدث اللغوي النظارة المدقق البارع صاحب القدم الراسخ و الإمامة العظمى في سائر فنون العلم الشرعي ، الإمام المحقق العلامة الصالح " ، و للإمام الشاطبي مؤلفات كثيرة في مختلف علوم العربية و الشرعية ، كالنحو و الصرف و الإشتقاق و الأدب و الشعر و علوم الحديث و فقهه و الفقه و أصوله و التصوف و البدع إلى غير ذلك من علوم ، ومن كتبه المطبوع و منها غير المطبوع علي النحو التالي:
أولاً : المطبوع
طبع للإمام الشاطبي العديد من الكتب التي لاقت القبول عند أهل العلم و هي :
- كتاب الموافقات في أصول الشريعة وهو من أنبل الكتب في بابه.
- كتاب الإفادات و الإنشادات و فيه طرق و تحف و مدح أدبية و إنشاءات
- كتاب الإعتصام في أهل البدع و الضلالات
ثانياً : غير المطبوعة
ولم تحظ مجموعة أخرى من كتابات الإمام الشاطبي بالطباعة ، وهذه الكتب هي :
- شرح جليل على الخلاصة في أربعة أجزاء
- كتاب المجالس و هو شرح لكتاب البيوع من صحيح البخاري
- عنوان الإتفاق في علم الإشتقاق قيل أنه أتلف في حياة الشاطبي واستفاد منه أهل عصره فقط
- كتاب أصول النحو ، قيل أنه أتلف في حياة الشاطبي
- شرح الألفية يعني ألفية ابن مالك
ذكر الإمام الشاطبي في آخر كتابه الإعتصام عن عزمه تأليف كتاب يعالج فيه التصوف و أسماه "مذهب أهل التصوف" ، ولكنا لا ندري هل قام بتأليفه أم لا .
بيان منهجه الأصولي و مذهبه الفقهي
نبذة عامة عن منهجه العلمي
كان للإمام الشاطبي منهجاً علمياً متزناً ، حيث كان له مزايا على ما ذكر هو بنفسه فقال :" وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، و وجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، و أصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت من أنواعه نوعاً دون أخر ، حسبما إقتضاه الزمان و الإمكان و أعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لجاجه خوض المحسن للسباحة ، و أقدمت في ميدانه إقدام الجريئ .......إلى أن من علىًّ الرب الكريم ، الرؤوف الرحيم ، فشرح لي من معان الشريعة ما لم يكن في حسابي ......." و لعلها نظرته الشاملة في أخذه للعلوم ، ثم رعته يد الله لينشأ نشأً بعد آخر ، لمرحلة يكون الإسلام أحوج إلى علمه الزاخر ، تماشياً مع حاجة الإسلام المتنامية يومأً بعد يوم ، لما يَجِدُّ من حوادث ، فيكون امتداداً بأصل التشريع إلى فرعه ، لتكتب السلامة و النجاة لأهل هذا الدين الحنيف ، و لم تكن الطريق ممهدة أمام الإمام الشاطبي ، بل واجه العديد من الصعاب التي أوشكت أن تثقله إلى الأرض ، و كان من أبرزها ، ما أثاره بعض أهل العلم الذين عجِّلوا عليه أمره ممن عاصره منهم ، ففهموا مقصده على غير وجهته ، بالإضافة إلى أهل البدع و الضلالات الذين لا يذرون في مؤمن إلاً و لا ذمةً ، فاتهموه بكثير من الأمور التي لا تقبل فيمن هو دونه ، فاتهموه بأنه يقول أنَّ الدعاء لا ينفع ، و كل أمره أنه لم يلتزم الدعاء الجماعي في إمامته للناس ، ونسب إلى التشيع و الرفض و بغض الصحابة ، لأنه لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة ، ونسب إليه تجويز الخروج على الأئمه ، لأنه لم يلتزم ذكرهم في الخطبة ، و اتهم بالغلو و التشدد لأنه التزم الفتوى بمشهور المذاهب ، إلى غيرها من أمور ، و قد عبر عمًّا لاقى منهم بما جادت عليه فصاحته فقال: "بُليتُ يا قومِ و البلوى منوعةُ ..... بمن أُداريه حتى كاد يُرديني . دفع المضرة لا جلبُ لمصلحةٍ ..........فحسبيَ الله في عقلي و في ديني " . و كان لنشأته السليمة دوراً كبيرأ في المضي قدماً في دربه الصعب ، بل و خط لنفسه آليةً لأخذ علومه عَبر عنها بنفسه فقال :" فمن هنا قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسَّر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملاً و اعتقاداً ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول " ، فأقبل على أصول الدين بادئ ذي بدء اعتقاداً و عملاً ، ثم ألَّم بفروعه المبنية على تلك الأصول ، و هي طريقة سليمة. ثم شرط على نفسه شروطاً لا يحيد عنها مهما كان الأمر فقال: " كثيراً ما كنت أسمع الأستاذ أبا علي الزاوي يقول : قال بعض العقلاء : لا يسمى العالم بعلمٍ ما عالماً بذلك العلم على الإطلاق ، حتى تتوفر فيه أربعة شروط .... . وهي :
- أن يحيط علماً بأصول العلم الذي يطلب على الكمال ، .
