→ كتاب اللقطة والضالة والآبق | ابن حزم - المحلى كتاب اللقطة والضالة والآبق (مسألة 1383) المؤلف: ابن حزم |
كتاب اللقطة والضالة والآبق (تتمة مسألة 1383) ← |
كتاب اللقطة والضالة والآبق
1383 - مسألة : من وجد مالا في قرية - أو مدينة ، أو صحراء في أرض العجم ، أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون إلا أن عليه علامة أنه من ضرب مدة الإسلام - أو وجد مالا - قد سقط - أي مال كان - : فهو لقطة ، وفرض عليه أخذه ، وأن يشهد عليه عدلا واحدا فأكثر ، ثم يعرفه ولا يأتي بعلامته ، لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع الذي يرجو وجود صاحبه فيها أو لا يرجو : من ضاع له مال فليخبر بعلامته ، فلا يزال كذلك سنة قمرية ، فإن جاء من يقيم عليه بينة ، أو من يصف عفاصه ويصدق في صفته ، ويصف وعاءه ويصدق فيه ، ويصف رباطه ويصدق فيه ، ويعرف عدده ويصدق فيه ، أو يعرف ما كان له من هذا . أما العدد ، والوعاء ، إن كان لا عفاص له ولا وكاء ، أو العدد إن كان منثورا في غير وعاء - : دفعها إليه - كانت له بينة أو لم تكن . ويجبر الواجد على دفعه إليه ولا ضمان عليه بعد ذلك . ولو جاء من يثبته ببينة فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا ولا بينة فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد - غنيا كان أو فقيرا يفعل فيه ما شاء ، ويورث عنه ، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له - إن كان حيا ، أو ضمنه له الورثة - إن كان الواجد له ميتا . فإن كان ما وجد شيئا واحدا كدينار واحد ، أو درهم واحد ، أو لؤلؤة واحدة ، أو ثوب واحد ، أو أي شيء كان كذلك لا رباط له ، ولا وعاء ، ولا عفاص - : فهو للذي يجده من حين يجده ويعرفه أبدا طول حياته ، فإن جاء من يقيم عليه بينة قط : ضمنه له فقط - هو أو ورثته بعده - وإلا فهو له ، أو لورثته يفعل فيه ما شاء من بيع أو غيره ، وكذلك ورثته بعده ولا يرد ما أنفذوا فيه . فإن كان ذلك في حرم مكة حرسها الله تعالى ، أو في رفقة قوم ناهضين إلى العمرة أو الحج : عرف أبدا ، ولم يحل له تملكه ، بل يكون موقوفا - فإن يئس بيقين عن معرفة صاحبه فهو في جميع مصالح المسلمين . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا عبيد الله بن موسى العبسي عن شيبان عن يحيى - هو ابن أبي كثير - أخبرني أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - أخبرني أبو هريرة قال { : خطب رسول الله ﷺ عام فتح مكة فقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها نبيه والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار ، ألا وإنها ساعتي هذه حرام ، لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد } . قال أبو محمد : مكة هي الحرم كله فقط ، وهي ذات الحرمة المذكورة ، لا ما عدا الحرم بلا خلاف - . ورويناه أيضا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أيضا . ومن طريق مسلم ني أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي : أن رسول الله ﷺ { نهى عن لقطة الحاج } قال أبو محمد : الحج في اللغة هو القصد ، ومنه سميت المحجة محجة ، فالقاصد من بيته إلى الحج أو العمرة هو فاعل للقصد الذي هو الحج إلى أن يتم جميع أعمال حجه أو عمرته لقول رسول الله ﷺ : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } فإذا تمت فليس حاجا ، لكنه كان حاجا ، وقد حج - وبالله تعالى التوفيق . وروينا هذا عن عمر بن الخطاب ، وابن المسيب . روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل - هو ابن أبي عقرب - عن أبيه أنه أصاب بدرة بالموسم على عهد عمر بن الخطاب فعرفها فلم يعرفها أحد فأتى بها عمر عند النفر وقال له : قد عرفتها فأغنها عني قال : ما أنا بفاعل قال : يا أمير المؤمنين فما تأمرني ؟ قال : أمسكها حتى توافي بها الموسم قابلا ففعل ، فعرفها فلم يعرفها أحد ، فأتى بها عمر فأخبره : أنه قد وافاه بها كما أمره ، وعرفها فلم يعرفها أحد ، وقال له : أغنها عني ؟ قال له عمر : ما أنا بفاعل ، ولكن إن شئت أخبرتك بالمخرج منها ، أو سبيلها : إن شئت تصدقت بها ، فإن جاء صاحبها خيرته ، فإن اختار المال رددت عليه المال ، وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان لك نيتك فهذا فعل عمر في لقطة الموسم . وفعل في لقطة غير الموسم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية أن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني أخبره ، أن أباه عبد الله - قال إسماعيل : وقد سمعت أن له صحبة - أقبل من الشام فوجد صرة فيها ذهب مائة فأخذها ، فجاء بها إلى عمر بن الخطاب ؟ فقال له عمر : انشدها الآن على باب المسجد ثلاثة أيام ، ثم عرفها سنة ، فإن اعترفت ، وإلا فهي لك ، قال : فعلت فلم تعرف ، فقسمتها بين امرأتين لي . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن قتادة قال : كنت أطوف بالبيت فوطئت على ذهب ، أو فضة ، فلم آخذه ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ؟ فقال : بئس ما صنعت ، كان ينبغي لك أن تأخذه تعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه رددته إليه ، وإلا تصدقت به على ذي فاقة ممن لا تعول .
