→ كتاب النذور (تتمة 1 مسألة 1115) | ابن حزم - المحلى كتاب النذور (تتمة 2 مسألة 1115) المؤلف: ابن حزم |
كتاب النذور (مسألة 1116 - 1126) ← |
كتاب النذور
قال أبو محمد : وأما من نذر نحر فرسه أو بغلته ، فلينحرهما لله ، وكذلك ما يؤكل ؛ لأنه نذر طاعة - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : وأما من نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو مسجد بيت المقدس ، أو إلى مكان سماه من الحرم ، أو إلى مسجد من سائر المساجد ، فإنه إن نذر مشيا ، أو ركوبا ، أو نهوضا إلى مكة ، أو إلى موضع من الحرم لزمه ؛ لأنه نذر طاعة ، والحرم كله مسجد على ما ذكرنا في " كتاب الحج " فأغنى عن إعادته . وكذلك إن نذر مشيا ، أو نهوضا ، أو ركوبا إلى المدينة ، لزمه ذلك . وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء عليهم السلام ، فإن نذر مشيا ، أو ركوبا ، أو اعتكافا ، أو نهوضا إلى بيت المقدس لزمه . فإن نذر صلاة فيه كان مخيرا بين أمرين - : أحدهما - وهو الأفضل أن ينهض إلى مكة فيصلي فيها ويجزيه . والثاني - أن ينهض إلى بيت المقدس ، فإن نذر مشيا ، ونهوضا ، أو ركوبا إلى مسجد من مساجد الأرض غير هذه ، لم يلزمه شيء أصلا . برهان ذلك - : { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فقط ، المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى } . روينا من طريق البزار نا محمد بن معمر نا روح هو ابن عبادة - نا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد إيلياء } فصار القصد إلى ما سواها معصية ، والمعصية لا يجوز الوفاء بها . ولا يجوز أن يلزم ما لم ينذره من صلاة في غير المسجد الذي سمى . ولا فرق بين النهوض ، والذهاب ، والمشي ، والركوب ، إلا أن المشي طاعة ، والركوب أيضا طاعة ؛ لأن فيه نفقة زائدة في بر . وأما من نذر الصلاة في بيت المقدس أو في غيرها مكة ، أو مسجد المدينة ، فإن كان نذر صلاة تطوع هنالك لم يلزمه شيء من ذلك . فإن نذر أن يصلي صلاة فرض في أحد هذه المساجد لزمه ؛ لأن كونه في هذه المساجد طاعة لله عز وجل يلزمه الوفاء بها . وإنما قلنا : لا يلزمه ذلك في نذره صلاة تطوع فيها للأثر الثابت { عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه - عز وجل - أنه قال ليلة الإسراء إذ فرض - عز وجل - الخمس الصلوات : هن خمس ، وهن خمسون ما يبدل القول لدي } فآمنا بقوله تعالى : { لا يبدل القول لدي } أن تكون صلاة مفترضة ، غير الخمس لا أقل من خمس ، ولا أكثر من خمس ، معينة على إنسان بعينه أبدا . وليس ذلك في غير الصلاة إذ لم يأت نص في شيء من الأعمال بمثل هذا - وبهذا أسقطنا وجوب الوتر فرضا مع ورود الأمر ، ووجوب الركعتين فرضا على الداخل المسجد قبل أن يجلس . فإن قيل : قد قلتم فيمن نذر صلاة في بيت المقدس ما قلتم ؟ قلنا : نعم ، يستحب له أن يصليها بمكة ، لما روينا من طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة نا حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله { أن رجلا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة ، أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ؟ فقال له رسول الله عليه السلام : صل ههنا ، فأعادها عليه ، فقال : صل ههنا ، ثم أعادها ، فقال : شأنك إذا } . ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد القاسم بن سلام نا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : { قال رجل يوم الفتح : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس ؟ قال : صل ههنا ، فأعاد الرجل مرتين ، أو ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فشأنك إذا } . قال أبو محمد : ولم يأت مثل هذا فيمن نذر اعتكافا في مسجد إيلياء ، وإنما جاء فيمن نذر صلاة فيه فقط : { وما كان ربك نسيا } . فإن عجز ركب لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولا شيء عليه . قال علي : لما أخبر الرجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نذر الصلاة في بيت المقدس فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صل ههنا - يعني بمكة - تبين بذلك أنه ليس عليه وجوب نذره أن يصلي في بيت المقدس . وصح أنه ندب مباح وكان في ظاهر الأمر لازما له أن يصلي بمكة ، { فلما راجع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه السلام : فشأنك إذا } تبين وصح أن أمره عليه السلام له بأن يصلي بمكة ندب لا فرض أيضا ، هذا ما لا يمكن سواه ، ولا يحتمل الخبر غيره - فصار كل ذلك ندبا فقط . فإن قيل : فإنكم توجبون صلاة الجنازة فرضا ؟ قلنا : نعم ، على الكفاية لا متعينا على أحد بعينه . ونسأل من خالف هذا عمن نذر ركعتين في الساعة الثالثة من كل يوم ، فإن ألزمه ذلك كانت صلاة سادسة ؟ وبدل القول الذي أخبر تعالى أنه لا يبدل لديه . فإن لم يلزمه ذلك سألناه : ما الفرق ؟ ولا سبيل إلى فرق أبدا - وبالله تعالى التوفيق . فلو نذر النهوض إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس ليصلي فيها لزمه النهوض إليها ولا بد فقط ؛ لأنه طاعة لله عز وجل ثم يلزمه من صلاة الفرض هنالك ما أدركه وقته ، ويستحب له فيها من التطوع ما يستحب لمن هو هنالك . وروينا من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب : أن رجلا أراد أن يأتي بيت المقدس فقال له عمر بن الخطاب : اذهب فتجهز ؟ فتجهز ، ثم أتاه فقال له عمر : اجعلها عمرة . وقد روي نحو هذا عن أم سلمة أم المؤمنين في امرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس فأمرتها بأن تصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وصح عن سعيد بن المسيب أنه قال : من نذر أن يعتكف في مسجد إيلياء فاعتكف بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أجزأ عنه . ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه . ومن نذر أن يعتكف على رءوس الجبال فإنه لا ينبغي له ذلك وليعتكف في مسجد جماعة - : رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن ابن المسيب . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : رجل نذر أن يمشي إلى بيت المقدس من البصرة قال : إنما أمرتم بهذا البيت ، وكذلك في الجوار قلت : فأوصى في أمر فرأيت خيرا منه ؟ قال : افعل الذي هو خير ما لم تسم لإنسان شيئا ، ولكن إن قال : للمساكين ، أو في سبيل الله ، فرأيت خيرا من ذلك فافعل الذي هو خير - ثم رجع عطاء عن هذا وقال : ليفعل الذي قال ولينفذ أمره . قال ابن جريج : وقوله الأول أحب إلي ، وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان من قال له : نذرت مشيا إلى بيت المقدس ، أو زيارة بيت المقدس ؟ قال له طاوس : عليك بمكة مكة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : من نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أو إلى بيت المقدس ، أو إتيان بيت المقدس ، أو إتيان مسجد المدينة لم يلزمه شيء أصلا . وكذلك من نذر صلاة في المسجد الحرام بمكة ، أو في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة أو بيت المقدس فإنه لا يلزمه شيء من ذلك ، لكن يلزمه أن يصلي في مسكنه من البلاد حيث كان إلا أنه قد روي عن أبي يوسف : أنه إن نذر صلاة في موضع فصلى في أفضل منه أجزأه ، وإن صلى في دونه لم يجزه . وقال مالك : إذا قال : لله علي أن أمشي إلى المدينة ، أو قال إلى بيت المقدس لم يلزمه ذلك ، إلا أن ينوي صلاة هنالك فعليه أن يذهب راكبا ، والصلاة هنالك ؛ فإن قال علي المشي إلى مسجد المدينة ، أو قال : إلى مسجد بيت المقدس ، فعليه الذهاب إلى ما هنالك راكبا والصلاة هنالك ؟ قال : فإن نذر المشي إلى عرفة ، أو إلى مزدلفة لم يلزمه ، فإن نذر المشي إلى مكة لزمه . وقال الليث : من نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد - وقال الشافعي : من نذر أن يصلي بمكة لم يجزه إلا فيها ، فإن نذر أن يصلي بالمدينة ، أو بيت المقدس أجزأه أن يصلي بمكة ، أو في المسجد الذي ذكر لا فيما سواه ، فإن نذر صلاة في غير هذه الثلاثة المساجد لم يلزمه ، لكن يصلي حيث هو ، فإن نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو بيت المقدس أجزأه الركوب إليهما . قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد ، وخلاف السنة الواردة فيمن نذر طاعة ، وفي أن صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، وإن صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد المدينة عموما لا يخص منه نافلة من فرض ، وهذه طاعة عظيمة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { من نذر أن يطيع الله فليطعه } فقالوا : لا يطعه . وأما قول أبي يوسف ففاسد أيضا ؛ لأنه يجب على قوله من نذر صوم يوم فجاهد فإنه يجزيه من الصوم ؛ لأنه قد فعل خيرا مما نذر ، وإن من نذر أن يتصدق بدرهم فتصدق بثوب ، أنه يجزيه - وهذا خطأ ؛ لأنه لم يف بنذره . وأما قول مالك فخطأ لائح أيضا ؛ لأنه أسقط وجوب المشي عن من نذره إلى المدينة وأوجبه على من نذره إلى مكة - وهذا عجب جدا ، لا سيما مع قوله : إن المدينة أفضل من مكة ثم تخصيصه فيمن نذر المشي إلى بعض المشاعر ، كمزدلفة ، أو عرفة ، فلم يوجب ذلك ، وأوجبه إلى مكة ، وإلى الكعبة ، وإلى الحرم ؛ وهذا كله تحكم بلا برهان . وكذلك قول الشافعي أيضا فإنه ينتقض بما ينتقض به قول أبي يوسف .