- ثم تكون له القدرة على العبارة عن ذلك العلم ، .
- ثم يكون عارفاً بما يلزم عنه ، .
- و آخرها أن تكون له القدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم "
و تميز بالتأني قبل الكتابة فقال:"ولما بدى من مكنون السر ما بدا ، و وفق الله الكريم لما شاء منه وهدى ، لم أزل أقيد أوابده ....." بل و المشاورة في ذلك حيث إنه كان يباحث تلميذه أبا جعفر القصار أثناء تأليفه لمباحث الموافقات ، ولقد وضُح أثر هذه الطريقة في منهجه فبان متانة صنعته .
منهج الإمام الشاطبي الأصولي
تميز الإمام الشاطبي بنظرةٍ خاصةٍ لم يعتبرها كثيرٌ من الأصوليين و الفقهاء ، و تمثلَ ذلك باعتبار عدة أمورٍ :
- من جهة النصوص: و ذلك باثبات الكلية و الجزئية ، و اثبات الاستقراء كدليل لاثبات الحكم بمجموع الصور لا بعضها ، و ربط أطراف المسائل النقلية بقرينتها العقلية ، و استنباط الأحكام منها.
- من جهة المعاني :فأخذ بالمصالح وضبطها بضوابط سليمة ، ثم قسَّمها ، ثم نظر إلى علاقتها بالتعليل .
- من جهة المصادر و ضوابط الاستدلال :و التي تحتوي على عدة أمور مهمةٍ ، مما نلمس فيه الكثير من المسائل التي تُؤثر في علم أصول الفقه ، و التي سوف نعرض لها على النحو التالي :
أولاً: باعتبار النصوص
- اعتبار كليات الشريعة : قام الإمام الشاطبي ، باعتبار كليات الشريعة الإسلامية قبل اعتبار النصوص الجزئية ، لأن الكليات ثبتت بتواتر النصوص عليها فهي أقطع من الجزئية ، فوضعها في المقام الأول ، و الدليل على ذلك ما ألمح إليه بنصه فقال :" ولما بدا من مكنون السر ما بدا ، و وفق الله الكريم لما شاء منه وهدى ، لم أزل أقيد أوابده ، و أضم من شوارده تفصيلاً و جملاً ، معتمداً على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية " . فإذا أمعنت النظر تجده قد رسم ملامح منهجه بدقة فائقة يصعب معها اللبس أو الخلل فانظر قوله : " لم أزل أقيد أوابده ، و أضم من شوارده تفصيلاً و جملاً " ، هذا دليل على إمعانه النظر في النصوص مع إمعان نظره في صور فروعها, ثم قوله: "تفصيلاً و جملاً " وهو بيان لحال نظره في النصوص و ما ينبني عليها من فروع ، وتجد هنا أن نظره في النصوص اعتمد على أمرين أساسيين هما : الأول: نظرة جزئية خاصة باعتبار النص كوحدةٍ تشريعية كاملة . الثاني: نظرة باعتبار باقي النصوص. وهذا يعني عدم الاستقلال بالنصوص الجزئية في فهم مقصودها بل قدَّم عليها النصوص الكلية التي هي أقطع من حيث الدلالة على روح التشريع ومقصد المشرع في ذلك ،.
- الاستقراء كمنهج : اعتمد الإمام الشاطبي الاستقراء لأفراد الموضوع منهجاً ، ليثبت بعد ذلك الحكم باعتبار جميع الصور لا بعضها ، و نص على ذلك بقوله : " معتمداً على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية " ، وهو منهج عقلي سليم ، .
