→ كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1262 - 1268) | ابن حزم - المحلى كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1269) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الصلح ← |
كتاب الاستحقاق والغصب والجنايات على الأموال
1269 - مسألة: وكل ما جنى على عبد، أو أمة، أو بعير، أو فرس، أو بغل، أو حمار، أو كلب يحل تملكه، أو سنور، أو شاة، أو بقرة، أو إبل، أو ظبي، أو كل حيوان متملك فإن في الخطأ في العبد وفي الأمة خاصة وفي سائر ما ذكرنا خطأ أو عمدا ما نقص من قيمته بالغا ما بلغ.
وأما العبد والأمة ففيما جنى عليهما عمدا القود وما نقص من قيمتهما. أما القود فللمجني عليه وأما ما نقص من القيمة فللسيد فيما اعتدي عليه من ماله.
وكذلك لو أن امرأ استكره أمة فقتلها لكان عليه الغرامة لسيدها والحد في زنائه بها، ولا يبطل حق حقا، وقد أمر رسول الله ﷺ بأن يعطى كل ذي حق حقه.
وأما القود بين الحر، والعبد فنذكره إن شاء الله تعالى في " كتاب القصاص ".
وأما ما نقصه فللناس هاهنا اختلاف، وكذلك في الحيوان وقولنا في الحيوان هو قول أبي سليمان، ومالك، والشافعي.
وقال أبو حنيفة: كذلك إلا في الإبل، والبقر، والبغال، والحمير، والخيل خاصة في عيونها خاصة، فإنه قال في عين كل ما ذكرنا ربع ثمنه.
قال أبو محمد: واحتجوا في ذلك بأثر رويناه من طريق قاسم بن أصبغ، حدثنا زكريا بن يحيى الناقد، حدثنا سعيد بن سليمان عن أبي أمية بن يعلى، حدثنا أبو الزناد عن عمرو بن وهب عن أبيه عن زيد بن ثابت أن النبي ﷺ لم يقض في الرأس إلا في ثلاث: المنقلة، والموضحة، والآمة وفي عين الفرس بربع ثمنه. وبرواية عن عمر بن الخطاب من طريق سفيان وعمرو بن دينار، ومعمر قال سفيان: عن جابر الجعفي عن الشعبي عن شريح عن عمر، وقال عمرو بن دينار: أخبرني رجل أن شريحا قال له: قال لي عمر، وقال معمر: بلغني أن عمر بن الخطاب، ثم اتفقوا: أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا جرير عن المغيرة عن إبراهيم عن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر بأن في عين الدابة ربع ثمنها.
ومن طريق أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمر في عين الدابة ربع ثمنها.
ومن طريق ابن جريج عن عبد الكريم أن علي بن أبي طالب قضى في عين الدابة بربع ثمنها.
قال علي: الرواية عن النبي ﷺ لا تصح ; لأنها من طريق إسماعيل بن يعلى الثقفي وهو ضعيف عن عمرو بن وهب عن أبيه، وهما مجهولان. ثم ليس فيه إلا الفرس فلا هم خصوه كما جاء مخصوصا، ولا هم قاسوا عليه جميع ذوات الأربع.
وأما عن علي، وعمر رضي الله عنهما فمراسيل كلها، ثم لو صحت لما كان فيها حجة لوجوه:
أولها: أنه لا حجة فيمن دون رسول الله ﷺ.
والثاني: أنه لا مؤنة عليهم في خلاف عمر، وعلي إذا خالفا أبا حنيفة كما ذكرنا عنهما آنفا من أنهما تقيآ ما شربا إذ علما أنه لا يحل. ثم في هذه القصة نفسها كما روينا من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: كتب عمر مع عروة البارقي إلى شريح في عين الدابة ربع ثمنها وأحق ما صدق به الرجل عند موته أن ينتفي من ولده أو يدعيه.
ومن طريق عبد الرزاق عمن حدثه عن محمد بن جابر عن جابر عن الشعبي: أن عليا قضى في الفرس تصاب عينه بنصف ثمنه.
