→ كتاب مسائل من الأصول | ابن حزم - المحلى مسائل من الأصول (مسألة 92 - 109) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة ← |
مسائل من الأصول
92 - مسألة : دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما صح عن رسول الله ﷺ إما برواية جميع علماء الآمة عنه عليه الصلاة والسلام وهو الإجماع ، وأما بنقل جماعة عنه عليه الصلاة والسلام وهو نقل الكافة .
وأما برواية الثقات واحدا ، عن واحد حتى يبلغ إليه ﷺ ، ولا مزيد.
قال تعالى {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} .
وقال تعالى: {اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء} .
وقال تعالى: {فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم}الآية (المائدة 3)
فإن تعارض فيما يرى المرء آيتان أو حديثان صحيحان ، أو حديث صحيح وآية ، فالواجب استعمالهما جميعا ، لإن طاعتهما سواء في الوجوب ، فلا يحل ترك أحدهما للآخر ما دمنا نقدر على ذلك ، وليس هذا إلا بأن يستثني الأقل معاني من الأكثر ، فإن لم نقدر على ذلك وجب الأخذ بالزائد حكما لانه متيقن وجوبه ، ولا يحل ترك اليقين بالظنون ، ولا إشكال في الدين قد بين الله تعالى دينه.
قال تعالى : {فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم} .
وقال تعالى: {تبيانا لكل شيء} .
93 - مسألة : الموقوف والمرسل لا تقوم بهما حجة ، وكذلك ما لم يروه إلا من لا يوثق بدينه وبحفظه ، ولا يحل ترك ما جاء في القرآن أو صح عن رسول الله ﷺ لقول صاحب أو غيره ، سواء كان هو راوي الحديث أو لم يكن ، والمرسل هو ما كان بين أحد رواته أو بين الراوي وبين النبي ﷺ من لا يعرف ، والموقوف هو ما لم يبلغ به إلى النبي ﷺ .
برهان بطلان الموقوف : قول الله عز وجل : {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ، ولا يحل لأحد أن يضيف ذلك إلى رسول الله ﷺ لانه ظن .
وقد قال تعالى : {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} .
وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} .
وأما المرسل ومن في رواته من لا يوثق بدينه وحفظه فلقول الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}
فأوجب عز وجل قبول نذارة النافر للتفقه في الدين .
وقال : {يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} .
وليس في العالم إلا عدل أو فاسق ، فحرم تعالى علينا قبول خبر الفاسق فلم يبق إلا العدل ، وصح أنه هو المأمور بقبول نذارته.
وأما المجهول فلسنا على ثقة من أنه على الصفة التي أمر الله تعالى معها بقبول نذارته ، وهي التفقه في الدين ، فلا يحل لنا قبول نذارته حتى يصح عندنا فقهه في الدين وحفظه لما ضبط ، عن ذلك وبراءته من الفسق وبالله تعالى التوفيق.
ولم يختلف أحد من الآمم في أن رسول الله ﷺ بعث إلى الملوك رسولا رسولا واحدا إلى كل مملكة يدعوهم إلى الإسلام واحدا واحدا ، إلى كل مدينة وإلى كل قبيلة كصنعاء والجند وحضرموت وتيماء ونجران والبحرين وعمان وغيرها ، يعلمهم أحكام الدين كلها ، وافترض على كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم.
فصح قبول خبر الواحد الثقة ، عن مثله مبلغا إلى رسول الله ﷺ .
ومن ترك القرآن أو ما صح عن رسول الله ﷺ لقول صاحب أو غيره ، سواء كان راوي ذلك الخبر أو غيره ، فقد ترك ما أمره الله تعالى باتباعه لقول من لم يأمره الله تعالى قط بطاعته ، ولا باتباعه. وهذا خلاف لامر الله تعالى.
وليس فضل الصاحب عند الله بموجب تقليد قوله وتأويله ; لإن الله تعالى لم يأمر بذلك ، لكن موجب تعظيمه ومحبته وقبول روايته فقط ، لإن هذا هو الذي أوجب الله تعالى.
