الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الثامنة والثلاثون

كتاب القسامة

2154 - مسألة: وأما القسامة في العبد يوجد مقتولا فإن الناس اختلفوا في ذلك : فقال أبو حنيفة , ، ومحمد بن الحسن : القسامة في العبد يوجد قتيلا كما هي في الحر , وعليهم قيمته في ثلاث سنين , لا يبلغ بها دية حر

وروي عن أبي يوسف : لا قسامة فيه , ولا غرامة وهو هدر

وهو قول مالك , وأصحابه , وابن شبرمة. وقال الأوزاعي : لا قسامة فيه , ولكن يغرمون ثمنه. وقال : زفر , والشافعي : فيه القسامة والقيمة , إلا أن زفر قال : يقسمون ويغرمون قيمته

وقال الشافعي : يحلف العبد ويغرم القوم قيمته.

قال أبو محمد : وقولنا فيه إن القسامة فيه كالحر سواء سواء في كل حكم من أحكامه فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها. فوجدنا من قال : لا قسامة في العبد يقولون : إن رسول الله ﷺ إنما حكم بالقسامة في حر لا في عبد , فلا يجوز أن نحكم بها إلا حيث حكم بها رسول الله ﷺ .

وقال بعضهم : العبد مال كالبهيمة ، ولا قسامة في البهيمة , ولا في سائر الأموال وما نعلم لهم حجة غير هذا فلما نظرنا في ذلك وجدنا هاتين الحجتين لا متعلق لهم فيهما : أما قولهم : إن رسول الله ﷺ لم يحكم بالقسامة إلا في حر فقد

قلنا : في هذا ما كفى , ولم يقل عليه السلام إني إنما حكمت بهذا ; لأنه كان حرا فنقول عليه ما لم يقل , ونخبر عن مراده بما لم يخبر عليه السلام عن نفسه وهذا تكهن وتخرص بالباطل , وهذا لا يحل أصلا , والعبد قتيل ففيه القسامة كما حكم رسول الله ﷺ ولا مزيد.

وأما قول من قال : إن العبد مال فلا قسامة فيه كما لا قسامة في البهيمة فقول فاسد ; لأنه قياس , والقياس كله باطل , فالعبد وإن كان مالا فأرادوا أن يجعلوا له حكم الأموال والبهائم من أجل أنه مال , فإن الحر أيضا حيوان كما أن البهيمة حيوان , فينبغي أن نبطل القسامة في الحر قياسا على بطلانها في سائر الحيوان

وأيضا فلا خلاف في أن الإثم عند الله عز وجل في قتل العبد , كالإثم في قتل الحر ; لأنهما جميعا نفس محرمة , وداخلان تحت قوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} وليس كذلك قاتل البهيمة. فوجب على أصولهم أن نحكم للعبد إذا وجد مقتولا بمثل الحكم في الحر إذا وجد مقتولا , لا بمثل الحكم في البهيمة لا سيما في قول الحنفيين الموجبين للقود بين الحر والعبد في العمد فهذه تسوية بينهما صحيحة ,

وكذلك في قول المالكيين , والشافعيين : الموجبين للكفارة في قتل العبد خطأ , كما يوجبونها في قتل الحر خطأ بخلاف قتل البهيمة خطأ فبطل كل ما شغبوا به , وصح أن القسامة واجبة في العبد كما هي في الحر من طريق حكم رسول الله ﷺ لا طريق القياس.

وأما قول من ألزم قيمة العبد من وجد بين أظهرهم دون قسامة , فقول لا يؤيده قرآن ، ولا سنة , ولا إجماع ، ولا قياس , ولا نظر وهو أكل مال بالباطل وإغرام قوم لم يثبت قبلهم حق قال الله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، ولا قسامة في بهيمة وجدت مقتولة , ولا في شيء وجد من الأموال مفسودا ; لأن البهيمة لا تسمى " قتيلا " في اللغة , ولا في الشريعة , وإنما حكم رسول الله ﷺ بالقسامة في القتيل , فلا يحل تعدي حكمه ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه , وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع فالواجب في البهيمة توجد مقتولة أو تتلف وفي الأموال كلها : ما أوجبه الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام إذ يقول بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك. فالواجب في ذلك إن ادعى صاحب البهيمة توجد مقتولة أو صاحب المال إتلاف ماله على أحد أن يكلفه البينة فإن أتى بها قضى له بها , وإن لم يأت بها حلف المدعى عليه ، ولا بد , ولا ضمان في ذلك إلا ببينة أو إقرار وهذا حكم كل دعوى في دم , أو مال , أو غير ذلك , حاشا القتيل يوجد , ففيه القسامة كما خص رسول الله ﷺ . واختلف الناس في الذمي يوجد قتيلا فقالت طائفة : لا قسامة فيه ورأى أبو حنيفة فيه القسامة.