ومن طريق سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قضى في عين جمل أصيب بنصف ثمنه ثم نظر إليه بعد فقال: ما أراه نقص من قوته، ولا هدايته فقضى فيه بربع ثمنه. فليت شعري ما الذي جعل إحدى قضيتي عمر، وعلي، أولى من الأخرى وهلا أخذوا بهذه القضية قياسا على قولهم: إن في عين الأنسان نصف ثمنه، وقد أضعف عمر على حاطب قيمة الناقة التي انتحرها عبيده، وجاء بذلك أثر:
كما روينا، عن ابن وهب أنا عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من مزينة سأل رسول الله ﷺ كيف ترى في حريسة الجبل قال: هي ومثلها والنكال. فهذا خبر أصح من خبرهم في عين الفرس ربع ثمنه. وأصح من خبرهم عن عمر، فظهر فساد قولهم من كل جهة. وقد كان يلزم المالكيين القائلين بتقليد الصاحب، وأن المرسل كالمسند أن يقولوا بهذه الآثار، وإلا فقد تناقضوا.
وأما ما جني على عبد فيما دون النفس، أو على أمة كذلك، فقال قوم: كما
قلنا: إنما فيه للسيد ما نقص من ثمنه فقط وهو قول الحسن..
وقال قوم: جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته، بالغا ثمن العبد والأمة ما بلغ، ففي عين العبد نصف ثمنه، ولو أن ثمنه ألفا دينار وفي عين الأمة نصف ثمنها ولو بلغ عشرة آلاف دينار، وهكذا في سائر الأعضاء.
روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: جراحات العبيد في أثمانهم بقدر جراحات الأحرار في دياتهم وهو قول شريح، والشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن سيرين، والشافعي، وسفيان الثوري، والحسن بن حي إلا أن الحسن قال: إن بلغ جميع القيمة لم يكن له إلا أن يسلمه، ويأخذ قيمته، أو يأخذ ما نقص. ورويناه أيضا: من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال: وعقل العبد في ثمنه كعقل الحر في ديته.
وروي أيضا عن علي بن أبي طالب ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إن رجالا من العلماء ليقولون: العبيد والإماء سلع، فينظر ما نقص ذلك من أثمانهم.
قال أبو محمد: وهذا قولنا وقالت طائفة: فيه ما نقص إلا أن تكون الجناية استهلاكا كقطع اليدين، أو الرجلين، أو فقء العينين، فصاحبه مخير بين أن يأخذ ما نقص من ذلك من قيمته، أو يسلمه إلى الجاني ويأخذ منه قيمته صحيحا وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وطائفة قالت: جراح العبد في ثمنه كجراح الحر في ديته، فإن كانت الجناية مما لو كانت على حر لكانت فيه الدية كلها أسلمه إلى الجاني، ولا بد، وألزمه قيمته صحيحا وهو قول النخعي، والشعبي. وطائفة قالت: يدفع إلى الجاني وتلزمه قيمته صحيحا وهو قول إياس بن معاوية، وقتادة:
روينا من طريق حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية في رجل قطع يد عبد قال: هو له وعليه مثله.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فيمن جدع أذن عبد، أو أنفه، أو أشل يده: أنه يدفع إليه ويغرم لصاحبه مثله.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء قال: إن شج عبدا، أو فقأ عينه، فقيمته كما أفسده: ورأى في موضحته نصف عشر قيمته. قول أبي حنيفة ومحمد: من قتل عبدا خطأ فقيمته على العاقلة ما لم تبلغ قيمته عشرة آلاف درهم فأكثر، فليس فيه إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم، وفي الأمة قيمتها كذلك ما لم تبلغ خمسة آلاف درهم فصاعدا، فإن بلغتها فليس فيها إلا خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم على العاقلة. قال أبو حنيفة وحده:
وأما ما دون النفس فمن قيمتها مثل ما في الجناية، وعلى الحر من ديته، فإذا بلغ أرش ذلك من الحر، أنقص من قيمته عشرة دراهم أو خمسة دراهم هكذا جملة. ثم رجع عن الأذن والحاجب خاصة فقال: فيهما ما نقصهما فقط، فإن كانت الجناية مستهلكة فليس له إلا إمساكه، كما هو، ولا شيء له، أو إسلامه وأخذ ما كان يأخذ لو قتل خطأ. وقال أبو يوسف في قتل العبد خطأ والجناية: عليه قيمته ما بلغت ولو تجاوزت ديات ووافقه محمد فيما دون النفس. واتفقوا كلهم في الجناية المستهلكة على قول أبي حنيفة الذي ذكرنا. وقد روي عنهما أنه إن أمسكه أخذ قيمة ما نقصته الجناية المستهلكة. وقد روي عن أبي يوسف فيما دون النفس خاصة مثل قول أبي حنيفة وسواء في ذلك الحاجب، والأذن وغير ذلك، وذكر ذلك في اختلاف الفقهاء.
