الفصل الثاني | مغامرات حاجي بابا الإصفهاني الفصل الثالث. آسر حاجي بابا وقيمة الموسين المؤلف: جيمس موريير المترجم: ( • م) |
الفصل الرابع |
الفصل الثالث. آسر حاجي بابا وقيمة الموسين
كان تقسيم الأسرى بين التركمان من حسن حظنا، إذ وقعت أنا وعثمان آغا في يد سيد واحد، وهو قاطع الطريق الرهيب الذي ذكرته آنفاً. كان اسمه أصلان سلطان، وكان زعيم قبيلة كبيرة وصلنا إلى مضاربها فور نزولنا من الجبال. كانت خيامه تتوضع على جانبي وادٍ عميق تجري في قعره ساقية تنبع من سلسلة التلال القريبة. وكانت المراعي الخضراء المليئة بالقطعان تمتد مد البصر. رفاقنا الآخرون أخذوهم إلى مناطق أبعد ووزعوهم بين قبائل التركمان الأخرى التي تقطن في هذه البلاد.
حالما وصلنا خرج سكان المخيم جميعهم ليتفرجوا علينا، وبينما كان سيدنا يتلقى التحيات، هجمت علينا مجموعة كلاب الرعي الضخمة التي اكتشفت فوراً أننا غرباء فنبحت علينا وكادت تمزقنا. كان شال عثمان آغا الأخضر يقدم له شيئاً من الحماية، ولكن كبرى زوجات الزعيم، بانو، أي السيدة، أعجبت به وأرادت الحصول عليه، فبقي عثمان آغا في عمامته المبطنة التي أخبأ ماله فيها. هذه أعجبت زوجة أخرى من زوجات أصلان سلطان التي أرادت أن تبطن بها سرج جملها الذي قرّح ظهره، فنزعوه عن رأسه ورموه مع الأمتعة الأخرى في زاوية الخيمة. حاول عثمان آغا جاهداً أن يدافع عن عمامته، لكن بلا جدوى، إذ أعطوه بدلاً عنها قبعة قديمة من جلد خروف كانت ملكاً لأسير مشؤوم مثلنا مات في الأسر من الغم والحزن والحنين.
بما أن عثمان آغا كان سميناً وبطيء الحركة فقد كلفوه برعي الإبل في الجبال لأنهم لم يكونوا يخشون فراره. أما أنا فمنعوني من مغادرة المخيم وشغلوني في خض أكياس جلدية فيها خاثر لصناعة الزبدة.
بمناسبة الحملة الناجحة دعا أصلان سلطان عشيرته كلها إلى وليمة. حضّروا قاظاناً ضخما من الرز وشووا خروفين كاملين. اجتمع الرجال، وكانوا جميعهم من أقارب أصلان سلطان، والكثير منهم شارك في الحملة، في خيمة، والنساء في خيمة أخرى. قُدِّم الأكل للرجال أولاً، وبعد أن شبعوا نقلوه إلى خيمة النساء، وبعد أن فرغن منه أعطوا الفضلات إلى الرعاة الذين لم يتركوا منه إلا العظام التي كانوا يرمونها مع فضلات الصحون لنا تارة وللكلاب تارة أخرى. ولكن عندما كنت أنتظر لقمتي بفارغ الصبر لأنني لم أكد أذوق الطعام منذ بداية الأسر، نادتني إحدى النساء سراً من وراء الخيمة، وعندما وصلت إلى هناك وجدت على الأرض صحناً من الرز مع قطعة من اللية. قالت الامرأة أن الصحن أرسلته لي إحدى زوجات الزعيم التي أشفقت على حالي، ثم أسرعت ذاهبة دون أن تنتظر كلمات شكر مني.
قضى الرجال يومهم في التدخين والتحدث عن بطولاتهم، أما النساء ففي الغناء ودق الدف، بينما بقيت أنا وعثمان آغا نتأمل أحوالنا التعيسة. جعلني صحن الرز الذي أتاني أشعر أن وضعي ليس ميئوساً منه، وكنت أحاول أن أواسي صاحبي، لكنه بقي يبكي نصيبه النحس. قلت له أن على المسلم أن يسلم بقضاء الله وقدره، والله كريم. ولكن رده كان: «ما أسهل أن تقول الله كريم ولم يكن لديك شيء تخسره! أما أنا فمفلس، مفلس للأبد!» وشرع يحسب، حتى آخر درهم، ما خسره في رأس المال والأرباح التي كان يأمل الحصول عليها بعد شراء جلود الخراف في مشهد ثم بيعها في إسطنبول.
في اليوم التالي حان موعد فراقنا، إذ أُرسل صاحبي إلى الجبال مع خمسين جملاً، مرفقة بوعيد فظيع من أصلان سلطان بقطع أذني عثمان آغا وأنفه لو ضاع أحدها، ولو مات جمل يضاف ثمنه إلى الفدية التي طلبها مقابل الإفراج عنه. ورغبةً مني في التعبير عن امتناني له أقعدته على سرج جمل في وسط المخيم وحلقت رأسه مستخدماً الماء من ساقية قريبة وقطعة من الصابون والموس الذي نجحت في المحافظة عليه. وقريباً اكتشفت أن هذا الاستعراض لمهنتي ومهارتي فيها قد تكمن فيه فائدة جمة؛ إذ فجأة تذكر كل من لديه رأس أنه يريد أن يحلقه، فوصل الخبر إلى أصلان سلطان الذي استدعاني وأمرني فوراً بحلاقة رأسه الذي لم يكن فيه موضع إصبع إلا وفيه ندبة من جرح قديم، وكان شكله يمكن أن يمثل خريطة دقيقة للصحراء الجبلية التي قطعناها منذ أيام. هذا الرجل، الذي لم يعرف نعمة أكبر من أن يجزّ رأسه أحد الحلاقين المحليين بالسكين الذي يسلخون به الخراف، شعر تحت يدي وكأنه في الجنة، فمدحني مديحاً جماً وقال أنني لم أحلق جلده بل حلقت قلبه على عمق مسير يومين تحت الجلد، ثم حلف أنه لن يقبل أية فدية مقابل الإفراج عني وأمر أن أكون حلاقه الشخصي.
أترك للقارئ الكريم أن يخمّن ما كان يختلج في صدري عندما سمعت هذا الكلام. وبينما انحنيت لسيدي الجديد وقبلت ركبته بكل شكر واحترام، عزمت الاستفادة من حرية الحركة التي قد أحصل عليها نتيجة الثقة بي لأهرب في أول فرصة. قربي من الزعيم جعلني موضع ثقة، ورغم أنني بقيت تحت المراقبة، صار لدي الوقت للتفكير بخطط النجاة من هذه العبودية الكريهة.