→ كتاب القرض | ابن حزم - المحلى كتاب القرض (مسألة 1191 - 1208) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الرهن ← |
كتاب القرض وهو الدين
1191 - مسألة: القرض فعل خير، وهو أن تعطي إنسانا شيئا بعينه من مالك تدفعه إليه ليرد عليك مثله إما حالا في ذمته وأما إلى أجل مسمى هذا مجمع عليه وقال الله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}.
1192 - مسألة: والقرض جائز في كل ما يحل تملكه وتمليكه بهبة أو غيرها سواء جاز بيعة أو لم يجز لأن القرض هو غير البيع، لأن البيع لا يجوز إلا بثمن، ويجوز بغير نوع ما بعت. ولا يجوز في القرض إلا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه أصلا
1193 - مسألة: ولا يحل أن يشترط ردا أكثر مما أخذ، ولا أقل، وهو ربا مفسوخ، ولا يحل اشتراط رد أفضل مما أخذ، ولا أدنى وهو ربا، ولا يجوز اشتراط نوع غير النوع الذي أخذ، ولا اشتراط أن يقضيه في موضع كذا، ولا اشتراط ضامن. برهان ذلك: قول رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق.
ولا خلاف في بطلان هذه الشروط التي ذكرنا في القرض. وبالله تعالى التأييد.
1194 - مسألة: فإن تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطي أكثر مما أخذ، أو أقل مما أخذ، أو أجود مما أخذ، أو أدنى مما أخذ، فكل ذلك حسن مستحب. ومعطي أكثر مما اقترض وأجود مما اقترض مأجور. والذي يقبل أدنى مما أعطى، أو أقل مما أعطى مأجور. وسواء كان ذلك عادة أو لم يكن، ما لم يكن عن شرط، وكذلك إن قضاه في بلد آخر، ولا فرق: فهو حسن ما لم يكن عن شرط:
روينا من طريق البخاري، وموسى بن معاوية، قال البخاري:، حدثنا خلاد، وقال موسى:، حدثنا وكيع، ثم اتفق خلاد، ووكيع، قالا:، حدثنا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: كان لي على رسول الله ﷺ دين فقضاني وزادني.
ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن سلمة بن كهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: استقرض رسول الله ﷺ سنا فأعطاه سنا فوق سنه وقال: خياركم محاسنكم قضاء وهو قول السلف.
روينا من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: قضاني الحسن بن علي بن أبي طالب وزادني نحوا من ثمانين درهما.
ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: تقاضيت الحسن بن علي دينا لي عليه فوجدته قد خرج من الحمام فقضاني ولم يزنه، فوزنته فوجدته قد زادني على حقي سبعين درهما.
ومن طريق مالك قال: بلغني أن رجلا قال لأبن عمر: إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل مما أسلفته ; فقال ابن عمر: ذلك الربا، ثم ذكر كلاما وفيه: أن ابن عمر قال له: أرى أن تشق صكك فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون ما أسلفته فأخذته أجرت، وإن أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه، فذلك شكر شكره لك وهو أجر ما أنظرته.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام الدستوائي عن القاسم بن أبي بزة عن عطاء بن يعقوب قال: اقترض مني ابن عمر ألف درهم فقضاني أجود من دراهمي، وقال لي: ما كان فيها من فضل فهو نائل مني لك أتقبله قلت: نعم، ولا يعرف لهذين مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية، عن ابن مسعود أنه كره ذلك.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن الزبير يستسلف من التجار أموالهم ثم يكتب لهم إلى العمال، فذكرت ذلك لأبن عباس فقال: لا بأس به وحكى شعبة: أنه سأل الحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان عمن اقترض دراهم فرد عليه خيرا منها فقالا جميعا: إذا كان ليس من نيته فلا بأس وصح عن قتادة عن الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، قالا جميعا: لا بأس أن تقرض دراهم بيضا وتأخذ سودا، أو تقرض سودا وتأخذ بيضا.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا قطري بن عبد الله عن الأشعث الحمراني قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد لي جارات ولهن عطاء فيقترضن مني ونيتي في فضل دراهم العطاء على دراهمي قال: لا بأس به.
