→ صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل: الاستثناء في الإيمان ابن تيمية |
كتاب الإيمان الأوسط ← |
فصل: الاستثناء في الإيمان
وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال:
منهم من يوجبه.
ومنهم من يحرمه.
ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال.
فالذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب رسول الله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشكاكة.
والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان:
أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا وكافرًا، باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرًا، ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم، ثم هل ذلك هو الإرادة أم صفات أخر؟ لهم في ذلك قولان:
وأكثر قدمائهم يقولون: إن الرضى والسخط والغضب ونحوذلك، صفات ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس هو العلم، وكذلك الولاية والعداوة. هذه كلها صفات قديمة أزلية عند أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن اتبعه من المتكلمين، ومن أتباع المذاهب من الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم.
قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرًا إذا علم أنه يموت مؤمنًا. فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد. وهذا على أحد القولين لهم، فالرضى والسخط يرجع إلى الإرادة، والإرادة تطابق العلم. فالمعنى: ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم، ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح، فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أن سيخلقه، وعلى قول من يثبتها صفات أخر، يقول هو أيضا حبه تابع لمن يريد أن يثيبه، فكل من أراد إثابته فهو يحبه وكل من أراد عقوبته فإنه يبغضه، وهذا تابع للعلم. وهؤلاء عندهم لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطًا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، بل ما زال يفرح بتوبته. والفرح عندهم إما الإرادة وإما الرضى، والمعنى ما زال يريد إثابته أو يرضى عما يريد إثابته. وكذلك لا يغضب عندهم يوم القيامة دون ما قبله، بل غضبه قديم، إما بمعنى الإرادة، وإما بمعنى آخر.
فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافرا، لم يزل مريدًا لعقوبته، فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه، بل وجوده كعدمه. فليس هذا بمؤمن أصلا، وإذا علم أنه يموت مؤمنًا، لم يزل مريدًا لإثابته، وذاك الكفر الذي فعله وجوده كعدمه. فلم يكن هذا كافرًا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر، مثل أبي منصور الماتريدي، فإن ما ذكروه مطرد فيهما. ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم.
والذين فرقوا من هؤلاء قالوا: نستثنى في الإيمان رغبة إلى الله في أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد. لكن يقال: إذا كان قولك: مؤمن، كقولك: في الجنة، فأنت تقول عن الكافر: هو كافر. ولا تقول: هو في النار، إلا معلقًا بموته على الكفر، فدل على أنه كافر في الحال قطعًا. وإن جاز أن يصير مؤمنًا، كذلك المؤمن. وسواء أخبر عن نفسه أو عن غيره.
فلو قيل عن يهودي أو نصراني: هذا كافر، قال: إن شاء الله، إذا لم يعلم أنه يموت كافرًا، وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدًا مؤمنًا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا القول قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان، يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله.
ومأخذ هذا القول، طرده طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان اتباعًا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف، وكان أهل الشام شديدين على المرجئة، وكان محمد بن يوسف الفريابي صاحب الثوري مرابطًا بعسقلان لما كانت معمورة، وكانت من خيار ثغور المسلمين، ولهذا كان فيها فضائل لفضيلة الرباط في سبيل الله، وكانوا يستثنون في الإيمان اتباعًا للسلف، واستثنوا أيضا في الأعمال الصالحة، كقول الرجل: صليت إن شاء الله ونحو ذلك، بمعنى القبول، لما في ذلك من الآثار عن السلف. ثم صار كثير من هؤلاء بآخرة يستثنون في كل شيء، فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه، قال: نعم، لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره، فيريدون بقولهم: إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه، كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل، كما يقوله أولئك في الإيمان: إن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه.
لكن هذا القول قاله قوم من أهل العلم والدين باجتهاد ونظر، وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء تلقوا ذلك عن بعض أتباع شيخهم، وشيخهم الذي ينتسبون إليه يقال له: أبو عمرو عثمان بن مرزوق، لم يكن ممن يرى هذا الاستثناء، بل كان في الاستثناء على طريقة من كان قبله؛ ولكن أحدث ذلك بعض أصحابه بعده، وكان شيخهم منتسبًا إلى الإمام أحمد، وهو من أتباع عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج المقدسي، وأبو الفرج من تلامذة القاضي أبي يعلى. وهؤلاء كلهم وإن كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد فهم يوافقون ابن كلاب على أصله الذي كان أحمد ينكره على الكلابية، وأمر بهجر الحارث المحاسبي من أجله، كما وافقه على أصله طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، كأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، وأبي منصور الماتريدي وغيرهم، وقول هؤلاء في مسائل متعددة من مسائل الصفات، وما يتعلق بها كمسألة القرآن. هل هو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته؟ أم القرآن لازم لذاته وقولهم في الاستثناء مبني على ذلك الأصل.
