الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثامنة والخمسون


كتاب المزارعة والمغارسة

1328 - مسألة : الإكثار من الزرع والغرس حسن وأجر ، ما لم يشغل ذلك عن الجهاد - وسواء كان كل ذلك في أرض العرب ، أو الأرض التي أسلم أهلها عليها ، أو أرض الصلح ، أو أرض العنوة المقسومة على أهلها أو الموقوفة بطيب الأنفس لمصالح المسلمين - : روينا من طريق البخاري نا قتيبة بن سعيد نا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ { ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طائر أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة } . ورويناه أيضا من طريق الليث أنه سمع أبا الزبير أنه سمع جابرا عن النبي ﷺ بمثله - فعم عليه السلام ولم يخص . وكره مالك الزرع في أرض العرب - وهذا خطأ ، وتفريق بلا دليل - واحتج لهذا بعض مقلديه بما رويناه من طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا عبد الله بن سالم الحمصي نا محمد بن زياد الألهاني { عن أبي أمامة الباهلي : أنه رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل } . قال أبو محمد : لم تزل الأنصار كلهم ، وكل من قسم له النبي ﷺ أرضا من فتوح بني قريظة ، ومن أقطعه أرضا من المهاجرين يزرعون ويغرسون بحضرته ﷺ وكذلك كل من أسلم من أهل البحرين ، وعمان ، واليمن ، والطائف ، فما حض عليه السلام قط على تركه . وهذا الخبر عموم كما ترى لم يخص به غير أهل بلاد العرب من أهل بلاد العرب ، وكلامه عليه السلام لا يتناقض . فصح أن الزرع المذموم الذي يدخل الله تعالى على أهله الذل هو ما تشوغل به عن الجهاد ، وهو غير الزرع الذي يؤجر صاحبه ، وكل ذلك حسنه ومذمومه سواء - كان في أرض العرب أو في أرض العجم - إذ السنن في ذلك على عمومها . واحتجوا أيضا بما روينا من طريق أسد بن موسى عن محمد بن راشد عن مكحول : أن المسلمين زرعوا بالشام ، فبلغ عمر بن الخطاب ، فأمر بإحراقه وقد ابيض ، فأحرق ، وأن معاوية تولى حرقه . ومن طريق أسد بن موسى عن شرحبيل بن عبد الرحمن المرادي : أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن عبد يغوث المرادي : لا آذن لك بالزرع إلا أن تقر بالذل ، وأمحو اسمك من العطاء - وأن عمر كتب إلى أهل الشام من زرع واتبع أذناب البقر ورضي بذلك جعلت عليه الجزية . قال أبو محمد : هذا مرسل ، وأسد ضعيف ، ويعيذ الله أمير المؤمنين من أن يحرق زروع المسلمين ويفسد أموالهم ، ومن أن يضرب الجزية على المسلمين ، والعجب ممن يحتج بهذا ، وهو أول مخالف له

1329 - مسألة : لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلا لا بدنانير ، ولا بدراهم ، ولا بعرض ، ولا بطعام مسمى ، ولا بشيء أصلا . ولا يحل في زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه - : إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه . وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منه شيئا ، فإن اشتركا في الآلة والحيوان ، والبذر ، والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن . وإما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى ، إما نصف ، وإما ثلث ، أو ربع ، أو نحو ذلك أكثر أو أقل ، ولا يشترط على صاحب الأرض ألبتة شيء من كل ذلك ، ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر فإن لم يصب شيئا فلا شيء له ، ولا شيء عليه ، فهذه الوجوه جائزة ، فمن أبى فليمسك أرضه . برهان ذلك - : أننا قد روينا عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن أبى فليمسك أرضه } . ومن طريق رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع عن رسول الله ﷺ مثله . ومن طريق رافع عن عم له بدري عن النبي ﷺ مثله . ومن طريق البخاري نا سليمان بن حرب نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه كان يكري مزارعه قال : فذهب إلى رافع بن خديج وذهبت معه فسأله فقال رافع : نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . ومن طريق مسلم نا محمد بن حاتم نا معلى بن منصور الرازي نا خالد - وهو الحذاء - نا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن بكير بن الأخنس عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : { نهى رسول الله ﷺ أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ } . ومن طريق مسلم نا أبو توبة - هو الربيع بن نافع - نا معاوية - هو ابن سلام - عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه } . ومن طريق ابن وهب نا مالك بن أنس عن داود بن الحصين أن أبا سفيان مولى ابن أبي أحمد أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول { نهى رسول الله ﷺ عن المزابنة والمحاقلة قال : والمحاقلة كراء الأرض } . ومن طريق حماد بن سلمة نا عمرو بن دينار قال : سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . فهؤلاء شيخان بدريان ، ورافع بن خديج ، وجابر ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وابن عمر كلهم يروي عن النبي عليه السلام النهي عن كراء الأرض جملة ، وأنه ليس إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره أو يمسك أرضه فقط ، فهو نقل تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف . كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني عمرو - هو ابن الحارث - أن بكيرا - هو ابن الأشج - حدثه قال : حدثني نافع مولى ابن عمر أنه سمع ابن عمر يقول : كنا نكري أرضنا ، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن عكرمة بن عمار عن عطاء عن جابر أنه كره كراء الأرض . ومن طريق أبي داود السجستاني قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت : أحدثكم عبد الله بن المبارك عن سعيد أبي شجاع حدثني عيسى بن سهل بن رافع قال : إني يتيم في حجر جدي رافع بن خديج ، وحججت معه ، فجاءه أخي عمران بن سهل قال : أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم ؟ فقال : دعه فإن { النبي ﷺ نهى عن كراء الأرض } وعن عمي رافع نحوه . ومن التابعين - : كما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن منصور عن مجاهد قال : لا يصلح من الزرع إلا أرض تملك رقبتها ، أو أرض يمنحكها رجل . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن منصور عن مجاهد أنه كره إجارة الأرض . وبه إلى وكيع عن يزيد بن إبراهيم ، وإسماعيل بن مسلم عن الحسن : أنه كره كراء الأرض . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يكره كراء الأرض البيضاء . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري أن عكرمة مولى ابن عباس قال : لا يصلح كراء الأرض . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي نا أبو عاصم نا عثمان بن مرة قال : سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن كراء الأرض ؟ فقال رافع بن خديج : { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض } . قال أبو محمد : فأفتى من استفتاه بالنهي عن كراء الأرض . ومن طريق ابن الجهم نا إبراهيم الحربي نا خلاد بن أسلم نا النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال : كان محمد بن سيرين يكره كراء الأرض بالذهب والفضة . وبه إلى إبراهيم الحربي نا داود بن رشيد نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي قال : كان عطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري يقولون : لا تصلح الأرض البيضاء بالدراهم ولا بالدنانير ولا معاملة إلا أن يزرع الرجل أرضه أو يمنحها . ومن طريق شعبة نا أبو إسحاق السبيعي عن الشعبي عن مسروق أنه كان يكره الزرع . قال الشعبي : فذلك الذي منعني ولقد كنت من أكثر أهل السواد ضيعة - وهذا يقتضي - ولا بد - ضرورة أنهما كانا يكرهان إجارة الأرض جملة . فهؤلاء : عطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والشعبي ، وطاوس ، والحسن ، وابن سيرين والقاسم بن محمد ، كلهم ، لا يرى كراء الأرض أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ، ولا بغير ذلك . فصح النهي عن كراء الأرض جملة ، ثم وجدنا قد صح ما رويناه من طريق البخاري نا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر } . ومن طريق البخاري نا موسى بن إسماعيل نا جويرية - هو ابن أسماء - عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : { أعطى النبي ﷺ خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها } . ومن طريق مسلم نا ابن رمح نا الليث - هو ابن سعد - عن محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر { عن النبي ﷺ أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله ﷺ نصف ثمرها } . ومن طريق مسلم حدثني محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : { لما ظهر رسول الله ﷺ على خيبر أراد إخراج اليهود عنها ، فسألوه عليه السلام أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر ؟ فقال لهم رسول الله ﷺ : نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر } . ففي هذا أن آخر فعل رسول الله ﷺ إلى أن مات كان إعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر ، وعلى هذا مضى أبو بكر ، وعمر ج، وجميع الصحابة رضي الله عنهم معهم ، فوجب استثناء الأرض ببعض ما يخرج منها من جملة ما صح النهي عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر أو حظ ، وكان هذا العمل المتأخر ناسخا للنهي المتقدم عن إعطاء الأرض ببعض ما يخرج منها ؛ لأن النهي عن ذلك قد صح ، فلولا أنه قد صح لقلنا : ليس نسخا ، لكنه استثناء من جملة النهي ، ولولا أنه قد صح أن رسول الله ﷺ مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ ، لكن ثبت أنه آخر عمله عليه السلام . فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه ، وبقي النهي عن الإجارة جملة بحسبه ، إذ لم يأت شيء ينسخه ولا يخصصه ألبتة إلا بالكذب البحت ، أو الظن الساقط الذي لا يحل استعماله في الدين . فإن قيل : إنما صح عن النبي ﷺ النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، وعن أن تكرى بثلث أو بربع ، وصح أنه أعطاه بالنصف فأجيزوا إعطاءها بالنصف خاصة وامنعوا من إعطائها بأقل أو أكثر ؟ قلنا : لا يجوز هذا ؛ لأنه إذا أباح عليه السلام إعطاءها بالنصف لهم والنصف للمسلمين وله عليه السلام ، فبضرورة الحس ، والمشاهدة يدري كل أحد أن الثلث ، والربع ، وما دون ذلك ، وفوق ذلك من الأجزاء مما دون النصف داخل في النصف ، فقد أعطاها عليه السلام بالربع وزيادة وبالثلث وزيادة ، فصح أن كل ذلك مباح بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وممن أجاز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها - : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن زائدة عن حجاج عن أبي جعفر محمد بن علي قال : { عامل رسول الله ﷺ أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي } . وروينا من طريق البخاري قال : عامل عمر بن الخطاب الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الحارث بن حصيرة حدثني صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب : أخذت أرضا بالنصف أكري أنهارها وأصلحها وأعمرها ؟ قال علي : لا بأس بها . قال عبد الرزاق : كراء الأنهار هو حفرها . ومن طريق حماد بن سلمة عن خالد الحذاء أنه سمع طاوسا يقول : قدم علينا معاذ بن جبل فأعطى الأرض على الثلث والربع ، فنحن نعملها إلى اليوم . قال أبو محمد : مات رسول الله ﷺ ومعاذ باليمن على هذا العمل . ومن طريق عبد الرزاق قال سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد قال : كان ابن عمر يعطي أرضه بالثلث ، وهذا عنه في غاية الصحة . وقد ذكرنا عنه رجوعه عن إباحة كراء الأرض . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن كليب بن وائل قال : سألت ابن عمر ؟ فقلت : أرض تقبلتها ليس فيها نهر جار ولا نبات عشر سنين بأربعة آلاف درهم كل سنة كريت أنهارها ، وعمرت فيها قراها ، وأنفقت فيها نفقة كثيرة ، وزرعتها لم ترد علي رأس مالي زرعتها من العام المقبل فأضعف ؟ قال ابن عمر : لا يصلح لك إلا رأس مالك . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن أبي زائدة ، وأبو الأحوص ، كلاهما عن كليب بن وائل قلت لابن عمر : رجل له أرض ، وماء ، ليس له بذر ، ولا بقر ، فأعطاني أرضه بالنصف ، فزرعتها ببذري وبقري ، ثم قاسمته ؟ قال : حسن . ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص ، وعبيد الله بن إياد بن لقيط كلاهما عن كليب بن وائل مثله أيضا - فهذان إسنادان في غاية الصحة - عن ابن عمر أنه سأله كليب بن وائل عن كراء الأرض بالدراهم ؟ فلم يجزه ولا أجاز ما أصاب فيها زيادة على قدر ما أنفق ، وسأله عن أخذها بالنصف مما يخرج فيها ، لا يجعل صاحبها فيها لا بذرا ولا عملا ويكون العمل كله على العامل والبذر ؟ فأجازه - وهذا هو نفس قولنا - ولله الحمد . ومن طريق سفيان ، وأبي عوانة وأبي الأحوص وغيرهم كلهم عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أنه شاهد جاريه سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود يعطيان أرضهما على الثلث . ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة : أن خباب بن الأرت ، وحذيفة بن اليمان ، وابن مسعود كانوا يعطون أرضهم البياض على الثلث والربع . فهؤلاء أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعد ، وابن مسعود ، وخباب ، وحذيفة ، ومعاذ بحضرة جميع الصحابة . ومن التابعين - : من طريق عبد الرزاق نا معمر أخبرني من سأل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن الأرض تعطى بالثلث ، والربع ؟ فقال : لا بأس به . وقد ذكرنا قبل نهيه عن كراء الأرض وهذا نص قولنا . ومن طريق ابن أبي شيبة نا الفضيل بن عياض عن هشام - هو ابن حسان - عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وابن سيرين : أنهما كانا لا يريان بأسا أن يعطي أرضه على أن يعطيه الثلث ، أو الربع ، والعشر ، ولا يكون عليه من النفقة شيء . ومن طريق أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن عبد الله بن المبارك نا زكريا بن عدي نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال : كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ، ولا يرى بالثلث والربع بأسا وهذا نص قولنا . ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة : أن سعيد بن المسيب ، وابن سيرين كانا لا يريان بأسا بالإجارة على الثلث والربع - يعني في الأرض - . وقد ذكرنا نهي ابن سيرين عن كراء الأرض فقوله هو قولنا . ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن إياس بن معاوية أن عمر بن عبد العزيز كتب : أن أعطوا الأرض على الربع ، والثلث ، والخمس ، إلى العشر ، ولا تدعوا الأرض خرابا . ورويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة قال : نا حفص بن غياث ، وعبد الوهاب الثقفي قال حفص : عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وقال عبد الوهاب : عن خالد الحذاء ثم اتفق يحيى ، وخالد على أن عمر بن عبد العزيز أمر بإعطاء الأرض بالثلث ، والربع . ومن طريق وكيع نا شريك عن عبد الله بن عيسى قال : كان لعبد الرحمن بن أبي ليلى أرض بالفوارة فكان يدفعها بالثلث ، والربع فيرسلني فأقاسمهم . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر سألت الزهري عن إعطاء الأرض بالثلث ، والربع ؟ فقال : لا بأس بذلك . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري أخبرني قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا وهم يعطون أرضهم بالثلث والربع . ومن طريق عبد الرزاق نا وكيع أخبرني عمرو بن عثمان بن موهب قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين يقول : آل أبي بكر ، وآل عمر ، وآل علي يدفعون أرضهم بالثلث ، أو الربع . ومن طريق ابن أبي شيبة نا الفضل بن دكين عن بكير بن عامر عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد قال : كنت أزارع بالثلث والربع وأحمله إلى علقمة ، والأسود ، فلو رأيا به بأسا لنهياني عنه .

وروينا ذلك أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله - وهو قول ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر . واختلف فيها عن الليث ، وأجازها أحمد ، وإسحاق إلا أنهما قالا : إن البذر يكون من عند صاحب الأرض وإنما على العامل البقر ، والآلة ، والعمل - وأجازها بعض أصحاب الحديث ، ولم يبال من جعل البذر منهما . قال أبو محمد : في اشتراط النبي ﷺ على أهل خيبر أن يعملوها بأموالهم : بيان أن البذر والنفقة كلها على العامل ، ولا يجوز أن يشترط شيء من ذلك على صاحب الأرض ؛ لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، فإن تطوع صاحب الأرض بأن يقرض العامل البذر ، أو بعضه أو ما يبتاع به البقر ، أو الآلة ، أو ما يتسع فيه من غير شرط في العقد فهو جائز ؛ لأنه فعل خير ، والقرض أجر وبر - وبالله تعالى التوفيق . واتفق أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وأبو سليمان على جواز كراء الأرض ، واختلفوا فيه أيضا ، وفي المزارعة فأجاز كل من ذكرنا - حاشا مالكا وحده - كراء الأرض بالذهب ، والفضة ، وبالطعام المسمى كيله في الذمة - ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه تلك الأرض - وبالعروض كلها . وقال مالك بمثل ذلك ، إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها ، ولا بشيء من الطعام ، وإن لم يخرج منها : كالعسل ، والملح ، والمري ، ونحو ذلك ، وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها - وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله ، وتناقض ظاهر - وما نعلم لقوله هذا متعلقا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه - يعني استثناءه العسل ، والملح ، وإجازته الخشب ، والحطب . ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه - وقال مالك : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج الأرض ، إلا أن تكون أرض وشجر ، فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع ، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع ، فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع والنصف على ما يعطى به ذلك السواد . وقال الشافعي : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها ، فيجوز حينئذ إعطاؤها بثلث ، أو ربع أو نصف على ما تعطى به الشجر . وقال أبو بكر بن داود : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة فيجوز ذلك حينئذ . قال أبو محمد : حجة جميعهم في المنع من ذلك { نهي رسول الله ﷺ عن إعطاء الأرض بالنصف ، والثلث ، والربع } ؟ قال علي : ولسنا نخارجهم الآن في ألفاظ ذلك الحديث بل يقول : نعم ، قد صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ، فإن أبى فليمسك أرضه } وهذا نهي عن إعطائها بجزء مما يخرج منها ، لكن فعله عليه السلام في خيبر هو الناسخ على ما بينا قبل . فأما أبو حنيفة فخالف الناسخ وأخذ بالمنسوخ . وأما مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : فحيرهم فعل النبي ﷺ في أرض خيبر فأخرجوه على ما ذكرنا عنهم وكل تلك الوجوه تحكم . ويقال لمن قلد مالكا : من أين لكم تحديد البياض بالثلث ؟ ولم يأت قط في شيء من الأخبار تحديد ثلث ، ولا دليل عليه ، ومثل هذا في الدين لا يجوز . ويقال لهم : ماذا تريدون بالثلث ؟ أثلث المساحة أو ثلث الغلة أم ثلث القيمة ؟ فإلى أي وجه مالوا من هذه الوجوه قيل لهم : ومن أين خصصتم هذا الوجه دون غيره ؟ والغلة قد تقل وتكثر ، والقيمة كذلك وأما المساحة فقد تكون مساحة قليلة أعظم غلة أو أكثر قيمة من أضعافها . وأيضا : فإن خيبر لم تكن حائطا واحدا ، ولا محشرا واحدا ، ولا قرية واحدة ، ولا حصنا واحدا ، بل كانت حصونا كثيرة باقية إلى اليوم لم تتبدل منها الوطيح ، والسلالم ، وناعم ، والقموص ، والكتيبة ، والشق ، والنطاة ، وغيرها - وما الظن ببلد أخذ فيه القسمة مائتا فارس وأضعافهم من الرجال فتمولوا منها وصاروا أصحاب ضياع فمن أين لمالك تحديد الثلث ؟ وقد كان فيها بياض لا سواد فيه ، وسواد لا بياض فيه ، وبياض سواد ، فما جاء قط في شيء من الآثار تخصيص ما خصه . فإن قال : قد جاء عن النبي ﷺ الثلث ، والثلث كثير . قلنا : نعم ، وأنتم جعلتم في هذه المسألة الثلث قليلا بخلاف الأثر - ثم يقال لهم وللشافعي : من أين لكم أن رسول الله ﷺ إنما أعطى أرض خيبر بنصف ما يخرج منها ؛ لأنها كانت تبعا للسواد ؟ وهل يعلم هذا أحد إلا من أخبره رسول الله ﷺ بذلك عن نفسه ، وإلا فهو غفلة ممن قاله وقطع بالظن ؟ وأما بعد التنبيه عليه فما هو إلا الكذب البحت عليه ﷺ . وإنما الحق الواضح فهو أنه عليه السلام أعطى أرضها بنصف ما يخرج منها من زرع وأعطى نخلها وثمارها كذلك ، فنحن نقول : هذا سنة ، وحق أبدا ، ولا نزيد ، ونعلم أنه ناسخ لما تقدمه مما لا يمكن الجمع بينهما بظاهرهما . وكذلك أيضا يقال لمن قال بقول أبي بكر بن داود سواء بسواء ، والعجب أن بعضهم قال : المخابرة مشتقة من خيبر ، فدل أنها بعد خيبر . قال أبو محمد : ولو علم هذا القائل قبيح ما أتى به لاستغفر الله تعالى منه ، ولتقنع حياء منه ، أما علم الجاهل أن خيبر كان هذا اسمها قبل مولد رسول الله ﷺ وأن المخابرة كانت تسمى بهذا الاسم كذلك ، وأن إعطاء رسول الله ﷺ خيبر بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر كان إلى يوم موته عليه السلام ، واتصل كذلك بعد موته عليه السلام ؟ فكيف يسوغ لذي عقل أو دين أن يقول : إن نهيه عليه السلام عن المخابرة كان بعد ذلك ؟ أترى عهده عليه السلام أتانا من الآخرة بعد موته عليه السلام بالنهي عنها ؟ أما هذا من السخف ، والتلوث ، والعار ممن ينسب إلى العلم ، ويأتي بمثل هذا الجنون ؟ فصح يقينا كالشمس أن النهي عن المخابرة وعن إعطاء الأرض بما يخرج منها كان قبل أمر خيبر بلا شك - وبالله تعالى التوفيق . واحتج المجيزون للكراء بحديث ثابت بن الضحاك { أن رسول الله ﷺ نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها } . وبالخبر الذي رويناه من طريق مسلم نا إسحاق - هو ابن راهويه - نا عيسى بن يونس نا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني حنظلة بن قيس الزرقي قال : سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة ؟ فقال : لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله ﷺ على الماذيانات ، وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ، وهذان خبران صحيحان . وبما روينا من طريق البخاري : نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا سفيان - هو ابن عيينة قال عمرو - هو ابن دينار - : قلت لطاوس : لو تركت المخابرة فإن النبي ﷺ نهى عنها فما يزعمون ؟ فقال لي طاوس : إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن النبي ﷺ لم ينه عنها ، ولكن قال : { لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما } وهذا أيضا خبر صحيح . وبخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال : قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع بن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه ، { إنما أتاه رجلان قد اقتتلا فقال رسول الله ﷺ : إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع } . قال علي : فقلنا لهم : أما حديث زيد فلا يصح ، ولكنا نسامحكم فيه فنقول : هبكم أنه قد صح فإن رافعا لا يثبت عليه الوهم بمثل هذا ، بل نقول : صدق زيد ، وصدق رافع ، وكلاهما أهل الصدق والثقة ، وإذ حفظ زيد في ذلك الوقت ما لم يسمعه رافع فقد سمع رافع أيضا مرة أخرى ما لم يسمعه زيد ، وليس زيد بأولى بالتصديق من رافع ، ولا رافع أولى بالتصديق من زيد ، بل كلاهما صادق . وقد روى النهي عن الكراء جملة للأرض : جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر ، وفيهم من هو أجل من زيد . ثم نقول لهم : إن غلبتم هذا الخبر على حديث النهي عن الكراء فغلبوه على النهي عن المخابرة ، ولا فرق . وهكذا القول في حديث ابن عباس ؛ لأنه يقول : لم ينه عنه النبي ﷺ ويقول جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر : نهى عنه رسول الله ﷺ فكل صادق ، وكل إنما أخبر بما عنده . وابن عباس لم يسمع النهي ، وهؤلاء سمعوه ، فمن أثبت أولى ممن نفى ، ومن قال : إنه علم أولى ممن قال : لا أعلم . وأما خبر حنظلة بن قيس عن رافع ، فالذي فيه إنما هو من كلام رافع - يعني قوله - : وأما شيء مضمون فلا ؟ وقد اختلف عن رافع في ذلك كما أوردنا قبل ، وروى عنه سليمان بن يسار النهي عن كرائها بطعام مسمى فلم أجزتموه ؟ ورواية حنظلة عن رافع شديدة الاضطراب وعلى كل حال فالزائد علما أولى . وقد روى عمران بن سهل بن رافع ، وابن عمر ، ونافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي وغيرهم : النهي عن كري الأرض جملة عن رافع بن خديج خلاف ما روى عنه حنظلة ، وكلهم أوثق من حنظلة فالزائد أولى . وأما حديث أمر بالمؤاجرة فنعم ، هو صحيح ، وقد صح نهيه ﷺ وخبر الإباحة موافق لمعهود الأصل ، وخبر النهي زائد ، فالزائد أولى ، ونحن على يقين من أنه ﷺ حين نهى عن الكراء فقد حرم ما كان مباحا من ذلك بلا شك ، ولا يحل أن يترك اليقين للظن ، ومن ادعى أن الإباحة التي قد تيقنا بطلانها قد عادت فهو مبطل وعليه الدليل ، ولا يجوز ترك اليقين بالدعوى الكاذبة ، وليس إلا تغليب النهي ، فبطل الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، أو تغليب الإباحة ، فيثبت الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، كما يقول أبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهما . وأما التحكم في تغليب النهي في جهة ، وتغليب الإباحة في أخرى بلا برهان فتحكم الصبيان ، وقول لا يحل في الدين - وبالله تعالى التوفيق . وأما قول مالك : فإن مقلديه احتجوا له بحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه قال : { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض ؟ قلنا : يا رسول الله إذا نكريها بشيء من الحب ؟ قال : لا ، قال : نكريها بالتبن ؟ فقال : لا : قال : وكنا نكريها على الربيع الساقي ؟ قال : لا ، ازرعها ، أو امنحها أخاك } . وبحديث مجاهد ، قال رافع : { نهانا رسول الله ﷺ أن نتقبل الأرض ببعض خرجها } . وبما رويناه من طريق عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال : إن بعض عمومته أتاهم فقال : قال رسول الله ﷺ : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى } . وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم نا عمي قال : نا أبي عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { كان أصحاب المزارع يكرون مزارعهم في زمان رسول الله ﷺ مما يكون على السواقي من الزرع فجاءوا رسول الله ﷺ يختصمون ، فنهاهم رسول الله ﷺ أن يكروا بذلك وقال : أكروا بالذهب ، والفضة } . ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { أرخص رسول الله ﷺ في كراء الأرض بالذهب ، والورق } . ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد الأنصاري نا حنظلة بن قيس الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول : { كنا نقول للذي نخابره : لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة نزرعها فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله ﷺ عن ذلك ، فأما بورق فلم ينه } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن رسول الله ﷺ قال : { إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرعها أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } . قال أبو محمد : أما الحديث الأول - فسنده ليس بالنير ، ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم لا حجة لهم ؛ لأن الذي فيه عن النبي ﷺ فهو النهي عن كراء الأرض جملة ، والمنع من غير زريعتها من قبل صاحبها ، أو من قبل من منحها ، وهذا خلاف قولهم . وأما حديث مجاهد عن رافع - فلا خلاف في أنه لم يسمعه من رافع ، ثم لو صح لكان فيه النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو خلاف لقولهم من قبل أنهم يمنعون من كرائها بالعسل ، والملح ، وليسا مما يخرجان منها ، ويجيزون كراءها بالحطب ، والخشب ، وهما من بعض ما يخرج منها ، فقد خالفوه من وجهين فزادوا فيه ما ليس فيه وأخرجوا منه ما فيه وأيضا - فإن الذهب ، والفضة من بعض ما يخرج من الأرض ، وهم يجيزون الكراء بهما ، وبالرصاص والنحاس - وكل ذلك خارج منها . فإن قالوا : إنما منع النبي عليه السلام من كرائها بما يخرج من تلك الأرض بعينها ؟ قلنا : هاتوا دليلكم على هذا التخصيص ، وإلا فلفظ الخبر على عمومه ، فسقط قولهم جملة في هذا الخبر . ثم أيضا - فنحن نقول بما فيه ثم نستثني منه ما صح نسخه بيقين من إعطائنا الأرض بجزء مما يخرج منها مسمى ، ونمنع من غير ذلك فهو حجة لنا لا لهم . وأما خبر سليمان بن يسار : فعليهم لا لهم ؛ لأن فيه أن يزرعها أو يزرعها فقط . وهكذا روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب - هو السختياني - عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج أن رجلا من عمومته قال لهم : { نهى رسول الله ﷺ أن نحاقل بالأرض أو نكريها بالثلث والربع والطعام مسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها ، أو يزرعها ، وكره كراءها ، وما سوى ذلك } . وأما خبر حنظلة عن رافع - : فقد ذكرنا أنه من قول رافع - يعني قوله : فأما بورق فلم ينه - وقد صح عن رافع ما ذكرنا أنه من قول رافع قبل من نهيه ﷺ عن ذلك حتى أبطل كراء أرض بني أبيه بالدراهم وهذه الرواية أولى لوجوه - : أحدها - أنها مسندة إلى رسول الله ﷺ وتلك موقوفة على رافع . والثاني - أن هذه غير مضطرب فيها ، وتلك مضطرب فيها على رافع . وثالثها - أن الذين رووا عموم النهي عن رافع : ابن عمر ، وعثمان ، وعمران ، وعيسى ابنا سهل بن رافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي ، وكلهم أوثق من حنظلة بن قيس - فسقط تعلقهم بهذا الخبر . وأما خبر سعد بن أبي