الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الرابعة والثلاثون

ابن حزم - المحلى كتاب الشفعة (مسأله 1595 - 1597)
المؤلف: ابن حزم


كتاب الشفعة

1595 - مسألة : الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا ، من أي شيء كان مما ينقسم ، ومما لا ينقسم : من أرض ، أو شجرة واحدة ، فأكثر ، أو عبد ، أو ثوب ، أو أمة ، أو من سيف ، أو من طعام ، أو من حيوان ، أو من أي شيء بيع : لا يحل لمن له ذلك الجزء أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه ، فإن أراد من يشركه فيه الأخذ له بما أعطى فيه غيره فالشريك أحق به ، وإن لم يرد أن يأخذ فقط سقط حقه ، ولا قيام له بعد ذلك إذا باعه ممن باعه . فإن لم يعرض عليه كما ذكرنا حتى باعه من غير من يشركه فيه ؟ فمن يشركه مخير بين أن يمضي ذلك البيع وبين أن يبطله ويأخذ ذلك الجزء لنفسه بما بيع به . وها هنا خلاف في أربعة مواضع : أحدها هل يجوز بيع المشاع أم لا ؟ والثاني : هل يكون في بيعه شفعة أم لا ؟ والثالث : الأشياء التي تكون فيها الشفعة . والرابع : إن عرض البائع على من يشركه قبل أن يبيع فأبى شريكه من الأخذ هل يسقط حقه بذلك أم لا ؟ فقال عبد الملك بن يعلى وهو تابعي قاضي البصرة : لا يجوز بيع المشاع ، روينا ذلك من طريق حماد بن زيد أنا أيوب السختياني قال : رفع إلى عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة رجل باع نصيبا له غير مقسوم فلم يجزه ، فذكر لمحمد بن سيرين فرآه غير جائز . وقال محمد بن سيرين : لا بأس بالشريكين يكون بينهما المتاع أو الشيء الذي لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقاسمه . وقال الحسن : لا يبع منه ولا من غيره حتى يقاسمه إلا أن يكون لؤلؤة أو ما لا يقدر على قسمته . وأجاز عثمان البتي بيع المشاع ولم ير الشفعة للشريك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا شفعة إلا في الأرض فقط أو في أرض بما فيها من بناء أو شجر نابت فقط . قال مالك : الشفعة واجبة في الأرض وحدها ، وفي الأرض بما فيها من بناء أو شجر نابت ، أو في الثمار التي في رءوس الشجر وإن بيعت دون الأصول . وروينا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه لا شفعة في بئر ولا فحل : رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه قال : لا شفعة في بئر ولا فحل والأرف يقطع كل شفعة . الأرف الحدود والمعالم . قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا : ما رويناه من طريق البخاري أنا مسدد أنا عبد الواحد هو ابن زياد أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر بن عبد الله قال : { قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } . ومن طريق البخاري أيضا أنا محمود هو ابن غيلان أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر بن عبد الله قال : { جعل رسول الله ﷺ الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } . ووجدت في كتاب يحيى بن مالك بن عائذ بخطه : أخبرني القاضي أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن سلمة المعروف بابن أبي حنيفة قال : نا أبو جعفر الطحاوي قال نا محمد بن خزيمة أنا يوسف بن عدي هو القراطيسي أنا ابن إدريس هو عبد الله الأودي عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال : { قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شيء } . قال الطحاوي : وحدثنا إبراهيم بن أبي داود نا نعيم أنا الفضل بن موسى عن أبي حمزة السكري عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ : { الشريك شفيع والشفعة في كل شيء } . ومن طريق مسلم أنا أبو الطاهر أنا ابن وهب عن ابن جريج أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله ﷺ : { الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه فيأخذ أو يدع ، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه } . قال أبو محمد : فهذه آثار متواترة متظاهرة بكل ما قلنا ، جابر ، وابن عباس عن النبي ﷺ بأن { الشفعة في كل مال ، وفي كل شيء ، وفي كل ما لم يقسم . } ورواها كذا عن جابر : أبو الزبير سماعا منه وعطاء ، وأبو سلمة ، ورواه عن ابن عباس : ابن أبي مليكة ، فارتفع الإشكال جملة ولله تعالى الحمد . وممن قال بقولنا في هذا كما روينا عن ابن أبي شيبة أنا يزيد بن هارون أنا يحيى بن سعيد عن عون بن عبيد الله بن أبي رافع عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب قال : إذا وقعت الحدود وعرف الناس حقوقهم فلا شفعة بينهم . ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا محمد بن إسحاق عن منظور بن أبي ثعلبة عن أبان بن عثمان بن عفان أن أباه عثمان قال : لا مكايلة إذا وقعت الحدود فلا شفعة . فهذان عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يحملان قطع الشفعة بعد وجوبها بوقوع الحدود ، ومعرفة الناس حقوقهم ولم يخصا أرضا دون سائر الأموال ، بل أجملا ذلك ، والحدود تقع في كل جسم مبيع ، وكذلك معرفة كل أحد حقه . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن مليكة قال : { قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شيء : الأرض والدار ، والجارية ، والخادم } . فقال عطاء : إنما الشفعة في الأرض والدار . فقال له ابن أبي مليكة : تسمعني لا أم لك ، أقول قال رسول الله ﷺ ثم تقول مثل هذا وإلى هذا رجع عطاء كما روينا من طريق وكيع قال أنا أبان عن عبد الله البجلي قال : سألت عطاء عن الشفعة في الثوب ؟ فقال : له شفعة وسألته عن الحيوان ؟ فقال : له شفعة وسألته عن العبد ؟ فقال : له شفعة . فهذان : عطاء ، وابن أبي مليكة بأصح إسناد عنهما . قال أبو محمد : فلا تخلو الشفعة من أن تكون من طريق النص كما نقول نحن أو من طريق النظر كما يقول المخالفون . فإن كانت من طريق النص فهذه النصوص التي أوردنا لا يحل الخروج عنها وإن كانت من طريق النظر كما يزعمون أنها إنما جعلت لدفع ضرر عن الشريك فالعلة بذلك موجودة في غير العقار كما هي موجودة في العقار ، بل أكثر ، وفيما لا ينقسم ، كوجودها فيما ينقسم ، بل هي فيما لا ينقسم أشد ضررا . فأما من منع بيع المشاع فما نعلم لهم حجة أصلا ، بل هو خلاف القرآن ، والسنة ، قال الله تعالى : { وأحل الله البيع } . وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } . فهذا بيع لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال . ولقد كان يلزم الحنفيين المحرمين رهن الجزء من المشاع ، وهبة الجزء من المشاع ، والصدقة بالجزء من المشاع ، والإجارة للجزء المشاع : أن يمنعوا من بيع الجزء من المشاع ؛ لأن العلة في كل ذلك واحدة ، والقبض واجب في البيع كما هو في الهبة ، والرهن ، والصدقة والإجارة ولكن التخاذل في أقوالهم في الدين أخف شيء عليهم . فإن قالوا : اتبعنا في إجازة بيع المشاع الآثار المذكورة ؟ قلنا : ما فعلتم ، بل خالفتموها كما نبين بعد هذا إن شاء الله عز وجل ، وأقرب ذلك مخالفتكم إياها في سقوط حق الشريك إذا عرض عليه الأخذ قبل البيع فلم يأخذ ، فقلتم : بل حقه باق ولا يسقط . وأيضا فقد جاء نص بهبة المشاع إذ { وهب رسول الله ﷺ الأشعريين ثلاث ذود من الإبل بينهم } فلم تجيزوه . وأما من لم يقل بالشفعة فإن حجته أن يقول : خبر الشفعة مخالف للأصول ، ومن ملك شيئا بالشراء فلا يجوز لغيره أخذه وهذا خلاف لما ثبت عن رسول الله ﷺ . ولقد كان يلزم الحنفيين المخالفين للثابت عن رسول الله ﷺ من حكم المصراة ، ومن حكم من وجد سلعته عند مفلس فهو أولى بها ، والقرعة بين الأعبد الستة في العتق ، وقالوا : هذه الأخبار مخالفة للأصول أن يقولوا مثل هذا في خبر الشفعة ، ولكن التناقض أسهل شيء عليهم ، ولا حجة في نظر مع حكم ثابت عن رسول الله ﷺ . وأما الخلاف فيما تكون فيه الشفعة فإنهم قالوا : إنما ذكر في حديث جابر من رواية أبي الزبير { في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط . } وفي رواية أبي سلمة عنه { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } وما نعلم لهم شيئا شغبوا به إلا هذا . فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أنه لا حجة لهم في هذين اللفظين ، أما { قوله عليه الصلاة والسلام : في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط } فليس فيه أنه لا شفعة إلا في هذا فقط ، وإنما فيه إيجاب الشفعة في الأرض والربع والحائط ، وليس فيه ذكر هل الشفعة فيما عداها أم لا ؟ فوجب طلب حكم ما عدا هذه في غير هذا اللفظ ، وقد وجدنا خبر جابر هذا نفسه من طريق عطاء بأن الشفعة في كل شيء ، وما يجهل أن عطاء فوق أبي الزبير إلا جاهل . وقد جاء هذا الخبر من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ { من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن رضي أخذ ، وإن كره ترك } أفترون هذا حجة في أن لا شفعة إلا في ربع أو نخل فقط دون سائر الثمار ؟ فإن قالوا : قد جاء خبر آخر بزيادة ؟ قلنا : وقد جاء خبر آخر لنا أيضا بزيادة { كل مال لم يقسم } ولا فرق فكيف والحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون ، المخالفون لنا في هذا أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا على حكم الأرض ، والحائط ، والبناء : سائر الأملاك بعلة الضرر ودفعه ، كما قاسوا على الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والملح ، والتمر : سائر الأنواع ؟ فليت شعري ما الموجب للقياس هنالك وفي سائر ما قاسوا فيه ومنع منه هاهنا ، لا سيما والمالكيون ، والشافعيون يجعلون الشفعة في الصداق قياسا على البيع ، فهلا قاسوا البيع على البيع ، فهو أولى من قياس الصداق على البيع ؟ والمالكيون يرون الشفعة في الثمرة دون الأصول ، فهلا قاسوا غير الثمرة على العقار كما قاسوا الثمرة على العقار ، لا سيما مع إقراره بأنه لا يعرف أحدا قال بذلك قبله . ثم كلهم مخالفون لهذا الخبر نفسه ، في أنهم لا يسقطون حق للشريك في الشفعة إذا عرض عليه شريكه أخذ الشقص بما يعطى فيه فلم يأخذه ، فكيف يحل لمسلم أن يجعل بعض خبر حجة ، لا سيما فيما ليس فيه منه شيء ، ولا يجعله حجة فيما هو فيه منصوص ونعوذ بالله من مثل هذا . وأما اللفظ الذي في رواية أبي سلمة عن جابر { فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } فلا حجة لهم فيه ؛ لأنه ليس في هذا اللفظ نص ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا في الأرض ، والعقار ، والبناء . بل الحدود واقعة في كل ما ينقسم من طعام ، وحيوان ، ونبات ، وعروض ، وإلى كل ذلك طريق ضرورة ، كما هو إلى البناء وإلى الحائط ولا فرق ، وكان ذكره عليه السلام للحدود والطرق إعلاما بحكم ما يمكن قسمته ، وبقي الحكم فيما لا يقسم على حسبه ، فكيف وأول الحديث بيان كاف في أن الشفعة واجبة في كل مال يقسم ، وفي كل ما لم يقسم ، وهذا عموم لجميع الأموال ما احتمل منها القسمة وما لم يحتملها . ومن الباطل الممتنع أن يكون رسول الله ﷺ يريد بهذا الحكم " الأرض " فقط ؛ ثم يجمل هذا الإجمال ، حاشا لله من هذا ، وهو مأمور بالبيان لا بالإبهام والتلبيس هذا أمر لا يتشكل في عقل ذي عقل سواه وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : فبطل أن يكون لهم متعلق ، وقد جسر بعضهم على جاري عادته في الكذب فادعى الإجماع على وجوب الشفعة في الأرض ، والبناء ، والأشجار فقط ، وادعى الإجماع على سقوط الشفعة فيما سواها . قال أبو محمد : أما الإجماع على وجوب الشفعة في الأرض وما فيها من بناء وشجر : فقد أوردنا عن الحسن وابن سيرين ، وعبد الملك بن يعلى وعثمان البتي خلاف ذلك ، وهؤلاء فقهاء تابعون . وأما الإجماع على أن لا شفعة فيما عدا ذلك ، فقد ذكرنا عموم الرواية عن عمر وعثمان ، والرواية عن ابن أبي مليكة ، وعطاء ، وهو قول فقهاء أهل مكة ، وهذا مالك يرى الشفعة في الثمرة المبيعة دون الأصل . وما نعلم روي إسقاط الشفعة فيما عدا الأرض إلا عن ابن عباس ، وشريح ، وابن المسيب ، ولا يصح عنهم ، وعن عطاء وقد رجع عن ذلك وعن إبراهيم ، والشعبي ، والحسن وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وربيعة ، وهو عن هؤلاء صحيح . أما ابن عباس : فإن الرواية عنه في ذلك من طريق محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس : لا شفعة في الحيوان محمد بن عبد الرحمن مجهول وليس فيه أيضا : أنه لا شفعة في غير الحيوان ، كما ليس في حديث عثمان إسقاط الشفعة عن غير البر والفحل فبطل تعلقهم بها جملة . وأما ابن المسيب : فهو من طريق ابن سمعان وهو مذكور بالكذب وهو عن شريح من طريق جابر الجعفي ، ويكفي . ورويناه من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن عبيدة ، وجرير ، ويونس ، قال عبيدة عن إبراهيم ، وقال جرير عن الشعبي قالا جميعا : لا شفعة إلا في دار ، أو عقار ، وقال يونس عن الحسن : لا شفعة إلا في تربة . قال أبو محمد : ومثل عدد هؤلاء لا يعدهم إجماعا إلا كذاب ، قليل الحياء وقد أوردنا الخلاف في ذلك عمن ذكرنا وبالله تعالى التوفيق . وقد خالف هؤلاء كلهم مالك ، فرأى الشفعة في التين ، والعنب ، والزيتون ، والفواكه في رءوس الشجر ، وليست دارا ، ولا عقارا ، ولا تربة ورأى ابن شبرمة الشفعة في الماء . والعجب من المالكيين في إجبارهم الشريك على أن يبيع مع شريكه ، ولم يوجب قط ذلك نص ، ولا أثر ، ولا قياس ، ولا نظر ، ثم لا يوجب له الشفعة ، وقد جاء بها النص . وعجب آخر منهم ، ومن الحنفيين في قولهم : المسند كالمرسل سواء ، حتى أن بعضهم قال : بل المرسل أقوى ، وقد ذكرنا آنفا : أحسن المراسيل بإيجاب الشفعة في الجارية وفي الخادم . وروينا من طريق محمد بن جعفر أنا شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة ، قال النبي ﷺ : { في العبد شفعة وفي كل شيء } وما نعلم في المرسلات أقوى من هذا فخالفوه ، وما عابوه إلا بإرسال ؟ فأي دين ، أو أي إحياء ، يبقى مع هذا ؟ ونعوذ بالله من الخذلان . وأما سقوط حق الشريك إذا عرض عليه شريكه الأخذ فلم يأخذه ، فإن الحنفيين حاشا الطحاوي ، والمالكيين ، والشافعيين ، قالوا : لا يسقط حقه بذلك ، بل له أن يأخذ بعد البيع ، واحتجوا بأن قالوا : بأن الشفعة لم تجب له بعد ، وإنما يجب له بعد البيع ؟ فتركه ما لم يجب له بعد لا معنى له ، ولا يسقط حقه إذا وجب ، ما لهم حجة غير هذا أصلا . وهذا ليس بشيء : أول ذلك قولهم : إن الشفعة لم تجب له بعد ، فهذا باطل ؛ لأن الشفعة وغير الشفعة من أحكام الديانة كلها لا تجب إلا إذا أوجبها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ وإلا فما لم يجئ هذا المجيء فليس هو من الدين ، ورسول الله ﷺ هو الذي أوجب حق الشفيع بعرض الشفعة عليه قبل البيع ، وأسقط حقه بتركه الأخذ حينئذ ، ولم يجعل له بعد البيع حقا أصلا ، إلا بأن لا يعرض عليه قبل البيع فحينئذ يبقى له الحق بعد البيع ، وإلا فلا هذا هو حكم الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام فليأتونا عنه عليه الصلاة والسلام بأن الأخذ لا يجب للشفيع إلا بعد البيع فقط ، وهذا ما لا يجدونه أبدا فظهر فساد قولهم من كثب . وليت شعري أين كان الحنفيون عن هذا النظر حيث أجازوا الزكاة قبل الحول ، نعم ، وقبل دخوله ، والمالكيون كذلك قبل تمام الحول بشهرين ، والشافعيون كذلك قبل تمام الحول ؟ وأين كان المالكيون عن هذا النظر حيث أجازوا إذن الوارث للموصي في أكثر من الثلث والمال لم يجب لهم بعد ، ولا لهم فيه حق ولعله هو يرثهم أو لعله سيحدث له ولد يحجبهم ؟ وأين كانوا عن هذا النظر في إجازتهم الطلاق قبل النكاح ، والعتق قبل الملك ، فأعجبوا لهذه التخاليط وبه يقول جماعة من أهل العلم : كما روينا من طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن أشعث عن الحكم بن عتيبة في الرجلين بينهما دار أو أرض فقال أحدهما للآخر : أريد أن أبيع ولك الشفعة فاشتر مني ، فقال له الآخر : لا حاجة لي به ، قد أذنت لك أن تبيع ، فباع ، ثم يأتي طالب الشفعة فيقول قد قام الثمن وأنا أحق ، قال الحكم : لا شيء له إذا أذن . قال سفيان : وبه نأخذ وهو قول أبي عبيد ، وإسحاق والحسن بن حي . وأحد قولي أحمد : وطائفة من أصحاب الحديث . فإن قال قائل : قد جاء هذا الخبر من طريق أبي الزبير عن جابر وفيه : لا يحل له أن يبيع ؟ قلنا : لم يذكر فيه أبو الزبير سماعا من جابر ، وهو قد اعترف على نفسه بأن ما لم يذكر فيه سماعا فإنه حدثه به من لم يسمه عن جابر ثم لو صح لكان آخر الخبر حاكما على أوله ، ولا يحل ترك شيء ، صح من حكم رسول الله ﷺ . وهذا خبر رويناه من طريق إسحاق بن راهويه نا عبد الله بن إدريس أنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر { قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شركة لم تقسم : ربعة ، أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به } قال أبو محمد : فإنما جعله عليه السلام بعد البيع الذي لا يحل أحق فقط ، فلاح أن الحق في الأخذ أو الترك بعد البيع إلى الشفيع إذا لم يؤذن قبل البيع فإن أبطله بطل وإن أجازه فحينئذ جاز وبالله تعالى التوفيق .

