الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الرابعة والثلاثون


كتاب النذور

1116 - مسألة : وهذا بخلاف من قال : لله تعالى علي عتق رقبة ، أو قال : بدنة ، أو قال : مائة درهم ، أو شيء من البر ، هكذا لم يعينه - : فإن هذا كله نذر لازم ؛ لأنه لم ينذر شيئا من ذلك في شيء لا يملكه ؛ لأن الذي نذر ليس معينا فيكون مشارا إليه مخبرا عنه ، فإنما نذر عتقا في ذمته ، أو صدقة في ذمته . برهان هذا - : قول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } ثم لامهم عز وجل إذ لم يفوا بذلك إذ آتاهم من فضله - : فخرج هذا على ما التزم في الذمة جملة ، وخرج نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النذر فيما لا يملك على ما نذر في معين لا يملكه . ويدخل في القسم اللازم من نذر عتق أول عبد يملكه ، أو أول ولد تلده أمته ، وفي هذا نظر ؟ ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه { أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة ، وحمل على مائة بعير قال حكيم : فقلت : يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسلمت على ما أسلفت لك من الخير ؟ قال حكيم : قلت : فوالله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله } فهذا نذر من حكيم في عتق مائة رقبة ، وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فلم ينكره كما أنكر نذر الأنصارية نحر الناقة التي لم تملكها - فصح أن ذلك النهي إنما هو في المعين ، وأن الجائز هو غير المعين ، وإن لم يكن في ملكه حينئذ ؛ لأنه في ذمته . وأما من قال علي نذر ولم يسم شيئا فكفارة يمين ولا بد ، لا يجزيه غير ذلك - : لما روينا من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن شماسة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { كفارة النذر كفارة يمين } . قال أبو محمد : قد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } وقوله صلى الله عليه وآله وسلم { : لا وفاء لنذر في معصية الله } . وأمره من نذر أن يصوم ولا يستظل ولا يقعد ولا يتكلم : بأن يصوم ويطرح ما سوى ذلك - ونهيه عن اليمين بغير الله تعالى ولم نجد نذرا في العالم يخرج عن هذه الوجوه . وقد بين عليه السلام لكل وجه حكمه ، فكان من استعمل في أحد تلك الوجوه كفارة يمين فقد أخطأ ؛ لأنه زاد في ذلك ما لم يأت به نص في ذلك الوجه ، فوجب حمل هذا الخبر على ما لا يحال به حكم تلك النصوص عن أحكامها - : فوجدناه إذا حمل على ظاهره صح حكمه ، وهو من نذر نذرا فقط كما في نص الخبر ولم يجز أن يلزم شيئا من أعمال البر لم يلتزمها ولا جاء بالتزامه إياها نص - وبالله تعالى التوفيق . وسواء قال علي نذر ، أو قال : إن تخلصت مما أنا فيه فعلي نذر ، وسواء تخلص أو لم يتخلص : عليه كل ذلك كفارة يمين ولا بد - وبالله تعالى التوفيق . وروينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الرجل يقول : علي حرام ، علي نذر ؟ قال : اعتق رقبة ، أو صم شهرين متتابعين ، أو أطعم ستين مسكينا . قال سعيد : ونا سفيان هو ابن عيينة - عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : النذر أغلظ اليمين ، وفيها أغلظ الكفارة : عتق رقبة - وكلاهما صحيح عن ابن عباس ، ولا نعلم له مخالفا من الصحابة . وممن قال : فيه يمين كقولنا : الشعبي ، رويناه عن طريق سفيان بن عيينة : عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