وقال في لقطة غير الحرم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية : أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره أنه قال لسعيد بن المسيب : وجدت لقطة أفأتصدق بها ؟ قال : لا تؤجر أنت ولا صاحبها ، قلت : أفأدفعها إلى الأمراء ؟ قال : إذا يأكلونها أكلا سريعا قلت : وكيف تأمرني ؟ قال : عرفها سنة ، فإن اعترفت وإلا فهي لك كمالك فهذا سعيد بن المسيب يقول : بإيجاب أخذ اللقطة ولا بد ، ويراها بعد الحول قد صارت من مال الملتقط ، إلا لقطة مكة . وقولنا في لقطة مكة هو قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، نا بذلك أحمد بن محمد بن الجسور قال : نا محمد بن عيسى بن رفاعة نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي بذلك - وعن أبي عبيد من قوله . وأما ما عدا لقطة الحرم ، والحاج ، فلما روينا من طريق أبي داود نا مسدد نا خالد - هو الحذاء - عن أبي العلاء - هو يزيد بن عبد الله بن الشخير - عن مطرف - هو ابن عبد الله بن الشخير - عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله ﷺ { من أخذ لقطة فليشهد ذا عدل ، أو ذوي عدل ، ولا يكتم ، ولا يغيب ، فإن وجد صاحبها فليردها عليه ، وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من شاء } . ورويناه من طريق هشيم عن خالد الحذاء بإسناده فقال : { فليشهد ذوي عدل } . قال أبو محمد : وزاد مسدد كما ذكرنا وليس شكا ، ولا يجوز أن يحمل شيء مما روي عن النبي ﷺ على أنه شك إلا بيقين أنه شك ، وإلا فظاهره الإسناد . ومن طريق حماد عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله ﷺ { سئل عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها وعدتها ووعاءها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وإلا فهي لك } . ومن طريق مسلم حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح نا ابن وهب نا الضحاك بن عثمان عن أبي النضر - هو مولى عمر بن عبيد الله - عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني قال { سئل رسول الله ﷺ عن اللقطة ؟ فقال : عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ، ثم كملها فإن جاء صاحبها فأدها إليه } . ومن طريق حماد بن سلمة نا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة أن أبي بن كعب قال له : أنه سأل النبي ﷺ عن اللقطة ؟ فقال له رسول الله ﷺ : { اعرف عددها ، ووكاءها ، ووعاءها ، ثم استمتع بها ، فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها ووعاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك } وأما الشيء الواحد الذي لا وكاء له ، ولا عفاص ، ولا وعاء فلأن رسول الله ﷺ إنما أمر بتعريف السنة فيما له عدد ، وعفاص ، ووكاء ، أو بعض هذه - فأما ما لا عفاص له ، ولا وعاء ، ولا وكاء ، ولا عدد : فهو خارج من هذا الخبر ، وحكمه في حديث عياض بن حمار : فحكمه أن ينشد ذلك أبدا لقوله عليه السلام { لا يكتم ولا يغيب } ولقوله عليه السلام { هو مال الله يؤتيه من يشاء } فقد آتاه الله واجده روينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن رافع نا حجين بن المثنى نا عبد العزيز - هو ابن أبي