ومن طريق معمر عن أيوب، عن ابن سيرين إذا أسلفت طعاما فأعطاكه بأرض أخرى، فإن كان عن شرط فهو مكروه، وإن كان على وجه المعروف فلا بأس به. وهو كله قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. وأجاز مالك: أن يرد أفضل ما لم يكن عن عادة، ولم يجز أن يرد أكثر وهذا خطأ، لأنه خلاف فعل رسول الله ﷺ الذي أوردنا.
وأما فرقه بين العادة وغيرها: فخطأ، لأنه إن جاز مرة جاز ألف مرة، ولا فرق، وإن كان خيرا في المرة الواحدة فالإكثار من الخير خير ; وإن كان شرا فالشر لا يجوز لا مرة، ولا مرارا وبالله تعالى التوفيق. ولا نعلم أحدا قبله فرق بين العادة في ذلك وبين المرة الواحدة.
وأما منعه من رد أكثر: فقد رويناه عن الشعبي، والزهري. والعجب كله من إجازته الزيادة حيث هي الربا المكشوف المحرم، إذ يجيز مبادلة دينار ناقص بدينار زائد عليه في وزنه بمشارطة في حين المبادلة، وكذلك في الدرهم الناقص بالدرهم الزائد عليه في وزنه وقد صح عن النبي ﷺ: الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا ثم يمنع من الزيادة غير المشترطة في قضاء القرض وقد فعله رسول الله ﷺ وحض عليه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1195 - مسألة: فإن قضاه من غير نوع ما استقرض لم يحل أصلا لا بشرط، ولا بغير شرط مثل: أن يكون أقرضه ذهبا فيرد عليه فضة، أو غير ذلك، وهكذا في كل شيء، يقول الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وهو إذا رد غير ما كان عليه فقد أخذ غير حقه، ومن أخذ غير حقه فقد أكل المال بالباطل.
فإن قالوا: إنما هو من باب البيع كأنه باع منه ما كان له عنده بما أخذ منه
قلنا: هذا حرام لا يحل، لأنه ليس له عنده شيء بعينه، ولا يحل البيع إلا في شيء بعينه وهو بيع ما ليس عندك، وبيع ما لم يقبض. وكل هذا قد صح النهي عنه على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى، وهو فيما يقع فيه الربا ربا محض على ما نذكر في " أبواب الربا " إن شاء الله تعالى. فإن احتجوا بخبر ابن عمر في ذلك فهو خبر لا يصح على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى ; لأنه من رواية سماك بن حرب ثم لو صح لكانوا مخالفين له على ما نذكر هنالك إن شاء الله تعالى.
1196 - مسألة: ومن استقرض شيئا فقد ملكه، وله بيعه إن شاء، وهبته، والتصرف فيه، كسائر ملكه وهذا لا خلاف فيه وبه جاءت النصوص.
1197 - مسألة: فإن كان الدين حالا كان للذي أقرض أن يأخذ به المستقرض متى أحب إن شاء إثر إقراضه إياه، وإن شاء أنظره به إلى انقضاء حياته.
وقال مالك: ليس له مطالبته إياه به إلا بعد مدة ينتفع فيها المستقرض بما استقرض وهذا خطأ، لأنه دعوى بلا برهان.
وأيضا فإنه أوجب هاهنا أجلا مجهول المقدار لم يوجبه الله تعالى قط ثم هو الموجب له لا يحد مقداره، فأي دليل أدل على فساد هذا القول من أن يكون قائله يوجب فيه مقدارا ما لا يدري هو، ولا غيره ما هو وقد أمر رسول الله ﷺ أن يعطى كل ذي حق حقه، فمن منع من هذا فقد خالف أمره عليه السلام.