1117 - مسألة : ومن قال في النذر اللازم الذي قدمنا : إلا أن يشاء الله ، أو إن شاء الله ، أو إلا أن يشاء الله ، أو ذكر الإرادة مكان المشيئة ، أو إلا إن بدل الله ما في نفسي ، أو إلا أن يبدو لي أو نحو هذا من الاستثناء ووصله بكلامه ، فهو استثناء صحيح ، ولا يلزمه ما نذر ، لقول الله تعالى { : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } ولأنه إذا علق نذره بكل ما ذكرنا فلم يلتزمه ؛ لأن الله تعالى لو شاء تمامه لأنفذه دون استثناء . وقد علمنا أنه إذا لم يكن فإن الله تعالى لم يرد كونه . وهو لم يلتزمه إلا إن أراد الله تعالى كونه ، فإذ لم يرد الله تعالى كونه فلم يلتزمه ، وكذلك إن بدا له - وبالله تعالى التوفيق

1118 - مسألة : ونذر الرجل ، والمرأة البكر ذات الأب ، وغير ذات الأب ، وذات الزوج ، وغير ذات الزوج ، والعبد ، والحر ، سواء في كل ما ذكرنا ؛ لأن أمر الله تعالى بالوفاء بالنذر وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك عموم لم يخص من ذلك أحد من أحد { وما كان ربك نسيا } . ومن الباطل الممتنع أن يكون الله تعالى يريد تخصيص بعض ما ذكرنا فلا يبينه لنا ، هذا أمر قد أمناه - ولله الحمد - إلا الصيام وحده فليس للمرأة أن تصوم غير الذي فرضه الله تعالى عليها إلا بإذن زوجها على ما ذكرنا في " كتاب الصيام " وبالله تعالى التوفيق .

1119 - مسألة : ومن نذر ما لا يطيق أبدا لم يلزمه ، لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وكذلك من نذر نذرا في وقت محدود فجاء ذلك الوقت - وهو لا يطيقه - فإنه غير لازم له ، لا حينئذ ، ولا بعد ذلك .

1120 - مسألة : ومن نذر في حالة كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به لقول الله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } فحض الله تعالى على فعل الخير ، وأوجبه لفاعله ، ثم على الإيمان ، وعلى فعل الخير فيه أيضا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يطيع الله فليطعه } . وهو عليه السلام مبعوث إلى الجن والإنس ، وطاعته فرض على كل مؤمن وكافر ، من قال غير هذا فليس مسلما - : وهذه جملة لم يختلف فيها أحد ممن يدعي الإسلام - ثم نقضوا في التفصيل - : روينا من طريق مسلم نا حسن الحلواني نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب أنا عروة بن الزبير { أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة ، أو عتاقة ، أو صلة رحم ، أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسلمت على ما أسلفت من خير } . نا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر { عن عمر قال : نذرت نذرا في الجاهلية فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرني أن أوفي بنذري } . نا حمام نا أبو محمد الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص هو ابن غياث - عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن { عمر قال : نذرت نذرا في الجاهلية ثم أسلمت فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرني أن أوفي بنذري } . فهذا حكم لا يسع أحدا الخروج عنه . وقال مالك : لا يلزمه - واحتج له مقلدوه بقول الله تعالى { : لئن أشركت ليحبطن عملك } وقوله تعالى { : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } . قال أبو محمد : لا حجة لهم في هذا ؛ لأن هذا كله إنما نزل فيمن مات كافرا بنص كل آية منهما قال تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } . ثم هم أول من ينقض هذه الحجة فيجيزون : بيعهم ، وابتياعهم ، ونكاحهم ، وهباتهم ، وصدقاتهم ، وعتقهم - وبالله تعالى التوفيق . ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة يقول : { بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد وذكر الحديث . وفيه أن ثمامة أسلم بعد أن أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا محمد ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني ، وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر } . فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام بإتمام نيته . وروينا عن طاوس من نذر في كفره ، ثم أسلم فليوف بنذره - وعن الحسن ، وقتادة نحوه - وبهذا يقول الشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهما .

1121 - مسألة : ومن نذر لله صوم يوم يقدم فيه فلان ، أو يوم يبرأ أو ينطلق فكان ذلك ليلا أو نهارا لم يلزمه في ذلك اليوم شيء ؛ لأنه إن كان ليلا فلم يكن ما نذر فيه ، وإن كان نهارا فقد مضى وقت الدخول في الصوم إلا أن يقول : لله علي صوم اليوم الذي أنطلق فيه ، أو أن يكون كذا في الأبد ، أو مدة يسميها ، فيلزمه صيام ذلك اليوم في المستأنف - وبالله تعالى التوفيق .

1122 - مسألة : ومن نذر صياما ، أو صلاة ، أو صدقة ، ولم يسم عددا ما : لزمه في الصيام صوم يوم ولا مزيد ، وفي الصدقة ما طابت به نفسه مما يسمى صدقة ، ولو شق تمرة ، أو أقل مما ينتفع به المتصدق عليه ، ولزمه في الصلاة ركعتان ؛ لأن كل ما ذكرنا أقل مما يقع عليه الاسم المذكور ، فهو اللازم بيقين ولا يلزمه زيادة ؛ لأنه لم يوجبها شرع ، ولا لغة - وبالله تعالى التوفيق .

1123 - مسألة : ومن قال : لله علي صدقة ، أو صيام ، أو صلاة ، هكذا جملة : لزمه أن يفعل أي ذلك شاء ، ويجزيه ؛ لأنه نذر طاعة ، فعليه أن يطيع . وكذلك لو قال : لله علي عمل بر : فيجزيه تسبيحة ، أو تكبيرة ، أو صدقة ، أو صوم ، أو صلاة ، أو غير ذلك من أعمال البر . وسواء قال علي ذلك نذرا ، أو علي عهد الله ، أو قال : على الله كذا وكذا ، كل ذلك سواء - ولا يجزي في ذلك لفظ دون نية ، ولا نية دون لفظ لقول رسول الله ﷺ : { الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . فلم يفرد عليه السلام نية دون عمل ولا عملا دون نية - وبالله تعالى التوفيق

1124 - مسألة : ومن مات وعليه نذر ففرض أن يؤدى عنه من رأس ماله قبل ديون الناس كلها ، فإن فضل شيء كان لديون الناس لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فعم تعالى ولم يخص . وقال رسول الله ﷺ ما قد ذكرناه في " كتاب الصيام " " وكتاب الحج " { دين الله أحق أن يقضى } . ومن طريق البخاري نا أبو اليمان هو الحكم بن نافع - أنا شعيب هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس أخبره { أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى رسول الله ﷺ في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه عليه السلام أن يقضيه عنها } فكانت سنة بعده . قال أبو محمد : إن من رغب عن فتيا رسول الله ﷺ وسارع إلى قبول فتيا أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لمخذول محروم من التوفيق - ونعوذ بالله من الضلال . والعجب من احتجاجهم في أن في ثلاثة أصابع تقطع للمرأة ثلاثين من الإبل ، وفي أربع أصابع تقطع لها عشرين من الإبل ، لقول سعيد بن المسيب تلك السنة - ثم لا يرى قول ابن عباس ههنا ، أو عبيد الله بن عبد الله ، أو الزهري - فكانت سنة حجة لبعيد من القول بالحق . روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر بن مصعب أن عائشة أم المؤمنين اعتكفت عن أخيها بعدما مات . ومن طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أمه نذرت اعتكافا فماتت ولم تعتكف فقال له ابن عباس : اعتكف عن أمك . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إذا مات وعليه نذر قضاه عنه وليه ، وهو قول طاوس ، وغيره . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سألت عطاء عمن نذر جوارا أو مشيا فمات ولم ينفذ ؟ قال : ينفذه عنه وليه ، قلت : فغيره من ذوي قرابته ؟ قال : نعم ، وأحب إلينا الأولياء . قال أبو محمد : فإن كان نذر صلاة صلاها عنه وليه ، أو صوما كذلك ، أو حجا كذلك ، أو عمرة كذلك ، أو اعتكافا كذلك ، أو ذكرا كذلك ، وكل بر كذلك - فإن أبى الولي استؤجر من رأس ماله من يؤدي دين الله تعالى قبله - وهو قول أبي سليمان وأصحابنا - وبالله تعالى التوفيق .

