→ كتاب الأطعمة (مسألة 989(مكرر) - 993) | ابن حزم - المحلى كتاب الأطعمة (مسألة 994 - 996) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الأطعمة (مسألة 997 - 1004) ← |
كتاب الأطعمة
994 - مسألة: ولا يحل أكل العذرة، ولا الرجيع، ولا شيء من أبوال الخيول، ولا القيء، ولا لحوم الناس ولو ذبحوا، ولا أكل شيء يؤخذ من الإنسان إلا اللبن وحده، ولا شيء من السباع ذوات الأنياب، ولا أكل الكلب، والهر الإنسي والبري سواء، ولا الثعلب، حاشا الضبع وحدها، فهي حلال أكلها، ولو أمكنت ذكاة الفيل لحل أكله أما العذرة والبول فلما ذكرنا في كتاب الصلاة من قول رسول الله ﷺ في النهي عن الصلاة وهو يدافع الأخبثين البول والغائط، ولقول الله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}. وذكرنا هنالك قوله عليه السلام: أكثر عذاب القبر في البول فعم عليه السلام كل بول. وبينا هنالك أن سقي النبي ﷺ العرنيين أبوال الإبل، إنما كان على سبيل التداوي للعلل التي كانت أصابتهم وأوردنا الأسانيد الثابتة بكل هذا. وبينا فساد الرواية من طريق سوار بن مصعب وهو ساقط لا بأس ببول ما أكل لحمه وهذا مما تركوا فيه القياس ; إذ قاسوا بول الحيوان ورجيعه على لحمه ; فهلا قاسوه على دمه فهو أولى بالقياس، أو على بول الآدميين ورجيعهم.
وأما القيء: فلما روينا من طريق البخاري نا مسلم بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي وشعبة قالا جميعا: نا قتادة عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: العائد في هبته كالعائد في قيئه والقيء هو ما تغير، فإن خرج الطعام ولم يتغير فليس قيئا، فليس حراما
وأما لحوم الناس فإن الله تعالى قال: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}. ولأمر رسول الله ﷺ الذي قد ذكرناه في كتاب الجنائز بأن يوارى كل ميت من مؤمن أو كافر ; فمن أكله فلم يواره ; ومن لم يواره فقد عصى الله تعالى. ولقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم} فحرم تعالى أكل الميتة وأكل ما لم يذك، والإنسان قسمان: قسم حرام قتله، وقسم مباح قتله. فالحرام قتله إن مات، أو قتل فلم يذك فهو حرام.
وأما الحلال قتله فلا يحل قتله إلا لأحد ثلاثة أوجه: إما لكفره ما لم يسلم، وأما قودا، وأما لحد أوجب قتله، وأي هذه الوجوه كان فليس مذكى لأنه لم يحل قتله إلا بوجه مخصوص، فلا يحل قتله بغير ذلك الوجه والتذكية غير تلك الوجوه بلا شك ; فالقصد إليها معصية، والمعصية ليست ذكاة فهو غير مذكى، فحرام أكله بكل وجه، وإذ هو كله حرام فأكل بعضه حرام، لأن بعض الحرام حرام بالضرورة. ويدخل في هذا المخاط، والنخاعة، والدمع، والعرق، والمذي، والمني، والظفر، والجلد، والشعر، والقيح، والسن إلا اللبن المباح بالقرآن والسنة والإجماع. وقد أباح عليه السلام لسالم وهو رجل الرضاع من لبن سهلة بنت سهيل. والريق لأن رسول الله ﷺ حنك الصبيان بتمر مضغه، فريقه في ذلك الممضوغ، فالريق حلال بالنص فقط وبالله تعالى التوفيق.
وأما السباع: فلما روينا من طريق مالك بن أنس عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. وجاء أيضا من غير هذه الطريق تركناها اختصارا. والكلب ذو ناب من السباع، وكذلك الهر، والثعلب، فكل ذلك حرام. وقد أمر عليه السلام بقتل الكلب، ونهى عن إضاعة المال، فلو جاز أكلها ما حل قتلها، كما لا يحل قتل كل ما يؤكل من الأنعام وغيرها.