1596 - مسألة : ولا شفعة إلا في البيع وحده ، ولا شفعة في صداق ولا في إجارة ، ولا في هبة ، ولا غير ذلك ، وهو قول جماعة من السلف . كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم عن منصور بن المعتمر عن الحسن أنه كان لا يرى الشفعة في الصداق ومن طريق محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر قال : بلغني عن الشعبي أنه قال : لا شفعة في صداق وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وأبي سليمان ، وأصحابنا ، والليث بن سعد . وقال الحارث العكلي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي ، ومالك ، والشافعي في الصداق والشفعة . ثم اختلفوا فقال العكلي والشافعي : يأخذ الشفيع بصداق مثلها ، وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي ومالك : يأخذه بقيمة الشقص وأوجب مالك ، والشافعي : الشفعة في الإجارة . قال أبو محمد : إن قيل : فهلا أخذتم بإيجاب الشفعة في كل ذلك بعموم قول رسول الله ﷺ وقضائه بالشفعة في كل ما لم يقسم ؟ قلنا : لم يجز ما تقولون ؛ لأن " الشفعة " ليست لفظة قديمة إنما هي لفظة شريعية لم تعرف العرب معناها قبل رسول الله ﷺ كما لم تعرف لفظة " الصلاة " ولفظة " الزكاة " ولفظة " الصيام " ولفظة " الكفارة " ولفظة " النسك " ولفظة " الحد " الوارد كل ذلك في الدين ، حتى بينها لنا رسول الله ﷺ بما لم تعرفه العرب قط : من صفة الركوع ، والسجود ، والقراءة ، وما يعطى من الأموال ، وما يمتنع منه في رمضان ، وغير ذلك ، وكذلك " الشفعة " من هذا الباب لا يدري أحد ما المراد بها حتى بينه رسول الله ﷺ وقد بين أن ذلك في البيع ، ولم يذكرها غير ذلك ، فلم يجز أن يتعدى بها بيان رسول الله ﷺ إلى الظنون الكاذبة . فإن قالوا : قسنا الصداق ، والإجارة على البيع ؟ قلنا : هذا باطل ؛ لأن القياس كله باطل . ثم لو صح لكان هذا منه عين الفساد ؛ لأن الصداق ، والإجارة لا يشبهان البيع في شيء من الأشياء ، وإنما القياس عند القائلين به أن يحكم للشيء بحكم نظيره ، والبيع تمليك للمبيع ، وليست الإجارة تمليكا للمؤاجر ، إنما هي إباحة للمنافع الحادثة الظاهرة ، ولا الصداق تمليكا للرقبة ، ولا يحل بيع ما لم يخلق ، والإجارة إنما هي فيما لم يخلق من المنافع ، والنكاح يجوز بلا ذكر صداق ، ولا يجوز البيع بغير ذكر ثمن . ثم اختلافهم في ذلك أبصداق مثلها أم بقيمة الشقص ؟ بيان أنه رأي فاسد متعارض ليس أحد القولين أولى من الآخر . وليت شعري أين كانوا عن هذا القياس في أن يقيسوا على الأرضين في " الشفعة " سائر الأموال ؟ وهذا أصح في القياس لو صح القياس يوما . فإن ذكروا الخبر الذي فيه عن النبي ﷺ { من ابتاع دينا على رجل فصاحب الدين أولى } فهذا باطل ؛ لأنه عمن لم يسم عن عمر بن عبد العزيز عن النبي ﷺ ثم لو صح لم ينتفعوا به ؛ لأنه في البيع أيضا ، فهو حجة عليهم في منعهم من الشفعة فيما عدا العقار .