94 - مسألة : والقرآن ينسخ القرآن ، والسنة تنسخ السنة والقرآن
قال عز وجل : {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} .
وقال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} .
وقال تعالى {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} .
وأمره تعالى أن يقول: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} .
وقال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} .
وصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فعن الله تعالى قاله ، والنسخ بعض من أبعاض البيان ، وكل ذلك من عند الله تعالى.
95 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر ، عن رسول الله ﷺ ثابت :
هذا منسوخ وهذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ، ولا أن لهذا النص تأويلا غير مقتض ظاهر لفظه ، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر ، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر ، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر وإلا فهو كاذب.
برهان ذلك قول الله عز وجل : {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله}
وقال تعالى: {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} وقال تعالى: {بلسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما} وقال تعالى: {لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب} .
فقوله تعالى: {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع}
موجب طاعة رسول الله ﷺ في كل ما أمر به .
وقوله تعالى : {أطيعوا الله} موجب طاعة القرآن .
ومن ادعى في آية أو خبر نسخا فقد أسقط وجوب طاعتهما ، فهو مخالف لامر الله في ذلك.
قوله تعالى : {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}
موجب أخذ كل نص في القرآن والأخبار على ظاهره ومقتضاه.
ومن حمله على غير مقتضاه في اللغة العربية فقد خالف قول الله تعالى وحكمه ، وقال عليه عز وجل الباطل وخلاف قوله عز وجل ، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة.
وهذا قول على الله تعالى بالباطل ، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه. قوله تعالى : {لواذا فليحذر الذين يخالفون عن} .
موجب للوعيد على من قال : لا تجب علي موافقة أمره ، وموجب أن جميع النصوص على الوجوب ، ومن ادعى تأخير الوجوب مدة ما فقد أسقط وجوب طاعة الله ووجوب ما أوجب عز وجل من طاعة رسوله ﷺ في تلك المدة. وهذا خلاف لامر الله عز وجل.
فإذا شهد لدعوى من ادعى بعض ما ذكرنا قرآن أو سنة ثابتة ، إما بإجماع أو نقل صحيح ، فقد صح قوله ووجب طاعة الله تعالى في ذلك.
وكذلك من شهدت له ضرورة الحس ; لانها فعل الله تعالى في النفوس ، وإلا فهي أقوال مؤدية إلى إبطال الإسلام وإبطال جميع العلوم وإبطال جميع اللغات كلها ، وكفى بهذا فسادا. وبالله تعالى التوفيق.
96 - مسألة : والإجماع هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله ﷺ عرفوه وقالوا به ولم يختلف منهم أحد ، كتيقننا أنهم كلهم ، رضي الله عنهم ، صلوا معه عليه السلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها وسجودها ، أو علموا أنه صلاها مع الناس كذلك ، وأنهم كلهم صاموا معه ، أو علموا أنه صام مع الناس رمضان في الحضر.
وكذلك سائر الشرائع التي تيقنت مثل هذا اليقين.
والتي من لم يقر بها لم يكن من المؤمنين وهذا ما لا يختلف أحد في أنه إجماع.
وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في الأرض غيرهم.
ومن ادعى أن غير هذا هو إجماع كلف البرهان على ما يدعي ، ولا سبيل إليه.
97 - مسألة : وما صح فيه خلاف من واحد منهم أو لم يتيقن أن كل واحد منهم ، رضي الله عنهم ، عرفه ودان به فليس إجماعا ، لإن من ادعى الإجماع ههنا فقد كذب وقفا ما لا علم له به.
والله تعالى يقول :{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير * وآتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينآ إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} .
98 - مسألة ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم ، عن آخرهم على حكم نص لا يقطع فيه بإجماع الصحابة
ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم ، عن آخرهم على حكم نص لا يقطع فيه بإجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، لوجب القطع بأنه حق وحجة وليس كان يكون إجماعا. أما القطع بأنه حق وحجة فلما ذكرناه قبل بإسناده من قول رسول الله ﷺ «لن تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله»
فصح من هذا أنه لا يجوز ألبتة أن يجمع أهل عصر ولو طرفة عين على خطإ ، ولا بد من قائل بالحق فيهم.