وكذلك بناه الأشعري وأتباعه عليه؛ لأن هؤلاء كلهم كلابية، يقولون: إن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يرضى ولا يغضب على أحد بعد إيمانه وكفره ولا يفرح بتوبة التائب بعد توبته. ولهذا وافقوا السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. ثم قالوا: إنه قديم لم يتكلم به بمشيئته وقدرته. ثم اختلفوا بعد هذا في القديم، أهو معنى واحد؟ أم حروف قديمة مع تعاقبها؟ كما بسطت أقوالهم وأقوال غيرهم في مواضع أخر.
وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: قطعًا في شيء من الأشياء، مع غلوهم في الاستثناء، حتى صار هذا اللفظ منكرًا عندهم، وإن قطعوا بالمعنى فيجزمون بأن محمدا رسول الله، وأن الله ربهم ولا يقولون: قطعًا. وقد اجتمع بي طائفة منهم، فأنكرت عليهم ذلك، وامتنعت من فعل مطلوبهم حتى يقولوا: قطعًا، وأحضروا لي كتابًا فيه أحاديث عن النبي ﷺ أنه نهى أن يقول الرجل: قطعًا وهي أحاديث موضوعة مختلقة، قد افتراها بعض المتأخرين.
والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل بمثل تلك العلة، طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين، بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها؛ فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال، ويقال: هذا صغير إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله كبيرًا ويقال: هذا مجنون إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله عاقلا، ويقال للمرتد: هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب، وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ، ظنوا هذا قول السلف.
وهؤلاء وأمثالهم من أهل الكلام، ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، كما ينصر ذلك المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين، فينصرون إثبات الصانع والنبوة والمعاد ونحو ذلك. وينصرون مع ذلك ما ظهر من مذاهب أهل السنة والجماعة، كما ينصر ذلك الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم، ينصرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب ولا يخلدون في النار، وأن النبي ﷺ له شفاعة في أهل الكبائر وأن فتنة القبر حق وعذاب القبر حق، وحوض نبينا ﷺ في الآخرة حق، وأمثال ذلك من الأقوال التي شاع أنها من أصول أهل السنة والجماعة، كما ينصرون خلافة الخلفاء الأربعة، وفضيلة أبي بكر وعمر ونحو ذلك.
وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره لا يكون عارفًا بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف. فينصر ما ظهر من قولهم، بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة بل بمآخذ أخر قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم به السلف مثل هذا الكلام وأهله، فإن كلامهم في ذم مثل هذا الكلام كثير. والكلام المذموم هو المخالف للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فهو مخالف للشرع والعقل، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [1].
فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلاّ على هذا الأصل، وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان، هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث. ومثل هذا يوجد كثيرًا في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار، وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف، فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف، أو من يعظمهم، لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين. وقال المحققون: ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع، وهذا كثيرًا ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين، ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا، علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق، إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات، وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائمًا أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولا في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله.
قال أبو القاسم الأنصاري، فيما حكاه عن أبي إسحاق الإسفرائيني، لما ذكر قول أبي الحسن وأصحابه في الإيمان، وصحح أنه تصديق القلب قال: ومن أصحابنا من قال بالموافاة، وشرط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به، ويختم عليه. ومنهم من لم يجعل ذلك شرطًا فيه في الحال.
قال الأنصاري: لما ذكر أن معظم أئمة السلف، كانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، قال: الأكثرون من هؤلاء على القول بالموافاة، ومن قال بالموافاة، فإنما يقوله فيمن لم يرد الخبر بأنه من أهل الجنة، وأما من ورد الخبر بأنه من أهل الجنة، فإنه يقطع على إيمانه، كالعشرة من الصحابة. ثم قال: والذي اختاره المحققون: أن الإيمان هو التصديق، وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدًا عند الله به وفي حكمه، فمن قال: إن ذلك شرط فيه، يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون: لا يدري أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال، هل هو معتد به عند الله؟ على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره.
فإذا قيل لهم: أمؤمنون أنتم حقًا، أو تقولون إن شاء الله؟ أو تقولون نرجو؟ فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، يعنون بهذا الاستثناء، تفويض الأمر في العاقبة إلى الله سبحانه وتعالى وإنما يكون الإيمان إيمانًا معتدًا به في حكم الله، إذا كان ذلك علم الفوز وآية النجاة، وإذا كان صاحبه والعياذ بالله في حكم الله من الأشقياء، يكون إيمانه الذي تحلى به في الحال عارية، قال: ولا فرق عند الصائرين إلى هذا المذهب، بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة قطعًا، وبين أن يقول: أنا مؤمن حقًا.
