→ كتاب القسامة (مسألة 2154 - 2155) | ابن حزم - المحلى كتاب القسامة (مسألة 2156 - 2157) ابن حزم |
كتاب قتل أهل البغي ← |
كتاب القسامة
2156 - مسألة: كم يحلف في القسامة
اختلف الناس في هذا فقالت طائفة : لا يحلف إلا خمسون , فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر : بطل حكم القسامة , وعاد الأمر إلى التداعي. وقال آخرون : إن نقص واحد فصاعدا : رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين , فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد
وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم. وقال آخرون : يحلف خمسون , فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا : ردت الأيمان عليهم , حتى يرجعوا إلى واحد , فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد : بطلت القسامة , وعاد الحكم إلى التداعي وهذا قول مالك. وقال آخرون : تردد الأيمان , وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده
وهو قول الشافعي. وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم : أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد ويجبر الكسر عليهم فلما اختلفوا وجب أن ننظر : فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز أن النبي ﷺ قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء , فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا.
ومن طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو ، عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب , قال : قضى رسول الله ﷺ بخمسين يمينا , ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه , ثم يقتل قاتله , أو تؤخذ ديته , ويحلف عليه أولياؤه من كانوا قليلا أو كثيرا فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف فإن نكلوا كلهم : حلف المدعى عليهم خمسين يمينا : ما قتلناه , ثم بطل دمه وإن نكلوا كلهم : عقله المدعى عليهم ، ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا.
قال أبو محمد رحمه الله : هذا لا شيء ; لأنهما مرسلان , والمرسل لا تقوم به حجة : أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه : أن يحلف الأولياء , وهذا لا يقول به الحنفيون ; فإن تعلق به المالكيون , والشافعيون. قيل للمالكيين : هو أيضا حجة عليكم ; لأنه ليس فيه : أن لا يحلف إلا اثنان.
وأيضا فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب , وهو مخالف لقول جميعهم ; لأن فيه : إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ، ولا يقول به مالكي , ولا شافعي , وفيه القود بالقسامة ، ولا يقول به حنفي , ولا شافعي , وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين كما يقول مالك.
قال أبو محمد رحمه الله : وأيضا فإن القائلين بترديد الأيمان في القسامة قد اختلفوا في الترديد , فروينا عن عمر : أنه ردد الأيمان عليهما الأول فالأول معناه : كأنهم كانوا أربعين فحلفوا أربعين يمينا , فبقيت عشرة أيمان , فحلف العشرة الذين حلفوا أولا فقط ,
وروي غير ذلك وأنها تردد على الاثنين فالاثنين :
كما روينا من طريق ابن وهب قال : قال ابن سمعان : سمعت من أدركت من علمائنا يقولون في القسامة تكون في الخطأ على الوارث , فإن لم يكن للمقتول خطأ إلا وارث واحد حلف خمسين يمينا مرددة ثم يدفع إليه الدية : فإن كانوا ابنين أو أخوين , ليس له وارث غيرهما فطاع أحدهما بالقسامة وأبى الآخر , فعلى الذي طاع بالقسامة خمسة وعشرون مرددة عليه ثم يدفع إليه نصف الدية وليس للآخر شيء : فإن كان الورثة ثلاثة رهط كانت القسامة عليهم أثلاثا , فإن لم تنفق الأيمان عليهم جعل الفضل على الاثنين فالاثنين ، وأن القسامة على الورثة بقدر الميراث ,
وقد ذكرنا بالإسناد المتصل عن سعيد بن المسيب , والزهري : أن ترديد الأيمان في القسامة لا يجوز , وأنه أمر حدث لم يكن قبل , وأن أول من ردد الأيمان معاوية في القسامة , وقد جاء في هذا خبر مرسل لو وجدوا مثله لطاروا به. فصح أن لا قسامة إلا بخمسين يحلفون : أن فلانا قتل صاحبنا عمدا أو خطأ كيفما علموا من ذلك , فإن نقص منهم واحد فصاعدا بطلت القسامة وعاد الأمر إلى حكم التداعي , ويحلفون في مجلس الحاكم وهم قعود حيث كانت وجوههم : بالله تعالى فقط , لا يكلفون زيادة على اسم الله تعالى لقول النبي عليه السلام من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ، ولا فرق بين زيادة " الذي لا إله إلا هو " وزيادة " الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " وكل هذا حكم لم يأت به عن الله تعالى نص , ولا عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا أوجبه قياس , ولا نظر.
