الفصل الخامس عشر | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل السادس عشر. حاجي بابا يخطط للمستقبل ويتورط في خصام المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل السابع عشر |
الفصل السادس عشر. حاجي بابا يخطط للمستقبل ويتورط في خصام
قررت انتظار عودة الشاعر لأحاول بوساطته الحصول على عمل أرتزق منه رزقاً شريفاً ثم أرتقي في حياتي دون اللجوء إلى النصب والاحتيال اللذين مارستهما حتى الآن، إذ سئمت العيش مع سوقة الناس، ورأيت أمام عيني أعداداً من الرجال تبؤوا أرقى المراتب في الدنيا وكسبوا ثروةً وحظوةً، وأصلهم ليس أرقى من أصلي، فبدأت أفكر في الرقاء والرخاء حتى انغمست في تصور نفسي وقد صرت وزيراً، وكيف سأعيش وأتصرف وأنا في منصبه.
قلت لنفسي: «من هو أقرب المقربين إلى الشاه، اسماعيل بيك الملقب بالذهبي؟ ليس أكثر من فرّاش؛ وهو ليس أكثر أناقةً ولا ذكاءً ولا فصاحة مني، وأظن لو أننا تبارينا في الفروسية، فرغم سمعته أستطيع أن أعلمه ركوب الخيل بعد أن عشت بين التركمان. والخزندار الشهير الذي يملأ صناديق الشاه بالذهب ولا ينسى صناديقه هو أيضاً، من هو؟ إن ابن حلاق ليس أقل شأناً من ابن بقال، وفي حالنا ابن الحلاق أفضل منه بمراحل، إذ أنني أقرأ وأكتب، أما سعادته، كما يشاع عنه، لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأكل ما طاب له ويلبس رداءً جديداً كل يوم ويختار – بعد الشاه – أجمل جواري بلاد فارس، وكل هذا دون أن يحظى حتى بنصف ما عندي من عقل وذكاء ومهارة: فمما تسمعه من كلام الناس تقتنع بأنه ليس أفضل من «كرّ بتشديد»، حمار ابن حمار.
بقيت مستغرقاً في هذه الأفكار وأنا جالس أسند الجدار بظهري في إحدى الجادات المكتظة المؤدية إلى قصر الشاه، فتمالكتني صور عظمتي لدرجة أنني حين نهضت لأمشي شرعت أدفع من صدف أن وقع في طريقي وكأن عليهم أن يفسحوا لي السبيل بحكم مقامي الرفيع. بعضهم حملق بي وبعضهم الآخر شتمني وآخرون ظنوا أنني مجنون. وبالفعل، عندما عدت إلى رشدي ونظرت إلى ملابسي البالية ومظهري الفقير ما استطعت إلا أن أبتسم لحماقتي ولذهولهم، فتوجهت مباشرةً إلى سوق الأقمشة والملابس وقد صممت أن أضمن لنفسي كساءً أنيقاً ليكون خطوتي الأولى في تغيير حياتي.
وعندما كنت أشق طريقي عبر الحشود توقفت بسبب خصام شديد بين ثلاثة رجال يشتمون بعضهم بعضاً بفظاظة غير معهودة. دفعني فضولي إلى الاقتراب أكثر فرأيت في وسط حلقة الناس الرسول الذي احتلتُ عليه ومعه فلاح يهاجمان تاجر الخيل بعد أن سحباه عن الحصان الذي بعته إليه؛ والفلاح يصيح:
«هذا حصاني!»
والرسول يصيح:
«هذا السرج لي!»
والتاجر يصيح:
«بل كلاهما ملكي!»