سلمة - الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل قال : كان سويد بن غفلة ، وزيد بن صوحان وثالث معهما في سفر فوجد أحدهم - هو سويد بلا شك - سوطا فأخذه ، فقال له صاحباه : ألقه فقال : أستمتع به فإن جاء صاحبه أديته إليه خير من أن تأكله السباع - فلقي أبي بن كعب فذكر ذلك له فقال : أصبت وأخطآ - ففي هذا أن أبي بن كعب رأى وجوب أخذ اللقطة . قال أبو محمد : فيما ذكرنا اختلاف ، فمن ذلك أن قوما قالوا : لا تؤخذ اللقطة أصلا ، وقال آخرون : مباح أخذها وتركها مباح ، فأما من نهى عن أخذها فلما ذكرنا آنفا . وكما روينا عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن جعفر بن ربيعة أن الوليد بن سعد حدثه قال : كنت مع ابن عمر فرأيت دينارا فذهبت لآخذه فضرب ابن عمر يدي وقال : ما لك وله اتركه . ومن طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس لا ترفع اللقطة لست منها في شيء ، تركها خير من أخذها . ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى سئل سعيد بن جبير عن الفاكهة توجد في الطريق ؟ قال : لا تؤكل إلا بإذن ربها . وعن الربيع بن خيثم أنه كره أخذ اللقطة . وعن شريح أنه مر بدرهم فتركه . وقال أبو حنيفة ، ومالك : كلا الأمرين مباح ، والأفضل أخذها . وقال الشافعي مرة : أخذها أفضل - ومرة قال : الورع تركها . قال أبو محمد : أما من أباح كلا الأمرين فما نعلم له حجة أصلا ، فإن حملوا أمره عليه السلام بأخذها على الندب ؟ قيل لهم : فاحملوا أمره بتعريفها على الندب ولا فرق . فإن قالوا : أموال الناس محرمة ؟ قلنا : وإضاعتها محرمة ولا فرق . وأما من منع من أخذها ؟ فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فقلنا لهم : نعم ، وما أمرناه باستحلالها أصلا ، لكن أمرناه بالمفترض عليه من حفظها وترك إضاعتها المحرمة عليه ، ثم جعلناها له حيث جعلها له الذي حرم أموالنا علينا إلا بما أباحها لنا ، لا يجوز ترك شيء من أوامره ﷺ فهو أولى بنا من أنفسنا ، وقد كفر من وجد في نفسه حرجا مما قضى . واحتجوا أيضا بحديث المنذر بن جرير عن أبيه عن النبي ﷺ : { لا يأوي الضالة إلا ضال } وبحديث أبي مسلم الجرمي - أو الحرمي - عن الجارود عن النبي ﷺ قال : { ضالة المسلم حرق النار } . وهذان خبران لا يصحان ؛ لأن المنذر بن جرير ، وأبا مسلم الجرمي أو الحرمي - غير معروفين ، لكن { ضالة المسلم حرق النار } قد صح من طريق أخرى وهذا لفظ مجمل فسره سائر الآثار - وهو خبر رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه سأل رسول الله ﷺ عن ضوال الإبل ؟ فقال عليه السلام : { ضالة المسلم حرق النار } وهم أول مخالف ، فأمروا بأخذ ضوال الإبل ، ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة ؛ لأن إيواء الضالة بخلاف ما أمر به النبي ﷺ حرق النار ، وضلال بلا شك ، وما أمرناه قط بإيوائها مطلقا ، لكن بتعريفها وضمانها في الأبد ، وقد جاء بهذا حديث أحسن من حديثهم : كما روينا من طريق ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي سالم الجيشاني عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله ﷺ [ أنه قال ] : { من أخذ لقطة فهو ضال ما لم يعرفها } .