وكذلك لا يكلفون الوقوف عند اليمين , ولا صرف وجوههم إلى القبلة , ولا ينزعوا أرديتهم أو طيالستهم وكل هذه أحكام لم يأت بها نص قرآن , ولا سنة لا صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا إجماع , ولا قياس , ولا نظر.
فإن قالوا : هو تهييب ليرتدع الكاذب قيل لهم : وهو تشهير وإن أردتم التهييب فأصعدوه المنار , أو ارفعوه على المنار , أو شدوا وسطه بحبل وجردوه في سراويل وكل هذا لا معنى له , ولا معنى لان يحلف في الجامع إلا إن كان مجلس الحاكم فيه , أو لم يكن فيه على المحلف كلفة حركة ; لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ، ولا رسوله ﷺ ولا أحد من الصحابة , بل إنما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب , ومعاوية أن عمر جلب المدعى عليهم في القسامة من اليمن إلى مكة ومن الكوفة إلى مكة ليحلفوا فيها. وعن معاوية ثابت : أنه حملهم من المدينة إلى مكة للتحليف في الحطيم أو بين الركن والمقام , والمالكيون , والحنفيون , والشافعيون مخالفون لهما رضي الله عنهما في ذلك , وهم الآن يحتجون علينا بهما في الترديد الذي قد خالفوهما أيضا فيه نفسه وبالله تعالى التوفيق. ونجمع هاهنا حكم القسامة إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق. إذا وجد قتيل في دار قوم , أو في صحراء , أو في مسجد , أو في سوق , أو في داره. أو حيث وجد , فادعى أولياؤه على واحد , أو على جماعة من أهل تلك الدار , أو من غيرهم , وأمكن أن يكون ما قالوه وادعوه حقا , ولم يتيقن كذبهم في ذلك فإنه يحلفون خمسين بالغا , عاقلا , من رجل أو امرأة من عصبة المقتول , لا نبالي ورثة أو غير ورثة بالله تعالى أن فلانا قتله , أو أن فلانا وفلانا وفلانا اشتركوا في قتله ". ثم لهم القود , أو الدية , أو المفاداة , فإن أبوا أن يحلفوا , وقالوا : لا ندري من قتله بعينه : حلف من أهل تلك المحلة خمسون كذلك , أو من أهل تلك القبيلة , يقول كل حالف منهم " بالله ما قتلت " ، ولا يكلف أكثر ويبرءون فإن نكلوا أجبروا كلهم على اليمين أحبوا أم كرهوا حتى يحلف خمسون منهم كما
قلنا. ولا يجوز أن يكلفوا أن يقولوا " ، ولا علمنا قاتلا " ; لأن علم المرء بمن قتل فلانا إنما هي شهادة , فإن أداها أدى ما عليه. فإن قبل : قبل , فذلك , وإن لم يقبل فلا حرج عليه. ولا يجوز أن يحلف أحد شهادة عنده ليؤديها بلا خلاف. فإن نقص عصبة المقتول واحد فأكثر من خمسين , أو وجد القتيل وفيه حياة , أو لم يرد الخمسون أن يحلفوا ، ولا رضوا بأيمان المدعى عليهم , فقد بطلت القسامة.
فأما في نقصان العدد عن خمسين , وفي وجود القتيل حيا , فليس في هذا إلا حكم الدعوى , ويحلف المدعى عليه واحدا كان أو أكثر يمينا واحدة فقط , فإن نكل , أو نكلوا : أجبروا على الأيمان أحبوا أم كرهوا. وهكذا إن نقص عدد أهل المحلة المدعى عليهم فلا قسامة أصلا ,
وكذلك إن لم يحقق أولياء المقتول دعواهم وعصبته , فإن الحكم في ذلك واحد , وهو أن لا بد أن يودى المقتول حرا كان أو عبدا من بيت مال المسلمين , أو من سهم الغارمين من الصدقات كما أمر الله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله}. وكما قال النبي عليه السلام من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقاد أو أن يعقل. وليس القتل الواقع بين الناس إلا خطأ أو عمدا فقط , وفي كليهما الدية بحكم الله تعالى , وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام.