1198 - مسألة: فإن طالبه صاحب الدين بدينه والشيء المستقرض حاضر عند المستقرض لم يجز أن يجبر المستقرض على شيء من ماله إذ لم يوجب ذلك أن يرد الذي أخذ بعينه، ولا بد، لكن يجبر على رد مثله إما ذلك الشيء وأما غيره مثله من نوعه لأنه قد ملك الذي استقرض وصار كسائر ماله، ولا فرق. ولا يجوز أن يجبر على إخراج شيء بعينه من ماله، إذ لم يوجب عليه قرآن، ولا سنة، فإن لم يوجد له غيره قضي عليه حينئذ برده، لأنه مأمور بتعجيل إنصاف غريمه، فتأخيره بذلك وهو قادر على الإنصاف ظلم. وقد قال عليه السلام: مطل الغني ظلم وهذا غني فمطله ظلم.
1199 - مسألة: فإن كان القرض إلى أجل، ففرض عليهما أن يكتباه وأن يشهدا عليه عدلين فصاعدا أو رجلا وامرأتين، عدولا فصاعدا. فإن كان ذلك في سفر ولم يجدا كاتبا فإن شاء الذي له الدين أن يرتهن به رهنا فله ذلك، وإن شاء أن يرتهن فله ذلك، وليس يلزمه شيء من ذلك الدين الحال لا في السفر، ولا في الحضر. برهان ذلك: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله} إلى قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} وليس في أمر الله تعالى إلا الطاعة. ومن قال: إنه ندب، فقد قال: الباطل، ولا يجوز أن يقول الله تعالى: {فاكتبوه} فيقول قائل: لا أكتب إن شئت. ويقول الله تعالى: {واستشهدوا} فيقول قائل: لا أشهد، ولا يجوز نقل أوامر الله تعالى عن الوجوب إلى الندب إلا بنص آخر، أو بضرورة جس. وكل هذا قول أبي سليمان، وجميع أصحابنا، وطائفة من السلف، ونتقصى ذلك في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى.
1200 - مسألة: ومن لقي غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا أو قد بلغ أجله فله مطالبته، وأخذه بحقه، ويجبره الحاكم على إنصافه عرضا كان الدين، أو طعاما، أو حيوانا، أو دنانير، أو دراهم كل ذلك سواء، ولا يحل أن يجبر صاحب الحق على أن لا ينتصف إلا في الموضع الذي تداينا فيه. برهان ذلك: قول رسول الله ﷺ: مطل الغني ظلم. وأمره عليه السلام أن يعطي كل ذي حق حقه.
ومن ادعى أنه لا يجوز أن يجبر على إنصافه إلا حيث تداينا فقد قال الباطل لأنه قول لا دليل عليه لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي سديد، ثم يقال له: إن كان التداين بالأندلس، ثم لقيه بصين الصين ساكنا هنالك، أو كلاهما، أترى حقه قد سقط أو يكلف الذي عليه الحق هو وصاحب الحق النهوض إلى الأندلس لينصفه هنالك من مدين. ثم لو طردوا قولهم للزمهم أن لا يجيزوا الإنصاف إلا في البقعة التي كانا فيها بأبدانهما حين التداين، وهم لا يقولون هذا، فنحن نزيدهم من الأرض شبرا شبرا حتى نبلغهم إلى أقصى العالم. ولو حقق كل ذي قول قوله، وحاسب نفسه بأن لا يقول في الدين إلا ما جاء به قرآن أو سنة ; لقل الخطأ، ولكان أسلم لكل قائل. وما توفيقنا إلا بالله العظيم.
1201- مسألة: وإن أراد الذي عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل أو كثر لم يجبر الذي له الحق على قبوله أصلا وكذلك لو أراد الذي له الحق أن يتعجل قبض دينه قبل أجله بما قل أو كثر لم يجز أن يجبر الذي عليه الحق على أدائه -: سواء في كل ذلك الدنانير والدراهم، والطعام كله، والعروض كلها، والحيوان. فلو تراضيا على تعجيل الدين أو بعضه قبل حلول أجله، أو على تأخيره بعد حلول أجله، أو بعضه: جاز كل ذلك -.