روينا من طريق وكيع نا مبارك، هو ابن فضالة عن الحسن البصري عن عثمان رضي الله عنه قال: اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام، ففرق بينهما فأمر بذبح ما يؤكل، وقتل ما لا يؤكل:
ومن طريق ابن وهب، عن ابن أبي ذئب أنه سمع ابن شهاب يسأل عن مرارة السبع، وألبان الأتن فقال الزهري: نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولا خير فيما نهى عنه رسول الله ﷺ. ونهى رسول الله ﷺ عن أكل لحوم الحمر الإنسية، فلا نرى ألبانها التي تخرج من بين لحمها ودمها إلا بمنزلة لحمها.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: الثعلب سبع لا يؤكل.
ومن طريق عبد الرزاق عن عمر بن زيد أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول نهى رسول الله ﷺ عن أكل الهر وثمنه. أقل ما في هذا الأثر أن يكون موقوفا على جابر. وبتحريم السباع وبكل ما ذكرنا يقول أبو حنيفة، والشافعي، وأبو سليمان إلا أن الشافعي أباح الثعلب، وأنكر المالكيون تحريم السباع وموهوا بأن قالوا: قد صح عن عائشة أم المؤمنين أنها سألت عن أكل لحوم السباع فقرأت قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية.
وروي من طريق جويبر عن الضحاك قال: تلا ابن عباس هذه الآية قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما قال: ما خلا هذا فهو حلال. وقالوا: روى الزهري خبر النهي عن كل ذي ناب من السباع، ثم قال: لم أسمع هذا من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء الشام.
وقال بعضهم: إنما نهى عنها من أجل ضرر لحمها.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به وكله لا شيء: أما الآية فإنها مكية كما قدمنا، ولا يجوز أن تبطل بها أحكام نزلت بالمدينة ; وهم يحرمون الحمر الأهلية وليست في الآية. ويحرمون الخمر وليست في الآية، والخليطين وإن لم يسكرا ولم يذكرا في الآية، وهذا تناقض عظيم.
وأما قول عائشة، رضي الله عنها، فلا حجة في أحد مع رسول الله ﷺ ولو أن عائشة، رضي الله عنها، بلغها نهي رسول الله ﷺ عن ذلك لما خالفته كما فعلت في تحريم الغراب إذ بلغها وليس مذكورا في الآية على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الرواية، عن ابن عباس ففي غاية الفساد، لأنها عن جويبر وهو هالك عن الضحاك وهو ضعيف، ولا حجة في أحد غير النبي ﷺ.
وأما قول الزهري: إنه لم يسمعه من علمائه بالحجاز فكان ماذا وهبك أن الزهري لم يسمعه قط، أترى السنن لا يؤخذ منها شيء حتى يعرفها الزهري إن هذا لعجب ما سمع بمثله فكيف والزهري لم يلتفت إلى أنه لم يسمعه من علمائه بالحجاز، بل أفتى به كما ذكرنا آنفا وكم قصة خالفوا فيها عائشة، والزهري إذا خالفهما مالك إذ لا مؤنة عليهم في ذلك كما ذكرنا كثيرا منه ونذكر إن شاء الله تعالى. وهذه المسألة نفسها مما خالفوا فيه فتيا عائشة في الغراب وفتيا الزهري كما أوردنا وإنما هم كالغريق يتعلق بما يجد وإن كان فيه هلاكه.
وأما قولهم: إنما نهى عنها لضرر لحمها فكلام جمع الغثاثة والكذب، أما الكذب مما عليهم بذلك، ومن أخبرهم بهذا عن النبي ﷺ وهذا كذب عليه ﷺ إذ قولوه ما لم يقل، وإذ أخبروا عنه بما لم يخبر به قط عن نفسه، وهذه قصة مهلكة مؤدية إلى النار نعوذ بالله منها.
وأما الغثاثة فإن علمهم بالطب في هذه المسألة ضعيف جدا، وما يشك من له أقل بصر بالأغذية في أن لحم الجمل الشارف والتيس الهرم أشد ضررا من لحم الكلب، والهر، والفهد. ثم هبك أنه كما قالوا فهل في ذلك ما يبطل النهي عنها ما هو إلا تأكيد في المنع منها، ثم قد شهدوا على أنفسهم بإضاعة المال والمعصية في ذلك ; إذ تركوا الكلاب، والسنانير تموت على المزابل، وفي الدور، ولا يذبحونها فيأكلونها، إذ هي حلال ولو أن امرءا فعل هذا بغنمه وبقره لكان عاصيا لله تعالى بإضاعة ماله.