وأما من نذر عتق عبد فلان إن ملكه ، أو أوجب على نفسه عتق عبده إن باعه ، فإن من أخرج ذلك مخرج اليمين فهو باطل لا يلزم لما ذكرنا قبل ، فإن أخرج ذلك مخرج النذر لم يلزمه أيضا شيء ؛ لأنه إذا قال : عبدي حر إن بعته ، أو قال : ثوبي هذا صدقة إن بعته فباعه فقد سقط ملكه عنه ، وإذا سقط ملكه عنه ، فمن الباطل أن ينفذ عتقه في عبد لا يملكه هو وإنما يملكه غيره ، وصدقته كذلك . ومن قال : إن ابتعت عبد فلان فهو حر ، أو إن ابتعت دار فلان فهي صدقة ، ثم ابتاع كل ذلك لم يلزمه عتق ولا صدقة - : لما روينا من طريق مسلم نا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - نا أيوب هو السختياني - عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : { لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك العبد } . ومن طريق أبي داود السجستاني نا داود بن رشيد نا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة نا ثابت بن الضحاك - هو من أصحاب الشجرة - { أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذر أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم } ففي هذا الخبر نص ما قلنا : من أنه لا يلزم المرء وفاء نذره فيما لا يملكه ، وفيه إيجاب الوفاء بنذر نحر الإبل في غير مكة - وهو قولنا - ولله الحمد . وقال الناس في هذا : أقوالا : فاختلفوا في رجل قال : إن بعت عبدي هذا فهو حر وقال آخر : إن اشتريته منك فهو حر ، ثم باعه منه ؟ فإن أبا حنيفة ، وعبد العزيز بن الماجشون قالا : يعتق على المشتري ، لا على البائع . وقال مالك ، والشافعي : يعتق على البائع لا على المشتري . وقال أبو سليمان : لا يعتق على واحد منهما - وهو الحق لما ذكرنا - والمذكورون قبل قد نقضت كل طائفة أصلها ؛ لأنهم على اختلافهم متفقون على أن من قال : إن بعت عبدي فهو حر ، فباعه : أنه يعتق عليه ، وعلى أنه إن قال : إن اشتريت عبد فلان فهو حر فاشتراه ، فإنه حر - فمن أين غلبت كل طائفة منهما في اجتماعهما في بيعه وابتياعه أحد الناذرين على الآخر ؟ فكان الأولى بهم أن يعتقوه عليهما جميعا ، فهذا نقض واحد . وأما قول مالك : يعتق على البائع - فخطأ ظاهر ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون باعه ، أو لم يبعه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث . فإن كان باعه فقد ملكه غيره فبأي حكم تفسخ صفقة مسلم قد تمت ؟ وبأي حكم يعتق زيد عبد عمرو ؟ إن هذا لعجب وإن كان لم يبعه - فما يلزمه عتقه ؛ لأنه إنما نذر عتقه إن باعه - وهو لم يبعه - وهذا نفسه لازم للشافعي سواء سواء فظهر فساد أقوالهم - ولله الحمد . وقال ابن أبي ليلى : من قال : إن دخل غلامي دار زيد فهو حر - ثم باعه - ثم دخل الغلام دار زيد بعد مدة ، فإنه يفسخ البيع فيه ، ويعتق على بائعه . ولعمري ما قول مالك ، والشافعي ببعيد من قول ابن أبي ليلى ؛ لأنهم كلهم قد اعتقوه عليه بعد خروجه عن ملكه ، وأبطلوا صفقة المشتري وصحة ملكه - وليت شعري ماذا يقول ابن أبي ليلى إن أعتقه المشتري قبل أن يدخل الغلام دار زيد ؟ أيفسخ عتقه ثم يعتقه على بائعه ؟ أو كانت أمة فأولدها المشتري ، ثم دخلت الدار ؟
محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب النذور |
كتاب النذور (مسألة 1115) | كتاب النذور (تتمة 1 مسألة 1115) | كتاب النذور (تتمة 2 مسألة 1115) | كتاب النذور (مسألة 1116 - 1126) |