وهو قول أبي سليمان، وأصحابنا. وقال المالكيون: إن كان مما لا مؤنة في حمله ونقله أجبر الذي له الحق على قبضه، وإن كان مما فيه مؤنة في حمله ونقله لم يجبر على قبوله قبل محله. قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد -: أول ذلك: أنه قول بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب لا مخالف له، ولا قياس، ولا رأي سديد. والثاني: أن شرط الأجل قد صح بالقرآن والسنة، فلا يجوز إبطال ما صححه الله تعالى. والثالث: أنهم أبطلوا هذا الشرط الصحيح الذي أثبته الله تعالى في كتابه. وأجازوا الشروط الفاسدة التي أبدلها الله تعالى في كتابه، كمن اشترط لامرأته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، وكل سرية يتخذها عليها فهي حرة، وأن لا يرحلها عن دارها، فإن فعل فأمرها بيدها واحتجوا هاهنا برواية مكذوبة وهي " المسلمون عند شروطهم " فهلا احتجوا بها إذ هي عندهم صحيحة في إنفاذ شرط التأجيل المسمى بالدين، فتأملوا هذه الأمور تروا العجب والرابع: أنهم احتجوا في هذا بعمر، وعثمان، فيما روي عنهما في القضاء بقبول تعليم الكتابة قبل أجلها، وقد أخطئوا في هذا من وجوه.
أولها: أنه لا حجة فيمن دون رسول الله ﷺ. والثاني أنه إنما جاء ذلك عن عمر، وعثمان، في الكتابة خاصة، فقاسوا عليها سائر الديون، وهم مقرون بأن حكم الكتابة مخالف لحكم الديون في جواز الحمالة وغير ذلك. والثالث: أنه قد خالف عمر، وعثمان في ذلك أنس فلم ير تعجيل الكتابة قبل أجلها. والرابع: أنهم خالفوا عمر، وعثمان، في مئين من القضايا. منها - إجبار عمر سادات العبيد على كتابتهم بالضرب إذا طلب العبيد ذلك، وغير هذا كثير، فمن الباطل أن يكون قولهما حجة في موضع غير حجة في آخر. والخامس: أنهم قد خالفوا عمر، وعثمان، في هذه القضية نفسها، لأنه جاء عنهما وضع الكتابة في بيت المال، ثم يعطي السيد في كل نجم حقه ; فظهر فساد هذا القول - وبالله تعالى التوفيق. وقد موه بعضهم بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: {ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك} قال أبو محمد: وهذا تحريف منهم للكلم عن مواضعه، لأن هذا الخبر إنما هو في العطاء المبتدأ الذي نهينا عن السؤال فيه - عن غير ضرورة أو بغير سلطان - ولا في الحقوق الواجبة الواجب السؤال عنها وطلبها أو الإبراء منها لله تعالى. قال أبو محمد: وليت شعري أي فرق بين إرادة الذي عليه الحق تعجيل ما عليه قبل أجله مع إباية الذي له الحق من ذلك وبين إرادة الذي له الحق تعجيل ما له قبل أجله مع إباية الذي عليه الحق من ذلك ؟ إذ أوجبوا الواحد ومنعوا الآخر. فإن قالوا: إن الذي عليه الحق يريد أن يبرأ مما عليه ؟ قلنا لهم: والذي له الحق يريد أن يبرئ الذي عليه الحق مما عليه. فإن قالوا: ليس يريد ذلك الذي عليه الحق إلا إلى أجله ؟ قلنا لهم: ولا يريد ذلك الذي له الحق إلا إلى أجله.
1202 - مسألة: والقرض جائز في الجواري، والعبيد، والدواب، والدور، والأرضين، وغير ذلك لعموم قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} فعم تعالى ولم يخص فلا يجوز التخصيص في ذلك بالرأي الفاسد بغير قرآن، ولا سنة.
وقولنا في هذا هو قول المزني، وأبي سليمان، ومحمد بن جرير، وأصحابنا. ومنع من ذلك أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، في الجواري خاصة، وما نعلم لهم حجة أصلا، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية سقيمة، ولا من قول صاحب، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من رأي سديد، إلا أن بعضهم قال: لا يجوز ذلك، لأنه يطؤها، ثم يردها إليه فيكون فرجا معارا.
قال أبو محمد: أما قولهم: يطؤها ثم يردها عليه، فهم يوجبون هذا نفسه في التي يجد بها عيبا فإن ادعوا إجماعا.
