الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة السابعة والستون

ابن حزم - المحلى كتاب اللقطة والضالة والآبق (تتمة مسألة 1383)
المؤلف: ابن حزم


كتاب اللقطة والضالة والآبق

ومنها تملك اللقطة بعد الحول - : روينا قولنا عن عمر بن الخطاب ، وغيره ، كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا أبو عبيدة بن أبي السفر نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن عمرو ، وعاصم : ابني سفيان بن عبد الله عن أبيهما : أنه التقط عيبة فأتى بها عمر بن الخطاب فأمره أن يعرفها حولا ، ففعل ، ثم أخبره فقال : هي لك ، إن رسول الله ﷺ أمرنا بذلك ، قلت : لا حاجة لي بها ، وأمر بها فألقيت في بيت المال . وقد صح عن عمر من طرق جمة ، وعن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ ومن طريق ابن عمر : أنه رأى تمرة مطروحة في السكة فأخذها فأكلها . وعن علي بن أبي طالب : أنه التقط حب رمان فأكله . وعن ابن عباس من وجد لقطة من سقط المتاع : سوطا ، أو نعلين ، أو عصا ، أو يسيرا من المتاع ، فليستمتع به ولينشده ، فإن كان ودكا فليأتدم به ولينشده ، وإن كان زادا فليأكله ولينشده ، فإن جاء صاحبه فليغرم له . وهو قول روي أيضا عن طاوس ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد وعطاء في أحد قوليه ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهم - وقالت طائفة : يتصدق بها ، فإن عرفت خير صاحبها بين الأجر والضمان . روينا ذلك أيضا : عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، قال : لا آمرك أن تأكلها - وعن طاوس أيضا ، وعكرمة - وهو قول أبي حنيفة ، والحسن بن حي ، وسفيان واحتج هؤلاء بما روي من طريق البزار نا خالد بن يوسف نا أبي نا زياد بن سعد نا سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال { سئل رسول الله ﷺ عن اللقطة ؟ فقال : لا تحل اللقطة ، فمن التقط شيئا فليعرفه سنة ، فإن جاء صاحبه فليرده إليه ، وإن لم يأت فليتصدق به ، فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له } . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ؛ لأن يوسف بن خالد ، وأباه ، مجهولان - ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ، لأن قول لا تحل اللقطة حق ، ولا تحل قبل التعريف ، وأمره بالصدقة بها مضموم إلى أمره عليه السلام باستنفاقها وبكونها من جملة ماله ، إذ لو صح هذا لكان بعض أمره عليه السلام أولى بالطاعة من بعض ، ولا يحل مخالفة شيء من أوامره عليه السلام لآخر منها ، بل كلها حق واجب استعماله ، ونحن لم نمنع واجدها من الصدقة بها إن أراد فيحتج علينا بهذا ؟ فبطل تعلقهم بهذا الخبر لو صح ، فكيف وهو لا يصح ؟ فإن ادعوا إجماعا على الصدقة بها كذبوا ، لما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره أنه قال لسعيد بن المسيب : وجدت لقطة أفأتصدق بها ؟ قال : لا تؤجر أنت ولا صاحبها ؟ قلت : أفأدفعها إلى الأمراء ؟ قال : إذا يأكلونها أكلا سريعا ، قلت : فكيف تأمرني ؟ قال : عرفها سنة فإن اعترفت ، وإلا فهي لك . والعجب أن بعضهم احتج لمذهبه الخطأ في هذا بقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . قال علي : احتجاج هذا الجاهل بهذه الآية في هذا المكان دليل على رقة دينه ، إذ جعل ما أمر به رسول الله ﷺ باطلا ، ولو كان له دين لما عارض حكم رسول الله ﷺ . ولو أنه جعل هذه المعارضة لقولهم الملعون : أن الغاصب لدور المسلمين وضياعهم يسكنها ويكريها ، فالكراء له حلال ، واحتراث ضياعهم له حلال لا يلزمه في ذلك شيء . وقولهم : من اشترى شيئا شراء فاسدا فقد ملكه ملكا فاسدا وأباحوا له التصرف فيما اشترى بالباطل بالوطء ، والعتق ، وسائر أقوالهم الخبيثة لكانوا قد وافقوا . ثم أعجب شيء أمرهم بالصدقة بها ، فإن جاء صاحبها ضمنوا المساكين إن وجدوهم ، فعلى أصلهم هو أيضا أكل مال بالباطل . وأي فرق بين أن يأكلها الواجد وضمانها عليه ، وبين أن يأكلوها المساكين وضمانها عليهم ؟ فإن لم يوجدوا فعليه ، ولئن كان أحد الوجهين أكل مال بالباطل فإن الآخر أكل مال بالباطل ، ولا فرق ، ولئن كان أحدهما أكل مال بحق ، فإن الآخر أكل مال بالحق ، ولا فرق ، إذ الضمان في العاقبة في كلا الوجهين ، ولكنهم قوم لا يعقلون . واحتجوا بما ذكرنا قبل : أنه لا يصح من ضالة المسلم حرق النار ، ولا يأوي الضالة إلا ضال ، ولو صحا لكانا عليهم أعظم حجة ؛ لأنهم يبيحون أخذ ضوال الإبل التي فيها ورد النص المذكور ، فاعجبوا لهذه العقول وأعجب شيء احتجاجهم ههنا برواية خبيثة رواها أبو يوسف عن عبد الملك بن العرزمي عن سلمة بن كهيل : أن أبي بن كعب ، ثم ذكر باقي الحديث ، وأن رسول الله ﷺ قال له : { فإنك ذو حاجة إليها } . قال أبو محمد : هذا منقطع لأن سلمة لم يدرك أبيا ، ثم العرزمي ضعيف جدا ، وأبو يوسف لا يبعد عنه ، فمن أضل ممن يرد ما رواه سفيان الثوري ، وحماد بن سلمة ، كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ ويأخذ بما رواه أبو يوسف المغموز عن العرزمي الضعيف عن سلمة عن أبي وهو لم يلق أبيا قط ، ففي مثل هذا فليعتبر أولو الأبصار . ثم لو صحت لهم هذه الزيادة التي لا تصح لما كان لهم فيها حجة ؛ لأنه ليس فيها إلا إباحة اللقطة للمحتاج ولسنا ننكر هذا ، بل هو قولنا ، وليس فيها منع الغني منها لا بنص ولا بدليل . ثم العجب كله ردهم كلهم في هذا المكان نفسه حديث علي بن أبي طالب في التقاطه الدينار وإباحة رسول الله ﷺ له استنفاقه بأن قالوا هو مرسل ، ورواه شريك - وهو ضعيف - فالمرسل الذي يرويه الضعيف لا يجوز الأخذ به إذا خالف رأي أبي حنيفة ، والمرسل الذي رواه العرزمي - وهو الغاية في الضعف - لا يجوز تركه إذا وافق رأي أبي حنيفة ، والله لتطولن ندامة من هذا سبيله في دينه يوم لا يغني الندم عنه شيئا ، وما هذه طريق من يدين بيوم الحساب ، لكنه الضلال والإضلال - نعوذ بالله من الخذلان . ثم قد كذبوا ، بل قد روي حديث علي من غير طريق شريك ، وأسند من طريق أبي داود نا جعفر بن مسافر التنيسي نا ابن أبي فديك نا موسى بن يعقوب الزمعي - هو موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة - عن أبي حازم عن سهل بن سعد أخبره : { أن علي بن أبي طالب وجد الحسين والحسن يبكيان من الجوع ، فخرج فوجد دينارا بالسوق ، فجاء به إلى فاطمة فأخبرها ؟ فقالت له : اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقا ؟ فذهب إلى اليهودي فاشترى به دقيقا ؟ فقال اليهودي : أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم قال : فخذ دينارك ولك الدقيق ، فخرج علي حتى جاء به فاطمة ، فأخبرها فقالت له اذهب إلى فلان الجزار فخذ لنا بدرهم لحما فذهب فرهن الدينار بدرهم لحم ، فجاء به فعجنت ونصبت وخبزت ، وأرسلت إلى النبي ﷺ فجاءهم ؟ فقالت له : يا رسول الله أذكر لك ، فإن رأيته لنا حلالا أكلنا وأكلت معنا من شأنه كذا وكذا ؟ فقال عليه السلام كلوا باسم الله ، فأكلوا ، فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله تعالى والإسلام الدينار ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعي له فسأله فقال : سقط مني في السوق ، فقال رسول الله ﷺ : يا علي اذهب إلى الجزار فقل له : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك : أرسل إلي بالدينار ، ودرهمك علي ، فأرسل به ، فدفعه رسول الله ﷺ بلا بينة . } قال أبو محمد : هذا خبر خير من خبرهم ، وهو عليه السلام ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي الله عنهم - : لا تحل لهم الصدقة أغنياء كانوا أو فقراء . وقد أباح في هذا الخبر شراء الدقيق بالدينار ، فإنما أخذه ابتياعا ، ثم أهدى إليه اليهودي الدينار ، وكذلك رهن الدينار في اللحم ، والخبر الصحيح يكفي من كل هذا . روينا من طريق البخاري نا محمد بن يوسف نا سفيان عن منصور بن المعتمر عن طلحة بن مصرف عن أنس بن مالك قال { مر رسول الله ﷺ بتمرة مطروحة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها } فهذا رسول الله ﷺ غني لا فقير بشهادة الله تعالى له إذ يقول : { ووجدك عائلا فأغنى } يستحل أكل اللقطة ، وإنما توقع أن تكون من الصدقة . فقال بعضهم : هذا على تحقيق الصفة أنها من الصدقة لأنها لقطة - وهذا كلام إنسان عديم عقل وحياء ودين ؛ لأنه كلام لا يعقل ، وخلاف لمفهوم لفظ رسول الله ﷺ وكذب مجاهر به ، بارد غث - وأعجب شيء قول بعضهم : قد صح الإجماع على أنه لا يعطيها غنيا غيره ، فكان هو كذلك . قال أبو محمد : لا شيء أسهل من الكذب المفضوح عند هؤلاء القوم ، ثم كذبهم إنما هو على الله تعالى ، وعلى رسوله ﷺ وعلى جميع أهل الإسلام وعلى العقول ، والحواس ، ليت شعري متى أجمع معهم على هذا ، ومن أجمع معهم على هذا ، أبقية الجندل ، والكثكث وأين وجدوا هذا الإجماع ؟ بل كذبوا في ذلك وإذا أدخلت اللقطة في ملكه بانقضاء الحول الذي عرفها فيه ، فإن أعطاها غنيا ، أو أغنياء ، أو قارون - لو وجده حيا - أو سليمان - رسول الله ﷺ لو كان في عصره لكان ذلك مباحا لا شيء من الكراهية فيه . وقالوا : قد شك يحيى بن سعيد في أمر الملتقط بأن يستنفقها ، أهو من قول يزيد مولى المنبعث ؟ أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وقطع مرة أخرى على أنه من قول يزيد قلنا : وقد أسنده يحيى أيضا - وهذا كله صحيح فيه ؛ لأنه سمعه مرة مسندا ، وسمع يزيد يقول : من فتياه أيضا . ثم يقول : لكن ربيعة لم يشك في أنه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك أيضا لم يشك بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . روى مالك ، وسفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وروى حماد بن سلمة عن ربيعة عن يزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وروى حماد بن سلمة عن ربيعة عن يزيد عن زيد بن خالد عن النبي عليه السلام : { فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وإلا فهي لك } . وروى سفيان بن عيينة : أن ربيعة أخبره أن يزيد مولى المنبعث حدثه عن زيد بن خالد { عن النبي عليه السلام أنه سئل عن اللقطة ؟ فقال : عرفها سنة ، فإن اعترفت وإلا فاخلطها بمالك . } ورويناه من طريق سعيد بن منصور نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - سمعت ربيعة يحدث عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن رسول الله ﷺ فذكر الحديث ، وفي آخره : { فإن جاء صاحبها فأدها إليه وإلا فاصنع بها ما تصنع بمالك } . ورواه أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اللقطة قال : { عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ، ووكاءها ، ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه } . ورواه حماد بن سلمة نا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة : أن أبي بن كعب قال له : { قال رسول الله ﷺ له في اللقطة : فإن جاء صاحبها فعرف عددها ، ووكاءها ، ووعاءها فأعطها إياه ، وإلا فهي لك } . وعلى هذا دل حديث عياض بن حمار ، وأبي هريرة ، لا مثل تلك الملفقات المكذوبة من مرسل ، ومجهول ، ومن لا خير فيه - . وبالله تعالى التوفيق . وقد جاء خبر من طريق لا يزال المخالفون يحتجون بها إذا وافقتهم - : روينا من طريق ابن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال : كيف ترى ما وجد في الطريق الميتاء ، أو في القرية المسكونة ؟ قال : عرف سنة ، فإن جاء باغيه فادفعه إليه وإلا فشأنك به ، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ، وما كان في الطريق غير الميتاء ، وفي القرية غير المسكونة : ففيه ، وفي الركاز : الخمس } . وأما نحن فهذه صحيفة لا نأخذ بها ، فهذا حكم اللقطة من غير الحيوان . وأما الضوال من الحيوان فلها ثلاثة أحكام - : أما الضأن والمعز فقط - كبارها وصغارها - توجد بحيث يخاف عليها الذئب ، أو من يأخذها من الناس ، ولا حافظ لها ، ولا هي بقرب ماء منها : فهي حلال لمن أخذها سواء جاء صاحبها ، أو لم يجئ ، وجدها حية ، أو مذبوحة ، أو مطبوخة ، أو مأكولة - لا سبيل له عليها .

وأما الإبل القوية على الرعي ، وورود الماء : فلا يحل لأحد أخذها ، وإنما حكمها : أن تترك ولا بد ، فمن أخذها ضمنها - إن تلفت عنده بأي وجه تلفت - وكان عاصيا بذلك ، إلا أن يكون شيء من كل ما ذكرنا من لقطة ، أو ضالة ، يعرف صاحبها ، فحكم كل ذلك أن ترد إليه ولا تعرف في ذلك . وأما كل ما عدا ما ذكرنا من إبل لا قوة بها على ورود الماء والرعي وسائر البقر ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، والصيود كلها ، المتملكة ، والأباق من العبيد والإماء ، وما أضل صاحبه منها ، والغنم التي تكون ضوال بحيث لا يخاف عليها الذئب ، ولا إنسان ، وغير ذلك - كله - ففرض أخذه وضمه وتعريفه أبدا ، فإن يئس من معرفة صاحبها أدخلها الحاكم أو واجدها في جميع مصالح المسلمين - وبالله تعالى التوفيق . سواء كان كل ما ذكرنا مما أهمله صاحبه لضرورة ، أو لخوف ، أو لهزال أو مما ضل ولا فرق . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق البخاري نا قتيبة بن سعيد نا إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن اللقطة ؟ فقال : عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها ، فإن جاء ربها فأدها إليه ؟ فقال : يا رسول الله فضالة الغنم ؟ قال : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ، قال : يا رسول الله فضالة الإبل ؟ فغضب عليه السلام حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه وقال : ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها } . ومن طريق البخاري نا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس نا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يزيد مولى المنبعث أنه سمع زيد بن خالد الجهني يقول : { سئل رسول الله ﷺ كيف ترى في ضالة الغنم ؟ فقال النبي ﷺ : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب فقال : كيف ترى في ضالة الإبل ؟ قال : دعها ، فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها } فأمر عليه السلام بأخذ ضالة الغنم التي يخاف عليها الذئب أو العادي ويترك الإبل التي ترد الماء وتأكل الشجر ، وخصها بذلك دون سائر اللقطات والضوال فلا يحل لأحد خلاف ذلك . قال أبو محمد : وأما ما عرف ربه فليس ضالة ؛ لأنها لم تضل جملة ، بل هي معروفة وإنما الضالة ما ضلت جملة فلم يعرفها صاحبها أين هي ؟ ولا عرف واجدها لمن هي ، وهي التي أمر عليه السلام بنشدها . وبقي حكم الحيوان كله حاشا ما ذكرنا موقوفا على قول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ومن البر والتقوى إحراز مال المسلم أو الذمي . وقال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يحل لأحد من مال أحد إلا ما أحله الله تعالى ورسوله ﷺ . روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : كتب عمر بن الخطاب إلى عماله لا تضموا الضوال فلقد كانت الإبل تتناتج هملا وترد المياه لا يعرض لها أحد حتى يأتي من يعترفها فيأخذها ، حتى إذا كان عثمان كتب : أن ضموها وعرفوها ؟ فإن جاء من يعرفها وإلا فبيعوها وضعوا أثمانها في بيت المال ، فإن جاء من يعترفها فادفعوا إليها الأثمان . ومن طريق ابن وهب أخبرني أنس بن عياض عن سلمة بن وردان سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن الشاة توجد بالأرض التي ليس بها أحد ، فقال لي : عرفها من دنا لك ، فإن عرفت فادفعها إلى من عرفها وإلا فشاتك وشاة الذئب فكلها . ومن طريق وكيع حدثنا سلمة بن وردان قال : سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن ضالة الإبل ؟ فقال : معها سقاؤها وحذاؤها دعها إلا أن تعرف صاحبها فتدفعها إليه . وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر : وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته قال : جاءت امرأة إلى عائشة أم المؤمنين فقالت : إني وجدت شاة ؟ فقالت : اعلفي واحلبي وعرفي ، ثم عادت إليها ثلاث مرات ، فقالت : تريدين أن آمرك بذبحها . ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن زيد بن جبير : أنه سمع ابن عمر يقول لرجل سأله عن ضالة وجدها ؟ فقال له ابن عمر : أصلح إليها وانشد ، قال : فهل علي إن شربت من لبنها ؟ قال : ما أرى عليك في ذلك . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : تؤخذ ضالة الإبل كما تؤخذ غيرها . وقال الشافعي : ما كان من الخيل ، والبقر ، والبغال ، قويا يرد الماء ، ويرعى لم يؤخذ قياسا على الإبل ، وما كان منها ومن سائر الحيوان لا يمتنع أخذ . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : من أخذ ضالة من الغنم فعليه ضمانها إن أكلها - وقال مالك : أما ضالة الغنم فما كان بقرب القرى فلا يأكلها ، ولكن يضمنها إلى أقرب القرى ، فيعرفها هنالك ، وأما ما كان في الفلوات والمهامه ، فإنه يأكلها أو يأخذها ، فإن جاء صاحبها فوجدها حية فهو أحق بها ، وإن وجدها مأكولة فلا شيء له ، ولا يضمنها له واجدها الذي أكلها . واختلف أصحابه فيها إن وجدها مذبوحة لم تؤكل بعد . قال : وأما البقر فإن خيف عليها السبع فحكمها حكم الغنم ، وإن لم يخف عليها السبع فحكمها حكم الإبل يترك كل ذلك ولا يعترض له ولا يؤخذ . وأما الخيل ، والبغال ، والحمير ، فلتعرف ثم يتصدق بها . قال أبو محمد : أما تقسيم مالك فخطأ ؛ لأنه لم يتبع النص ، إذ فرق بين أحوال وجود ضالة الغنم ، وليس في النص شيء من ذلك ، وكذلك تفريقه بين وجود الشاة صاحبها حية أو مأكولة ، فليس في الخبر شيء من ذلك أصلا - لا بنص ولا بدليل ولا القياس طرد - ولا قول متقدم التزم ؛ لأن القياس أن لا يبيح الشاة لواجدها أصلا ، كما لا يبيح سائر اللقطات ، إلا إن كان فقيرا بعد تعريف عام - ولا نعلم فروقه هذه عن أحد قبله ، ولا نعلم لقوله حجة أصلا . وأما أبو حنيفة فإنه خالف أمر رسول الله ﷺ كله جهارا فمنع من الشاة جملة ، وأمر بأخذ ضالة الإبل - وقد غضب رسول الله ﷺ من ذلك غضبا احمر له وجهه - ونعوذ بالله من ذلك ، فأما هو - يعني أبا حنيفة - فيعذر لجهله بالآثار ، وأما هؤلاء الخاسرون فوالله ما لهم عذر ، بل هم قد أقدموا على ما أغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علانية ، فحصلوا في جملة من قال الله تعالى فيهم : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } فما أخوفنا عليهم من تمام الآية لأن الحجة قد قامت عليهم . فإن قالوا : إن الأموال حرام على غير أهلها ، وواجب حفظها ، فلا نأخذ بخلاف ذلك بخبر واحد ؟ قلنا لهم : قد أخذتم بذلك الخبر بعينه فيما أنكرتموه نفسه فأمرتم بإتلافها بالصدقة بها بعد تعريف سنة ، فمرة صار عندكم الخبر حجة ، ومرة صار عندكم باطلا ، وهو ذلك الخبر بعينه فما هذا الضلال ؟ وقد روينا لهم عن أم المؤمنين ، وابن عمر : إباحة شرب لبن الضالة ، وهم لا يقولون بذلك . وأما الشافعي فنقض أصله ولم ير أخذ الشاة ، وأقحم في حكم الخبر ما ليس فيه ، فألحق بالإبل ما لم يذكر في النص ، وجعل ورود الماء ، ورعي الشجر علة قاس عليها ، ولا دليل له على صحة ذلك ، وإن الشاة لترد الماء ، وترعى ما أدركت من الشجر ، كما تفعل الإبل ، ويمتنع منها ما لم تدركه ، كما يمتنع على الإبل ما لا تدركه ، وإن الذئب ليأكل البعير كما يأكل الشاة ، ولا منعة عند البعير منه ، وإنما يمتنع منه البقر فقط - هذا أمر معلوم بالمشاهدة . وقالوا : قول النبي ﷺ { هي لك أو لأخيك أو للذئب } ليس تمليكا للذئب ، فكذلك ليس تمليكا للواجد ؟ فقلنا : هذا باطل من قولكم ، لأن الذئب لا يملك والواجد يملك ، والواجد مخاطب ، والذئب ليس مخاطبا ، وقد أمر الواجد بأخذها ، فزيادتكم كاذبة مردودة عليكم - وبالله تعالى التوفيق . فظهر سقوط هذه الأقوال كلها بتيقن ، وأن كل واحد منهم أخذ ببعض الخبر وجعله حجة وترك بعضه ولم يره حجة . واختلفوا في ذلك : فأخذ هذا ما ترك هذا ، وترك هذا ما أخذ الآخر ، وهذا ما لا طريق للصواب إليه أصلا - وبالله تعالى التوفيق . ولئن كان الخبر حجة في موضع فإنه لحجة في كل ما فيه ، إلا أن تأتي مخالفة له بناسخ متيقن ، وإن كان ليس حجة في شيء منه فكله ليس حجة ، والتحكم في أوامر رسول الله ﷺ لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق .