الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة التاسعة والخمسون


كتاب المزارعة والمغارسة

1330 - مسألة : والتبن في المزارعة بين صاحب الأرض وبين العامل على ما تعاملا عليه ، لأنه مما أخرج الله تعالى منها .

1331 - مسألة : فإن تطوع صاحب الأرض بأن يسلف العامل بذرا أو دراهم أو يعينه بغير شرط جاز ؛ لأنه فعل خير وتعاون على بر وتقوى ، فإن كان شيء من ذلك عن شرط في نفس العقد بطل العقد وفسخ ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وعقد رسول الله ﷺ مع الذين دفع إليهم خيبر إنما كان كما أوردنا قبل أن يعملوها بأموالهم - وبالله تعالى التوفيق .

1332 - مسألة : فإن اتفقا تطوعا على شيء يزرع في الأرض فحسن ، وإن لم يذكرا شيئا فحسن ، لأن رسول الله ﷺ لم يذكر لهم شيئا من ذلك ولا نهى عن ذكره ، فهو مباح ، ولا بد من أن يزرع فيها شيء ما فلا بد من ذكره ، إلا أنه إن شرط شيء من ذلك في العقد ، فهو شرط فاسد وعقد فاسد ؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى ، فهو باطل إلا أن يشترط صاحب الأرض أن لا يزرع فيها ما يضر بأرضه أو شجره - إن كان له فيها شجر - فهذا واجب ولا بد ، لأن خلافه فساد وإهلاك للحرث . قال الله تعالى : { إن الله لا يحب المفسدين } . وقال تعالى : { ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } . فإهلاك الحرث بغير الحق لا يحل - وبالله تعالى نتأيد ، فهذا شرط في كتاب الله تعالى ، فهو صحيح لازم .

1333 - مسألة : ولا يحل عقد المزارعة إلى أجل مسمى ، لكن هكذا مطلقا ، لأن هكذا عقده رسول الله ﷺ وعلى هذا مضى جميع الصحابة رضي الله عنهم . وكذلك أخرجهم عمر رضي الله عنه إذ شاء في آخر خلافته ، فكان اشتراط مدة في ذلك شرطا ليس في كتاب الله تعالى - فهو باطل - وخلاف لعمله عليه السلام ، وقد قال عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ؛ وقد قال مخالفون بذلك في المضاربة .

1334 - مسألة : وأيهما شاء ترك العمل فله ذلك لما ذكرنا ، وأيهما مات بطلت المعاملة ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . فإن أقر وارث صاحب الأرض العامل ورضي العامل ، فهما على ما تراضيا عليه - وكذلك إن أقر صاحب الأرض ورثة العامل برضاهم فذلك جائز على ما جرى عليه أمر رسول الله ﷺ ومن بعده من الصحابة رضي الله عنهم بلا خلاف من أحد منهم في ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1335 - مسألة : وإذا أراد صاحب الأرض إخراج العامل بعد أن زرع أو أراد العامل الخروج بعد أن زرع بموت أحدهما ، أو في حياتهما فذلك جائز ، وعلى العامل خدمة الزرع كله ولا بد ، وعلى ورثته حتى يبلغ مبلغ الانتفاع به من كليهما ؛ لأنهما على ذلك تعاقدا العقد الصحيح فهو لازم لأنه عمل به رسول الله ﷺ فهو في كتاب الله تعالى ، فهو صحيح لازم ، وعقد يلزم الوفاء به - وبالله تعالى التوفيق . وما عداه إضاعة للمال ، وإفساد للحرث ، وقد صح النهي عنه .

1336 - مسألة : فإن أراد أحدهما ترك العمل وقد حرث ، وقلب ، وزبل ، ولم يزرع فذلك جائز ، ويكلف صاحب الأرض للعامل أجر مثله فيما عمل ، وقيمة زبله إن لم يجد له زبلا مثله ، إن أراد صاحب الأرض إخراجه ، لأنه لم تتم بينهما المزارعة التي يكون كل ما ذكرنا ملغى بتمامها ، وقال تعالى : { والحرمات قصاص } فعمله حرمة ، فلا بد له من أن يقتص بمثلها ، والزبل ماله فلا يحمل إلا بطيب نفسه - وبالله تعالى التوفيق .