قلنا: كذبتم، قد صح عن علي وشريح: المنع من الرد بالعيب بعد الوطء ثم لو صح لهم أنه إجماع للزمهم لأنهم أصحاب قياس أن يقيسوا ما اختلف فيه على ما يزعمون أنه اتفق عليه فهذا أصلهم في القياس، فأنى بدا لهم عنه.
ثم نقول لهم: فإذا وطئها ثم ردها فكان ماذا وطئها بحق بنص القرآن قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} ثم إن ردها ردها بحق، لأنه أدى ما عليه فانتقلت من حق إلى حق.
وأما قولهم: إنه فرج معار: فكذب وباطل، لأن العارية لا يزول عنها ملك المعير، فحرام على غيره وطؤها، لأنه ملك يمين غيره.
وأما المستقرضة فهي ملك يمين المستقرض فهي له حلال، وهو مخير بين أن يردها، أو يمسكها أو يرد غيرها، وليست العارية كذلك. وقالوا: هو بشيع شنيع
قلنا: لا شنعة، ولا بشاعة في الحلال، وأنتم لا تستبشعون مثله من أن يكون إنسان يبيع جارية من غيره فيطؤها، ثم يبتاعها الذي باعها فيستبرئها بحيضة، ثم يطؤها، ثم يبتاعها الذي باعها منه وهكذا أبدا. ومن أن يكون إنسان يتزوج امرأة فيطؤها ثم يطلقها، فتعتد خمسة وأربعين يوما وهي مصدقة عنده، ثم يتزوجها جاره فيطؤها ثم يطلقها، فتعتد كذلك، ثم يتزوجها الأول فيطؤها ثم يطلقها وهكذا أبدا. فأي فرق بين هذا وبين ما منعوا منه من قرض الجواري إنما الشنيع البشيع الفظيع مما يقولونه: من أن رجالا تكون بينهم أمة يطؤها كل واحد منهم، فلا يرون في ذلك حدا ويلحقون الولد بهذا الوطء الحرام الخبيث. ومن أن يطأ الوالد أم ولد ابنه فلا يرون عليه حدا ويلحقون الولد في هذا الوطء الفاحش، لا سيما الحنفيين الذين يقولون: من عشق امرأة جاره فرشا شاهدين فشهدا له بأن زوجها طلقها، وأنها اعتدت، وأنها تزوجت هذا وهي منكرة وزوجها منكر والله تعالى يعلم أنهما كاذبان، فقضى القاضي بذلك فإنه يطؤها حلالا طيبا فهذه هي الشناعة المضاهية لخلاف الإسلام وبالله تعالى التوفيق.
1203 - مسألة: وكل ما يمكن وزنه أو كيله أو عدده أو زرعه لم يجز أن يقرض جزافا، لأنه لا يدري مقدار ما يلزمه أن يرده، فيكون أكل مال بالباطل.
1204 - مسألة: وكل ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل أو الوزن، فإن رده جزافا فكان ظاهرا متيقنا أنه أقل مما اقترض فرضي ذلك المقرض، أو كان ظاهرا متيقنا أنه أكثر مما اقترض وطابت نفس المقترض، وكل ذلك جائز حسن، لما قدمنا. فإن لم يدر أهو مثل ما اقترض أم أقل أم أكثر لم يجز له، لأنه لا يجوز مال أحد إلا بطيب نفس منه ورضاه، ولا يكون الرضا وطيب النفس إلا على معلوم، ولا بد، على مجهول وبالله تعالى التوفيق.
1205 - مسألة: ولا يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبرئه من الباقي، فإن وقع رد وصرف إلى الغريم ما أعطى، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، وقد قال رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فلو عجل الذي عليه الحق بعض ما عليه بغير شرط ثم رغب إلى صاحب الحق أن يضع عنه الباقي أو بعضه، فأجابه إلى ذلك أو وضعه عنه أو بعضه بغير رغبة فكل ذلك جائز حسن وكلاهما مأجور لأنه ليس هاهنا شرط أصلا لكن أحدهما سارع إلى الخير في أداء بعض ما عليه فهو محسن والآخر سارع إلى الإبراء من حقه فهو محسن. قال الله عز وجل: {وافعلوا الخير}. وهذا كله خير وبالله تعالى التوفيق.
