الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الرابعة والعشرون


كتاب الأشربة

1099 - مسألة : كل شيء أسكر كثيره أحدا من الناس فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير : خمر حرام - : ملكه ، وبيعه ، وشربه ، واستعماله على أحد - وعصير العنب ، ونبيذ التين ، وشراب القمح ، والسيكران ، وعصير كل ما سواها ونقيعه ، وشرابه - طبخ كل ذلك أو لم يطبخ - ذهب أكثره أو أقله سواء في كل ما ذكرنا ولا فرق . وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان وغيرهم - وفي هذا اختلاف قديم وحديث بعد صحة الإجماع على تحريم الخمر قليلها وكثيرها - : فروينا عن طائفة أنها قالت : شراب البسر وحده خمر محرمة . وقالت طائفة : الرطب ، والبسر إذا خلطا ، فشرابهما خمر محرمة ، وكذلك التمر والبسر إذا خلطا . وقالت طائفة : عصير العنب إذا أسكر ، ونقيع الزبيب إذا أسكر ، ولم يطبخا : هي الخمر المحرمة قليلها وكثيرها ، [ وكل ] ما عدا ذلك حلال ما لم يسكر منه . وقالت طائفة : لا خمر إلا عصير العنب إذا أسكر ما لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه فهو حرام قليله وكثيره ، فإذا طبخ كذلك فليس خمرا بل هو حلال أسكر أو لم يسكر . وأما كل شراب ما عدا عصير العنب المذكور فهو حلال أسكر أو لم يسكر كنقيع الزبيب وغيره طبخ كل ذلك أو لم يطبخ إلا أن السكر منه حرام . وقالت طائفة : كل ما عصر من العنب ، ونبيذ الزبيب ، ونبيذ التمر ، والرطب ، والبسر ، والزهو ، فلم يطبخ ، فكل خمر محرمة قليلها وكثيرها ، فإن طبخ عصير العنب حتى ذهب ثلثاه وطبخ سائر ما ذكرنا فهو حلال أسكر أو لم يسكر ، إلا أن السكر منه حرام . وكل نبيذ وعصير ما سوى ما ذكرنا فحلال أسكر أو لم يسكر طبخ أو لم يطبخ والسكر أيضا منه ليس حراما . فأما من رأى شراب البسر وحده خمرا - : فروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان نا يزيد [ قال ] أنا حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال : البسر وحده حرام قال أحمد بن شعيب : وأنا أبو بكر بن علي المقدمي نا القواريري هو عبيد الله بن عمر - نا حماد هو ابن زيد - نا أيوب هو السختياني - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نبيذ البسر بحتا لا يحل - وروي هذا القول أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجابر بن زيد . وروي عن ابن عباس أنه كان يجلد فيه كما يجلد في الخمر - وما نعلم لهذا القول حجة أصلا ، بل قد صح عن النبي ﷺ إبطاله - : كما روينا من طريق عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن مسلم العبدي نا أبو المتوكل عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ { من شربه منكم فليشرب كل واحد منه فردا ، تمرا فردا ، أو بسرا فردا ، أو زبيبا فردا } . والقول الثاني - رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محارب بن دثار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : البسر ، والرطب : خمر - يعني إذا جمعا . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري ، وشعبة ، كليهما عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال : البسر ، والتمر : خمر وحجة هذا القول هو صحة نهي النبي ﷺ عن خلط البسر مع التمر ، أو مع الرطب . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذا الخبر ، لوجهين - : أحدهما : أن النبي ﷺ قد نهى عن الجمع بين غير هذه الأنواع ، فلا معنى لتخصيص هذه خاصة بالتحريم دون سائر ما نهى عليه السلام عنه . روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر قال { إن النبي ﷺ نهى عن خليط التمر ، والزبيب ، والبسر ، والرطب } . ومن طريق الليث بن سعد عن عطاء عن جابر قال { نهى رسول الله ﷺ أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا ، وأن ينبذ البسر والتمر جميعا } . ونهى أيضا عليه السلام عن أن يجمع غير هذه كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . ووجه آخر - : وهو أنه ليس كل محرم خمرا ، الدم حرام ، وليس خمرا ، ولبن الخنزير حرام وليس خمرا ، والبول حرام وليس خمرا ، فهذان اللذان نهى النبي ﷺ عن جمعهما حرام وليست خمرا إلا أن تسكر ، ولا معنى لتسميتهما إذا جمعا خمرا . فإن قيل : فقد صح عن النبي ﷺ { الزبيب والتمر هو الخمر } فما قولكم فيه ؟ قلنا : قد صح بالنص والإجماع المتيقن إباحة التمر وإباحة الزبيب ، وإباحة نبيذهما غير مخلوطين ، كما ذكرنا آنفا وأن ذلك لم ينسخ قط . فصح أن هذا الخبر ليس على ظاهره ، فإذ لا شك في هذا فإنما يكون خمرا إذا جاء نص مبين لهذه الجملة ، وليس ذلك إلا إذا أسكر نبيذهما كما بين عليه السلام في خبر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى { إن كل مسكر خمر } فسقط هذا القول أيضا . والقول الثالث : من تخصيص عصير العنب ونبيذ الزبيب بالتحريم ما لم يطبخا دون سائر الأنبذة والعصير فقول صح عن أبي حنيفة - وهو الأشهر عنه - إلا أنه لا يعتمد مقلدوه عليه ، ولا يشتغلون بنصره ، ولا نعلم له أيضا حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ضعيفة ، ولا دليل إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا رأي ، ولا قياس - فسقط - ولله الحمد . والقول الرابع : من تخصيص عصير العنب بالتحريم ما لم يطبخ ، فهو قول اختاره أبو جعفر الطحاوي . واحتج من ذهب إليه بأخبار أضيفت إلى النبي ﷺ وأخبار عن الصحابة ، ودعوى إجماع - فأما الأخبار عن النبي ﷺ فكلها لا خير فيها - على ما نبين إن شاء الله تعالى . ثم لو صحت لما كان شيء منها موافقا لهذا القول ؛ فلاح أن إيرادهم لها تمويه محض - وكذلك الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، إلا أن منها ما لا يصح ولا يوافق ما ذهبوا إليه فإيرادهم لها تمويه .

ومنها شيء يصح ويظن من لا ينعم النظر أنه يوافق ما ذهبوا إليه - على ما نورد إن شاء الله تعالى - ولا حجة في قول صاحب قد خالفه غيره منهم . وأما دعوى الإجماع فإنهم قالوا : قد صح الإجماع على تحريم عصير العنب إذا أسكر ، واختلف فيما عداه - فلا يحرم شيء باختلاف . قال أبو محمد : وهذا قول في غاية الفساد لأنه يبطل عليهم جمهور أقوالهم ، ويلزمهم أن لا يوجبوا زكاة إلا حيث أوجبها إجماع ، ولا فريضة حج أو صلاة إلا حيث صح الإجماع على وجوبها ، وأن لا يثبتوا الربا إلا حيث أجمعت الأمة على أنه ربا - ومن التزم هذا المذهب خرج عن دين الإسلام بلا شك لوجهين - : أحدهما : أنه مذهب مفترى لم يأمر الله تعالى به قط ولا رسوله عليه السلام ؛ وإنما أمر الله تعالى باتباع القرآن ، وسنة النبي ﷺ وأولي الأمر باتباع الإجماع ، ولم يأمر تعالى قط بأن لا يتبع إلا الإجماع ، ولا قال تعالى قط ، ولا رسوله عليه السلام : لا تأخذوا مما اختلف فيه إلا ما أجمع عليه - ومن ادعى هذا فقد افترى على الله الكذب وأتى بدين مبتدع وبالضلال المبين . إنما قال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } وقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ولم يقل تعالى : فردوه إلى الإجماع ، فمن رد ما تنوزع فيه إلى الإجماع لا إلى نص القرآن والسنة فقد عصى الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى . وأما نحن فنتبع الإجماع فيما صح أنهم أجمعوا عليه ولا نخالفه أصلا ، ونرد ما تنوزع فيه إلى القرآن ، والسنة ، فنأخذ ما فيهما وإن لم يجمع على الأخذ به - وبهذا أمر الله تعالى في القرآن ورسوله ﷺ وعليه أجمع أهل الإسلام وما نعلم أحدا قال قط : لا ألتزم في شيء من الدين إلا ما أجمع الناس عليه ؛ فقد صاروا بهذا الأصل مخالفين للإجماع بلا شك . والوجه الثاني : أنه مذهب يقتضي أن لا يلتفت للقرآن والسنن إذا وجد الاختلاف في شيء من أحكامهما ، وليس هذا من دين الإسلام في شيء مع أنه في أكثر الأمر كذب على الأمة وقول بلا علم . وأيضا فإنهم لا يلتزمون هذا الأصل الفاسد إلا في مسائل قليلة جدا - وهو مبطل لسائر مذاهبهم كلها فعاد عليهم - وبالله تعالى التوفيق . وأما الأخبار : فمنها خبر صح عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والمسكر من كل شراب - : ورويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا أبو نعيم الفضل بن دكين عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس - ولا حجة لهم فيه ، لأننا رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا الحسين بن منصور نا أحمد بن حنبل نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها ، والمسكر من كل شراب وشعبة بلا خلاف أضبط وأحفظ من أبي نعيم . وقد روى فيه زيادة على ما روى أبو نعيم ، وزيادة العدل لا يحل تركها ، وليس في رواية أبي نعيم ما يمنع من تحريم غير ما ذكرنا في روايته إذا جاء بتحريمه نص صحيح . وقد صح من طريق ابن عباس تحريم المسكر جملة - وصح عنه كما ذكرنا آنفا تحريم نبيذ البسر بحتا فسقط تعلقهم بهذا الخبر . ومنها : خبر رويناه من طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه { فانتبذوا فيها - يعني في الظروف - فإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرم ولا تسكروا } وأن عمر قال له { يا رسول الله ما قولك : كل مسكر حرام ؟ قال : اشرب ، فإذا خفت فدع } . وخبر : من طريق أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ { اشربا ولا تسكرا } وكلاهما لا حجة لهم فيه . وأما خبر ابن عباس : فإنه من طريق المشمعل بن ملحان وهو مجهول عن النضر بن عبد الرحمن خزاز بصري يكنى أبا بكر - منكر الحديث ضعفه البخاري وغيره ، وقال فيه ابن معين : لا تحل الرواية عنه - ولو صح لم يكن لهم فيه حجة ، لأن فيه النهي عن السكر ويكون قوله { فإذا خفت فدع } أي إذا خفت أن يكون مسكرا - فسقط التعلق به . وأما خبر أبي موسى : فلا يصح لأنه من طريق شريك عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ وشريك مدلس وضعيف فسقط . وقد رواه الثقات بخلاف هذا - : كما روينا من طريق عمر بن دينار ، وزيد بن أبي أنيسة ، وشعبة بن الحجاج ، كلهم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال { : كل مسكر حرام ، كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام ، أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة } فهذا هو الحق الثابت لا رواية كل ضعيف ، ومدلس ، وكذاب ، ومجهول . وخبر رويناه عن أبي بردة عن النبي ﷺ { اشربوا في الظروف ولا تسكروا } - وهذا لا يصح لأنه من رواية سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة وسماك يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة ، وغيره . ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأنه إنما فيه النهي عن السكر وليس فيه مانع من تحريم ما يصح تحريمه مما لم يذكر في هذا الخبر . وقد صح تحريم كل ما أسكر كما ذكرنا من أصح طريق ولله الحمد . وخبر : من طريق سوار بن مصعب ، وسعيد بن عمارة ، قال سوار : عن عطية العوفي عن أبي سعيد ، وقال سعيد : عن الحارث بن النعمان عن أنس ، ثم اتفق أبو سعيد وأنس قالا عن النبي ﷺ : { حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب } وسوار مذكور بالكذب ، وعطية هالك ، والحارث ، وسعيد مجهولان لا يدرى من هما ثم لو صح لم تكن فيه حجة لأن رواية شعبة عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس التي ذكرنا آنفا زائدة على هذه الرواية ، وزيادة العدل لا يجوز ردها . وخبر : روي فيه { أنه عليه السلام قال لعبد القيس اشربوا ما طاب لكم } رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن ملازم بن عمرو عن عجيبة بن عبد الحميد عن عمه قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا لا حجة فيه لوجوه - : أولها : أنه من رواية عجيبة بن عبد الحميد وهو مجهول لا يدرى من هو - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن ما طاب لنا هو ما أحل لنا كما قال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } فليس في شيء من هذا إباحة ما قد صح تحريمه . وخبر : رويناه من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ : أنه { نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء } وقال : { كل مسكر حرام } قالوا : فقد فرق عليه السلام بين الكوبة ، والغبيراء ، والخمر ، فليسا خمرا . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق الوليد بن عبدة وهو مجهول - وأما كونه حجة عليهم فإنه لو صح لكان عليه السلام قد ساوى بين كل ذلك في النهي والخمر وسائر الأشربة سواء في النهي عنها وهذا خلاف قولهم . وأيضا : فليس التفريق في بعض المواضع في الذكر دليلا على أنهما شيئان متغايران فقد قال تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } لم يكن هذا موجبا أنهما عليهما السلام ليسا من الملائكة . وهكذا إذا صح أن الخمر هي كل مسكر لم يكن ذكر الخمر والكوبة والغبيراء مانعا من أن تكون الكوبة والغبيراء خمرا - وقد صح { أن كل مسكر خمرا } وأيضا : ففي آخر هذا الحديث { كل مسكر حرام } وهذا خلاف قولهم - فما رأينا أقبح مجاهرة من احتجاجهم بما هو حجة عليهم ؟ وخبر : رويناه من طريق { ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بنبيذ فوجده شديدا فرده فقيل : أحرام هو ؟ قال : فاسترده ثم دعا بماء فصبه فيه مرتين ثم قال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء } . ومن طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله ، وفيه أنه عليه السلام قال : { إذا اشتد عليكم فاكسروه بالماء } ومثله من طريق أبي مسعود وكل هذا لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم ، لأن خبر ابن عمر هو من طريق عبد الملك بن نافع وعبد الملك ابن أخي القعقاع كلاهما عن ابن عمر مسندا ، وكلاهما مجهول وضعيف سواء كانا اثنين أو كانا إنسانا واحدا ، ثم هو عنهما من طريق أسباط بن محمد القرشي ، وليث بن أبي سليم ، وقرة العجلي ، والعوام ؛ وكلهم ضعيف . وأما خبر ابن عباس : فهو من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس - ويزيد ضعيف ، وقد روينا عنه في الروايات السود خبرا موضوعا على النبي ﷺ ليس فيه أحد يتهم غيره - وقد ضعفه شعبة ، وأحمد ، ويحيى . وأما خبر أبي مسعود فهو من طريق يحيى بن يمان ، وعبد العزيز بن أبان وكلاهما متفق على ضعفه - ثم لو صحت لكانت أعظم حجة عليهم ، لأن فيها كلها أن النبي ﷺ مزجه بالماء ثم شربه - وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين - : إما أن لا يكون ذلك النبيذ مسكرا فهي كلها موافقة لقولنا . وإما أن يكون مسكرا كما يقولون ، فإن كان مسكرا فصب الماء على المسكر عندهم لا يخرجه عندهم عن التحريم إلى التحليل ، ولا ينقله عن حاله أصلا إن كان قبل صب الماء حراما فهو عندهم بعد صبه حرام . وإن كان قبل صبه حلالا فهو بعد صبه حلال ، وإن كان قبل صبه مكروها فهو بعد صبه مكروه ، فقد خالفوه كلها وجعلوا فعل النبي ﷺ الذي حققوه عليه باطلا عندهم ولغوا لا معنى له ، وهذا كما ترى . وإن كان صب الماء نقله عن أن يكون مسكرا إلى أن لا يكون مسكرا فلا متعلق لهم فيه حينئذ أصلا ، لأنه إذا لم يكن مسكرا فلا نخالفهم في أنه حلال - فعاد عليهم جملة . وخبر : من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { اشربوا ما طاب لكم فإذا خبث فذروه } وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأنه من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب - وكلاهما ساقط . ثم لو صح لكان حجة قاطعة عليهم ؛ لأن معنى " إذا خبث " إذا أسكر ، لا يحتمل غير هذا أصلا ، وإلا فليعرفونا ما معنى { إذا خبث فذروه } . وخبر : من طريق علي { عن النبي ﷺ : أنه أتي بمكة بنبيذ فذاقه فقطب ورده ؟ فقيل له : يا رسول الله هذا شراب أهل مكة ؟ قال : فرده فصب عليه الماء حتى رغا ، قال : حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب } . وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه من طريق محمد بن الفرات الكوفي - وهو ضعيف باتفاق - مطرح - ثم عن الحارث - وهو كذاب . ومن طريق شعيب بن واقد وهو مجهول عن قيس بن قطن ولا يدرى من هو - ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن الكلام فيه كالكلام فيه من طريق ابن عباس وقد ذكرناه . وخبر : من طريق سمرة { عن النبي ﷺ أنه أذن في النبيذ بعدما نهى عنه } - ولا حجة فيه لأنه من طريق المنذر أبي حسان - وهو ضعيف - ثم لو صح لكان معناه أذن في النبيذ في الظروف بعدما نهى عنه ، وهذا حق وليس فيه أنه عليه السلام نهى عن الخمر ، ثم أذن فيها - وقد صح أنه عليه السلام قال : { كل مسكر خمر } فبطل تعلقهم به - ولله الحمد . وخبر : عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ قال : كل مسكر حرام فقال له رجل : إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا ؟ قال : ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر لا بأس وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام } وهذا لا حجة لهم فيه لأنه فضيحة الدهر موضوع بلا شك - : رواه أبو بكر بن عياش : ضعيف - عن الكلبي : كذاب مشهور - عن أبي صالح : هالك . وخبر : فيه النهي عن النبيذ في الجرار الملونة والأمر بأن ينبذ في السقاء فإذا خشي فليسجه بالماء - فهذا من طريق أبان وهو الرقاشي ، وهو ضعيف - ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ، بل هو حجة عليهم ، لأن فيه إذا خشي فليسجه بالماء ، ومعناه إذا خشي أن يسكر بإجماعهم معنا - لا يحتمل غير هذا أصلا ، فإذا سج بالماء بطل إسكاره - وهذا لا نخالفهم فيه وليس فيه أن بعد إسكاره يسج إنما فيه " إذا خشي " وهذا بلا شك قبل أن يسكر . وخبر مرسل : من طريق سعيد بن المسيب أن النبي ﷺ قال : { الخمر من العنب ، والسكر من التمر ، والمزر من الحنطة ، والبتع من العسل ، وكل مسكر حرام ، والمكر والخديعة في النار ، والبيع عن تراض } ، وهذا لا شيء ، لأنه لا حجة في مرسل - ثم هو أيضا من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وهو مذكور بالكذب ، ثم لو صح لكان حجة عليهم لأن فيه { كل مسكر حرام } وهو خلاف قولهم وليس في قوله { إن الخمر من العنب } مانع من أن تكون من غير العنب أيضا إذا صح بذلك نص . وقد صح قوله عليه السلام { كل مسكر خمر } فسقط تعلقهم به . وخبر : من طريق سفيان الثوري عن علي بن بذيمة عن قيس بن حبتر النهشلي عن ابن عباس { أن النبي ﷺ نهى عن الدباء والمزفت ، وأمر بأن ينبذ في الأسقية ، قالوا : فإن اشتد في الأسقية يا رسول الله قال : فصبوا عليه الماء ، وقال لهم في الثالثة أو الرابعة : أهريقوه فإن الله حرم الخمر ، والميسر ، والكوبة ، وكل مسكر حرام } ، فهذا من طريق قيس بن حبتر - وهو مجهول ثم لو صح لكان أعظم حجة لنا عليهم ، لأنه مخالف كله لقولهم ، موافق لقولنا في الأمر بهرقه ، وقوله { وكل مسكر حرام } كفاية لمن كان له مسكة عقل فاعجبوا لقوم يحتجون بما هو نص مخالف لقولهم إن الحياء ههنا لعدم ؟ وخبر من طريق أبي القموص زيد بن علي عن رجل من عبد القيس - نحسب أن اسمه قيس بن النعمان أن النبي ﷺ قال : { اشربوا في الجلد الموكى عليه فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن أعياكم فأهريقوه } أبو القموص مجهول - ثم لو صح لكان حجة قاطعة موافقة لقولنا مفسدة لقولهم بما فيه من الأمر بهرقه إن لم يقدر على إبطال شدته بالماء .