وأيضا فإن الخطأ يكون على عاقلة قاتل الخطأ من الغارمين , وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارما من الغارمين , فحظهم في سهم الغارمين واجب , أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين فهذا حكم كل مقتول بلا شك , حتى يثبت أنه قتل , لا عمدا ، ولا خطأ , لكن بفعل بهيمة , أو من له حكم البهيمة من المجانين , أو الصبيان , أو أنه قتل نفسه عمدا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله : وبقي في القسامة خبر نورده إن شاء الله تعالى لئلا يغتر به مغتر بجهل ضعفه , أو بظن ظان أنه أغفل ولم يذكر , فيكون نقصا من حكم السنة في القسامة. وهو كما ناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب قال : سمعت ابن سمعان يقول : أخبرني ابن شهاب عن عبد الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي ، أنه قال : بعث رسول الله ﷺ سرية فلقوا المشركين بإضم أو قريبا منه فهزم المشركون وغشي محلم بن جثامة الليثي عامر بن الأضبط الأشجعي , فلما لحقه , قال عامر : أشهد أن لا إله إلا الله , فلم ينته عنه لكلمته حتى قتله , فذكر لرسول الله ﷺ فأرسل إلى محلم فقال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فقال : يا رسول الله إن كان قالها فإنما تعوذ بها وهو كافر , فقال رسول الله ﷺ فهلا ثقبت عن قلبه يريد بذلك والله أعلم إنما يعرب اللسان عن القلب وأقبل عيينة بن بدر في قومه حمية وغضبا لقيس فقال : يا رسول الله قتل صاحبنا وهو مؤمن , فأقدنا فقال رسول الله ﷺ تحلفون بالله خمسين يمينا على خمسين رجلا منكم أن كان صاحبكم قتل وهو مؤمن قد سمع إيمانه ففعلوا , فلما حلفوا قال رسول الله ﷺ اعفوا عنه واقبلوا الدية , فقال عيينة بن حصن إنا نستحي أن تسمع العرب أنا أكلنا ثمن صاحبنا وواثبه الأقرع بن حابس التميمي في قومه غضبا وحمية لخندف فقال لعيينة بن حصن : بماذا استطلتم دم هذا الرجل فقال : أقسم منا خمسون رجلا : أن صاحبنا قتل وهو مؤمن , فقال الأقرع : فسألكم رسول الله ﷺ أن تعفوا عن قتله وتقبلوا الدية فأبيتم فأقسم : بالله لتقبلن من رسول الله ﷺ الذي دعاكم إليه , أو لاتين بمائة من بني تميم فيقسمون بالله لقد قتل صاحبكم وهو كافر فقالوا عند ذلك : على رسلك , بل نقبل ما دعانا إليه رسول الله ﷺ فرجعوا إلى رسول الله ﷺ وقالوا : يا رسول الله نقبل الذي دعوتنا إليه من الدية , فدية أبيك عبد الله بن عبد المطلب فوداه رسول الله ﷺ من الإبل.
قال أبو محمد رحمه الله : فهذا خبر لا ينسند ألبتة من طريق يعتد بها وانفرد به ابن سمعان وهو مذكور بالكذب بذكر قسامة خمسين على أنه قتل مسلما , وهو أيضا مرسل ولو صح لقلنا به , فإذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به , وبالله تعالى التوفيق.
2157 - مسألة: في الدماء مشكل
قال أبو محمد رحمه الله : حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن الفضل بن بهرام الدينوري ، حدثنا محمد بن جرير الطبري ني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري ، حدثنا عمي هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، حدثنا شعبة بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه مطيع أخي بني عدي بن كعب وكان اسمه العاص فسماه رسول الله ﷺ مطيعا قال : سمعت رسول الله ﷺ بمكة يقول : لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدا , ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا أبدا. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان بن عيينة عن زكريا ، هو ابن أبي زائدة عن الشعبي قال : قال الحارث بن مالك بن البرصاء : قال " قال رسول الله ﷺ : ما تغزى مكة بعد هذا العام أبدا. حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل أنا محمد بن جرير ، حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي ، حدثنا محمد بن عبيد عن زكريا عن الشعبي عن الحارث بن مالك بن البرصاء قال : سمعت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة وهو يقول : لا تغزى مكة بعدها إلى يوم القيامة
قال علي رحمه الله : الأول حديث صحيح , والآخر إن صح سماع الشعبي من الحارث بن مالك فهما صحيحان والحارث هذا : هو الحارث بن قيس بن عون بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال أبو محمد رحمه الله : ووجه هذه الأحاديث بين , وهو أن رسول الله ﷺ إنما أخبر بهذا عن نفسه : أنه لا يغزو مكة بعدها أبدا , وأنه لا يقتل بعدها رجلا من قريش صبرا أبدا , وكان هذا كما قال عليه السلام , فما قتل بعدها قرشيا.