1206 - مسألة: ومن كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق في أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل، أو أنظره كذلك بغير رغبة وأشهد أو لم يشهد لم يلزمه من ذلك شيء والدين حال يأخذه به متى شاء وهو قول الشافعي وهو أيضا قول زفر، وأبي سليمان، وأصحابنا.
وكذلك لو أن امرأ عليه دين مؤجل فأشهد على نفسه: أنه قد أسقط الأجل وجعله حالا، فإنه لا يلزمه ذلك، والدين إلى أجله كما كان. برهان ذلك: أن كل ما ذكرنا فإنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وليس شيء من هذا من العقود التي افترض الله تعالى الوفاء بها، لأن العقود المأمور بالوفاء بها منصوصة الأسماء في القرآن.
ولا خلاف في أن كل العقود لا يلزم الوفاء بها كمن عقد: أن يكفر أو أن يزني. وكل عقد صح مؤجلا بالقرآن أو السنة، فلا يجوز البتة إبطال التأجيل إلا بنص آخر. وكل عقد صح حالا بالقرآن أو السنة، فلا يجوز ألبتة إبطال الحلول إلا بنص آخر، ولا سبيل إلى نص في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: قد قلتم: إنه إن عجل له ما عليه قبل الأجل إن ذلك لازم له لا رجوع فيه
قلنا نعم، لأنه قد خرج من حقه وصيره إلى غيره ووهبه، فهذا جائز، إذ قد أمضاه، وأما ما لم يمضه فإنما هو وعد، وقد قدمنا أن الوعد لا يلزم إنجازه فرضا وبالله تعالى التوفيق.
وقال مالك: يلزمه التأجيل وقال أبو حنيفة: إن أجله في قرض لم يلزمه وكان له الرجوع، ويأخذه حالا، فإن أجله في غصب غصبه إياه أو في سائر الحقوق ما عدا القرض لزمه التأجيل.
وهو قول محمد بن الحسن، وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف: أنه إن استهلك له مما يكال أو يوزن ثم أجله به فله أن يرجع في ذلك، ولا يلزمه التأجيل، فإن استهلك له شاة أو ثوبا فأجله في قيمتهما لزمه التأجيل.
قال أبو محمد: فهل سمع بأسخف من هذه الفروق.
واحتج بعضهم بأن قال: إن التأجيل في أصل القرض لا يصح فما زاد هذا المحتج على خلاف الله تعالى في قوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} قال أبو محمد: وإنما الحجة ما ذكرنا وبالله تعالى نتأيد.
1207 - مسألة: وكل من مات وله ديون على الناس مؤجلة، أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سواء، وقد بطلت الآجال كلها، وصار كل ما عليه من دين حالا، وكل ما له من دين حالا سواء في ذلك كله القرض، والبيع، وغير ذلك وقال مالك: أما الديون التي عليه مؤجلة فقد حلت، وأما التي له على الناس فإلى أجلها.
قال أبو محمد: وهذا فرق فاسد بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا رواية سقيمة، ولا قياس، ولا قول صاحب، ولا رأي له وجه. برهان قولنا: هو قول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام.
وقال تعالى في حكمه في المواريث فذكر فرائض المواريث.
وقال عز وجل: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}، فصح أن بموت الإنسان بطل حكمه عن ماله وانتقل إلى ملك الغرماء، والموصى لهم، ووجوه الوصايا، والورثة، وعقد الغرماء في تأجيل ما عليهم، أو تأجيل ما على الميت إنما كان بلا شك بينهم وبين المتوفى إذ كان حيا، وقد انتقل الآن المال عن ملكه إلى ملك غيره، فلا يجوز كسب الميت عليهم فيما قد سقط ملكه عنه. ولا يحل للغرماء شيء من مال الورثة والموصى لهم والوصية بغير طيب أنفسهم، فبطل حكم التأجيل في ذلك، ووجب للورثة وللوصية أخذ حقوقهم.
