الفصل الأربعون | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني وصف صادق للحملة ضد الروس ولشجاعة الفرس المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل الثاني والأربعون |
الفصل الحادي والأربعون. وصف صادق للحملة ضد الروس ولشجاعة الفرس
بعد أن حصل رئيسي والسردار على كل المعلومات مني ومن يوسف حول قوة الموسكوفيين ومواقعهم قرروا الشروع بالهجوم فوراً فصدر أمر إلى الجيش بالمسير إلى حماملو.
دبت الحركة في كل شيء: بدأت المدفعية مسيرها الصعب البطئ عبر الجبال، ومضى المشاة في طريقهم وتحرك الفرسان في مجموعات منفصلة على كامل السهل. وقبل المسير زارني الأرمني، ولم يعد مظهره المظهر الخشن لأهل الجبال بقبعته الضخمة من جلد الخراف وسترته الجورجية القصيرة والخفين على قدميه والخنجر الطويل على جنبه وبندقيته المعلقة بشكل مائل وراء ظهره، بل صار يلبس معطفاً طويلاً من المخمل القرمزي بشرائط وأزرار ذهبية اللون وشال كشمير جميل حول خصره وقبعة صغيرة من جلد الخراف البخارية على رأسه، وخصلتا شعر وراء أذنيه ممشطتان بكل عناية، وكل مظهره أشبه بمظهر فتاة إذ كانت ملابسه تستر أطرافه. وعندما تقدم مني بدا عليه الخجل على هذا التغير العجيب. شكرني بتعابير الامتنان وأكد لي أنه لم يتوقع هذه النتيجة من مقابلة السردار، بل قرر أن يخاطبه بشجاعة من ينتظر موته ما دام سيخسر حياته وزوجته. وأضاف: «ورغم هذا التغير الكبير في أوضاعي لا أحب ما صرت إليه، فلا أقبل أن أكون مجرد أحد ذيول السردار لا عمل لي ولا فائدة مني، وأرجو ألا تزعل إن تسرحت بعد حين من هذا المنصب المشرف. سأقبل بكل شيء حتى أضمن وصول زوجتي إلى مكان آمن، ومتى ضمنت ذلك سأترك الخدمة؛ فأشرف لي أن أرعى الخنازير في جبال جورجيا عارياً متشرداً وأكسب قوت يومي بجهدي الشريف من حياة متطفل يلبس المخمل والحرير، ولو كان ذلك في أفخم قصور فارس.»
ومع أنني استحسنت مشاعره، كنت أفضّل ألا يفصح لي عنها، لأنه لو فرّ من الخدمة سأكون بشكل أو بآخر مسؤولاً عن ذلك.
وفي هذه الأثناء مضى الجيش في طريقه. وعند مرورنا بأشتاراك حصل يوسف على إذن باصطحاب زوجته، وحظيت بكل الاعتبار والاحترام بصفتها زوجة أحد الخدم المفضلين للسردار، وتابعت طريقها ممتطية حصاناً وسط قافلة الخدم التي ترافق أي جيش فارسي.
عسكر الجيش بين غومشلو وأبيران وتقرر أن يمكث فيه جميع من لا يشاركون في المعارك، وتقرر أن تتشكل القوة المهاجمة من السردار ونسقجي باشي، كل على رأس رجاله، على أن ينطلقوا في المساء.
ومع اقترابنا من مواقع الجيش الروسي بدت على السردار علامات الضيق من التأخر، إذ كان يحتقر سلاح المشاة ورغب بمهاجمة العدو بقوات الفرسان وحدها. ولم أشهد مثل هذا الاندفاع عند رئيسي. صحيح أنه بقي يتباهى طوال الوقت ليقنع الكل بأن العدو، متى رآه، سيصاب بالذعر من منظره وحده، ولكنه وافق في النهاية على طلب السردار بأن يبقى في المؤخرة، بينما يغير السردار على حماملو على رأس القوة الأساسية من الفرسان. وطبعاً، بقيت في المؤخرة تحت تصرف رئيسي.
كان السردار ينوي بلوغ حماملو قبل الفجر ليباغت حرس أبوابها، فانحرف عن الطريق ليعبر نهر بمباكي، وتابعنا طريقنا لكي ندعم السردار في حال صد الروس هجومه.
وصلنا إلى ضفة النهر عند الفجر، وكان مع نسقجي باشي نحو خمس مئة فارس، وكان من المفترض أن يلحق المشاة بنا متى تيسر لهم ذلك. أوشكنا أن نشرع بعبور النهر حين سمعنا صوتاً من الضفة الأخرى صاح بضع كلمات غريبة بلغة لا نعرفها ثم شرح لنا معناها بطلقة من البندقية، ما أوقف تقدمنا واسترعى انتباه رئيسنا وقد اصفرّ وجهه وشحب. فهتف: «ما هذا؟ ماذا نفعل؟ أين نذهب؟ من أطلق النار؟ هل أطلقت النار يا حاجي بابا؟»
فقلت وأنا أشعر بالخوف مثله: «لا، لم أطلق النار. ربما يوجد هنا غيلان بين الموسكوفيين مثل غيلان أشتاريك بين الأرمن.»