وروي عن زفر فيما دون النفس مرة مثل قول أبي حنيفة الآخر، ومرة مثل قوله الأول، ووافق أبا حنيفة في قوله في النفس.
وقالت طائفة جراح العبد في قيمته كجراح الحر في ديته إلا أن تبلغ قيمة العبد عشرة آلاف درهم فصاعدا أو تبلغ قيمة الأمة خمسة آلاف درهم فصاعدا فلا تبلغ بأرش تلك الجراحة مقدارها من دية الحر، أو الحرة، لكن يحط من ذلك حصتها من عشرة دراهم في العبد، وحصتها من خمسة دراهم في الأمة، إلا أن يكون قطع أذن فبرئ، أو نتف حاجب فبرئ، ولم ينبت فليس عليه إلا ما نقصه وهذا قول أبي حنيفة. فإن بلغ من الجناية على العبد ما لو جنى على حر لوجبت فيه الدية كلها فليس له إلا إمساكه كما هو، ولا شيء له أو إسلامه إلى الجاني وأخذ جميع قيمته ما لم يبلغ عشرة آلاف درهم فصاعدا فليس له إلا عشرة آلاف غير عشرة دراهم، وفي الأمة نصف ذلك. وتفسيره: أنه إن فقأ عين أمة تساوي خمسة آلاف درهم فما فوق ذلك إلى مائة ألف فأكثر، فليس عليه إلا ألفا درهم وخمسمائة درهم غير درهمين ونصف. وإن فقأ عين عبد يساوي عشرة آلاف فما زاد فليس عليه إلا خمسة آلاف درهم، غير خمسة دراهم، وهكذا في سائر الجراحات. فلو ساوت الأمة مائتي درهم، والعبد مائة درهم، لم يلزمه في عين العبد إلا خمسون درهما فقط، وفي عين الأمة مائة درهم فقط، وهكذا العمل في سائر القيم. وطائفة قالت: إن منقلة العبد، ومأمومته، وجائفته، وموضحته من ثمنه، بالغا ما بلغ فهي من الحر في ديته: ففي موضحة العبد نصف عشر ثمنه ولو أنه ألف ألف درهم. وفي منقلته عشر قيمته كذلك ونصف عشر قيمته كذلك. وفي جائفته، ومأمومته ثلث ثمنه بالغ ما بلغ.
وأما سائر الجراحات، وقطع الأعضاء فإنما فيه ما نقصه فقط، وهو قول مالك وقد روي عن مالك أيضا أنه إذا قطع يدي عبد أو فقأ عينيه أعتق عليه وغرم قيمته كاملة لسيده. وقال الليث بن سعد: من خصى عبد غيره فعليه قيمته كلها لسيده، ويبقى العبد لسيده سواء زاد ذلك في قيمته أو نقص.
قال أبو محمد: أما من قال: جراح العبد في قيمته كجراح الحر في ديته: فقول لا دليل على صحته لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية فاسدة، لكنهم قاسوه على الحر ; لأنه إنسان مثله.