ومنها مدة التعريف ، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد ، ثم سنة - وبه يقول الليث بن سعد . ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا يزيد بن محمد بن عبد الصمد نا علي بن عياش نا الليث - هو ابن سعد - حدثني من أرضى عن إسماعيل بن أمية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ عن النبي ﷺ أنه قال - وقد سئل عن الضالة - : { اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ، وإن لم يأت فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وهذا حديث هالك ؛ لأن الليث لم يسم من أخذ عنه وقد يرضى الفاضل من لا يرضى ، هذا سفيان الثوري يقول : لم أر أصدق من جابر الجعفي - وجابر مشهور بالكذب . ثم هو خطأ ؛ لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد وإنما هو عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد . ووجه آخر كما روينا من طريق حماد بن سلمة نا يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن معاوية بن عبد الله بن بدر قال : وجد أبي في مبرك بعير مائة دينار فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك ؟ فقال له : عرفها عاما ، فعرفها عاما فلم يجد لها عارفا ؟ فقال له عمر : عرفها ثلاثة أعوام ، فلم يجد لها عارفا ، فقال له عمر : هي لك . ويحتج لهذا بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن قدامة نا جرير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال : قال لي أبي بن كعب : { التقطت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها رسول الله ﷺ فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ، فقلت : يا رسول الله قد عرفتها حولا فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم قلت : يا رسول الله عرفتها سنة فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم أخبرته عليه السلام بذلك ، فقال : انتفع بها واعرف وكاءها وخرقتها واحص عددها فإن جاء صاحبها } قال جرير : لم أحفظ ما بعد هذا . وهكذا رويناه من طريق زيد بن أبي أنيسة ، وعبيد الله بن عمر الرقيين كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ . قال أبو محمد : هذا حديث ظاهره صحة السند ، إلا أن سلمة بن كهيل أخطأ فيه بلا شك ؛ لأننا رويناه من طريق حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : فلم أجد لها عارفا عامين أو ثلاثة . وروينا من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فقال فيه : { عرفها عاما } قال : فعرفتها ، فلم تعترف ، فرجعت فقال : { عرفها عاما مرتين أو ثلاثا } فهذا شك من سلمة بن كهيل . ثم رويناه من طريق مسلم بن الحجاج قال : حدثني أبو بكر بن نافع نا غندر نا شعبة عن سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة قال : لقيت أبي بن كعب فذكر . الحديث وأن رسول الله ﷺ قال له : { عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ، ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال : عرفها حولا فلم أجد من يعرفها } ، وذكر باقي الحديث : قال شعبة : فلقيته بعد ذلك بمكة فقال : لا أدري ثلاثة أحوال أو حول واحد فهذا تصريح من سلمة بن كهيل بالشك ، والشريعة لا تؤخذ بالشك . ورويناه أيضا من طريق مسلم حدثني عبد الرحمن بن بشر العبدي نا بهز - هو ابن أسد - نا شعبة نا سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة فاقتص الحديث - قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا . فصح أن سلمة بن كهيل تثبت واستذكر ، فثبت على عام واحد ، بعد أن شك ، فصح أنه وهم ثم استذكر ، فشك ثم استذكر فتيقن ، وثبت وجوب تعريف العام وبطل تعريف ما زاد - والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : وههنا أثران آخران - أحدهما : رويناه من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر - هو ابن أبي ميسرة - عن شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { أن عليا جاء إلى رسول الله ﷺ بدينار وجده في السوق فقال النبي ﷺ عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعترفه فقال له النبي ﷺ : كله فذكر الحديث كله - وفي آخره فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام } لهذا الحديث قال أبو محمد : لا ندري من كلام من هذه الزيادة ، وهذا خبر سوء لأنه من طريق ابن أبي سبرة وهو مشهور بوضع الحديث والكذب ، عن شريك وهو مدلس يدلس المنكرات عن الضعفاء إلى الثقات . وروي من طريق إسرائيل عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة عن أبيها أن رسول الله ﷺ قال : { من التقط لقطة يسيرة درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام } وهذا لا شيء : إسرائيل ضعيف ، وعمر بن عبد الله مجهول ، وحكيمة عن أبيها أنكر وأنكر ، ظلمات بعضها فوق بعض . قال أبو محمد : روينا عن مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، والأوزاعي تعريف اللقطة سنة - وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة ، وقد روي عنه خلافه . وروي عن عمر بن الخطاب أيضا : تعريف اللقطة ثلاثة