وأما أنه ليس إجماعا ، فلان أهل كل عصر بعد عصر الصحابة ، رضي الله عنهم ، ليس جميع المؤمنين وإنما هم بعض المؤمنين والإجماع إنما هو إجماع جميع المؤمنين لا إجماع بعضهم.
ولو جاز أن يسمى إجماعا ما خرج ، عن الجملة واحد لا يعرف أيوافق سائرهم أم يخالفهم لجاز أن يسمى إجماعا ما خرج عنهم فيه اثنان وثلاثة وأربعة. وهكذا أبدا إلى أن يرجع الأمر إلى أن يسمى إجماعا ما قاله واحد. وهذا باطل. ولكن لا سبيل إلى تيقن إجماع أهل عصر بعد الصحابة ، رضي الله عنهم ، كذلك. بل كانوا عددا ممكنا حصره وضبطه وضبط أقوالهم في المسألة. وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعض الناس : يعلم ذلك من حيث يعلم رضا أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي بأقوال هؤلاء.
قال علي : وهذا خطأ لانه لا سبيل أن يكون مسألة قال بها أحد من هؤلاء الفقهاء إلا وفي أصحابه من يمكن أن يخالفه فيها وإن وافقه في سائر أقواله.
99 - مسألة : والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله ﷺ لا إلى شيء غيرهما. ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ، ولا غيرهم.
برهان ذلك قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}
فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون رسول الله ﷺ ، لإن من رجع إلى قول إنسان دونه عليه السلام فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله ﷺ ، لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله : {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم.
وقد كان الخلفاء ، رضي الله عنهم ، كأبي بكر وعمر وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن ومكة وسائر البلاد وعمال عمر بالبصرة والكوفة ومصر والشام.
ومن الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن أن يكونوا ، رضي الله عنهم ، طووا علم الواجب والحلال والحرام ، عن سائر الأمصار واختصوا به أهل المدينة ، فهذه صفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها ، وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض التكبير من الصلاة وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين ، حتى فشا ذلك في الأرض.
فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله ﷺ .
100 - مسألة : ولا يحل القول بالقياس في الدين ، ولا بالرأي لإن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله ﷺ قد صح ، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان ورد إلى غير من أمر الله تعالى بالرد إليه ، وفي هذا ما فيه.
قال علي : وقول الله تعالى : {ما فرطنا في الكتاب من شيء}
وقوله تعالى: {تبيانا لكل شيء} وقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}
وقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شيء قدير * يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هـذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولـئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}
إبطال للقياس وللرأي ; لانه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص ، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا ، وأن رسوله عليه الصلاة والسلام قد بين للناس كل ما نزل إليهم ، وأن الدين قد كمل
فصح أن النص قد استوفى جميع الدين ، فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ، ولا إلى رأيه ، ولا إلى رأي غيره.
ونسأل من قال بالقياس : هل كل قياس قاسه قائس حق ؟ ، أم منه حق ومنه باطل ؟
فإن قال كل قياس حق أحال ، لإن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ، ومن المحال أن يكون الشيء وضده من التحريم والتحليل حقا معا ، وليس هذا مكان نسخ ، ولا تخصيص ، كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ، ويخصص بعضها بعضا.
وإن قال منها حق ومنها باطل ، قيل له فعرفنا بماذا تعرف القياس الصحيح من الفاسد ، ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك أبدا ، وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه ، فقد بطل كله وصار دعوى بلا برهان ، فإن ادعوا أن القياس قد أمر الله تعالى به سألوا أين وجدوا ذلك .
فإن قالوا : قال الله عز وجل : {فاعتبروا يأولي الأبصار} ؟
قيل لهم : إن الاعتبار ليس هو في كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب
قال الله عز وجل : {وإن لكم في الأنعام لعبرة} أي لعجبا.