قال علي: ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأن كثيرا من ديات أعضاء الحر مؤقت لا زيادة فيها، ولا نقص. وقد وافقنا من خالفنا هاهنا على أن دية أعضاء العبد غير مؤقتة لا خلاف في ذلك، إذ قد يساوي العبد عشرة دنانير فتكون دية عينه عندهم عشر دنانير. وتساوي الأمة خمسة آلاف درهم فتكون دية عينها ألفي درهم وخمسمائة درهم غير درهمين ونصف أو تكون دية عينها عند بعضهم عشرة آلاف دينار، فقد أصفقوا على أن الديات في ذلك غير محدودة وعلى جواز تفضيل دية عضو المرأة على دية عضو الرجل، بخلاف الأحرار والحرائر فقد ظهر فساد قياسهم جملة بهذه الدلائل وبغيرها أيضا فسقط هذا القول بيقين. ثم نظرنا في قول من قال: يسلمه ويأخذ قيمته، فوجدناه أيضا غير صحيح ; لأنه لا يحل إخراج مال عن يد صاحبه إلى غيره بغير تراض منهما إلا أن يأتي بذلك نص، ولم يأت بهذا هاهنا نص أصلا، فسقط أيضا جملة. ثم نظرنا في قول مالك، وأبي حنيفة، فوجدناهما أشد الأقوال فسادا ; لأنه لم يأت بشيء منه: قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب أصلا، ولا قياس، ولا رأي له وجه، بل ما نعرف هذين عن أحد من الأئمة قبل هذين الرجلين.
وأما قول أبي حنيفة: فظلم بين لا خفاء به أن يكون يقطع يد جارية تساوي عشرة آلاف دينار فلا يقضي لصاحبها إلا بمائتي دينار وخمسين دينارا غير ما تساوي من الذهب درهمين ونصفا ويكون تغصب له خادم أخرى قيمتها ألف دينار فتموت عند الغاصب فيغرم له ألف دينار كاملة، على هذا الحكم الدثار والدمار ونحن نبرأ إلى الله تعالى منه في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
وأما قول مالك: فتقسيم في غاية الفساد، ولو عكس عليهم قولهم ما تخلصوا منه لو قيل لهم: بل في المنقلة، والجائفة، والمأمومة: ما نقصه فقط، وأما سائر الجراحات فمن ثمنه بقدرها من الحر في ديته، ومثل هذا لا يشتغل به إلا محروم.
واحتج له بعض مقلديه بأن قال: هذه جراحات يشفق عليه منها، فيمكن أن يتلف، ويمكن أن يبرأ، ولا يبقى لها أثر، ولا ضرر.
فقلنا: نعم، فاجعلوا هذا دليلكم في أن لا يكون فيها إلا ما نقص فقط.
قال أبو محمد: والحكم على الجاني بما نقص فيما جناه على العبد من خصاء، أو مأمومة، أو جائفة، أو قطع عضو، أو غير ذلك، مما قل أو كثر من الجنايات إنما يكون بأن يقوم صحيحا، ثم يقوم في أصعب ما انتهت إليه حاله من تلك الجناية وأشد ما كان منها مرضا وضعفا وخوفا عليه، ويغرم ما بين القيمتين، ولا ينتظر به صحة، ولا تخفف أصلا ; لأنه في كل حال من أحواله في تأثير تلك الجناية فهو الجاني عليه في كل تلك الأحوال، فعليه في كل حال منها ما نقص بجنايته من مال سيده بلا شك، لقول الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. ولقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. فإن برئ العبد، أو الأمة وصحا، وزادت تلك الجنايات في أثمانهما، كالخصاء في العبد، أو قطع إصبع زائدة ; أو ما أشبه ذلك، فمن رزق الله تعالى للسيد، ولا رجوع للجاني من أجل ذلك بشيء مما غرم.
وكذلك لو لم يغرم شيئا حتى صح المجني عليه فإنه يغرم كما ذكرنا، ولا بد ; لأنه قد لزمه أداء مثل ما اعتدى فيه، فلا يسقط عنه ببرء الجناية.