قال أبو محمد رحمه الله : والقول فيه كما قلنا في العبد ; لأن رسول الله ﷺ وإن كان إنما حكم بالقسامة في مسلم ادعى على يهود خيبر فلم يقل عليه الصلاة والسلام : إنما حكمت بها , لأنه مسلم ادعى على يهودي فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقله , لكنه عليه السلام حكم بها في قتيل وجد , ولم يخص عليه السلام حالا من حال , والذمي قتيل , فالقسامة فيه واجبة إذا ادعاها أولياؤه على ذمي أو ذميين ; لأنه إن ادعوها على مسلم فحتى لو صح ما ادعوه بالبينة فلا قود فيه ، ولا دية , ولكن إن أرادوا أن يقسموا ويوديه الإمام , فذلك لهم ; لما ذكرنا. وقد اتفق القائلون بالقسامة على أن رسول الله ﷺ وإن كان حكم بها في مسلم ادعى على يهود فإن الحكم بها واجب في مسلم ادعى على مسلمين , وهذه غير الحال التي حكم بها رسول الله ﷺ في مسلم ادعى بالقسامة على أصولهم , ولا فرق بين الحكم بها في مسلم على مسلمين , وبين الحكم بها في ذمي على ذميين أو على مسلمين ; لعموم حكمه عليه السلام وإنه لم يخص عليه السلام صفة من صفة وبالله تعالى التوفيق.


2155 - مسألة: فيمن يحلف بالقسامة

قال أبو محمد رحمه الله : اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له , واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه , منها : هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا وهل تحلف المرأة فيهم أم لا وهل يحلف المولى من فوق أم لا وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا وهل يحلف الحليف أم لا فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع , إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية ففعلنا فوجدنا رسول الله عليه السلام قال في حديث القسامة الذي لا يصح عنه غيره كما قد تقصيناه قبل تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم فخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بني حارثة عصبة المقتول. وبيقين يدري كل ذي معرفة : أن ورثة عبد الله بن سهل رضي الله عنه لم يكونوا خمسين , وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده , وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة , وحويصة , وهما غير وارثين له فصح أن العصبة يحلفون , وإن لم يكونوا وارثين. وصح أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه لأن رسول الله ﷺ خاطب ابني العم , كما خاطب الأخ خطابا مستويا , لم يقدم أحدا منهم.

وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالأنتساب إليه ; لأن رسول الله ﷺ لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم , ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار كبني عبد الأشهل وبني ظفر , وبني زعور , وهم إخوة بني حارثة فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله ﷺ .

قال أبو محمد رحمه الله : فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم , إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك , فإنه يحلف معهم إن شاء ; لأنه منهم , ولم يخص عليه السلام إذ قال : خمسون منكم حرا من عبد إذا كان منهم كما كان عمار بن ياسر رضي الله عنه من طينته : عنس , ولحقه الرق لبني مخزوم وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق ; لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا , ولحقه الرق من قبل أمه وبالله تعالى التوفيق.

وأما المرأة فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحلف امرأة في القسامة وهي طالبة فحلفت , وقضى لها بالدية على مولى لها. وقال المتأخرون : لا تحلف المرأة أصلا واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة , وهذا باطل مؤيد بباطل ; لأن النصرة واجبة على كل مسلم. ب

ما روينا من طريق البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما , قالوا : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال : تأخذ فوق يديه. وروينا من طريق مسلم ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، هو ابن معاوية ، حدثنا أشعث ، هو ابن أبي الشعثاء ني معاوية بن سويد بن مقرن قال : دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول أمرنا رسول الله ﷺ بسبع , ونهانا عن سبع أمرنا : بعيادة المريض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإفشاء السلام. فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا

قال الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة}. نعم , ونصر أهل الذمة فرض , قال الله تعالى {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}. فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت وقول رسول الله ﷺ : يحلف خمسون منكم وهذا لفظ يعم النساء والرجال. وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع.

فأما الصبيان والمجانين , فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين قال ﷺ : رفع القلم عن ثلاث. فذكر : الصبي والمجنون مع أنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه.

وأما المولى من فوق , والمولى من أسفل , والحليف , فإن قوما قالوا : قد صح أن رسول الله ﷺ قال : مولى القوم منهم ومولى القوم من أنفسهم. وأثبت الحلف في الجاهلية قالوا : ونحن نعلم يقينا أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل , وحلفاء , لا شك في ذلك , ولا مرية , فوجب أن يحلفوا معهم.

قال أبو محمد رحمه الله : أما قول رسول الله ﷺ : مولى القوم منهم ومن أنفسهم فصحيح

وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله ﷺ : تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم , أو مولى لهم ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم , أو حليف لهم , لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم , وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه , إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له.

فإن قيل : قد قال ﷺ : مولى القوم منهم يغني عن حضور الموالي هنالك , والحليف أيضا يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم أمن موالي يهود يريد من حلفائهم

قلنا وبالله تعالى التوفيق : قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم. وقال أيضا ابن أخت القوم منهم , وقد أوردناه قبل بإسناده في " كتاب العاقلة " ،

ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله فنحن نقول : إن ابن أخت القوم منهم : حق ; لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة , والحليف والمولى أيضا منهم ; لأنهما من جملتهم وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم. وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش , ولا حليفهم , ولا ابن أخت القوم , وإن كان منهم. والقسامة في العمد والخطأ سواء فيما ذكرنا فيمن يحلف فيها , ولا فرق.