- ربط أطراف المسائل النقلية بأطرافها العقلية : قام الإمام الشاطبي بربط أطراف المسائل النقلية بأطرافها العقلية ، ومن ذلك أنه أوصل أصول المسائل في الكتاب و السنة بامتدادها بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جد عليها من أمور ، فتكون المسائل غير متروكة للهوى ولكن مربوطة بأصولها من الكتاب و السنة فلا خلاف في الحكم عليها إذا تم ردها إلى أصلها ، وذلك قوله " ومبيناً أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية ، حسبما أعطته الاستطاعة و المنة" ، وما لهذه الطريقة من أثر على صحة وسلامة التشريع .
ثانياً: باعتبار المعاني
- الأخذ بالمصالح :أخذ الإمام الشاطبي بالمصالح و راعى المعاني في تقرير الأحكام ، شأنه شأن الإمام مالك ، و الكثير من الأصوليين الذين اعتمدوا منهج الاستقراء لأحكام الشريعة و النصوص التي أنشأتها ، فكان يأخذ بالمصالح و يكثر منها شأنه شأن علماء المذهب المالكي ، لكن ما تميز به أنه عبر عن مذهبه مبيناً أسباب أخذه هذا مدافعاً عنه أشد دفاع ، ما يظهر الحق و يجلوا الغمامة عن الأعين فقال: " أما قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية..." و يقصد بذلك شيخه مالك ، مؤكداً أن سبب الأخذ بالمصالح على هذا النحو تعلق النصوص الشرعية بالمصالح و دوران النصوص الشرعية حيث دارت المصالح ، و الحق أن من عارض الشاطبي في مذهبه ، لم يرى مذهبه رأي الواعي العاقل صاحب اللب السليم الذي يلمح بعين البصيرة ما تقصر عنه أعين العوام ، فهو المتبع لا المبتدع ، ولقد ارتقى بمنهجية الفقهاء ، و أكمل مسيرة الفقه ، و ما ذلك إلا عبر اعتماد منهج مدرسة المدينة المنورة ، عاصمة الدعوة و الدولة ، التي بها أصحاب رسول الله و شيوخ التابعين ، و قد عاصر أبناءهم نمو التشريع على يد الخلفاء الراشيد رحمهم الله ، فهم الذين مثَّلوا ميراث النبوة عملاً لا قولاً ، و حاضرةً عندهم فتوى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاستشف الإمام الشاطبي بنور الله ملامح مدرسة النبوة ، فأرسى رواسيها و خط حدودها ، و جاء الفقه الحديث بما يحمل من جديد برهاناً على صحة المنهاج و سلامة الطريقة و الحمد لله .
فإذا نظرت في قوله نظر الممعن نظره في مذهبه و أصوله و مقاصده ، تعلم أن المصلحة هي كما لمحها الإمام الشاطبي ، باب يضم روح التشريع لكثير من الأحكام التشريعية ، و التي جاءت النصوص معبرة عنها ، مع ذلك فإن أخذ الإمام الشاطبي هذا للمصالح ، كان مقيداً بشروط ذكرها هو ، مما يجعله في دائرة التشريع لا خارجها ، وهي على النحو التالي :
-
- عدم الخروج على مقاصد الشريعة بشيء ،مما يضمن انسجام أحكام الشريعة مع بعضها البعض مع عدم مخالفتها لمصادر التشريع .
- ألا يناقض أصلاً من أصول التشريع ، مما يضمن الثبات في مسيرة التشريع . حيث يقول الشيخ أبو زهرةعن المذهب المالكي : ".., نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه و لا يناقض أصلاً من أصوله ، حتى لقد استشنع العلماء كثيراً من وجوه استرساله ، زاعمين أنه خلع الربقة و فتح باب التشريع ، وهيهات ، ما أبعده من ذلك ، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالإتباع ، بحيث يخيل للبعض أنه مقلد لمن قبله " ، بل و وضع ضوابط للمصالح و أقسامها ، فقام الشاطبي بوضع ضوابط و تقسيمات للمصالح ، هي واجبة لفهم مقاصد الشريعة و هي طريق فهم الكتاب و السنة ، أو بصورة أوضح ضبط مقاصد التشريع بضوابط و حدود تميز بعضها عن بعض و سيأتي الحديث عنها عند الحديث عن المصلحة و علاقتها بالعلة إن شاء الله ، وتوج ذلك بنظرته الخاصة لمسألة التعليل ، فقد نظر الإمام الشاطبي لموضوع تعليل الأحكام بنظرة خاصة فأرسى مراسي الفهم السليم لمسألة التعليل من خلال الكتاب و السنة ، الذي ينبني عليه أثره المرجو منه ، في تطور الفقه الإسلامي و صلاحه ، ولقد رسخ فيه معنيين هما: الأول : وجوب أخذ النصوص بمقاصدها ، الثاني: و جوب إدخال التفسير المصلحي في فهم معانيها و أحكامها ، وسنخوض فيها في حينها إن شاء الله .