وكذلك من قطع شجرة لأنسان، فإنه يضمن قيمتها سواء نبتت بعد ذلك ونمت أو لم تنبت، ولا نمت، لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
وأما إن قتل المرء عبدا لغيره، أو أمة عمدا أو خطأ، فقيمتهما، ولا بد لسيدهما بالغة ما بلغت لما ذكرنا وقد اختلف الناس في هذا: فروينا عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي أن عبدا قتل خطأ وكان ثمنه عشرة آلاف درهم فجعل سعيد بن العاص ديته أربعة آلاف. وصح عن النخعي، والشعبي، قالا جميعا: لا يبلغ بدية العبد دية الحر. ورويناه أيضا عن عطاء، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان.
وبه يقول سفيان الثوري، قال: ينقص منها الدرهم ونحوه، وقال عطاء: لا يتجاوز به دية الحر ; وصح أيضا عن حماد بن أبي سليمان.
وقال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد: إن كان عبدا فقيمته ما لم يبلغ عشرة آلاف درهم، فإن بلغها أو تجاوزها بما قل أو كثر لم يغرم قاتله إلا عشرة آلاف درهم، غير عشرة دراهم. وإن كانت أمة فقيمتها ما لم تبلغ خمسة آلاف درهم، فإن بلغتها أو تجاوزتها بما قل أو كثر لم يغرم قاتلها إلا خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم وقالت طائفة: يغرم القيمة بالغة ما بلغت.
روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج عن عبد الكريم عن علي بن أبي طالب: وابن مسعود، وشريح، قالوا: ثمنه، وإن خالف دية الحر وصح هذا أيضا عن سعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي أيضا، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري. ورويناه أيضا عن عمر بن عبد العزيز، وإياس بن معاوية، وعطاء، ومكحول، وهو قول مالك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان، وغيرهم.
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة ففي غاية السقوط ; لأنه حد ما يسقط من ذلك بحد لا يحفظ عن أحد قبله، وإنما هو من رأيه الفاسد. وقال مقلدوه: ينقص من ذلك ما تقطع فيه اليد.
قلنا: ومن أين لكم هذا ثم قد تناقضتم فأسقطتم من دية المرأة خمسة دراهم، وليس تقطع فيها اليد في قولكم، فقد أبطلتم ما أصلتم من كثب.
ثم نقول لهم: وهلا نقصتم من الدية ما نقصتم من الأربعين درهما في جعل الآبق إذا كان يساويها وهلا نقصتم من الدية ما تجب فيه الزكاة وهل هذا إلا رأي زائف مجرد وكل قول لم يقم عليه دليل أصلا، ولا كان له سلف فأولى قول بالأطراح. ثم نظرنا في قول من قال: لا يبلغ بدية العبد دية الحر: فوجدناه قولا فاسدا لا دليل عليه، ثم هم يتناقضون، فيقولون: فيمن قتل كلبا يساوي ألفي دينار: أنه يعطي ألفي دينار، وإن عقر خنزيرا لذمي يساوي ألف دينار أدى إليه ألف دينار، وإن قتل نصرانيا يجعل لله تعالى الولد وأم الولد: أنه يعطي فيه دية المسلم فيا للمسلمين أيبلغ كلب، وخنزير، ومن هو شر من الكلب، والخنزير: دية المسلم، ولا يبلغ بلال لو قتل قبل أن يعتق دية مسلم نعم، ولا دية كافر يعبد الصليب، وهو خير من كل مسلم على ظهر الأرض اليوم عند الله تعالى، وعند أهل الإسلام. ثم قد تناقضوا فقالوا: من غصب عبدا فمات عنده وقيمته عشرة آلاف دينار أدى عشرة آلاف دينار فهل سمع بأسخف من هذا التناقض ثم قد جعلوا دية العبد عشرة آلاف درهم غير درهم أو غير عشرة دراهم فتجاوزوا بها دية الحرة المسلمة وهذه وساوس يغني ذكرها عن تكلف الرد عليها. وقد روي ما ذكرنا، عن ابن مسعود، وعلي، وما نعلم لهم مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فخالفوهما. وقد جسر بعضهم فقال: قد أجمع على المقدار الذي ذكرنا واختلف فيما زاد.
