→ كتاب الرضاع | ابن حزم - المحلى كتاب الرضاع (مسألة 1867 - 1870) ابن حزم |
كتاب الرضاع (مسألة 1871 - 1872) ← |
كتاب الرضاع
1867 - مسألة: ومن كانت له امرأتان، أو أمتان، أو زوجة وأمة: فأرضعت إحداهما بلبن حدث لها من حمل منه رجلا رضاعا محرما، وأرضعت الأخرى بلبن حدث لها من حمل منه امرأة كذلك: لم يحل لأحدهما نكاح الآخر أصلا. وكل من أرضعت الرجل حرمت عليه؛ لأنها أمه من الرضاعة. وحرم عليه بناتها؛ لأنهن أخواته سواء في ذلك من ولدت قبله، أو من ولدت بعده من الرضاعة. وحرمت عليه أخواتها، لأنهن خالاته من الرضاعة. وحرمت عليه أمهاتها؛ لأنهن جداته. وحرمت عليه أخوات زوج التي أرضعته بلبنها من حمل منه؛ لأنهن عماته من الرضاعة. وحرمت عليه أمهاته لأنهن جداته. وحرم عليه من أرضعت امرأته بلبن حدث لها من حمل منه؛ لأنها من بناته.
وكذلك يحرم على الرجل الذي أرضعت امرأته. وحكم التي ترضع امرأته كحكم ابنتها التي ولدتها، ولا يجمع بين الأختين من الرضاعة.
برهان ذلك: قول الله عز وجل فيما حرم من النساء: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}. وقول رسول الله ﷺ: يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة فدخل في هذا كل ما ذكرنا وما لم نذكر وبالله تعالى التوفيق. وكل هذا فلا خلاف فيه إلا في خمسة مواضع: وهي: لبن الفحل، وصفة الرضاع المحرم، وعدد الرضاع المحرم، ورضاع الكبير، والرضاع من ميتة.
1868 - مسألة: لبن الفحل يحرم، وهو ما ذكرنا آنفا: من أن ترضع امرأة رجل ذكرا، وترضع امرأته الأخرى أنثى: فتحرم إحداهما على الأخرى. وقد رأى قوم من السلف هذا لا يحرم شيئا: كما صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رويناه من طريق أبي عبيد أنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أنها كانت تأذن لمن أرضعته أخواتها، وبنات أخيها، ولا تأذن لمن أرضعته نساء إخوتها وبني إخوتها ومثله من طريق مالك عن عبد الرحمن بن القاسم أن أباه حدثه بذلك عن عائشة أم المؤمنين.
ومن طريق سعيد بن منصور أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: أخبرني ربيعة، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن عبد الله، وأفلح بن حميد، كلهم عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: كان يدخل على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من أرضعته بنات أبي بكر، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أبي بكر.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خصيف عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر، أنه قال: لا بأس بلبن الفحل. ورويناه أيضا من طريق جابر بن عبد الله.
ومن طريق أبي عبيد أنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود: أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير قالت زينب: فأرسل إلي عبد الله بن الزبير يخطب ابنتي أم كلثوم على أخيه حمزة بن الزبير وكان حمزة ابن الكلبية، فقلت لرسوله: وهل تحل له إنما هي بنت أخيه، فأرسل إلي ابن الزبير إنما تريدين المنع أنا وما ولدت أسماء إخوتك، وما كان من ولد الزبير من غير أسماء فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا فأرسلت فسألت، وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا: إن الرضاعة من قبل الرجال لا تحرم شيئا فأنكحتها إياه، فلم تزل عنده حتى هلكت.
ومن طريق الحجاج بن المنهال أنا حماد بن سلمة، أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري أن حمزة بن الزبير بن العوام تزوج ابنة زينب بنت أم سلمة وقد أرضعت أسماء بنت أبي بكر زينب بنت أم سلمة بلبن الزبير، قال يحيى بن سعيد: وكانت امرأة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قد أرضعت حمزة بن عبد الله بن عمر فولد لسالم بن عبد الله من امرأة أخرى غلام اسمه عمر فتزوج بنت حمزة بن عبد الله بن عمر.
ومن طريق سعيد بن منصور أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي أخبرني عمرو بن حسين مولى قدامة بن مظعون: أن سالم بن عبد الله بن عمر زوج ابنا له أختا له من أبيه من الرضاعة.
ومن طريق عبد الرزاق، ووكيع، قال عبد الرزاق: عن سفيان الثوري عن الأعمش، وقال: وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة، قالا جميعا: عن إبراهيم النخعي قال: لا بأس بلبن الفحل.
ومن طريق حماد بن سلمة أنا محمد بن عمرو عن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أنه سأل سعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار؛ وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قالوا كلهم: إنما يحرم من الرضاعة ما كان من قبل النساء، ولا يحرم ما كان من قبل الرجال.