ثالثاً: باعتبار المصادر و ضوابط الاستدلال
- الأدلة والمذاهب : إن أهم المقومات التي تعتمد عليها المذاهب الفقهية بحيث هي مدرسة تشريعية تلعب دوراً فاعلاً في بناء و بيان فلسفة التشريع ، هي الأدلة التي تعتمد عليها تلك المذاهب ، أما المذهب المالكي فإنه منشأ النظرة المقصدية بضوابطها التي نص عليها الشاطبي و الفقهاء من بعده ، و نرى مدى تفرعها و اتساعها ، لذا كان الإمام مالك الأكثر اعتباراً لمصادر التشريع حيث سجل له أخذه بالكتاب و السنة و الإجماع و القياس وقول الصحابي و قول التابعي و الاستصحاب و المصالح المرسلة, و العرف و العادة و الاستحسان ، فأخذ كل ما أنتجته هذه الأدلة كل في محله .
- أخذ الإمام الشاطبي بالأدلة: كان مذهب الإمام الشاطبي ، أن يأخذ بالدليل الأقوى و يذر سواه ، ما لم يوجب ذلك حرجاً ، و إلا كان يجمع بينهما ، فيقدم الكتاب على السنة ، و السنة على القياس ، و القياس على قول الصحابي ، و قول الصحابي على قول التابعي ، و الأثر على المعقول ، و هكذا فانظر مانقل الشيخ محمد أبو زهرة عن صاحب كتاب المدارك ما نصه " و أنت إذا نظرت لأول و هلة منازع هؤلاء الأئمة و مآخذهم في الفقه ، و اجتهادهم في الشرع ، وجدت مالكاً ناهجاً في هذه الاصول منهاجاً, مرتبا لها مراتبها و مدارجها ، مقدما كتاب الله على الأثار ، ثم مقدماً لها على القياس و الإعتبار ، تاركاً منها مالم يتحمله الثقات العارفون لما تحملوه .... " .
- سَد الذرائع و أَبطل الحِيل: إن الإمام الشاطبي أخذ بقاعدة سد الذرائع و أبطل الحيل ، فإن كان قد فتح باب المصالح على مصراعيه فقد جعل وسيلة يرتب بها هذه المصالح مع بعضها البعض بحيث تتدافع ولا تتعارض ، و ما مفهوم سد الذرائع إلا ذلك وهو دفع المصلحة الأقوى الراجحة للمصلحة الأضعف المرجوحة ، لكنَّ جهد مالك و الشاطبي لم يقتصر ليضبط فقط تلك المصالح الظاهرة بل تعد إلى أبعد من ذلك ليضبط نوعين آخرين من المصالح و هما : الأول: المصالح التي ظاهرها من جهة المكلف المصلحة و لغلبة الظن الكلمة الأخيرة فيها, . الثاني: تلك المصالح و التي يكثر و قوعها مفسدة مع أن الظن الغالب فيها المصلحة ، و لعل هذا ما عده العلماء مغالاةً عند مالك ، ولقد دافع عنه الشاطبي في ذلك و أبان الحق للعلماء فقال: "إن مالك اعتبرهُ في سد الذرائع ، بناء على كثرة القصد وقوعاً ، و ذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا و هو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنة ذلك ، فكما اعُتبرت المظنة و إن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد ، ولهذا أصل وهو حديث أم ولد زيد ابن أرقم وهو ماروي عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة ا فقالت أم ولد زيد بن أرقم :" إني نظير غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب" . فترى أنَّ الشاطبي علَّلَ اعتبار مالك كثرة الوقوع مفسدة محل غلبة الظن ، بأن غلبةُ الظن في القصد ممنوعة لأن القصد باطن لا ظاهر ، و لكنَّ كثرة الوقوع مظهر لهذا القصد بدليل إقبال الناس عليه ، وهذا يحل محل غلبة الظن ، مع العلم أن غلبة الظن هي في تحقيق المفسدة في ذات الفعل و الكثرة في الوقوع دليل على إيراد هذه المفسدة على هذا الوجه وقد وضح ذلك حديث أم ولد زيد ابن أرقم فها الصحابي الذي شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المواقع كلها لا يقبل فيه قصد الربا فكان غلبة ظنه أن هذا الوجه في البيع جائز لكن ظنه هذا لم يوافق واقعاً بل إن وقع البيع ممنوع وظنه باطل ، أكد ذلك تغليظ أم المؤمنين له ، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا توقيفاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى مجرى روايتها ذلك عنه ، و سبب التغليظ ، لأن ذلك البيع يعد ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم ، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال أرى مائة بخمسين بينهما حريرة يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما ..