قلت: هذا إنما يجيء على قول من يجعل الإيمان متناولا لأداء الواجبات وترك المحرمات، فمن مات على هذا كان من أهل الجنة، وأما على قول الجهمية والمرجئة، وهو القول الذي نصره هؤلاء الذين نصروا قول جهم، فإنه يموت على الإيمان قطعًا، ويكون كامل الإيمان عندهم، وهو مع هذا عندهم من أهل الكبائر الذين يدخلون النار، فلا يلزم إذا وافي بالإيمان، أن يكون من أهل الجنة. وهذا اللازم لقولهم يدل على فساده؛ لأن الله وعد المؤمنين بالجنة، وكذلك قالوا: لا سيما والله سبحانه وتعالى يقول: {وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية [2]. قال: فهؤلاء يعني القائلين بالموافاة جعلوا الثبات على هذا التصديق، والإيمان الذي وصفناه إلى العاقبة والوفاء به في المآل شرطًا في الإيمان شرعًا، لا لغة، ولا عقلا. قال: وهذا مذهب سلف أصحاب الحديث والأكثرين، قال: وهو اختيار الإمام أبي بكر بن فُورَك، وكان الإمام محمد بن إسحاق ابن خزيمة يغلو فيه، وكان يقول: من قال: أنا مؤمن حقًا فهو مبتدع.
وأما مذهب سلف أصحاب الحديث؛ كابن مسعود وأصحابه، والثوري وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد ابن حنبل وغيره من أئمة السنة، فكانوا يستثنون في الإيمان. وهذا متواتر عنهم، لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثنى لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، كما سنذكر أقوالهم إن شاء الله في ذلك.
وأما الموافاة، فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها، من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث. ثم قال:
فإن قال قائل: إذا قلتم: إن الإيمان المأمور به في الشريعة، هو ما وصفتموه بشرائطه، وليس ذلك متلقى من اللغة، فكيف يستقيم قولكم: إن الإيمان لغوي؟ قلنا: الإيمان هو التصديق لغة وشرعًا، غير أن الشرع ضم إلى التصديق أو صافًا وشرائط، مجموعها يصير مجزيًا مقبولا، كما قلنا في الصلاة والصوم والحج ونحوها، والصلاة في اللغة: هي الدعاء، غير أن الشرع ضم إليها شرائط.
فيقال: هذا يناقض ما ذكروه في مسمى الإيمان، فإنهم لما زعموا أنه في اللغة التصديق، والشرع لم يغيره، أو ردوا على أنفسهم.
فإن قيل: أليس الصلاة والحج والزكاة معدولة عن اللغة، مستعملة في غير مذهب أهلها. قلنا: قد اختلف العلماء في ذلك، والصحيح أنها مقررة على استعمال أهل اللغة، ومبقاة على مقتضياتها، وليست منقولة إلا أنها زيد فيها أمور. فلو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان. فإنه لا يجب إزالة ظواهر القرآن بسبب إزالة ظاهر منها.
فيقال: أنتم في الإيمان جعلتم الشرع زاد فيه وجعلتموه كالصلاة والزكاة، مع أنه لا يمكن أحدًا أن يذكر شيئًا من الشرع دليلا على أن الإيمان لا يسمى به، إلا الموافاة به وبتقدير ذلك، فمعلوم أن دلالة الشرع على ضم الأعمال إليه أكثر وأشهر، فكيف لم تدخل الأعمال في مسماه شرعًا؟ وقوله: لابد من دليل مقطوع به عنه جوابان:
أحدهما: النقض بالموافاة، فإنه لا يقطع فيه.
الثاني: لا نسلم، بل نحن نقطع بأن حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك، داخل في مسمى الإيمان في كلام الله ورسوله أعظم مما نقطع ببعض أفعال الصلاة والصوم والحج، كمسائل النزاع، ثم أبو الحسن، وابن فُورَك وغيرهما من القائلين بالموافاة، هم لا يجعلون الشرع ضم إليه شيئًا، بل عندهم كل من سلبه الشرع اسم الإيمان، فقد فُقِدَ من قلبه التصديق.
قال: ومن أصحابنا لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه إيمانًا حقيقيًا في الحال، وإن جعل ذلك شرطًا في استحقاق الثواب عليه، وهذا مذهب المعتزلة والكرامية، وهو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني، وكلام القاضي يدل عليه، قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي، فإنه قال: الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالاستثناء، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز.