وأما الضباع فإن الشافعي وأبا سليمان، أباحا أكلها: والحجة لذلك ما روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير أن عبد الرحمن بن أبي عمار أخبره قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أآكلها قال: نعم قلت: أصيد هي قال: نعم، قلت: أسمعت ذلك من نبي الله ﷺ قال: نعم، قال ابن جريج: نا نافع مولى ابن عمر قال: أخبر رجل ابن عمر أن سعد بن أبي وقاص يأكل الضباع قال نافع: فلم ينكر ابن عمر ذلك.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان علي بن أبي طالب لا يرى بأكل الضباع بأسا. وقال معمر عن عمرو بن مسلم: سمعت عكرمة، عن ابن عباس وسئل عن الضبع فقال: رأيتها على مائدة ابن عباس.
ومن طريق وكيع عن أبي المنهال الطائي عن عبد الله بن زيد عمه قال: سألت أبا هريرة عن الضبع فقال: نعجة من الغنم. وعن عطاء قال: ضبع أحب إلي من كبش.
قال أبو محمد: فواجب أن تستثنى الضباع من جملة السباع كما فعل رسول الله ﷺ ولا يخالف شيء من أقواله عليه السلام.
وقال أبو حنيفة: بتحريم الضباع وما نعلم له حجة إلا تعلقه بعموم نهي النبي ﷺ عن أكل السباع قالوا: وهي سبع. وذكروا خبرا فاسدا رويناه من طريق محمد بن جرير الطبري، أخبرنا ابن حميد نا أبو زهير نا محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن مسلم المكي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن حبان بن جزء عن أخيه خزيمة بن جزء قال: قلت: يا رسول الله: ما تقول في الضبع فقال لي: ومن يأكل الضبع وذكروا ما رويناه من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري نا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن يزيد قال: سألت سعيد بن المسيب عن الضبع فكرهه فقلت له: إن قومك يأكلونه فقال: إن قومي لا يعلمون.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة غير هذا:
فأما احتجاجهم بنهي النبي ﷺ عن السباع فإنه حق ولكن الذي نهى عن السباع هو الذي أحل الضباع فلا فرق بين إباحة ما حرم من السباع وبين تحريم ما حلل من الضباع، وكلاهما لا تحل مخالفته.
وأما الخبر المذكور فلا شيء، لأن إسماعيل بن مسلم ضعيف وابن أبي المخارق ساقط، وحبان بن جزء مجهول. ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة لأنه ليس فيه تحريم أصلا وإنما فيه التعجب ممن يأكلها فقط. وقد علمنا أن عظام الضأن حلال، ثم لو رأينا أحدا يأكلها " أو يأكل جلودها لعجبنا من ذلك أشد العجب.
وأما قول سعيد بن المسيب فلا حجة في قول أحد مع رسول الله ﷺ وقد أحل الله البيع جملة ثم حرم النبي ﷺ بيوعا كثيرة فلم يغلبوا عموم الإباحة على تخصيص النهي وهذا خلاف فعلهم ههنا، وهذا مما خالفوا فيه جماعة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف وبالله تعالى التوفيق.
وأما الفيل فليس سبعا، ولا جاء في تحريمه نص، وقال تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعا} وقال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} ; وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فكل شيء حلال إلا ما جاء نص بتحريمه بهذا جاء نص القرآن والسنن ولم يأت في الفيل نص تحريم فهو حلال.
995 - مسألة: ولا يحل أكل شيء من الحيات، ولا أكل شيء من ذوات المخالب من الطير وهي التي تصيد الصيد بمخالبها، ولا العقارب، ولا الفئران، ولا الحداء، ولا الغراب.
روينا من طريق مسلم نا شيبان بن فروخ نا أبو عوانة عن زيد بن جبير قال " قال ابن عمر حدثتني إحدى نسوة النبي ﷺ أنه كان عليه السلام يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والحية، قال: وفي الصلاة أيضا.