وقال عز وجل : {لقد كان في قصصهم عبرة} ، ومن العجيب أن يكون معنى الاعتبار القياس ، ويقول الله تعالى لنا قيسوا ، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ، ولا كيف نقيس ، ولا على ماذا نقيس. هذا ما لا سبيل إليه لانه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى له إياه على لسان رسول الله ﷺ ، وقد قال تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شيء بشيء ، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا .
قلنا لهم : كل ما قاله الله عز وجل ورسوله ﷺ من ذلك فهو حق لا يحل لاحد خلافه ، وهو نص به نقول : وكل ما تريدون أن تشبهوه في الدين وأن تعللوه مما لم ينص عليه الله تعالى ، ولا رسوله ﷺ فهو باطل ، ولا بد وشرع لم يأذن الله تعالى به ، وهذا يبطل عليهم تهويلهم بذكر آية جزاء الصيد و «أرأيت لو مضمضت» ؟ و{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} .
وكل آية وحديث موهوا بإيراده هو مع ذلك حجة عليهم على ما قد بيناه في كتاب الإحكام لاصول الأحكام وفي كتاب النكت وفي كتاب الدرة وفي كتاب النبذة .
قال علي : وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله وأوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة ، فموه منهم مموهون بأن قالوا : أنتم دأبا تبطلون القياس بالقياس ، وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به ، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج على غيره بحجة العقل ليبطل حجة العقل وبدليل من النظر ليبطل به النظر .
قال علي : فقلنا هذا شغب سهل إفساده ولله الحمد ، ونحن لم نحتج بالقياس في إبطال القياس ، ومعاذ الله من هذا ، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أثبتموه من تصحيح القياس يشهد بفساد جميع قياساتكم.
ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب نفسه.
وقد نص تعالى على هذا: فقال تعالى {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم} فليس هذا تصحيحا لقولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه .
ولكن إلزام لهم ما يفسد به قولهم ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال حجة العقل بحجة العقل. لكن فاعل ذلك مصحح لقضيته العقلية التي يحتج بها فظهر تناقضه من قريب. ولا حجة له غيرها فقد ظهر بطلان قوله.
وأما نحن فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه.
لكن نبطل القياس بالنصوص وببراهين العقل.
ثم نزيد بيانا في فساده منه نفسه بأن نري تناقضه جملة فقط والقياس الذي نعارض به قياسكم.
نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي هو مثله أو أضعف منه.
كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة ورافضة ومرجئة وخوارج ويهود ونصارى ودهرية من أقوالهم التي يشهدون بصحتها.
فنريهم تفاسدها وتناقضها.
وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك. ولسنا نحن ، ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم بها ، بل هي عندنا في غاية البطلان والفساد.
وكاحتجاجنا على اليهود والنصارى من كتبهم التي بأيديهم. ونحن لا نصححها.
بل نقول إنها لمحرفة مبدلة. لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم.
لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في قياساتهم. لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته تعارض به قياس الآخرى. وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ، ولا كل رأي حقا. . فقلنا لهم : فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذي يتميزان به من القياس الفاسد والرأي الفاسد. وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون إلا عليها من العلة الفاسدة فلجلجوا.
قال علي : وهذا مكان إن زم عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة. ولم يكن لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا. وبالله تعالى التوفيق. فإن أتوا في ذلك بنص .
قلنا النص حق والذي تريدون أنتم إضافته إلى النص بآرائكم باطل وفي هذا خولفتم. وهكذا أبدا. فإن ادعوا أن الصحابة ، رضي الله عنهم ، أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم : كذبتم بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على إبطاله.
برهان كذبهم أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث ، عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر .
فإن فيها : واعرف الأشباه والأمثال وقس الآمور وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان ، عن أبيه وهو ساقط بلا خلاف وأبوه أسقط منه أو هو مثله في السقوط ، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر
ومنها قوله فيها : والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب.