فقلنا: كذبت وأفكت هذا سعيد بن العاص أمير الكوفة لعثمان رضي الله عنه وأمير المدينة، ومكة لمعاوية، لا يتجاوز بدية العبد أربعة آلاف درهم.
قال أبو محمد: والعبد، والأمة مال، فعلى متلفهما مثل ما تعدى فيه بالغا ما بلغ وبالله تعالى التوفيق.
وأما جناية العبد على مال غيره ففي مال العبد إن كان له مال، فإن لم يكن له مال ففي ذمته يتبع به حتى يكون له مال في رقه أو بعد عتقه، وليس على سيده فداؤه، ولا بما قل، ولا بما كثر، ولا إسلامه في جنايته، ولا بيعه فيها.
وكذلك جناية المدبر، والمكاتب، وأم الولد المأذون، وغير المأذون سواء، الدين والجناية في كل ذلك سواء لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
ولا يحل أن يؤخذ أحد بجريرة أحد، قال رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام.
وقال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. والعبد مال من مال سيده، وكذلك ثمنه، وكذلك سائر مال السيد، فنسأل من خالفنا هاهنا بأي كتاب الله، أم بأي سنة لرسول الله ﷺ استحللتم إباحة مال السيد لغيره ولم يجن شيئا ولعله صغير، أو مجنون، أو غائب في أرض بعيدة، أو نائم، أو في صلاة، إن هذا لعجب عجيب قال أبو محمد:
واحتج المخالفون بخبر رويناه من طريق مروان الفزاري عن دهثم بن قران اليمامي عن نمران بن جارية بن ظفر عن أبيه أن مملوكا قطع يد رجل ثم لقي آخر فشجه فاختصم إلى رسول الله ﷺ فدفع رسول الله ﷺ العبد إلى المقطوع يده، ثم أخذه منه فدفعه إلى المشجوج، فصار له ورجع سيد العبد والمقطوع يده بلا شيء.
قال أبو محمد: هذا لا يصح ; لأن دهثم بن قران ضعيف متفق من أهل النقل على ضعفه ونمران مجهول، فلم يجز القول به، ولو صح لما سبقونا إلى الأخذ به، وقد ادعى بعض من لا يبالي بالكذب على أهل الإسلام الإجماع على أن جناية العبد في رقبته، وقد كذب هذا الجاهل وأفك، ما جاء في هذا الخبر عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم في علمنا إلا ما نذكره إن شاء الله تعالى، وما فاتنا بحول الله تعالى في ذلك شيء ثابت أصلا، ولعله لم يفتنا أيضا معلول:
روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، هو ابن غياث عن حجاج، هو ابن أرطاة عن حصين الحارثي عن الشعبي عن الحارث هو الأعور عن علي قال: ما جنى العبد ففي رقبته، ويتخير مولاه إن شاء فداه وإن شاء دفعه. وهذه فضيحة الحجاج، والحارث الأعور، أحدهما كان يكفي. وقد خالفوا علي بن أبي طالب في إسلامه الشاة إلى أولياء التي نطحت فغرقت في الفرات، فما الذي جعل حكمه هنالك أولى من حكمه هاهنا لو صح عنه فكيف وهو باطل نعم، وقد خالفوا عليا في هذه القضية نفسها فأبو حنيفة يقول: ما جنى العبد من دم عمدا فليس في رقبته، ولا يفديه سيده، ولا يدفعه، إنما هو القود، أو العفو، أو ما تصالحوا عليه. ومالك يقول: جناية العبد في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال فحينئذ يرجع إلى سيده والشافعي يقول: لا يلزم السيد أن يفدي عبده، ولا أن يسلمه، لكن يباع في جنايته فقط. وحديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فنحروها فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأمر كثير بن الصلت فقطع أيديهم، ثم قال عمر لحاطب: إني أراك تجيعهم لاغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك قال: أربعمائة درهم قال: فأعطه ثمانمائة درهم. وهم يخالفون عمر في هذا. فليت شعري ما الذي جعل بعض حكمه في قضية واحدة حقا وبعضه في تلك القضية نفسها باطلا، إن هذا لهو الضلال المبين. ورواية من طريق وكيع، حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن السلولي الأعور عن معاذ بن جبل عن أبي عبيدة قال: جناية المدبر على مولاه وهذا باطل ; لأن السلولي الأعور لا يدرى من هو في خلق الله تعالى. ثم قد خالفوا هذه الرواية فمالك يقول: لا يغرم عنه سيده ما جنى، ولا يدفعه، وإنما الحكم أن يستخدم في جنايته فقط.