ومن طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور نا محمد بن جهضم نا إسماعيل وهو عندنا ابن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه قال كان عبد الله بن عمر يوما عند هدم له رأى وبيص جان فقال: اقتلوا فقال أبو لبابة الأنصاري: سمعت رسول الله ﷺ نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء.
ومن طريق مالك عن صيفي، هو ابن أفلح أخبرني أبو السائب مولى هشام بن زهرة أن أبا سعيد الخدري أخبره " أن رسول الله ﷺ قال: إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. فكل ما أمر رسول الله ﷺ بقتله فلا ذكاة له، لأنه عليه السلام نهى عن إضاعة المال، ولا يحل قتل شيء يؤكل، وقد ذكرنا في كتاب الحج قوله عليه السلام: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فذكر العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور.
فصح أن فيها فسقا، والفسق محرم قال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به}. فلو ذبح ما فيه فسق لكان مما أهل لغير الله به ; لأن ذبح ما لا يحل أكله معصية، والمعصية قصد إلى غير الله تعالى به:
روينا عن عمر بن الخطاب: اقتلوا الحيات كلها. وعن ابن مسعود: من قتل حية أو عقربا قتل كافرا.
ومن طريق محمد بن زهير بن أبي خيثمة نا ابن أبي أويس نا أبي نا يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت: إني لاعجب ممن يأكل الغراب، وقد أذن رسول الله ﷺ في قتله وسماه فاسقا، والله ما هو من الطيبات.
ومن طريق شريك عن هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن عمر قال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله ﷺ فاسقا، والله ما هو من الطيبات.
ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله ﷺ فاسقا.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كره رجال من أهل العلم أكل الحداء والغراب حيث سماهما رسول الله ﷺ من فواسق الدواب التي تقتل في الحرم.
فإن قيل: قد روي وترمي الغراب، ولا تقتله.
قلنا: رواه من لا يجوز الأخذ بروايته يزيد بن أبي زياد وقد ذكرنا تضعيفه في كتاب الحج وقولنا هو قول الشافعي، وأبي سليمان. وحرم أبو حنيفة الغراب الأبقع، ولم يحرم الأسود ; واحتج بأن في بعض الأخبار ذكر الغراب الأبقع.
قال أبو محمد: الأخبار التي فيها عموم ذكر الغراب هو الزائد حكما ليس في الذي فيه تخصيص الأبقع، ومن قال: إنما عنى رسول الله ﷺ بقوله " الغراب " الغراب الأبقع خاصة ; لأنه قد ذكر الغراب الأبقع في خبر آخر: فقد كذب، إذ قفا ما لا علم له به، ونحن على يقين من أنه قد أمر عليه السلام بقتل الأبقع في خبر، وبقتل الغراب جملة في خبر آخر، وكلاهما حق لا يحل خلافه. وتردد المالكيون في هذه الدواب التي ذكرنا.
وأما العقارب والحيات فما يمتري ذو فهم في أنهن من أخبث الخبائث وقد قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث}.
وأما الفئران فما زال جميع أهل الإسلام يتخذون لها القطاط، والمصائد القتالة، ويرمونها مقتولة على المزابل، فلو كان أكلها حلالا لكان ذلك من المعاصي، ومن إضاعة المال وبالله تعالى التوفيق. وأباحوا أكل الحيات المذكاة، وهم يحرمون أكل ما ذكي من قفاه، ولا سبيل إلى تذكية الحيات إلا من أقفائها قال أبو محمد: وهي والخمر تقع في الترياق فلا يحل أكله إلا عند الضرورة على سبيل التداوي، لأن المتداوي مضطر، وقد قال تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه}.