قال: ومن صار إلى هذا يقول: الإيمان صفة يشتق منها اسم المؤمن، وهو المعرفة والتصديق، كما أن العالم مشتق من العلم، فإذا عرفت ذلك من نفسي قطعت به كما قطعت بأني عالم وعارف ومصدق، فإن ورد في المستقبل ما يزيله، خرج إذ ذاك عن استحقاق هذا الوصف، ولا يقال: تبينا أنه لم يكن إيمانًا مأمورًا به، بل كان إيمانًا مجزيًا، فتغير وبطل، وليس كذلك قوله: أنا من أهل الجنة، فإن ذلك مغيب عنه، وهو مرجو. قال: ومن صار إلى القول الأول يتمسك بأشياء. منها أن يقال: الإيمان عبادة العمر، وهو كطاعة واحدة فيتوقف صحة أولها على سلامة آخرها. كما نقول في الصلاة والصيام والحج. قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليًا، ولا سعيدًا، ولا مرضيًا عند الله. وكذلك الكافر لا يسمى في الحال عدوًا لله، ولا شقيًا، إلا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال لإظهاره من نفسه علامتهم.
قلت: هذا الذي قالوه، إنه لا شك فيه، هو قول ابن كلاب والأشعري وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. وأما أكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرًا فهو عدو لله، ثم إذا آمن واتقى صار وليًا لله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم} إلى قوله: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَالله قَدِيرٌ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [3] وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم، وصاروا من أولياء الله ورسوله، وابن كلاب وأتباعه بنوا ذلك على أن الولاية صفة قديمة لذات الله، وهي الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك. فمعناها: إرادة إثابته بعد الموت، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمنًا، لم يزل وليًا لله، لأنه لم يزل الله مريدًا لإدخاله الجنة، وكذلك العداوة.
وأما الجمهور فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه، فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه، بعد أن يؤمن ويعمل صالحًا، وإنما يسخط عليه ويغضب، بعد أن يكفر، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [4]، فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [5] قال المفسرون: أغضبونا، وكذلك قال الله تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [6]، وفي الحديث الصحيح الذي في البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله تعالى: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تَرَدُّدِي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه».
فأخبر أنه: لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فإذا أحببته: كنت كذا، وكذا. وهذا يبين أن حبه لعبده إنما يكون بعد أن يأتي بمحابه، والقرآن قد دل على مثل ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [7]، فقوله: {يُحْبِبْكُمُ}جواب الأمر في قوله: {فَاتَّبِعُونِي} وهو بمنزلة الجزاء مع الشرط، ولهذا جزم، وهذا ثواب عملهم، وهو اتباع الرسول، فأثابهم على ذلك بأن أحبهم، وجزاء الشرط وثواب العمل، ومسبب السبب لا يكون إلا بعده، لا قبله، وهذا كقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [8]، وقوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [9]، وقوله تعالى: {اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [10]، ومثل هذا كثير، وكذلك قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [11]، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [12]، وكانوا قد سألوه: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [13]، فهذا يدل على أن حبه ومقته، جزاء لعملهم وأنه يحبهم إذا التقوا وقاتلوا؛ ولهذا رغبهم في العمل بذلك، كما يرغبهم بسائر ما يعدهم به، وجزاء العمل بعد العمل، وكذلك قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فإنه سبحانه يمقتهم إذ يدعون إلى الإيمان فيكفرون، ومثل هذا قوله: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [14]، فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ}، بين أنه رضي عنهم هذا الوقت، فإن حرف "إذ" ظرف لما مضى من الزمان، فعلم أنه ذاك الوقت رضي عنهم بسبب ذلك العمل، وأثابهم عليه، والمسبب لا يكون قبل سببه، والموقت بوقت لا يكون قبل وقته، وإذا كان راضيا عنهم من جهة، فهذا الرضى الخاص الحاصل بالبيعة لم يكن إلا حينئذ، كما ثبت في الصحيح أنه يقول لأهل الجنة: «يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»، وهذا يدل على أنه في ذلك الوقت حصل لهم هذا الرضوان، الذي لا يتعقبه سخط أبدًا، ودل على أن غيره من الرضوان قد يتعقبه سخط.
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كل من الرسل: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله»، وفي الصحاح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده، من رجل أضل راحلته بأرض دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فاضطجع ينتظر الموت فلما استيقظ، إذا دابته عليها طعامه وشرابه» وفي رواية «كيف تجدون فرحه بها؟» قالوا: عظيمًا يا رسول الله، قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته»، وكذلك ضحكه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، وضحكه إلى الذي يدخل الجنة آخر الناس، ويقول: أتسخر بي وأنت رب العالمين، فيقول: « لا، ولكني على ما أشاء قادر»، وكل هذا في الصحيح.