1597 - مسألة : ومن لم يعرض على شريكه الأخذ قبل البيع حتى باع فوجبت الشفعة بذلك للشريك ، فالشريك على شفعته علم بالبيع أو لم يعلم ، حضره أو لم يحضره ، أشهد عليه أو لم يشهد حتى يأخذ متى شاء ، ولو بعد ثمانين سنة أو أكثر ، أو يلفظ بالترك فيسقط حينئذ ، ولا يسقط حقه بعرض غير شريكه أو رسوله عليه . واختلف الحاضرون في هذا فقال أبو حنيفة : متى علم بالبيع ، وعلم أن له الشفعة ، فإن طلب في الوقت أو أشهد على أنه آخذ بشفعته فله الشفعة أبدا ، وإن سكت بعد ذلك سنين فإن لم يشهد ، ولا طلب فقد بطل حقه . وروي عن أبي حنيفة في الحاضر : أن له أجل ثلاثة أيام ، فإن طلب الشفعة فيها قضي له ، وإن مرت الثلاث ولم يطلب الشفعة بطل حقه ولا شفعة له . وقال صاحبه محمد بن الحسن كذلك ، إلا أنه قال : لا ينتفع بالإشهاد على أنه طالب بالشفعة إلا بأن يكون إشهاده بذلك بحضرة المطلوب بالشفعة ، أو بحضرة الشقص المطلوب وقال أيضا : فإن سكت بعد الإشهاد المذكور شهرا واحدا لا يطلب بطلت شفعته . وقال بعض كبار نظار مقلدي أبي حنيفة : للشفيع من أمد الخيار إن سكت ولم يشهد ولا طلب ما للمرأة المخيرة . وبقول أبي حنيفة يقول البتي ، وابن شبرمة ، وعبيد الله بن الحسن ، والأوزاعي ، إلا أن عبيد الله قال : لا يمهل إلا ساعة واحدة . وقال مالك ثلاثة أقوال : مرة قال : إن بلغه البيع أن له القيام بالشفعة فسكت ، ولم يطلب ولا أشهد ، فهو على حقه ، وله أن يطلب ما لم يطل الأمد جدا دون تحديد في ذلك . ومرة قال : إن قام ما بينه وبين خمسة أعوام فله ذلك وإن لم يقم حتى مضت خمسة أعوام فقد بطل حقه . وقال الشافعي : إن ترك الطلب ثلاثة أيام فأقل كان له أن يطلب ، فإن لم يطلب حتى مضت له ثلاثة أيام فقد بطل حقه وهو قول سفيان الثوري ثم رجع الشافعي فقال : إن ترك الطلب دون عذر مانع ما قل أو كثر فقد بطل حقه ، وإن تركه لعذر فهو على حقه طال الأمد أو قصر وهو قول معمر وروي عن شريح وصح عن الشعبي وروي عن الشعبي أن له أجل يوم واحد . وممن قال مثل قولنا ما روينا من طريق محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن حميد الأزرق أن عمر بن عبد العزيز قضى بالشفعة بعد بضع عشرة سنة . قال أبو محمد : أما أقوال مالك كما هي ، فهي في غاية الفساد لأنها إما تحديد بلا برهان ، وإما إجمال بلا تحديد ، فلا يدري أحد متى يسقط حقه ولا متى لا يسقط حقه ، وليس في الزمان طويل إلا بإضافة إلى ما هو أقصر منه ، فاليوم طويل لمن عذب فيه ، وبالإضافة إلى ساعة ومائة عام قليل بالإضافة إلى عمر الدنيا مع أنها أقوال لم تعهد عن أحد قبله ولا يعضدها قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول سلف ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه . وكذلك قول سفيان ، والأول من قولي الشافعي ، وقول الشعبي في تحديد يوم ، فهما قولان في غاية الفساد ؛ لأنهما تحديد بلا برهان ، وليس رد ذلك إلى ما جاء من الأخبار بخيار ثلاثة أيام أولى من أن يرد إلى خيار العدة إن شاء ارتجع وإن شاء أمضى الطلاق وهو ثلاثة أشهر ، وهذه كلها