وأما ذوات المخالب من الطير: فلما رويناه من طريق مسلم نا أحمد بن حنبل، وعبيد الله بن معاذ قال أحمد: نا هشيم أن أبا بشر جعفر بن أبي وحشية أخبره، وقال عبيد الله: نا أبي نا شعبة عن الحكم بن عتيبة، ثم اتفق الحكم، وأبو بشر، كلاهما عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ نهى عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير قال الله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا}، ولا يجوز أن ينهى رسول الله ﷺ عن حلال: وبهذا يقول أبو حنيفة والشافعي، وأحمد، وأبو سليمان. وأباح المالكيون أكل سباع الطير، واحتج بعض من ابتلاه الله تعالى بتقليده بأن هذا الخبر لم يسمعه ميمون بن مهران من ابن عباس وإنما سمعه من سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأشار إلى خبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود الجحدري عن بشر بن المفضل عن سعيد بن أبي عروبة عن علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ نهى يوم خيبر عن كل ذي مخلب من الطير وعن كل ذي ناب من السباع.
قال أبو محمد: أراد هذا الناقض أن يحتج لنفسه فدفنها، وأراد أن يوهن الخبر فزاده قوة، لأن سعيد بن جبير هو النجم الطالع ثقة وإمامة وأمانة، فكيف وشعبة، وهشيم، والحكم، وأبو بشر، كل واحد منهم لا يعدل به علي بن الحكم وأسلم الوجوه لعلي بن الحكم أن لم يوصف بأنه أخطأ في هذا الخبر أن يقال: إن ميمون بن مهران سمعه من ابن عباس، وسمعه أيضا من سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال علي: لا يسمى ذا مخلب عند العرب إلا الصائد بمخلبه وحده.
وأما الديك، والعصافير، والزرزور، والحمام، وما لم يصد، فلا يسمى شيء منها ذا مخلب في اللغة وبالله تعالى التوفيق.
996 - مسألة: ولا يحل أكل الحلزون البري، ولا شيء من الحشرات كلها كالوزغ والخنافس، والنمل، والنحل، والذباب، والدبر، والدود كله طيارة وغير طيارة والقمل، والبراغيث، والبق، والبعوض وكل ما كان من أنواعها لقول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}.
وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم}. وقد صح البرهان على أن الذكاة في المقدور عليه لا تكون إلا في الحلق أو الصدر، فما لم يقدر فيه على ذكاة فلا سبيل إلى أكله: فهو حرام، لأمتناع أكله إلا ميتة غير مذكى. وبرهان آخر: في كل ما ذكرنا أنهما قسمان: قسم مباح قتله: كالوزغ، والخنافس، والبراغيث، والبق، والدبر ; وقسم محرم قتله: كالنمل، والنحل، فالمباح قتله لا ذكاة فيه، لأن قتل ما تجوز فيه الذكاة إضاعة للمال، وما لا يحل قتله لا تجوز فيه الذكاة:
روينا من طريق الشعبي: كل ما ليس له دم سائل فلا ذكاة فيه.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه " أن النبي ﷺ: أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا مع أنه من أخبث الخبائث عند كل ذي نفس.
ومن طريق البخاري نا قتيبة نا إسماعيل بن جعفر نا عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن عبيد بن حنين مولى بني زريق عن أبي هريرة " أن رسول الله ﷺ قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه وذكر الحديث فأمر عليه السلام بطرحه ولو كان حلالا أكله ما أمر بطرحه.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ نهى عن قتل أربع من الدواب: النحلة، والنملة، والهدهد، والصرد.
ومن طريق أبي داود نا محمد بن كثير أنا سفيان، عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيبا سأل النبي ﷺ عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه رسول الله ﷺ عن قتلها.
قال أبو محمد: هذا يقضي على حديث النبي الذي كان قديما فأحرق قرية النمل لأن شريعة نبينا ﷺ ناسخة لكل دين سلف، وقد ذكرنا قتل عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم للقردان وهم محرمون. وصح، عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة أم المؤمنين قتل الأوزاغ ; ومن طريق معمر عن قتادة نهى عن قتل الضفدع وأمر بقتل الوزغ. وعن عمر بن الخطاب أخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم. فإن ذكر ذاكر حديث غالب بن حجرة عن الملقام بن التلب عن أبيه صحبت النبي ﷺ فلم أسمع للحشرات تحريما فغالب بن حجرة، والملقام مجهولان ثم لو صح لما كان فيه حجة، لأنه ليس من لم يسمع حجة على ما قام به برهان النص.