وفي دعاء القنوت: «تَوَلَّنِي فيمن تَوَلَّيْتَ»، والقديم لا يتصور طلبه، وقد قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [15]، وقال: {وَالله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [16]، فهذا التولي لهم، جزاء صلاحهم وتقواهم ومسبب عنه، فلا يكون متقدمًا عليه، وإن كان إنما صاروا صالحين ومتقين بمشيئته وقدرته وفضله وإحسانه، لكن تعلق بكونهم متقين وصالحين، فدل على أن هذا التولي هو بعد ذلك مثل كونه مع المتقين والصالحين بنصره وتأييده، ليس ذلك قبل كونهم متقين وصالحين، وهكذا الرحمة، قال ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، قال الترمذي: حديث صحيح، وكذلك قوله: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [17] علق الرضا به تعليق الجزاء بالشرط والمسبب بالسبب، والجزاء إنما يكون بعد الشرط، وكذلك قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله آمِنِينَ} [18]. يدل على أنه يشاء ذلك فيما بعد. وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [19]، فـ"إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان. فدل على أنه إذا أراد كونه، قال له: كن، فيكون. وكذلك قوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} [20]، فبين فيه أنه سيرى ذلك في المستقبل إذا عملوه.
والمأخذ الثاني في الاستثناء، أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا سليمان بن الأشعث يعني: أبا داود السجستاني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، قال له رجل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ قلت: نعم، هل على في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد، وقال: هذا كلام الإرجاء قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ الله} [21] مَنْ هؤلاء، ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولا وعملا؟ قال له الرجل: بلى. قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم. قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: فكيف تعيب أن يقول: إن شاء الله ويستثنى؟
قال أبو داود: أخبرني أحمد بن أبي شُرَيْح: أن أحمد بن حنبل، كتب إليه في هذه المسألة، أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن نستثنى في العمل. وذكر الخلال هذا الجواب من رواية الفضل بن زياد، وقال: زاد الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: كان سليمان بن حرب، يحمل هذا علي التقبل، يقول: نحن نعمل ولا ندري يتقبل منا أم لا؟
قلت: والقبول متعلق بفعله كما أمر. فكل من اتقى الله في عمله، ففعله كما أمر، فقد تقبل منه، لكن هو لا يجزم بالقبول، لعدم جزمه بكمال الفعل، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [22]، قالت عائشة: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ فقال: لا يا بنت الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه»
وروى الخلال، عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا نجد بدًا من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاء بالقول. فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول.
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثنى في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله، قال: وسمعت أبا عبد الله وسئل عن قول النبي ﷺ «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» الاستثناء هاهنا على أي شيء يقع؟ قال: على البقاع، لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره.
وعن الميموني أنه سأل أبا عبد الله عن قوله ورأيه في: مؤمن إن شاء الله. قال: أقول: مؤمن إن شاء الله، ومؤمن أرجو، لأنه لا يدري، كيف البراءة للأعمال على ما افترض عليه أم لا. ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله، وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات، المستحق للجنة إذا مات على ذلك، وأن المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه مؤمن، وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله، فإذا قال: أنا مؤمن قطعًا، كان كقوله: أنا بر، تقي، ولي الله قطعًا.
وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقًا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به، فلما علم السلف مقصدهم، صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال؛ ولهذا كان الصحيح أن يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل؛ ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه.
وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون؟ فقال: نقول: نحن المسلمون، وقال أيضا قلت لأبي عبد الله: نقول: إنا مؤمنون؟ قال: ولكن نقول: إنا مسلمون، ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، بل يكره تركه لما يعلم أن في قلبه إيمانًا، وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه.
قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني، أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت؟ قال: سؤالك إياي بدعة، لا يشك في إيمانه، أو قال: لا نشك في إيماننا.
قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاوس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود، قال أبو داود: سمعت أحمد: قال: سمعت سفيان يعني: ابن عيينة يقول: إذا سئل: أمؤمن أنت؟ لم يجبه، ويقول سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن قال: إن شاء الله، فليس يكره، ولا يداخل الشك، فقد أخبر عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول، وهذا أبلغ، وهو إنما يجزم، بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجبات.
فعلم أن أحمد وغيره من السلف، كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب، من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدًا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا [23] وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة، لما فيه من الحكمة.
وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى شك، مخافة واحتياطًا للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهو مذهب الثوري، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله} [24]، وقال النبي ﷺ لأصحابه: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله». وقال في الميت: «وعليه تبعث إن شاء الله» فقد بين أحمد أنه يستثنى مخافة واحتياطًا للعمل، فإنه يخاف ألا يكون قد كمل المأمور به، فيحتاط بالاستثناء، وقال على غير معنى شك، يعني من غير شك مما يعلمه الإنسان من نفسه، وإلا فهو يشك في تكميل العمل الذي خاف ألا يكون كمله، فيخاف من نقصه، ولا يشك في أصله.