ومن طريق أبي عبيد أنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن محمد بن عمرو عن يزيد بن عبد الله بن قسيط فذكره عنهم، وزاد فيهم أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة وروي أيضا عن مكحول، والشعبي.
ومن طريق سعيد بن منصور أنا خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء عن بكر بن عبد الله عن أبي قلابة أنه لم يكن يرى بلبن الفحل بأسا.
ومن طريق سعيد بن منصور أنا عبد العزيز بن محمد أخبرني أفلح بن حميد، قال: قلت للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: إن فلانا من آل أبي فروة أراد أن يزوج غلاما أخته من أبيه من الرضاعة فقال القاسم: لا بأس بذلك. وذهب آخرون إلى التحريم به:
كما روينا من طريق أبي عبيد. أنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام قالت زينب: فكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي يقول: أقبلي علي فحدثيني أرى أنه أبي وما ولد فهم إخوتي.
ومن طريق أبي عبيد أنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب عن عمرو بن الشريد، عن ابن عباس أنه سئل عن رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية، والأخرى غلاما، أيحل أن يتناكحا فقال ابن عباس: لا، اللقاح واحد.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان أنا عباد بن منصور: سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وطاووسا، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، فقلت: امرأة أبي أرضعت بلبان إخوتي جارية من عرض الناس ألي أن أتزوجها فقال القاسم: لا، أبوك أبوها وقال عطاء، وطاووس، والحسن: هي أختك.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد، أنه كره لبن الفحل.
ومن طريق سعيد بن منصور، وأبي عبيد، قالا: أنا هشيم أن عبد الله بن سبرة الهمداني إنه سمع الشعبي: يكره لبن الفحل.
ومن طريق حماد بن سلمة أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه في رجل أرضعت امرأة أبيه امرأة وليست أمه: أتحل له قال عروة: لا تحل له.
ومن طريق مالك، عن ابن شهاب قال: الرضاعة من قبل الأم تحرم.
ومن طريق أبي عبيد أنا عبد الله بن إدريس الأودي عن الأعمش قال: كان عمارة، وإبراهيم وأصحابنا: لا يرون بلبن الفحل بأسا، حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس.
قال أبو محمد: هكذا يفعل أهل العلم، لا كمن يقول: أين كان فلان وفلان عن هذا الخبر وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبي سليمان وأصحابهم. وتوقف فيه آخرون:
كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية أنا عباد بن منصور قال: سألت مجاهدا عن جارية من عرض الناس أرضعتها امرأة أبي، أترى لي أن أتزوجها فقال: اختلف فيها الفقهاء، فلست أقول شيئا وسألت ابن سيرين فقال: مثل قول مجاهد.
قال أبو محمد: فنظرنا في ذلك فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج أنا حرملة بن يحيى التجيبي أنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها أخبرته أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعد الحجاب، وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة قالت عائشة: فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله ﷺ فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فلما دخل علي رسول الله ﷺ قلت يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي فكرهت أن آذن حتى أستأذنك قالت: فقال النبي ﷺ: ائذني له. وحدثنا محمد بن سعيد بن نبات أنا إسماعيل بن إسحاق النصري أنا عيسى بن حبيب القاضي أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثني جدي محمد بن عبد الله أنا سفيان بن عيينة عن الزهري وهشام بن عروة كلاهما عن عروة عن عائشة أم المؤمنين يزيد أحدهما على صاحبه قالت جاء عمي بعد ما ضرب الحجاب فاستأذن علي فلم آذن له، فجاء النبي ﷺ فقال: ائذني له فإنه عمك، فقلت: يا رسول الله فإنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال: تربت يمينك ائذني له فإنه عمك.
ومن طريق مسلم أنا عبد الله بن معاذ العنبري أنا أبي أنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت: استأذن علي أفلح بن قعيس، فأبيت أن آذن له فأرسل إلي: إني عمك أرضعتك امرأة أخي، فأبيت أن آذن له فجاء رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فقال: ليدخل عليك فإنه عمك. فكان هذا خبرا لا تجوز مخالفته وهو زائد على ما في القرآن.
وأما الحنفيون، والمالكيون، فتناقضوا هاهنا أقبح تناقض؛ لأن كلتا الطائفتين تقول: إذا روى الصاحب خبرا عن رسول الله ﷺ وروي عن ذلك الصاحب خلاف ما روى، فهو دليل على نسخ ذلك الخبر، قالوا ذلك في مواضع: منها ما روي عن جابر في ولد المدبرة أنه يعتق في عتقها ويرق في رقها فادعوا أن هذا خلاف لما روي عن جابر عن النبي ﷺ باع مدبرا. والعجب أنه ليس خلافا لما روي، بل هو موافق لبيع المدبر؛ لأن فيه يرق برقها.
