الفصل الثالث عشر | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الرابع عشر. عن الرجل الذي صادفه وعواقب ذاك اللقاء المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل الخامس عشر |
الفصل الرابع عشر. عن الرجل الذي صادفه وعواقب ذاك اللقاء
تركت سمنان مرتاحاً، فقد ذهب عني ألم ظهري، وكنت في ريعان شبابي وكامل صحتي، ومعي عشرون توماناً وفّرتها في مشهد، وصار لدي تجربة مع العالم والناس؛ فقررت، حالما أصل إلى طهران، أن أترك حياة الدراويش وأشتري ثياباً جيدة وأجرب حظي في مهنة أفضل وأكرم.
عندما كنت أمشي في الطريق على مبعدة يوم مسير من طهران، وأنا أغني بكل صوتي قصة الحب بين ليلى ومجنون لحق بي مراسل يركب حصاناً، فسلم علي وبدأ حديثاً معي ثم دعاني لمشاركة طعامه. كان النهار حاراً، فقبلت دعوته بامتنان. جلسنا على ضفة ساقية تجري في حقل قمح، فنزع المراسل اللجام عن حصانه وأطلقه يرعى في القمح، ثم أخرج من أعماق جيب سرواله منديلاً كان فيه بضعة كتل من الرز المطبوخ وثلاثة أو أربعة أرغفة خبز فمدّه أمامنا، ثم أضاف من كيس معلق على السرج شيئاً من اللبن الخاثر. ثم أخرج من جيب آخر في سرواله، الذي كان يحوي بين ما يحوي نعليه وزاداً من التبغ وكأساً للشرب وفرشاة وأغراضاً أخرى كثيرة، بضعة بصلات أضافها إلى الوليمة، فأكلنا بنهم وفرغنا من الوجبة في لحظات ولعقنا أصابعنا ثم غسلناها في الساقية. لم يسمح لنا الجوع قبل ذلك بالتحدث، أما الآن فقد أشعل كلٌّ منّا غليونه وبدأنا نتبادل الحديث عن السفر. رأى صاحبي من الزي الذي أرتديه أنني درويش واكتفى بهذا، من حسن حظي، لأنني كنت أكره أن أتحدث عن نفسي؛ أما هو فأخبرني أنه مراسل عند حاكم أسترآباد، وكان يحمل خبراً مبشراً عن إطلاق سراح صاحبي القديم عسكر خان شاعر الشاه من الأسر عند التركمان. فاجأني الخبر وأفرحني كثيراً، إلا أنني كتمت مشاعري كيلا يعرف المراسل مدى اهتمامي بمهمته لأن تجربتي في الحياة علمتني أن أكتم أسراري، لذا تظاهرت بأنني لم أسمع هذا الاسم من قبل.
أخبرني صاحبي أن الشاعر استطاع أن يصل إلى أسترآباد بسلامة لكنه كان معدوماً تماماً فأرسل يخبر عائلته بحاله. أراني المراسل رسالتين أخرجهما من جيب صدره، ملفوفتين في منديل، وبما أنه كان فضولياً، ولا يعرف القراءة، وضع أمله بي لأخبره بمحتواهما. كانت أولى الرسالتين موجهة إلى ملك الملوك وصف فيها ببلاغة راقية كل المصائب والآلام التي عاناها منذ وقع في يد التركمان، وأن الجوع والعطش والمعاملة الهمجية كانت كلها لا شيء أمام الحرمان من شرف المثول بين يدي درّة الملوك وياقوتة الجلالة وجوهر الكمال في الدنيا ملك الملوك العظيم! وكما تنعم أدنى المخلوقات الزاحفة بدفء الشمس ونورها، يأمل أدنى رعايا الملك العظيم أن ينعم بنور وجهه الجليل، ويدعو ألا يحرمه طول غيابه من ظل عرش الشاه العظيم، فيعود إلى منصبه الصغير قرب حضرة صاحب الجلالة ليتغنى مع البلابل بجمال الورود وكمالها.
وكانت الرسالة الثانية إلى الوزير يصف الشاعر فيها هذا الشخص سيء السمعة هزيل البدن شنيع المسلك بأنه الكوكب بين النجوم وعماد الدولة وملاذ المستضعفين ويتوسل رضاه، وكان هناك رسالة مشابهة إلى عدوه السابق الخزندار. ثم قرأت الرسائل إلى أسرته، واحدة منها إلى زوجته والأخرى إلى مدرِّس ابنه والثالثة إلى وكيله. في الرسالة إلى زوجته تحدث عن ترتيب بيت الحريم، ثم عبّر عن أمله بأنها لم تسرف في ملبسها وحافظت على الجواري، وطلب منها أن تجهز نفسها والجواري لخياطة ألبسة له إذ لم يبق لديه ولا لباس لائق.