قال الخلال: وأخبرني محمد بن أبي هارون: أن حُبَيْش بن سِنْدِي، حدثهم في هذه المسألة، قال أبو عبد الله: قول النبي ﷺ حين وقف على المقابر فقال: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، وقد نعيت إليه نفسه، وعلم أنه صائر إلى الموت، وفي قصة صاحب القبر «وعليه حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله»، وفي قول النبي ﷺ: «إني اختبأت دعوتي، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئًا» وفي مسألة الرجل النبي ﷺ: أحدنا يصبح جنبًا، يصوم؟ فقال: «إني أفعل ذلك ثم أصوم»، فقال: إنك لست مثلنا، أنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «والله أني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» وهذا كثير، وأشباهه على اليقين.
قال: ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله، قال: نعم. فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك، قال: بئس ما قالوا، ثم خرج، فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون. قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، قيل له: يستثنى في الإيمان؟ قال: نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أستثنى على اليقين لا على الشك، ثم قال: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله آمِنِينَ}، فقد أخبر الله تعالى أنهم داخلون المسجد الحرام.
فقد بين أحمد في كلامه أنه يستثنى مع تيقنه بما هو الآن موجود فيه، يقوله بلسانه وقلبه، لا يشك في ذلك، ويستثنى لكون العمل من الإيمان، وهو لا يتيقن أنه أكمله بل يشك في ذلك، فنفى الشك وأثبت اليقين، فيما يتيقنه من نفسه، وأثبت الشك فيما لا يعلم وجوده، وبين أن الاستثناء مستحب لهذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أم لا، وهو جائز أيضا لما يتيقنه، فلو استثني لنفس الموجود في قلبه جاز، كقول النبي ﷺ: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» وهذا أمر موجود في الحال ليس بمستقبل، وهو كونه أخشانا، فإنه لا يرجو أن يصير أخشانا لله، بل هو يرجو أن يكون حين هذا القول أخشانا لله. كما يرجو المؤمن إذا عمل عملا أن يكون الله تقبله منه ويخاف ألا يكون تقبله منه، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [25]، وقال النبي ﷺ: «هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه» والقبول هو أمر حاضر أو ماض وهو يرجوه ويخافه، وذلك أن ماله عاقبة مستقبلة محمودة أو مذمومة، والإنسان يجوز وجوده وعدمه. يقال: إنه يرجوه وأنه يخافه. فتعلق الرجاء والخوف بالحاضر والماضى؛ لأن عاقبته المطلوبة والمكروهة مستقبلة. فهو يرجو أن يكون الله تقبل عمله فيثيبه عليه فيرحمه في المستقبل. ويخاف ألا يكون تقبله فيحرم ثوابه، كما يخاف أن يكون الله قد سخط عليه في معصيته فيعاقبه عليها.
وإذا كان الإنسان يسعى فيما يطلبه كتاجر أو بريد أرسله في حاجته يقضيها في بعض الأوقات، فإذا مضى ذلك الوقت يقول: أرجو أن يكون فلان قد قضى ذلك الأمر، وقضاؤه ماض، لكن ما يحصل لهذا من الفرح والسرور وغير ذلك من مقاصده مستقبل، ويقول الإنسان في الوقت الذي جرت عادة الحاج بدخولهم إلى مكة: أرجو أن يكونوا دخلوا، ويقول في سرية بعثت إلى الكفار: نرجو أن يكون الله قد نصر المؤمنين وغنمهم، ويقال في نيل مصر عند وقت ارتفاعه: نرجو أن يكون قد صعد النيل، كما يقول الحاضر في مصر مثل هذا الوقت: نرجو أن يكون النيل في هذا العام نيلا مرتفعًا، ويقال لمن له أرض يحب أن تمطر، إذا مطرت بعض النواحي: أرجو أن يكون المطر عامًا، وأرجو أن تكون قد مطرت الأرض الفلانية، وذلك لأن المرجو هو ما يفرح بوجوده ويسره، فالمكروه ما يتألم بوجوده.
وهذا يتعلق بالعلم، والعلم بذلك مستقبل، فإذا علم أن المسلمين انتصروا، والحاج قد دخلوا، أو المطر قد نزل، فرح بذلك وحصل به مقاصد أخر له، وإذا كان الأمر بخلاف ذلك لم يحصل ذلك المحبوب المطلوب، فيقول: أرجو وأخاف؛ لأن المحبوب والمكروه ما يتألم بوجوده.
وهذا متعلق بالعلم بذلك وهو مستقبل، وكذلك المطلوب بالإيمان من السعادة والنجاة، هو أمر مستقبل، فيستثنى في الحاضر بذلك؛ لأن المطلوب به مستقبل، ثم كل مطلوب مستقبل، تعلق بمشيئة الله وإن جزم بوجوده؛ لأنه لا يكون مستقبل إلا بمشيئة الله.
فقولنا: يكون هذا إن شاء الله، حق، فإنه لا يكون إلا إن شاء الله والشك واللفظ ليس فيه إلا التعليق، وليس من ضرورة التعليق الشك بل هذا بحسب علم المتكلم، فتارة يكون شاكًا وتارة لا يكون شاكًا، فلما كان الشك يصحبها كثيرًا لعدم علم الإنسان بالعواقب، ظن الظان أن الشك داخل في معناها، وليس كذلك، فقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله} [26] لا يتصور فيه شك من الله، بل ولا من رسوله المخاطب والمؤمنين؛ ولهذا قال ثعلب: هذا استثناء من الله وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون. وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: إنَّ إنْ بمعنى إذ، أي: إذ شاء الله، ومقصوده بهذا تحقيق الفعل ب "إن" كما يتحقق مع إذ. وإلا ف "إذا" ظرف توقيت، و"إن" حرف تعليق.
فإن قيل: فالعرب تقول: إذا احمر البُسْر فأتني، ولا تقول: إن احمر البسر.
قيل: لأن المقصود هنا توقيت الإتيان بحين احمراره، فأتوا بالظرف المحقق، ولفظ "إن" لا يدل على توقيت، بل هي تعليق محض تقتضي ارتباط الفعل الثاني بالأول، ونظير ما نحن فيه أن يقولوا: البسر يحمر ويطيب إن شاء الله، وهذا حق، فهذا نظير ذلك.
فإن قيل: فطائفة من الناس فروا من هذا المعنى وجعلوا الاستثناء لأمر مشكوك فيه، فقال الزجاج: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي: أمركم الله به، وقيل: الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، أي: لتدخلنه آمنين، فأما الدخول فلا شك فيه. وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت. فالاستثناء لأنهم لم يدخلوا جميعهم. قيل: كل هذه الأقوال وقع أصحابها فيما فروا منه مع خروجهم عن مدلول القرآن، فحرفوه تحريفًا لم ينتفعوا به. فإن قول من قال: أي: أمركم الله به، هو سبحانه قد علم، هل يأمرهم أو لا يأمرهم، فعلمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه بأن سيدخلوا، فعلقوا الاستثناء بما لم يدل عليه اللفظ، وعلم الله متعلق بالمظهر والمضمر جميعًا، وكذلك أمنهم وخوفهم، هو يعلم أنهم يدخلون آمنين أو خائفين، وقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بأنهم يدخلون آمنين، فكلاهما لم يكن فيه شك عند الله، بل ولا عند رسوله، وقول من قال: جميعهم أو بعضهم، يقال: المعلق بالمشيئة دخول من أريد باللفظ، فإن كان أراد الجميع، فالجميع لابد أن يدخلوه، وإن أريد الأكثر، كان دخولهم هو المعلق بالمشيئة، وما لم يرد لا يجوز أن يعلق ب "إن" وإنما علق ب "إن" ما سيكون، وكان هذا وعدًا مجزومًا به، ولهذا لما قال عمر للنبي ﷺ عام الحديبية: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، قلت لك: إنك تأتيه هذا العام؟» قال: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به».
فإن قيل: لِمَ لَمْ يعلق غير هذا من مواعيد القرآن؟
قيل: لأن هذه الآية نزلت بعد مرجع النبي ﷺ وأصحابه من الحُدَيْبِيَةِ، وكانوا قد اعتمروا ذلك العام، واجتهدوا في الدخول، فصدهم المشركون، فرجعوا وبهم من الألم ما لا يعلمه إلا الله، فكانوا منتظرين لتحقيق هذا الوعد ذلك العام، إذ كان النبي ﷺ وعدهم وعدًا مطلقًا، وقد روى أنه رأى في المنام قائلا يقول: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله} [27] فأصبح فحدث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج إلى العمرة فلم تحصل لهم العمرة ذلك العام، فنزلت هذه الآية، واعدة لهم بما وعدهم به الرسول من الأمر الذي كانوا يظنون حصوله ذلك العام.
وكان قوله: {إِن شَاء الله} هنا تحقيقًا لدخوله، وأن الله يحقق ذلك لكم، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، بل تحقيقًا لعزمه وإرادته، فإنه يخاف إذا لم يقل: إن شاء الله، أن ينقض الله عزمه، ولا يحصل ما طلبه، كما في الصحيحين: أن سليمان عليه السلام قال: والله لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل منهن تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل. قال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» فهو إذا قال: إن شاء الله لم يكن لشك في طلبه وإرادته، بل لتحقيق الله ذلك له، إذ الأمور لا تحصل إلا بمشيئة الله، فإذا تألى العبد عليه من غير تعليق بمشيئته، لم يحصل مراده، فإنه من يتألى على الله يكذبه؛ولهذا يروى: «لا أتممت لمقدر أمرًا». وقيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء الله} [28] فإن قوله: لأفعلن، فيه معنى الطلب والخبر، وطلبه جازم، وأما كون مطلوبه يقع، فهذا يكون إن شاء الله. وطلبه للفعل يجب أن يكون من الله بحوله وقوته، ففي الطلب عليه أن يطلب من الله، وفي الخبر لا يخبر إلا بما علمه الله، فإذا جزم بلا تعليق، كان كالتألي على الله، فيكذبه الله، فالمسلم في الأمر الذي هو عازم عليه ومريد له وطالب له طلبًا لا تردد فيه يقول: إن شاء الله لتحقيق مطلوبه، وحصول ما أقسم عليه لكونه لا يكون إلا بمشيئة الله لا لتردد في إرادته، والرب تعالى مريد لإنجاز ما وعدهم به إرادة جازمة لا مثنوية فيها، وما شاء فعل، فإنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ليس كالعبد الذي يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد.