قال أبو محمد: وهذا خبر لم يروه عن رسول الله ﷺ إلا عائشة وحدها، وقد صح عنها خلافه، فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها، ولم يقولوا: لم تخالفه إلا لفضل علم عندهن، وقالوا: لا ندري لأي معنى لم يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها.
قال أبو محمد: فكان هذا عجبا جدا يثبت عنها، كما أردنا: أنه كان لا يدخل عليها من أرضعته نساء أبي بكر، ونساء إخوتها، ونساء بني إخوتها بأصح إسناد، وأنه كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها، وبنات أخواتها، فهل هاهنا شيء يمكن أن يحمل هذا عليه إلا أن الذين أذنت لهم رأتهم ذوي محرم منها، وأن الذين لم تأذن لهم لم ترهم ذوي محرم منها ولكنهم لا يستحيون من المجاهرة بالباطل، ومدافعة الحق بكل ما جرى على ألسنتهم من غث ورث ونعوذ بالله من الضلال.
وقال بعضهم: للمرأة أن تحتجب ممن شاءت من ذوي محارمها .
فقلنا: إن ذلك لها إلا أن تخصيصها رضي الله عنها بالأحتجاب عنهم من أرضعته نساء أبيها، ونساء إخوتها، ونساء بني أخواتها، دون من أرضعته أخواتها، وبنات أخواتها، لا يمكن إلا للوجه الذي ذكرنا، لا سيما مع تصريح ابن الزبير وهو أخص الناس بها بأن لبن الفحل لا يحرم، وأفتى القاسم بذلك، فظهر تناقض أقوالهم والحمد لله رب العالمين. وعهدنا بالطائفتين تعترض كلتاهما عن الخبر الثابت بالمسح على العمامة وعلى رضاع سالم بأنها زيادة على ما في القرآن، ولا شك في أن التحريم بلبن الفحل زيادة على ما في القرآن، ولم يجئ مجيء التواتر فظهر أيضا تناقضهم هاهنا. وعهدنا بالطائفتين تقولان: إن ما كثر به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد، وراموا بذلك الأعتراض على الخبر الثابت: من أن البيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا ولبن الفحل مما تكثر به البلوى، وقد خالفته الصحابة، وأمهات المؤمنين هكذا جملة، وابن الزبير، وزينب بنت أم سلمة، والقاسم، وسالم، وسعيد بن المسيب وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وإبراهيم النخعي، وأبو قلابة، ومكحول، وغيرهم، فهلا قالوا هاهنا: لو كان صحيحا ما خفي على هؤلاء، وهو مما تكثر به البلوى، كما قالوا في خبر التفرق في البيع، وما نعلمه خفي عن أحد من الصحابة، والتابعين، إلا عن إبراهيم النخعي وحده فظهر بهذا فساد أصولهم الفاسدة التي ذكرنا، وأنها لا معنى لها، وإنما هي اعتراض على الحق بالباطل ونعوذ بالله من الخذلان.
1869 - مسألة: ولو أن رجلا تزوج امرأتين فأرضعتهما امرأة رضاعا محرما حرمتا جميعا وانفسخ نكاحهما، إذ صارتا بذلك الرضاع أختين، أو عمة وبنت أخ، أو خالة وبنت أخت، أو حريمة امرأة له؛ لأنهما معا حدث لهما التحريم، فلم تكن إحداهما أولى بالفسخ من الأخرى.
وكذلك لو دخل بهما فأرضعت إحداهما الأخرى رضاعا محرما، ولا فرق، فلو لم يدخل بهما فأرضعت إحداهما الأخرى رضاعا محرما انفسخ نكاح التي صارت أما للأخرى وبقي نكاح التي صارت لها ابنة صحيحا؛ لأن الله تعالى قال: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} فصارت بنت امرأته التي لم يدخل بها، ولا هي في حجره، فثبت نكاحها، وصارت الأخرى من أمهات نسائه، فحرمت جملة وبالله تعالى نتأيد.
1870 - مسألة: وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو: ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط.
فأما من سقي لبن امرأة فشربه من إناء، أو حلب في فيه فبلعه؛ أو أطعمه بخبز، أو في طعام، أو صب في فمه، أو في أنفه، أو في أذنه، أو حقن به: فكل ذلك لا يحرم شيئا، ولو كان ذلك غذاءه دهره كله.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}، وقال رسول الله ﷺ: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فلم يحرم الله تعالى، ولا رسوله ﷺ في هذا المعنى نكاحا، إلا بالإرضاع والرضاعة والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع يقال أرضعته ترضعه إرضاعا. ولا يسمى رضاعة، ولا إرضاعا إلا أخذ المرضع، أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه تقول: رضع يرضع رضاعا ورضاعة.
وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعا، ولا رضاعة، ولا رضاعا، إنما هو حلب وطعام وسقاء، وشرب وأكل وبلع، وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئا.
فإن قالوا: قسنا ذلك على الرضاع والإرضاع قلنا: القياس كله باطل، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل، وبالضرورة يدري كل ذي فهم أن الرضاع من شاة أشبه بالرضاع من امرأة؛ لأنهما جميعا رضاع من الحقنة بالرضاع، ومن السعوط بالرضاع، وهم لا يحرمون بغير النساء فلاح تناقضهم في قياسهم الفاسد، وشرعهم بذلك ما لم يأذن به الله عز وجل.
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في هذا: فقال الليث بن سعد: لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء؛ لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي. هذا نص قول الليث، وهذا قولنا، وهو قول أبي سليمان، وأصحابنا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلت إلى عطاء أسأله عن سعوط اللبن للصغير وكحله به أيحرم قال: ما سمعت أنه يحرم.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: لا يحرم الكحل للصبي باللبن، ولا صبه في العين أو الأذن، ولا الحقنة به، ولا مداواة الجائفة به، ولا المأمومة به، ولا تقطيره في الإحليل قالوا: فلو طبخ طعام بلبن امرأة حتى صار مرقة نضجة، وكان اللبن ظاهرا فيها غالبا عليها بلونه وطعمه، فأطعمه صغيرا لم يحرم ذلك عليه نكاح التي اللبن منها، ولا نكاح بناتها.
وكذلك لو ثرد له خبز في لبن امرأة فأكله كله لم يقع بذلك تحريم أصلا فلو شربه كان محرما كالرضاع.
وأما الخلاف في ذلك فإنه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: السعوط والوجور يحرمان كتحريم الرضاع. وقد تناقضوا في هذا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وروينا عن الشعبي: أن السعوط والوجور يحرمان.
قال أبو محمد: احتج أهل هذه المقالة بأن قالوا: صح عن رسول الله ﷺ، أنه قال: إنما الرضاعة من المجاعة. قالوا: فلما جعل عليه الصلاة والسلام الرضاعة المحرمة ما استعمل لطرد الجوع كان ذلك موجودا في السقي والأكل .
فقلنا: هذا لا حجة لكم فيه لوجهين: أحدهما أن المعنى الذي ذكرتم لا يوجد في السعوط؛ لأنه لا يرفع به شيء من الجوع، فإن لجوا وقالوا: بل يدفع.
قلنا: لأصحاب أبي حنيفة: إن حظ السعوط من ذلك كحظ الكحل والتقطير في العين باللبن سواء بسواء؛ لأن كل ذلك واصل إلى الحلق إلى الجوف، فلم فرقتم بين الكحل به وبين السعوط به هذا وأنتم تقولون: إن من قطر شيئا من الأدهان في أذنه وهو صائم فإنه يفطر، وكذلك إن احتقن فإن كان ذلك يصل إلى الجوف فلم يحرموا به في اللبن يحقن بها أو يكتحل به وإن كان لا يصل إلى الجوف فلم فطرتم به الصائم وهذا تلاعب لا خفاء به.
وقال مالك: إن جعل لبن المرأة في طعام وطبخ وغاب اللبن أو صب في ماء فكان الماء هو الغالب فسقي الصغير ذلك الماء أو أطعم ذلك الطعام لم يقع به التحريم.
وأيضا فإنهم يحرمون بالنقطة تصل إلى جوفه وهي لا تدفع عندهم شيئا من المجاعة فظهر خلافهم للخبر الذي موهوا بأنهم يحتجون به. والوجه الثاني: أن هذا الخبر حجة لنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة ولم يحرم بغيرها شيئا فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل أو شرب أو وجور أو غير ذلك، إلا أن يكون رضاعة كما قال رسول الله ﷺ: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. فإن موهوا بما روينا من طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج أنا عبد الكريم أن سالم بن أبي الجعد مولى الأشجعي حدثه أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب فقال: إني أردت أن أتزوج امرأة وقد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به فقال له علي: لا تنكحها ونهاه عنها. وكان علي بن أبي طالب يقول: إن سقته امرأته من لبن سريته، أو سقته سريته من لبن امرأته لتحرمها عليه فلا يحرمها ذلك.
قال أبو محمد: هذا عليهم لا لهم؛ لأن فيه رضاع الكبير والتحريم به وهم لا يقولون بذلك، وفيه أن رضاع الضرائر لا يحرم عند علي وهم لا يقولون بهذا.
محلى ابن حزم - المجلد الخامس/كتاب الرضاع |
كتاب الرضاع (مسألة 1867 - 1870) | كتاب الرضاع (مسألة 1871 - 1872) | كتاب الرضاع (مسألة 1873 - 1874) |