أشهر . وروي أيضا عنه من طريق شريك عن أبي يعقوب العبدي عن أبي شيخ العبدي عن زيد بن صوحان العبدي أن عمر أمر أن يعرف قلادة التقطها أربعة أشهر ، فإن جاء من يعرفها وإلا وضعها في بيت المال - فهذه عن عمر رضي الله عنه خمسة أقوال . وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري من التقط درهما فإنه يعرفه أربعة أيام وقال الحسن بن حي ، وأبو حنيفة في رواية هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن الحسن عنه : أن ما بلغ عشرة دراهم فصاعدا فإنه يعرف سنة . واختلفا فيما كان أقل فقال الحسن بن حي : يعرف ثلاثة أيام . وقال أبو حنيفة : يعرف على قدر ما يرى الملتقط - وهذه آراء فاسدة كما ترى ، ومنها : دفع اللقطة إلى من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء فقال مالك ، وأبو سليمان كما قلنا . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يدفعها إليه بذلك ، فإن فعل ضمنها ؛ لأنه قد يسمع صاحبها يصفها فيعرف صفتها فيأتي بها - . واحتجوا في ذلك بأن رسول الله ﷺ أوجب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، ونهى عن أن يعطى أحد بدعواه . وقال عليه السلام : { شاهداك أو يمينه ليس لك غير ذلك } . قال أبو محمد : هذا كله حق ، والذي قاله هو الذي أمر بأن تعطى اللقطة من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء ، وليس كلامه متعارضا ، ولا حكمه متناقضا ، ولا يحل ضرب بعضه ببعض ، ولا ترك بعضه وأخذ بعض ، فكله حق ، وكله وحي من عند الله عز وجل ، وهم مجمعون معنا على أن المدعى عليه إن أقر قضي عليه بغير بينة ، فقد جعلوا للمدعي شيئا غير الشاهدين أو يمين المدعى عليه . فإن قالوا : قد صح الحكم بالإقرار ؟ قلنا : وقد صح دفع اللقطة بأن يصف المدعي وكاءها ، وعددها ، وعفاصها ووعاءها ، ولا فرق ، وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ، ولا تؤخذ من خبر واحد ، ولكن تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها ، ولو أن الحنفيين اعترضوا أنفسهم بهذه الاعتراضات في قبولهم امرأة واحدة في عيوب النساء ، والولادة ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا في حكمهم للزوجين يختلفان في متاع البيت أن ما أشبه أن يكون للرجال كان للرجل مع يمينه ، وما أشبه أن يكون للنساء كان للمرأة بيمينها بغير بينة ، ولا يحكمون بذلك في الأخت والأخ يختلفان في متاع البيت الذي هما فيه ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في قولهم : إن من ادعى لقيطا هو وغيره فأتى بعلامات في جسده قضي له به ، ولا يقضون بذلك فيمن ادعى مع آخر عبدا فأتى أحدهما بعلامات في جسده ؟ وفي قولهم : لو أن مستأجر الدار تداعى مع صاحب الدار في جذوع موضوعة في الدار وأحد مصراعين في الدار : أن تلك الجذوع إن كانت تشبه الجذوع التي في البناء والمصراع القائم كان كل ذلك لصاحب الدار بلا بينة - وسائر تلك التخاليط التي لا تعقل ، ثم لا يبالون بمعارضة أوامر رسول الله ﷺ بآرائهم الفاسدة . وأما الشافعي فإنه قضى في القتيل يوجد في محلة أقوام أعداء له أن المدعين بقتله عليه يحلفون خمسين يمينا ثم يقضى لهم بالدية فأعطاهم بدعواهم . فإن قالوا : إن السنة جاءت بهذا ؟ قلنا لهم : والسنة جاءت بدفع اللقطة إلى من عرف عفاصها ، ووكاءها ، وعددها ، ووعاءها - ولا فرق . وقالوا : قد قال رسول الله ﷺ { فإن جاء صاحبها فأدها إليه } قلنا : نعم ، وصاحبها هو الذي أمر عليه السلام بدفعها إليه إذا وصف ما ذكرنا . وأما قولهم : قد يسمعها متحيل ؟ فيقال لهم : وقد تكذب الشهود ولا فرق . وقالوا : قد قال أبو داود السجستاني : هذه الزيادة - فإن عرف عفاصها ووكاءها ، وعددها ، فادفعها إليه - : غير محفوظة . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، ولا يجوز أن يقال فيما رواه الثقات مسندا : هذا غير محفوظ - ولا يعجز أحد عن هذه الدعوى فيما شاء من السنن الثوابت . وقد أخذ الحنفيون بزيادة جاءت في حديث حماد بن سلمة في الزكاة - وهي ساقطة غير محفوظة - ولو صح إسنادها ما قلنا فيه : غير محفوظ . وأخذوا بخبر الاستسعاء ، وقد قال من هو أجل من أبي داود : وليس الاستسعاء محفوظا وإنما هو من كلام ابن أبي عروبة . وأخذوا بالخبر { من ملك ذا رحم محرمة فهو حر } وجمهور أصحاب الحديث يقولون : إنه غير محفوظ . وأخذ الشافعي في زكاة الفطر باللفظة التي ذكرها من لا يعتد به { ممن تعولون } وهي بلا شك ساقطة غير محفوظة - ولو صحت من طريق الإسناد ما استحللنا أن نقول فيها : غير محفوظة . ثم نقول : أخطأ أبو داود في قوله : هي غير محفوظة - بل هي محفوظة ؛ لأنها لو لم يروها إلا حماد بن سلمة وحده لكفى ، لثقته وإمامته - وكيف وقد وافقه عليها سفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي ﷺ . وسفيان أيضا عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ فبطل قول من قال : هي غير محفوظة ، بل هي مشهورة محفوظة .
محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب اللقطة والضالة والآبق |
كتاب اللقطة والضالة والآبق (مسألة 1383) | كتاب اللقطة والضالة والآبق (تتمة مسألة 1383) |