4- الشاطبي و العادات :
أخذَ الإمام الشاطبي بالعادات و استثمرها بطريقة غريبة ناظر فيها عادات العرب التي اعتبرها الشرع الحنيف ، بما توارث الناس من عادات أخرى ، وهو منهج الإمام مالك حيث يقول الشيخ أبو زهرة : " ثانيهما : أن مالكاً كان يتجه إلى العادات القانونية التي كانت معروفة عند أهل المدينة ، فيضفي عليها مسوحاً دينيةً ، و أن تلك العادات هي صورةٌ للعادات العربية القديمة ، لم تتفق بعد مع الدين تماماً ولكنها عادات نشأت من محيط المعاملات ، وقد ظهر بعضها لمالكٍ كأنه السنة ، أو حمَّله اسم السنة ، وليس ذلك إلا إصباغا لعادات قانونية عربية بصبغة الدين ، و إزالة لما عساه يكون مخالفاً للدين من هذه العادات." ، و معنى ذلك أن الإمام الشاطبي وشيوخ المذهب المالكي قاموا بتصفية تلك العادات و تقريبها إلى الإسلام بما يقبله الإسلام و لا يرده ، أما ما خالفه فقد تركوه و وازعهم في ذلك أن مجمل هذه العادات عادات عربية قديمة اعتبر التشريع صوراً كثيرةً منها ، و قوََّمََ بعضها فكانت منهجية الإمام الشاطبي لينة تستوعب ما وافق التشريع و تترك ما خالفه من عادات توارثتها الأجيال ، ولقد نص الإمام الشاطبي على ذلك فقال:" كل أصل علمي يُتخذُ إماماً في العلم فلا يخلو أن يجريَ به العمل على مجرى العادات في مثله ، بحيث لا ينخرمَ منه ركن و لا شرط أو لا ، فإن جرى فذلك الأصل الصحيح . و إلا فلا.. " وهذا يعني أن الإمام الشاطبي اعتبر الدليل على صلاح الأصل الشرعي للاستدلال جريانه مع أعراف الناس و عاداتهم و جعل لذلك شرطاً: وهو عدم مخالفة أحد أركان هذا الأصل لمجرى العادات ، ولقد عبر عن ذلك صراحة بقوله : " .. فإذن كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطردَ ولا استقام بحسبها في العادة فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها " . منهج الشاطبي الفقهي :
لقد كان الإمام الشاطبي مالكي المذهب درس في مدرسة غر ناطة حيث شاع مذهب مالك بلاد الأندلس جميعها ، حيث ينقل لنا الشيخ محمد أبوزهرة قول القاضي عياض في بيان البلاد التي انتشر بها مذهب مالك فيقول " غلب مذهب مالك على الحجاز و البصرة و مصر ، و ما وآلاها من بلاد أفريقية و الأندلس و صقلية و المغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا ، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً ثم ضعف بعد أربعمائة سنة ، وظهر بنيسابور ، وكان بها و بغيرها أئمة و مدرسون..." ، فتتلمذ على يد مشايخها و تميز بالفهم العميق ، مما أهله بعد ذلك أن يخرج كنوزه للناس ما لم يفعله سواه من مشايخ هذا المذهب ، وهو الذي كشف الحجاب عما قصد إليه مالك ولم يعبر عنه صراحة بل وضع أسس بنيان شامخ جاءت مدرسة الشاطبي المقصدية ثمرة من ثماره ، ثم نظرته للتعليل ثمرة أخرى .
المصادر
- رسالة ماجستير " تعليل الأحكام الشرعية عند الإمام الشاطبي " للباحث عدنان على اسبيته من خلال دراسة كتابي الإمام الشاطبي " الموافقات في أصول الأحكام و كتابه الإعتصام " ، نوقشت الرسالة في الجامعة الإسلامية بغزة بتاريخ 21/9/2005 على يد د. محمد يونس و د. ماهر الحولي تحت إشراف د. زياد مقداد.