وهم لا يقولون بهذا يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم ، وإن كان قول عمر لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة ، فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة ، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة ، فليس قوله في القياس حجة ، لو صح فكيف ولم يصح.
وأما برهان صحة قولنا في إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، على إبطال القياس فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة مصدقون بالقرآن .
وفيه : {فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت} .
وفيه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} .
فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة ، رضي الله عنهم ، يعلمون هذا ويؤمنون به ، ثم يردون عند التنازع إلى قياس أو رأي.
هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل ، فكيف وقد ثبت :
عن الصديق : أنه قال : أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم .
وصح عن الفاروق ، أنه قال : اتهموا الرأي على الدين وإن الرأي منا هو الظن والتكلف .
وعن عثمان في فتيا أفتى بها إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذ ومن شاء تركه.
وعن علي : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه.
وعن سهل بن حنيف : أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار
وعن ابن مسعود : سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريء.
وعن معاذ بن جبل في حديث : يبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ، ولا من سنة رسول الله ﷺ فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة. وعلى هذا النحو كل رأي روي ، عن بعض الصحابة ، رضي الله عنهم ، لا على أنه إلزام ، ولا أنه حق ، لكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الإيجاب. وحديث معاذ الذي فيه أجتهد رأيي ، ولا آلو ، لا يصح لانه لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو وهو مجهول لا ندري من هو ، عن رجال من أهل حمص لم يسمهم ، عن معاذ .
وقد تقصينا أسانيد هذه الأحاديث كلها في كتابنا المذكور ولله تعالى الحمد.
حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا أبو قاسم بن محمد حدثنا جدي قاسم بن أصبغ أخبرحدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن حريز بن عثمان ، عن عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله ﷺ : «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال .
قال علي : والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه.
وأما حرام يعصي من فعله
وأما مباح لا يعصي من فعله ، ولا من تركه. وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام إما مندوب إليه يؤجر من فعله ، ولا يعصي من تركه.
وأما مكروه يؤجر من تركه ، ولا يعصي من فعله.
وأما مطلق لا يؤجر من فعله ، ولا من تركه ، ولا يعصي من فعله ، ولا من تركه.
وقال عز وجل : {خلق لكم ما في الأرض جميعا} .
وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} .
فصح أن كل شيء حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن أو السنة.
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج أخبرني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ خطب فقال : «أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عن أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .
قال علي : فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين ، أولها ، عن آخرها ، ففيه أن ما سكت عنه النبي r فلم يأمر به ، ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ، ولا فرضا ، وأن ما أمر به فهو فرض ، وما نهى عنه فهو حرام ، وأن ما أمرنا به فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط ، وأن نفعل مرة واحدة تؤدي ما ألزمنا ، ولا يلزمنا تكراره ، فأي حاجة بأحد إلى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ، ونحمد الله على عظم نعمه.
فإن قال قائل : لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به نصا في القرآن.
قلنا لهم : قد أوجدنا لكم البرهان نصا بذلك وبأن لا يرد التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط .
وقال تعالى {اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء}
وقال تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}
والقياس ضرب أمثال في الدين لله تعالى.
ثم يقال لهم : إن عارضكم الروافض بمثل هذا فقالوا لكم : لا يجوز القول بإبطال الإلهام ، ولا بإبطال اتباع الإمام إلا حتى توجدوا لنا تحريم ذلك نصا ، أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد كل إنسان بعينه.
بماذا تنفصلون بل الحق أنه لا يحل أن يقال على الله تعالى أنه حرم أو حلل أو أوجب إلا بنص فقط. وبالله تعالى التوفيق.
101 - مسألة : وأفعال النبي r ليست فرضا إلا ما كان منها بيانا لامر فهو حينئذ أمر ، لكن الائتساء به عليه السلام فيها حسن .
وبرهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أمرنا به أو نهانا عنه ، وأن ما سكت عنه فعفو ساقط عنا ، وقال عز وجل : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .
102 - مسألة : ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا ﷺ
قال عز وجل : {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حدثنا وهب بن مسرة حدثحدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا هشيم أخبرنا سيار ، عن يزيد الفقير أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .
فإذا صح أن الأنبياء عليهم السلام لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة ، فقد صح أن شرائعهم لم تلزم إلا من بعثوا إليه فقط ، وإذا لم يبعثوا إلينا فلم يخاطبونا قط بشيء ، ولا أمرونا ، ولا نهونا ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا ﷺ فضيلة عليهم في هذا الباب.
ومن قال بهذا فقد كذب هذا الحديث وأبطل هذه الفضيلة التي خصه الله تعالى بها ، فإذا قد صح أنهم عليهم السلام لم يخاطبونا بشيء ، فقد صح يقينا أن شرائعهم لا تلزمنا أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.
103 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا ، لا حيا ، ولا ميتا ، وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته ، فمن سأل ، عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل في هذا الدين ، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل ، عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله ﷺ ، فإذا دل عليه سأله ، فإذا أفتاه قال له هكذا .
قال الله عز وجل ورسوله فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا ، وإن قال له هذا رأيي ، أو هذا قياس ، أو هذا قول فلان ، وذكر له صاحبا أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا ، أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدري ، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ، ولكنه يسأل غيره.
برهان ذلك قول الله عز وجل : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}
فلم يأمرنا عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر ، فمن قلد عالما أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى ، ولا رسوله ﷺ ، ولا أولي الأمر ، وإذا لم يرد إلى من ذكرنا فقد خالف أمر الله عز وجل ولم يأمر الله عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض .
فإن قيل : فإن الله عز وجل قال : {فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}
وقال تعالى : {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم} .
قلنا : نعم ، ولم يأمر الله عز وجل أن يقبل من النافر للتفقه في الدين رأيه ، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ، ولا في دين يشرعونه لم يأذن به الله عز وجل ، وإنما أمر تعالى بأن يسأل أهل الذكر عما يعلمونه في الذكر الوارد من عند الله تعالى فقط ، لا عمن قاله من لا سمع له ، ولا طاعة ، وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسول الله ﷺ لا في دين لم يشرعه الله عز وجل .
ومن ادعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس ، وما كان هكذا فهو باطل لانه قول بلا دليل ، بل البرهان قد جاء بإبطاله .
قال تعالى ذاما لقوم قالوا : {إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا} .
والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عز وجل الذي أوجبه على عباده ، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلما إلا حتى يقر بأن الله تعالى إلهه لا إله غيره ، وأن محمدا هو رسول الله ﷺ بهذا الدين إليه وإلى غيره ، فإذ لا شك في هذا فكل سائل في الأرض ، عن نازلة في دينه ، فإنما يسأل عما حكم الله تعالى به في هذه النازلة ، فإذا لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا : أهذا حكم الله وحكم رسوله ﷺ وهذا لا يعجز عنه من يدري ما الإسلام ، ولو أنه كما جلب من قوقوا وبالله تعالى التوفيق.
104 - مسألة : وإذا قيل له إذا سأل ، عن أعلم أهل بلده بالدين : هذا صاحب حديث ، عن النبي ﷺ : وهذا صاحب رأي وقياس : فليسأل صاحب الحديث ، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلا.
برهان ذلك قول الله عز وجل : {تخشوهم واخشون اليوم أكملت}
وقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فهذا هو الدين ، لا دين سوى ذلك ، والرأي والقياس ظن والظن باطل.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا ابن وضاح حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» .
حدثنا يونس بن عبد الله حدثنا يحيى بن مالك بن عائذ أخبرنا أبو عبد الله بن أبي حنيفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي حدثنا يوسف بن يزيد القراطيسي أخبرنا سعيد بن منصور أخبرنا جرير بن عبد المجيد ، عن المغيرة بن مقسم ، عن الشعبي قال : السنة لم توضع بالمقاييس.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات أخبرنا إسماعيل بن إسحاق البصري أخبرنا أحمد بن سعيد بن حزم أخبرحدثنا محمد بن إبراهيم بن حيون الحجازي أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول : الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي.