وقاص فأحد طريقيه عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن عبد الملك بن الماجشون وهو ضعيف . والأخرى - من طريق محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وهو مجهول لا يدرى من هو - فسقط التعليق به . وأما خبر طارق عن سعيد عن رافع فإن ابن أبي شيبة رواه كما أوردنا عن أبي الأحوص فوهم فيه ، لأننا رويناه من طريق قتيبة بن سعيد ، والفضل بن دكين ، وسعيد بن منصور ، كلهم عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال { نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة ، وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } فكان هذا الكلام مخزولا عن كلام رسول الله ﷺ فظن ابن أبي شيبة أنه من جملة كلام رسول الله ﷺ فخزله وأبقى السند . وقد جاء هذا الخبر عن طارق من طريق من هو أحفظ من أبي الأحوص مبينا أنه من كلام سعيد بن المسيب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن علي نا محمد نا سفيان عن طارق قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح من الزرع غير ثلاث ، أرض تملك رقبتها ، أو منحة ، أو أرض بيضاء تستأجرها بذهب أو فضة . قال علي : وأيضا - فلو صح أنه من كلام النبي ﷺ لكانوا مخالفين له لأن فيه النهي عن كراء الأرض إلا بذهب ، أو فضة ، وأنتم تبيحونها بكل عرض في العالم حاشا الطعام ، أو ما أنبتت الأرض فقد خالفتموها كلها . فإن ادعوا ههنا إجماعا من القائلين بكراء الأرض بالذهب والفضة ، على أن ما عدا الذهب والفضة كالذهب والفضة - فما يبعد عنهم التجاسر والهجوم على مثل هذا : أكذبهم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا تكرى الأرض البيضاء إلا بالذهب والورق - وهذا إسناد صحيح جيد . فإن قالوا : قسنا على الذهب والفضة ما عداهما ؟ قلنا : فقيسوا إعطاءها بالثلث والربع على المضاربة . فإن قالوا : قد صح النهي عن ذلك ؟ قلنا : فقد صح النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، ونص عليه السلام على أن ليس له إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها أو يمسك أرضه فقط . فظهر فساد هذا القول جملة ، وأنهم لم يتعلقوا بشيء أصلا ، واعلموا أنه لم يصح كراء الأرض بذهب أو فضة عن أحد من الصحابة إلا عن سعد وابن عباس - وصح عن رافع بن خديج ، وابن عمر ، ثم صح رجوع ابن عمر عنه ، وصح عن رافع المنع منه أيضا . قال أبو محمد : فلم يبق إلا تغليب الإباحة في كرائها بكل عرض وكل شيء مضمون من طعام أو غيره ، والثلث والربع كما قال سعد بن أبي وقاص وأبو يوسف ؛ ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وغيرهم . أو تغليب المنع جملة ، كما فعل رافع بن خديج ، وعطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغيرهم . أو أن يغلب النهي حيث لم يوقن أنه نسخ ويؤخذ بالناسخ إذا تيقن ، كما فعل ابن عمر ، وطاوس ، والقاسم بن محمد ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم . فنظرنا في ذلك فوجدنا من غلب الإباحة قد أخطأ ، لأن معهود الأصل في ذلك هو الإباحة على ما روى رافع وغيره { أن النبي ﷺ قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم } وقد كانت المزارع بلا شك تكرى قبل رسول الله ﷺ وبعد مبعثه ، هذا أمر لا يمكن أن يشك فيه ذو عقل ، ثم صح من طريق جابر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، ورافع ، وظهير البدري وآخر من البدريين ، وابن عمر { نهى رسول الله ﷺ عن كراء الأرض جملة } فبطلت الإباحة بيقين لا شك فيه . فمن ادعى أن المنسوخ قد رجع ، وأن يقين النسخ قد بطل ، فهو كاذب مكذب ، قائل ما لا علم له به ، وهذا حرام بنص القرآن إلا أن يأتي على ذلك ببرهان ، ولا سبيل له إلى وجوده أبدا ، إلا في إعطائها بجزء [ مسمى ] مما يخرج منها ، فإنه قد صح أن رسول الله ﷺ فعل ذلك بخيبر بعد النهي بأعوام ، وأنه بقي على ذلك إلى أن مات عليه السلام . فصح أن النهي عن ذلك منسوخ بيقين ، وأن النهي عما عدا ذلك باق بيقين ، وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فمن المحال أن ينسخ حكم قد بطل ونسخ ثم لا يبين الله تعالى علينا أنه قد بطل ، وأن المنسوخ قد عاد ، وإلا فكأن الدين غير مبين - وهذا باطل - وبالله تعالى التوفيق . فارتفع الإشكال والحمد لله كثيرا .