أدركت حالاً الخطر الذي وقعت فيه وهممتُ بالانسلال إلى الوراء، وفي هذه اللحظة رآني تاجر الخيل فأمسكني من نطاقي وقال: «هذا هو الرجل الذي باعني حصانه!» وحالما تعرف الرسول على وجهي تحولت وطأة الخصام إلى رأسي مثل غيمة عاصفة وكادت تغمرني وتسحقني، وانهالت الأوصاف من قبيل حرامي وحقير ومحتال على أذنيّ بلا رحمة، فصاح أولهم: «أين حصاني؟» وصرخ ثانيهم: «أعطني سرجي!» وزمجر الثالث: «أعِدْ نقودي!»، وهتف الحشد: «خذوه إلى القاضي!».
عبثاً كنت أزعق وأشتم وأجادل وأتحدى؛ وسدىً ذهبت محاولتي أن أتكلم برفق وأصالح: ففي الدقائق العشرة الأولى كان مستحيلاً أن يسمعني أحد، فكل واحد يصرخ ويصدح ويردد شكواه. كان الرسول يستشيط غضباً، والفلاح يشكو من الظلم الذي لحق به، وتاجر الخيل يشتمني بكل ما يخطر على باله من ألفاظ لأنني سرقت ماله. فحاولت إقناع أولهم وملاطفة الثاني وإخافة الثالث. فسألت الرسول: «لم تغضب؟ ها هو سرجك كما كان، ماذا تريد أكثر؟» وقلت للفلاح: «تصيح وكأن دابتك نفقت. خذها وامض بها إلى بيتك واحمد ربك على السلامة.» أما تاجر الخيل فهاجمته بمرارة من سُلِب منه حلاله بالنصب والاحتيال قائلاً: «أيحق لك أن تشكو من الغش وأنت لم تدفع لي سوى نصف ثمن الحصان وحاولت أن تغشني بحمار هزيل؟»
عرضت عليه أن أعيد له نقوده، ولكنه رفض وطالب أن أدفع له فوق ذلك تكاليف إطعام الحصان، ما أثار جدالاً جديداً بألوان من الحجج التي لم يقتنع بها أي طرف من الأطراف، ومن ثم توجهنا إلى «الداروغا»، أي مفتش الشرطة، وقد اتفقنا أن نلجأ إلى حكمه في قضيتنا.
وجدنا المفتش في مقره عند تقاطع شارعين من شوارع السوق محاطاً بعناصره يحملون عصىً طويلة وهم بكامل الاستعداد ليذيقوا أي مُخالفٍ طعم الفلقة. بدأتُ برواية القضية فوصفت كل ملابساتها، ولا سيما النية الواضحة لتاجر الخيل بالاحتيال علي. وأجاب تاجر الخيل بأن الحصان لم يكن ملكاً له بل كان مسروقاً، ولذا لا يجب عليه أن يتكلف بنفقات إطعامه.
تركت هذه القضية المعقدة المفتش حائراً في أمره حتى أنه تحفظ في الحكم وهمّ بإحالتنا إلى القاضي، حين قال له رجل عجوز كان واقفاً بين المارة: «وما الداعي إلى تعقيد مسألة واضحة؟ متى يدفع تاجر الخيل باقي الثمن إلى حاجي، يسدد الحاجي له نفقة إطعام الدابة طوال الوقت الذي كانت خلاله في عهدة التاجر.»
فصاح الجميع: «بارك الله! بارك الله!»، وبدا أن الحشد صعقتهم العدالة الظاهرة لهذا الحكم. فصرفنا المفتش وأمرنا أن نغرب عن وجهه بسلام.
وفي نفس اللحظة دفعت إلى تاجر الخيل ما قبضته منه وأخذت من يده إشعاراً بذلك. وبعد أن فرغ مني بدأ يفكر لماذا لا يحق له تعويض إطعام الدابة إلا بعد أن يدفع كامل ثمنها، وبدأ يدرك الخدعة التي وقع ضحيتها؛ ولحسن حظي، تحول استياؤه عني إلى المفتش فنعته بأنه أكثر حماقة من الحمار وأنه أقل جدارةً بأن يسمى رجل قانون من أن يسمى هو، أي تاجر الخيل، رجل صدق وأمانة.