برهان هذا : أنه عليه السلام قد أنذر بقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأنذر بغزو الكعبة وهو
كما روينا من طريق مسلم ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي عن عثمان عن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري فذكر الحديث , وفيه أن رجلا استفتح فجلس رسول الله ﷺ وقال : افتح له وبشره بالجنة على بلوى تكون قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان ففتحت له وبشرته بالجنة , وقلت الذي قال , فقال : اللهم صبرا , والله المستعان.
ومن طريق مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , وابن أبي عمر , وحرملة بن يحيى , قال أبو بكر , وابن أبي عمر : حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد , وقال حرملة : حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، هو ابن يزيد ثم اتفق زياد , ويونس كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة
قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن قوما من قريش سيقتلون صبرا.
ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها في أن قرشيا لو قتل لقتل , ولو زنى وهو محصن لرجم حتى يموت وهكذا نقول فيه : لو ارتد , أو حارب أو حد في الخمر ثلاثا ثم شرب الرابعة
وكذلك قال الله تعالى {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}.
ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن مكة أعزها الله وحرسها لو غلب عليها الكفار , أو المحاربون , أو البغاة , فمنعوا فيها من إظهار الحق أن فرضا على الأمة غزوهم لا غزو مكة , فإن انقادوا , أو خرجوا فذلك , وإن لم يمتنعوا ، ولا خرجوا : أنهم يخرجون منها , فإن هم امتنعوا وقاتلوا , فلا خلاف في أنهم يقاتلون فيها وعند الكعبة فكانت هذه الإجماعات , وهذه النصوص وإنذار النبي عليه السلام بهدم ذي السويقتين للكعبة. وبالضرورة ندري أن ذلك لا يكون ألبتة إلا بعد غزو منه وقد غزاها الحصين بن نمير , والحجاج بن يوسف , وسليمان بن الحسن الجياني لعنهم الله أجمعين وألحدوا فيها وهتكوا حرمة البيت , فمن رام للكعبة بالمنجنيق وهو الفاسق الحجاج وقتل داخل المسجد الحرام أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير , وقتل عبد الله بن صفوان بن أمية رضي الله عنهما وهو متعلق بأستار الكعبة , ومن قالع للحجر الأسود , وسالب المسلمين المقتولين حولها وهو الكافر الملعون سليمان بن الحسن القرمطي , فكان هذا كله مبينا إخبار رسول الله ﷺ بما أخبر في حديث مطيع بن الأسود , والحارث بن البرصاء , وأنه عليه السلام إنما أخبر بذلك عن نفسه فقط وهذا من أعلام نبوته عليه السلام أن أخبر بأنه لا يغزوها إلى يوم القيامة , وأنه عليه السلام لا يقتل أبدا رجلا من قريش صبرا , فكان كذلك. ولا يجوز أن يقتصر على بعض كلامه ﷺ دون بعض , فهذا تحكم فاسد , بل تضم أقواله عليه السلام كلها بعضها إلى بعض , فكلها حق. ، ولا يجوز أن يحمل قوله عليه السلام لا تغزى مكة بعد هذا العام إلى يوم القيامة , ولا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم على الأمر , لما ذكرنا من صحة الإجماع على وجوب قتل القرشي قودا أو رجما في الزنى وهو محصن على وجوب غزو من لاذ بمكة من أهل الكفر والحرابة والبغي
فإن قيل : إنما منع بذلك من غزوها ظلما , ومن قتل قرشي صبرا ظلما
قلنا وبالله تعالى التوفيق : هذه أحكام لا يختلف فيها حكم مكة وغيرها , ولا حكم قريش وغيرهم , فلا يحل بلا خلاف : أن تغزى بلد من البلاد ظلما , ولا أن يقتل أحد من الأمة ظلما , وكأن يكون الكلام حينئذ عاريا من الفائدة , وهذا لا يجوز وبالله تعالى التوفيق.