تخاليط . وكذلك قول محمد بن الحسن وتحديده بشهر ، وبأن لا يكون الإشهاد إلا بحضرة المطلوب بالشفعة ، أو الشقص المبيع فهذا تخليط ناهيك به ، وتحكم في الدين بالباطل . وأما قول من قال : " له من الأمد ما للمخيرة " فأسخف قول سمع به ؛ لأنه احتجاج للباطل بالباطل ، وللهوس بالهوس ، وما سمع بأحمق من أقوالهم في حكم المخيرة . وأما قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والبتي ، ومن وافقهم فإن تحديدهم في ذلك بالإشهاد ، ثم السكوت إن شاء قول بلا برهان له ، وما كان هكذا فهو باطل . وقد علمنا أن حق الشريك واجب بعد البيع إذا لم يؤذنه البائع قبل البيع ، فأي حاجة به إلى الإشهاد ، أو من أين ألزموه إياه وأسقطوا حقه بتركه هذا خطأ فاحش ، وإسقاط لحق قد وجب بإيجاب الله تعالى له ، فما يقويه الإشهاد ولا يضعفه تركه فبطل قول أبي حنيفة ، ولم يبق إلا أحد قولي الشافعي ، والشعبي فنظرنا فيه فلم نجد لهم حجة أصلا إلا أن بعض المموهين نزع بقول مكذوب موضوع مضاف إلى رسول الله ﷺ { الشفعة كنشطة عقال والشفعة لمن واثبها } . وهذا خبر رويناه من طريق البزار قال : أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن الحارث أنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال : { لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل العقال من مثل بمملوكه فهو حر وهو مولى الله ورسوله والناس على شروطهم ما وافقوا الحق . } قال أبو محمد : أفيكون أعجب من مخالفتهم كل ما في هذا الخبر واحتجاجهم ببعضه ، فبعضه حق وبعضه باطل ؟ أف لهذه الأديان . وأما { الشفعة لمن واثبها } ، فما يحضرنا الآن ذكر إسنادها ، إلا أنه جملة لا خير فيه ، وابن البيلماني ضعيف مطرح ، ومتفق على تركه . وأما لفظ { لمن واثبها } فهو لفظ فاسد ، لا يحل أن يضاف مثله إلى رسول الله ﷺ لأن قول القائل : الشفعة لمن واثبها : موجب أن يلزمه الطلب مع البيع لا بعده ؛ لأن المواثبة فعل من فاعلين ، فوجب أن يكون طلبه مع البيع لا بعده ؛ لأن التأني في الوثب لا يسمى مواثبة . وأما قوله { الشفعة كنشطة عقال } فمعناه ظاهر ، ولا حجة لهم فيه ؛ لأن نشط العقال : هو حل العقال ، وكذلك الشفعة ؛ لأنها حل ملك عن المبيع وإيجابه لغيره فقط . قال علي : وقد جعل الله تعالى حق الشفيع واجبا وجعله على لسان رسوله عليه السلام المصدق أحق ، إذا لم يؤذن قبل البيع ، فكل حق ثبت بحكم الله تعالى ورسوله ﷺ فلا يسقط أبدا إلا بنص وارد بسقوطه ، فإن وقفه المشتري على أن يأخذ أو يترك لزمه أحد الأمرين ، ووجب على الحاكم إجباره على أحد الأمرين لأنه قد أعطي حقه فلا ينبغي له تضييعه ، فهو إضاعة للمال ، ولا بد له من أخذه ؛ أو أن يبيحه لغيره ، وإلا فهو غاش غير ناصح لأخيه المنصف له وبالله تعالى التوفيق . وأما من منع حقه ولم يعطه ، فليس سقوطه عن طلبه قطعا لحقه ولو سكت عمره كله ولا يختلفون فيمن غصب مالا ، أو كان له دين أو ميراث ، أو حق ما ، فإن سقوطه عن طلبه لا يبطله ، وأنه على حقه أبدا فمن أين خصوا حق الشفعة من سائر الحقوق بهذه التخاليط ؟