1125 - مسألة : قال علي : ومن تعمد النذور ليلزمها من بعده ، فهي غير لازمة ، لا له ولا لمن بعده ؛ لأن النذر اللازم الوفاء به هو نذر الطاعة كما قدمنا ، وهو الآن نذر معصية لا نذر طاعة ؛ لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى ، وإنما قصد إدخال المشقة على مسلم ، فهو نذر معصية - وبالله تعالى التوفيق .

1126 - مسألة : ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين ، أو بأن يعينه في عمل ما - حلف له على ذلك أو لم يحلف - لم يلزمه الوفاء به ، ويكره له ذلك ، وكان الأفضل لو وفى به . وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله كمن قال : تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا ، أو نحو هذا - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بوعده ذلك في كلفة ، فيلزمه ويقضي عليه . وقال ابن شبرمة الوعد كله لازم ، ويقضي به على الواعد ويجبر . فأما تقسيم مالك : فلا وجه له ولا برهان يعضده ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس . فإن قالوا قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة ؟ قلنا : فهبكم أنه كما تقولون من أين وجب على من أضر بآخر ، وظلمه وغره أن يغرم له مالا ؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى { : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } . والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر } . والآخر : الثابت من طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ { : من علامة النفاق ثلاثة - وإن صلى ، وصام ، وزعم أنه مسلم : - إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان } . فهذان أثران في غاية الصحة ، وآثار أخر لا تصح - : أحدها : من طريق الليث عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه { عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي هاه تعال أعطك ؟ فقال لها رسول الله ﷺ ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت : أعطيه تمرا ، فقال عليه السلام : أما أنك لو لم تعطيه شيئا ، كتبت عليك كذبة } هذا لا شيء ؛ لأنه عمن لم يسم . وآخر : من طريق ابن وهب أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم { أن رسول الله ﷺ قال : وأي المؤمن حق واجب } . هشام بن سعد ضعيف وهو مرسل . ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله ﷺ قال : { ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه ، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة } . وهذا مرسل ، وإسماعيل بن عياش ضعيف . ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من قال لصبي : تعال هاه لك ، ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة } . ابن شهاب كان إذ مات أبو هريرة ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة . وأبو حنيفة ، ومالك : يرون المرسل كالمسند ، ويحتجون بما ذكرنا - فيلزمهم أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولا بد ، وإلا فهم متناقضون ، فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها . وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا ؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما ؛ لأن من وعد بما لا يحل ، أو عاهد على معصية ، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك ، كمن وعد بزنى ، أو بخمر ، أو بما يشبه ذلك . فصح أن ليس كل من وعد فأخلف ، أو عاهد فغدر : مذموما ، ولا ملوما ، ولا عاصيا ، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض ؛ فإذ ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد ، إلا على من وعد بواجب عليه ، كإنصاف من دين ، أو أداء حق فقط . وأيضا : فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن ، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه ، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه . وأيضا : فإن الله تعالى يقول : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فصح تحريم الوعد بغير استثناء ، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك . ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية ، فإن استثنى فقال : إن شاء الله تعالى ، أو إلا أن يشاء الله تعالى ، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل ، فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل ؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى - وقد علمنا أن الله تعالى لو شاءه لأنفذه فإن لم ينفذه ، فلم يشأ الله تعالى كونه . وقول الله تعالى { : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } على هذا أيضا مما يلزمهم ، كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه } . فصح ما قلنا ؛ لأن الصدقة واجبة ، والكون من الصالحين واجب ، فالوعد والعهد بذلك فرضان : فرض إنجازهما - وبالله تعالى التوفيق . وأيضا : فإن هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك ، والنذر فرض - وبالله تعالى نتأيد .