وكذلك لا يحل للورثة إمساك مال غريم ميتهم إلا بطيب نفسه، لأن عقده إنما كان مع المتوفى إذ كان حيا فلا يلزمه أن يبقى ماله بأيدي ورثة لم يعاملهم قط. ولا يحل لهم إمساك مال الذي له الحق عنه، والله تعالى لم يجعل لهم حقا، ولا للوصية إلا بعد إنصاف أصحاب الديون وبالله تعالى التوفيق.
روينا من طريق أبي عبيد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية عن ليث عن الشعبي، والنخعي، قالا جميعا: من كان له دين إلى أجل فإذا مات فقد حل وبه إلى أبي عبيد عن معاذ بن معاذ العنبري عن أشعث عن الحسن البصري: أنه كان يرى الدين حالا إذا مات وعليه دين.
ومن طريق محمد بن المثنى حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم قال: إذا مات الميت فقد حل دينه وهذا عموم لما عليه ولما له.
1208 - مسألة: وهدية الذي عليه الدين إلى الذي له عليه الدين حلال وكذلك ضيافته إياه ما لم يكن شيء من ذلك عن شرط. فإن كان شيء عن شرط فهو حرام: لما روينا من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة وكان عليه السلام يأكل الهدية وقال عليه السلام: لو أهدي إلي ذراع لقبلت. رويناه من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ فهذا عموم لم يخص عليه السلام من ذلك غريما من غيره.
وقالت طائفة: لا يجوز قبول هديته، ولا النزول عنده، ولا أكل طعامه صح، عن ابن عباس إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية قراع، ولا عارية ركوب دابة وأنه استفتاه رجل فقال له: أقرضت سماكا خمسين درهما وكان يبعث إلي من سمكه فقال له ابن عباس: حاسبه، فإن كان فضلا فرد عليه، وإن كان كفافا فقاصصه. وصح عن عبد الله بن سلام، أنه قال: إذا كان لك على رجل مال فأهدى لك حملة من تبن فلا تقبلها فإنها ربا، اردد عليه هديته أو أثبه. وصح، عن ابن عمر أنه سأله سائل فقال له: أقرضت رجلا فأهدى لي هدية فقال: أثبه أو احسبها له مما عليه أو ارددها عليه. وعن علقمة نحو هذا. واحتجوا فقالوا: هو سلف جر منفعة وصح النهي عن هذا، عن ابن سيرين، وقتادة، والنخعي
قال أبو محمد: أما هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد خالفوا ابن عمر، وابن عباس في مئين من القضايا، وقد جاء خلافهم عن غيرهم:
روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد، وخالد الحذاء، كلاهما عن محمد بن سيرين أن أبي بن كعب تسلف من عمر بن الخطاب عشرة آلاف فبعث إليه أبي من ثمره وكانت تبكر، وكان من أطيب ثمر أهل المدينة، فردها عليه عمر فقال له: أبي بن كعب: لا حاجة لي بما منعك طيب ثمرتي، فقبلها عمر، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ.
وبه إلى سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، وذكر نهى علقمة عن أكل المرء عند من له عليه دين فقال إبراهيم: إلا أن يكون معروفا كان يتعاطيانه.
قال أبو محمد: قول عمر بن الخطاب هو الحق لقول النبي ﷺ: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى. ولو كانت هدية الغريم والضيافة منه حراما أو مكروها لما أغفل الله تعالى بيانه على لسان رسوله ﷺ: وما كان ربك نسيا فإذا لم ينه تعالى عن ذلك فهو حلال محض، وإلا ما كان عن شرط بينهما.
وأما قولهم إنه سلف جر منفعة، فكان ماذا أين وجدوا النهي عن سلف جر منفعة فليعلموا الآن أنه ليس في العالم سلف إلا وهو يجر منفعة وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله، فيكون مضمونا تلف أو لم يتلف مع شكر المستقرض إياه، وانتفاع المستقرض بمال غيره مدة ما، فعلى قولهم كل سلف فهو حرام، وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق. وتم " كتاب القرض " والحمد لله وصلى الله على محمد وآله.