وكذلك يقول أبو حنيفة أيضا فيما جنى في الأموال فإن كان ذلك إجماعا، فهم أول من خالف الإجماع، فمن أقل حياء ممن يجعل مثل هذا إجماعا ثم لا يرى صوابا فكيف سنة فكيف إجماعا دفعهم كلهم أموالهم بخيبر على نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر إلى غير أجل، لكن يقرونهم ما أقرهم الله، ويخرجونهم إذا شاءوا مدة حياة النبي ﷺ ثم مدة أبي بكر ثم مدة عمر رضي الله عنهما لا أحد يخالف في ذلك، فأي عجب أعجب من هذا، ولا يرى أيضا آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ بجميع الحاضرين من أصحابه رضي الله عنهم ولم يخف ذلك عمن غاب منه بعد أن بدأ أبو بكر بالصلاة بهم صوابا، ولا سنة، ولا إجماعا.
قال أبو محمد: ثم هم مختلفون، فقالت طائفة: لا يباع المأذون له في التجارة في ديته، ولا يسلم، ولا يفديه سيده، وأما غير المأذون فهو الذي يباع، أو يسلم، أو يفدى.
وقالت طائفة: لا يباع المأذون، ولا غير المأذون في دين، ولا يسلم، ولا يفدى، وأما جنايتهما فيباعان فيهما، أو يسلمان أو يفديان.
وقالت طائفة: المأذون وغير المأذون سواء، والدين والجناية سواء، كلاهما يباع في كل ذلك، أو يسلمه سيده أو يفديه. فهذه أقوال كما ترونها ما نحتاج في ردها إلى أكثر من إيرادها ; لأن كل طائفة تخطئ الأخرى، وتبطل قولها وكلها باطل.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: إن قتل العبد حرا فليس إلا القود أو العفو، وهو لسيده كما كان، إن عفا عنه وكذلك المدبر وأم الولد. قالوا: فإن قتل العبد حرا أو عبدا خطأ، أو جنى على ما دون النفس من حر أو عبد عمدا أو خطأ قلت الجناية أو كثرت كلف سيده أن يدفعه إلى المجني عليه، أو إلى وليه كثر المجني عليهم أم قلوا أو يفديه بجميع أروش الجنايات. قالوا: فإن جنى في مال فليس عليه، ولا على السيد إلا أن يباع في جنايته فإن وفى ثمنه بالجنايات فذلك، وإن لم يف بها فلا شيء على السيد، ولا على العبد، وإن فضل فضل كان للسيد. قالوا: فإن جنى المدبر فقتل خطأ، أو جنى فيما دون النفس، فعلى سيده الأقل من قيمته أو أرش الجناية، أو الدية ليس عليه غير ذلك، إلا أن تكون قيمة الجناية عشرة آلاف درهم فصاعدا، فلا يلزم السيد إلا عشرة آلاف غير عشرة دراهم، فإن قتل آخر خطأ فلا شيء على السيد، لكن يرجع كل من جنى عليه بعد ذلك على المجني عليه أولا فيشاركه فيما أخذ، وهكذا أبدا. وهكذا أم الولد في جنايتها في قتل الخطأ وما دون النفس.
وقال أبو حنيفة: فإن جنى المدبر، وأم الولد على مال فعليهما السعي في قيمة ما جنيا، ولا شيء على سيد أم الولد.