1337 - مسألة : فلو كان العامل هو المريد للخروج فله ذلك ولا شيء له فيما عمل ، وإن أمكنه أخذ زبله بعينه أخذه ، وإلا فلا شيء له ؛ لأنه مختار للخروج ولم يتعد عليه صاحب الأرض في شيء ، ولا منعه حقا له فهو مخير بين إتمام عمله وتمام شرطه والخروج باختياره ، ولا شيء له ؛ لأنه لم يتعد عليه بغير طيب نفسه في شيء - وبالله تعالى التوفيق .

1338 - مسألة : ومن أصاب منهما ما تجب فيه الزكاة فعليه الزكاة ، ومن قصر نصيبه عن ما فيه الزكاة فلا زكاة عليه . ولا يحل اشتراط الزكاة من أحدهما على الآخر ، لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولكل أحد حكمه . واشتراط إسقاط الزكاة عن نفسه ووضعها على غيره شرط للشيطان ومخالفة لله تعالى فلا يحل أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وقد كانا قادرين على الوصول إلى ما يريدان من ذلك بغير هذا الشرط الملعون ، وذلك بأن يكونا يتعاقدان على أن لأحدهما أربعة أعشار الزرع أو أربعة أخماس الثلث ، أو نحو هذا فيصح العقد .

1339 - مسألة : وإذا وقعت المعاملة فاسدة ، رد إلى مزارعه مثل تلك الأرض فيما زرع فيها سواء كان أكثر مما تعاقد أو أقل . برهان ذلك - : أنه لا يحل في الأرض أخذ أجر ولا حظ إلا المزارعة بجزء مشاع مسمى بما يخرج الله تعالى منها ، فإذ ذلك كذلك فهو حق الأرض فلا تجوز إباحة الأرض وما أخرجت للعامل بغير طيب نفس صاحب الأرض ، لقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولا يجوز إباحة بذر العامل وعمله لصاحب الأرض بغير طيب نفسه ذلك أيضا ، فيردان إلى مثل حق كل واحد منهما مما أخرج الله تعالى منها ، لقول الله تعالى : { والحرمات قصاص } . فالأرض - حرمة محرمة من مال صاحبها ، وبشرته ، فله ومن حقه أن يقتص بمثل حق مثلها مما أباحه الله تعالى في المعاملة فيها - وبذر الزارع وعمله حرمة محرمة من ماله ، وبشرته ، فله ومن حقه أن يقتص بمثل حق مثل ذلك مما أباحه الله تعالى في المعاملة ، فوجب ما قلنا ولا بد - وبالله تعالى التوفيق .

1340 - مسألة : من دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له لم يجز ذلك إلا بأحد وجهين - : إما بأن تكون النقول أو الأوتاد أو النوى أو القضبان لصاحب الأرض فقط ، فيستأجر العامل لغرسها وخدمتها والقيام عليها مدة مسماة ولا بد بشيء مسمى ، أو بقطعة من تلك الأرض مسماة محوزة ، أو منسوبة القدر مشاعة في جميعها ، فيستحق العامل بعمله في كل ما يمضي من تلك المدة ما يقابلها مما استؤجر به ، فهذه إجارة كسائر الإجارات . وإما بأن يقوم العامل بكل ما ذكرنا وبغرسه وبخدمه وله من ذلك كله ما تعاملا عليه من نصف أو ثلث أو ربع أو جزء مسمى كذلك ، ولا حق له في الأرض أصلا - فهذا جائز حسن ، إلا أنه لا يجوز إلا مطلقا لا إلى مدة أصلا - وحكمه في كل ما ذكرنا قبل حكم المزارعة سواء سواء في كل شيء لا تحش منها شيئا .