حدثنا حمام بن أحمد أخبرنا عباس بن أصبغ حدثحدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي ، عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي ، فتنزل به النازلة من يسأل فقال أبي : يسأل صاحب الحديث ، ولا يسأل صاحب الرأي ، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة.
105 - مسألة : ولا حكم للخطإ ، ولا النسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما حكم
قال الله تعالى : {وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولـكن ما تعمدت قلوبكم}
وقال تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا} .
106 - مسألة : وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان ، فإن قدر عليه لزمه ، وإن عجز ، عن جميعه سقط عنه ، وإن قوي على بعضه وعجز ، عن بعضه سقط عنه ما عجز عنه ولزمه ما قدر عليه منه ، سواء أقله أو أكثره .
برهان ذلك قول الله عز وجل : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} .
وقول رسول الله ﷺ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
وقد ذكرناه قبل بإسناده وبالله تعالى التوفيق .
107 - مسألة : ولا يجوز أن يعمل أحد شيئا من الدين مؤقتا بوقت قبل وقته فإن كان الأول من وقته والآخر من وقته لم يجز أن يعمل قبل وقته ، ولا بعد وقته.
لقول الله تعالى : {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} .
وقال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} .
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا مسلم بن الحجاج أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه ، عن أبي عامر العقدي حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري ، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمان قال : سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق فقال : أخبرتني عائشة أن رسول الله ﷺ : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
قال علي : ومن أمره الله تعالى أن يعمل عملا في وقت سماه له فعمله في غير ذلك الوقت إما قبل الوقت .
وأما بعد الوقت فقد عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى ، ولا أمر رسوله ﷺ فهو مردود باطل غير مقبول ، وهو غير العمل الذي أمر به ، فإن جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر فهو وقته أيضا حينئذ ، وإنما الذي لا يكون وقتا للعمل فهو ما لا نص فيه. وبالله تعالى التوفيق.
108 - مسألة : والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب. هذا في أهل الإسلام خاصة ، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ، ولا للمقلد ، وكلاهما هالك .
برهان هذا ما ذكرناه آنفا بإسناده من قول رسول الله ﷺ «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» .
وذم الله التقليد جملة ، فالمقلد عاص والمجتهد مأجور ، وليس من اتبع رسول الله ﷺ مقلدا لانه فعل ما أمره الله تعالى به.
وإنما المقلد من اتبع من دون رسول الله ﷺ لانه فعل ما لم يأمره الله تعالى به
وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول : {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .
109 - مسألة : والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ , وبالله تعالى التوفيق .
قال الله تعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال} .
وقال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} .
وذم الله الاختلاف فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} .
وقال تعالى: {ولاتنازعوا فتفشلوا} .
وقال تعالى: {تبيانا لكل شيء} .
فصح أن الحق في الأقوال ما حكم الله تعالى به فيه ، وهو واحد لا يختلف ، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله عز وجل.
ومن ادعى أن الأقوال كلها حق ، وأن كل مجتهد مصيب ، فقد قال قولا لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا معقول ، وما كان هكذا فهو باطل .
ويبطله أيضا قول رسول الله ﷺ «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ.
ومن قال : إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ ، بل ما كلفوا إلا إصابة ما أمر الله به .
قال الله عز وجل : {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء}
فافترض عز وجل اتباع ما أنزل إلينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده .
وإنما أجر المجتهد المخطئ أجرا واحدا على نيته في طلب الحق فقط ، ولم يأثم إذا حرم الإصابة ، فلو أصاب الحق أجر أجرا آخر كما قال عليه السلام «إنه إذا أصاب أجرا ثانيا» .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، أخبرنا إبراهيم بن أحمد الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن يزيد المقري حدثنا حيوة بن شريح حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» .
وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. ولا يحل الحكم بالظن أصلا لقول الله تعالى {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}
ولقول رسول الله ﷺ : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالله تعالى التوفيق .