وبعد دقيقة سمعنا صيحات أخرى وانطلقت طلقة ثانية. وقد بزغ الفجر فرأينا رجلين على الضفة المقابلة في بزة الجنود الروس. وعندما رأى رئيسنا حجم الخطر وعدد قوات العدو التي تواجهنا راقت تعابير وجهه ثم بدا عليه أقصى درجات التصميم والشدة، فصاح لمن يحيطون به: «هيا، انطلقوا واطعنوا واقتلوا! أحضروا لي رأسيهما على الفور!»
انطلق عدد من الرجال في الحال لعبور النهر وسيوفهم فوق رؤوسهم، بينما تراجع الجنديان إلى تلة صغيرة تشرف على المعبر وبدآ بالرمي بالتناوب من بنادقهم على المهاجمين بثبات فاجأنا وأذهلنا. فقتلا اثنين من رجالنا فتقهقر الآخرون إلى ضفتنا، ولم يظهر عند أحدٍ منّا رغبة في تكرار الهجوم، ولم تنفع شتائم رئيسنا ولا توسلاته ولا عرضه مكافأة مالية مقابل رؤوس الأعداء، إذ لم يقبل أحد من رجاله أن يتقدم. وأخيراً صاح بصوت عال: «إذن، سأذهب أنا! ألا يتبعني أحد؟» ثم توقف وخاطبني قائلاً: «يا حاجي، يا روحي، ألن تذهب لتقطع رأسيهما؟ وسأعطيك كل ما تطلبه لو فعلت!» ثم لف يده حول عنقي وقال: «هيا، اذهب، فأنا واثق أنك ستعود برأسيهما.»
وبينما نحن نتفاوض بهذا الشكل ضربت رصاصة من بندقية أحد الجنديين الروسيين ركاب نسقجي باشي فدفعه رعبه إلى التفوه بأبذأ الشتائم الرذيلة وهو ينادي رجاله ويأمرهم بالتراجع ويسبقهم في هذا، إذ صاح: «اللعنة على لحاهم! اللعنة على آبائهم وعلى أمهاتهم وعلى أسلافهم وعلى أخلافهم! أهكذا يحارب الناس؟ القتل، القتل، وكأننا خنازير. انظروا إلى هؤلاء الوحوش! لا يهربون مهما فعلت. بل هم أسوأ من البهائم، فالبهائم عندها شعور، وهؤلاء لا شعور عندهم. يا الله، يا الله، لو لم يكن في الأمر موت لأريتهم كيف يحارب الفرس!»
قطعنا خلال هذا الوقت مسافة ثم توقفنا. كان رئيسنا يتوقع أن يجد الروس وراء كل شجرة، فاحتار في ما عليه أن يفعل الآن، حين جاء القرار من تلقاء نفسه عندما رأينا السردار على رأس فرسانه يتقهقر بكل عجلة من العدو. اتضح أن الحملة أخفقت بالكامل ولم يبق للجيش إلا أن يعود من حيث أتى.
لن أحاول أن أصف الصورة البائسة لقوات السردار، فقد بدا رجاله مرهقين ومنهكين بالتعب فيتحركون جميعهم ببطء نحو المعسكر دون أن يلتفت أحدهم وراءه، وكأنهم اتفقوا على ذلك. وبقدر ما كانت معنوياتهم محطمة ارتفعت معنويات رئيسي وقد رأى أنه ليس المهزوم الوحيد. بقي يتحدث عن بسالته والجرح الذي أصيب به والبطولات التي ينوي القيام بها، فتحمس لدرجة أنه رفع رمحه ونخس حصانه وطعن به طباخه الذي كان يعتني بأقداره فثقب الشال الذي كان يتمنطق به.
هكذا انتهت الحملة التي توقع السردار منها أن يحصد المجد ورؤوس الموسكوفيين والتي أعطت لرئيسي سبباً يتباهى به حتى نهاية عمره. فرغم الفشل الذريع وجد نسقجي باشا ما يتفاخر به.
وكان يسرد بطولاته العظيمة في وسط حلقة من مرؤوسيه، وأنا بينهم، حين جاءني أمر من السردار يطلب حاجي بابا إلى حضرته. عدت مع الرسول، وأول ما سألني السردار حالما رآني كان: «أين يوسف؟ وأين زوجته؟»
أدركت في الحال أنهما هربا، فنظرت إليه نظرة كلها براءة ونفيت أية معرفة بهما.
بدأت عينا السردار تشتعلان غضباً وفمه ينقلب ويفتل، ثم انفجر غيظه بأفظع التعابير، وأقسم بالانتقام منه وقريته وقومه وكل من له أدنى علاقة به، وقال أنه لا يصدقني، وإن تبين له أني تواطأت مع الأرمني فسوف يمحو شخصي الحقير عن وجه الأرض.
عرفت لاحقاً أن السردار أرسل جماعة من الرجال إلى غومشلو وأمرهم بالقبض على يوسف وجميع أقاربه وكل ما يملكون وأن يحرقوا كل ما لا يستطيعون أن يحملوه معهم. إلا أن الشاب الفطن قد توقع هذا واتخذ تدابيره بسرعة وحكمة بالغتين أذهلتا السردار، حيث نفذ مع زوجته وأهلها وأهله هو خطة الهجرة إلى الأراضي الروسية مع كل ما يملكون ولم يتركوا إلا حقولهم المحروثة. وسمعت بعد حين أن خطته نجحت، ولقوا في روسيا استقبالاً طيباً من الحكومة ومن الأرمن هناك، وخصصوا لهم أرضاً يفلحونها وقدموا لهم كل ما يحتاجونه ليستقرّوا في وطنهم الجديد.