1341 - مسألة : فإن أراد العامل الخروج قبل أن ينتفع فيما غرس بشيء ، وقبل أن تنمى له فله ذلك ، ويأخذ كل ما غرس . وكذلك إن أخرجه صاحب الأرض ؛ لأنه لم ينتفع بشيء ، فإن لم يخرج حتى انتفع ونما ما غرس فليس له إلا ما تعاقدا عليه ؛ لأنه قد انتفع بالأرض فعليه حقها ، وحقها هو ما تعاقدا عليه . برهان ذلك - : هو ما ذكرناه في أول كلامنا في " المزارعة " من إعطاء رسول الله ﷺ خيبر اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر ونصف ما يخرج منها ، هكذا مطلقا . وكذلك روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال { أعطى رسول الله ﷺ خيبر لليهود على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء } . وهذا عموم لكل ما خرج منها بعمله من شجر أو زرع أو ثمر ، وكل ذلك داخل تحت العمل بأنفسهم وأموالهم ولا فرق بين غرس أو زرع أو عمارة شجر - وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة يدري كل ذي تمييز أن خيبر وفيها نحو ألفي عامل ويصاب فيها نحو ثمانين ألف وسق تمر وبقيت بأيديهم أزيد من خمسة عشر عاما : أربعة أعوام من حياة النبي ﷺ وعامين ونصف عام مدة أبي بكر ، وعشرة أعوام من خلافة عمر رضي الله عنهما حتى أجلاهم في آخر عام من خلافته ، فلا بد أن فيهم من غرس فيما بيده من الأرض فكان بينهم وبين أصحاب الأصول من المسلمين بلا شك . وقال مالك : المغارسة : هو أن يعطى الأرض البيضاء ليغرسها من ماله ما رأى حتى يبلغ شبابا ما ، ثم له ما تعاقدا من رقبة الأرض ، ومن رقاب ما غرس . قال أبو محمد : وهذا لا يجوز أصلا ؛ لأنه إجارة مجهولة لا يدرى في كم يبلغ ذلك الشباب ، ولعلها لا تبلغه ، ولا يدرى ما غرس ولا عدده ، وأعجب شيء قوله " حتى يبلغ شبابا ما " والغروس تختلف في ذلك اختلافا شديدا متباينا ، لا ينضبط ألبتة ، فقد يشب بعض ما غرس ويبطل البعض ، ويتأخر شباب البعض ، فهذا أمر لا ينحصر أبدا فيما يغرس ، ولعله لا يغرس له إلا شجرة واحدة أو اثنتين ، فيكلف لذلك استحقاق نصف أرض عظيمة فهو بيع غرر بثمن مجهول ، وبيع وإجارة معا ، وأكل مال بالباطل ، وإجارة مجهولة ، وشرط ليس في كتاب الله تعالى ، فهو باطل قد جمع هذا القول كل بلاء ، وما نعلم أحدا قاله قبله ، ولا لهذا القول حجة لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا تابع نعلمه ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه ، وما كان هكذا لم يجز القول به - وبالله تعالى التوفيق .

1342 - مسألة : ومن عقد مزارعة أو معاملة في شجر أو مغارسة ، فزرع العامل وعمل في الشجر وغرس ، ثم انتقل ملك الأرض أو الشجر إلى غير المعاقد بميراث أو بهبة أو بصدقة أو بإصداق أو ببيع - : فأما الزرع : ظهر أو لم يظهر فهو كله للزارع والذي كانت الأرض له على شرطهما ، وللذي انتقل ملك الأرض إليه أخذهما بقطعه أو قلعه في أول إمكان الانتفاع به ، لا قبل ذلك ؛ لأنه لم يزرع إلا بحق ، والزرع بلا خلاف هو غير الأرض التي انتقل ملكها إلى غير مالكها الأول . وأما المعاملة في الشجر ببعض ما يخرج منها ، فهو ما لم يخرج غير متملك لأحد ، فإذا خرج فهو لمن الشجر له ، فإن أراد إبقاء العامل على معاملته فله ذلك ، وإن أراد تجديد معاملة فلهما ذلك ، وإن أراد إخراجه فله ذلك وللعامل على الذي كان الملك له أجرة مثل عمله ؛ لأنه عمل في ملكه بأمره . وأما الغرس : فللذي انتقل الملك إليه إقراره على تلك المعاملة ، أو أن يتفقا على تجديد أخرى ، فإن أراد إخراجه فله ذلك ، وللغارس قلع حصته مما غرس ، كما لو أخرجه الذي كان عامله أولا ، على ما ذكرنا قبل - وبالله تعالى التوفيق . وأما إذا انتقل الملك بعد ظهور الثمرة ، فالثمرة بين العامل وبين الذي كان الملك له على شرطهما ، لا شيء فيها للذي انتقل الملك إليه . وبالله تعالى التوفيق . [ تم " كتاب المزارعة ، والمغارسة " والحمد لله رب العالمين ]