وفي رسالته إلى المعلم أمره بالسهر على أخلاق ابنه، أملاً بأنه قد تعلم كل أشكال الإطراء والمديح، وأنه لا يترك صلواته وقد أجاد ركوب الخيل وتمارين الرمح والرمي من البندقية من على ظهر الجواد وهو يعدو.
أما الرسالة إلى وكيله فكان يعطي فيها تعليمات عامة حول تدبير الأمور: أن عليه الاقتصاد والتوفير في كل شيء؛ وأن عليه أن يمثل يومياً أمام الوزير الأول ويقف أمامه ويمتدحه حتى السماء ويتغنى بملكاته العظيمة وشمائله السامية؛ وأن يراقب جيداً النساء والجواري؛ وأن لا تخرج زوجته إلى الحمامات كثيراً، وكلما خرجت هي أو الجواري فعليه بمرافقتهن. وأعرب عن أمله بأن لا يُسمح لأي نساء مشبوهات، لا سيما اليهوديات، بالدخول إلى بيت حريمه؛ وبأنه يجب صيانة الجدران المحيطة ببيت الحريم كما ينبغي لتستره عن أنظار الجيران وتمنع الثرثرة بين النساء من على السقف. كما أمر بأن يُمنع عبده جوهر من الدخول إلى الأندرون، ولو شوهد مع أية جارية فليجلد كلاهما. وأخيراً طلب من الوكيل أن يكافئ الرسول مكافأة يستحقها على حمله مثل هذه الأخبار الطيبة إلى أسرته.
طويت الرسائل مرة أخرى وختمت تلك التي كانت مختومة وأعدتها إلى المراسل، ورأيته يتفكر في المكافأة التي سيحصل عليها على إيصال أول خبر عن سلامة الشاعر وقال لي أنه لم يتوقف لا في الليل ولا في النهار خوفاً من أن يسبقه أحد بالخبر، وأن الحصان الذي يركبه كان لفلاح، وقد أخذه منه عنوة في الطريق وترك له حصانه المنهك ليحضره وراءه إلى طهران ليعيد له حصانه.
وبعد أن تحادثنا قليلاً، بدا عليه الإرهاق فوقع في نوم عميق. نظرت إليه وقد تمدد على العشب ففكرت بأنني أستطيع أن أسبقه بسهولة، إذ كنت أعرف سيرة الشاعر كاملة، بل أنني شاركته بعض المصاعب التي وقع فيها. وفكرت بأنني أحقّ بأن أروي القصة من أي شخص آخر. وبما يخص الحصان، فلم يكن حق المراسل به أكثر من حقي، حيث أنه قد استولى عليه، وسيلحق الفلاح به قريباً بحصانه. ولذا لم أتردد أكثر، ففتحت المنديل الذي كان في حضن المراسل وأخذت منه الرسالة إلى الوكيل ثم امتطيت الحصان وغرزت الركابى في جنبه وانطلقت أعدو. وفي وقت قصير كنت قد ابتعدت عن النائم وتقدمت في طريقي نحو العاصمة.
وخلال مسيري بقيت أفكر عن أفضل سبيل للتصرف، وكيف يجب أن أقدم نفسي إلى أسرة الشاعر لتكون قصتي معقولة ومتسقة لأضمن لنفسي المكافأة المخصصة لرسول الخير. وكان تخميني أنني سبقته بيوم واحد على الأقل؛ فعندما يستيقظ سيضطر على الأغلب إلى المشي على قدميه مسافة ما قبل أن يحصل على حصان جديد، إلا إذا لحقه حصانه مع الفلاح، وهذا مستبعد. وإذا كان يمشي على قدميه فلا يحتمل أن يصدق أحد قصته، ولن يستطيع أن يستعير دابةً ليركبها. ولهذا قررت أن علي، فور وصولي إلى طهران، أن أبيع الحصان وطقمه مقابل أي ثمن يُعرض علي، ثم أتخلى عن ثوبي ثوب درويش وأرتدي ثياباً عادية، ثم آتي إلى باب بيت الشاعر وأقدم نفسي بأنني جئت تواً من السفر وأحكي خير قصة أبتدعها، ولن يكون هذا صعباً نظراً لمعرفتي الجيدة لأحداث حياته.