قال أبو محمد: هذا الفصل موافق لقولنا، وكذلك ينبغي أن تكون سائر جناياتهما، وجنايات العبيد، ولا فرق، وهذه تفاريق لا تحفظ عن أحد قبل أبي حنيفة، ولو ادعى مدع في هذه التخاليط خلاف الإجماع لما بعد عن الصدق. وقالوا: إن جنى المكاتب فقتل خطأ، أو فيما دون النفس، فعليه أن يسعى في الأقل من قيمته أو من أرش الجناية، ولا شيء عليه غير ذلك فإن جنى في مال: سعى في قيمته بالغة ما بلغت.
وقال مالك: جناية العبد في الدماء والأموال سواء، فإن كان للعبد مال فكل ذلك في ماله، فإن لم يكن له مال فسيده مخير بين أن يفديه بأرش الجناية أو بقدر المال أو يدفعه، فإن جنى المدبر كذلك ففي ماله، فإن لم يف استخدم في الباقي، فإن جنت أم الولد فعلى سيدها أن يفديها بالأقل من قيمتها أو من أرش الجناية فقط، ثم كلما جنت كان عليه أن يفديها كذلك، فإن جنى المكاتب كذلك كلف أن يؤدي أرش ما جنى، فإن عجز أو أبى رق وعاد إلى حكم العبيد. وهذه تفاريق لا تحفظ أيضا عن أحد من الناس قبله، ولو ادعى مدع خلاف الإجماع عليها لما بعد عن الصدق إلا قوله: إن الجنايات في مال العبد والمدبر، فهو صحيح لو لم يتبعه بما ذكرنا.
وقال الشافعي: كل ما جنى المدبر، والعبد من دم، أو في مال أو ما دون النفس فإنما يلزم السيد بيعه فيها فقط، فإن وفى فذلك فإن فضل فضل فللسيد، وإن لم يف فلا شيء عليه، ولا على العبد غير ذلك، وليس عليه أن يسلمه، ولا أن يفديه. فإن جنت أم الولد فداها سيدها بالأقل من قيمتها ومن أرش الجناية فإن جنت ثانية فقولان: أحدهما: يفديها أيضا، وهكذا أبدا.
والثاني: يرجع الآخر على الذي قبله فيشاركه فيما أخذ، ولا شيء على السيد وهذا أيضا قول لا يحفظ عن أحد قبله. وكل هذه الأقوال ليس على صحة شيء منها دليل لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية فاسدة، ولا من قول صاحب، ولا من قياس، ولا من رأي له وجه، وما كان هكذا فلا يجوز القول به. فإن موهوا بأن العبد لا مال له، ولا يملك شيئا قلنا: هذا باطل، بل يملك كما يملك الحر، ولكن هبكم الآن أنه لا يملك كما تدعون عدوه فقيرا، وأتبعوه به إذا ملك يوما ما كما يتبع الفقير سواء بسواء، ولا فرق. والله تعالى يقول: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} فقد وعدهم الله أو من شاء منهم بالغنى، فانتظروا بهم ذلك الغنى، فكيف والبراهين على صحة ملك العبد ظاهرة روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: ويقاد للمملوك من المملوك في كل عمد يبلغ نفسه فما دون ذلك من الجراح، فإن اصطلحوا على العقل فقيمة المقتول على مال القاتل أو الجارح.
قال أبو محمد: هذا قولنا ولله تعالى الحمد، وبيان هذا أن عمر بن الخطاب يرى العبد مالكا.
ومن طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخذ عبد أسود آبق قد عدا على رجل فشجه ليذهب برقبته، فرفع ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فلم ير له شيئا. وهذا قولنا: وقد جاء هذا عن النبي ﷺ كما روينا من طريق أبي داود، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن الحصين أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل رسول الله ﷺ عليه شيئا.
قال أبو محمد: لم يسلمه، ولا باعه، ولا ألزمه مالا يملكه، ولا ألزم ساداته فداءه وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين. تم " كتاب الغصب والأستحقاق والجنايات على الأموال ".
محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأستحقاق والغصب |
كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1259 - 1261) | كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1262 - 1268) | كتاب الاستحقاق والغصب (مسألة 1269) |