فقوله سبحانه: {أَن شَاء الله} [29]، تحقيق أن ما وعدتكم به يكون لا محالة بمشيئتي وإرادتي، فإن ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن، فكان الاستثناء هنا لقصد التحقيق، لكونهم لم يحصل لهم مطلوبهم الذي وعدوا به ذلك العام، وأما سائر ما وعدوا به فلم يكن كذلك.
ولهذا تنازع الفقهاء فيمن أراد باستثنائه في اليمين هذا المعنى، وهو التحقيق في استثنائه لا التعليق: هل يكون مستثنيًا به، أم تلزمه الكفارة إذا حنث؟ بخلاف من ترددت إرادته فإنه يكون مستثنيًا بلا نزاع، والصحيح أنه يكون في الجميع مستثنيًا، لعموم المشيئة؛ ولأن الرجل وإن كانت إرادته للمحلوف به جازمة، فقد علقه بمشيئة الله، فهو يجزم بإرادته له، لا يجزم بحصول مراده، ولا هو أيضا مريد له بتقدير ألا يكون، فإن هذا تمييز لا إرادة، فهو إنما التزمه إذا شاء الله، فإذا لم يشأه لم يلتزمه بيمينه، ولا حلف أنه يكون، وإن كانت إرادته له جازمة، فليس كل ما أريد التزم باليمين فلا كفارة عليه.
وقد تبين بما ذكرناه أن قول القائل: {أَن يَشَاء الله} يكون مع كمال إرادته في حصول المطلوب، وهو يقولها لتحقيق المطلوب لاستعانته بالله في ذلك، لا لشك في الإرادة، هذا فيما يحلف عليه ويريده، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، فإنه خبر عما أراد الله كونه وهو عالم بأن سيكون، وقد علقه بقوله: {أَن يَشَاء الله} فكذلك ما يخبر به الإنسان عن مستقبل أمره مما هو جازم بإرادته وجازم بوقوعه فيقول فيه: إن شاء الله، لتحقيق وقوعه، لا للشك لا في إرادته ولا في العلم بوقوعه.
ولهذا يذكر الاستثناء عند كمال الرغبة في المعلق، وقوة إرادة الإنسان له. فتبقى خواطر الخوف تعارض الرجاء، فيقول: إن شاء الله، لتحقيق رجائه مع علمه بأن سيكون، كما يسأل الله ويدعوه في الأمر الذي قد علم أنه يكون، كما كان النبي ﷺ يوم بدر قد أخبرهم بمصارع المشركين، ثم هو بعد هذا يدخل إلى العريش يستغيث ربه ويقول: «اللهم انجز لي ما وعدتني»؛ لأن العلم بما يقدره لا ينافي أن يكون قدره بأسباب، والدعاء من أعظم أسبابه، كذلك رجاء رحمة الله وخوف عذابه، من أعظم الأسباب في النجاة من عذابه وحصول رحمته.
والاستثناء بالمشيئة يحصل في الخبر المحض، وفي الخبر الذي معه طلب، فالأول إذا حلف على جملة خبرية لا يقصد به حضًا ولا منعًا، بل تصديقًا أو تكذيبًا، كقوله: والله ليكونن كذا إن شاء الله، أو لا يكون كذا. والمستثنى قد يكون عالمًا بأن هذا يكون أو لا يكون، كما في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ}، فإن هذا جواب غير محذوف.
والثاني: ما فيه معنى الطلب، كقوله: والله لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله، فالصيغة صيغة خبر ضمنها الطلب، ولم يقل: والله إني لمريد هذا ولا عازم عليه، بل قال: والله ليكونن. فإذا لم يكن فقد حنث لوقوع الأمر، بخلاف ما حلف عليه فحنث، فإذا قال: إن شاء الله، فإنما حلف عليه بتقدير: أن يشاء الله، لا مطلقًا.
ولهذا ذهب كثير من الفقهاء إلى أنه متى لم يوجد المحلوف عليه حنث، أو متى وجد المحلوف عليه أنه لا يفعله، حنث، سواء كان ناسيًا أو مخطئًا أو جاهلا، فإنهم لحظوا أن هذا في معنى الخبر، فإذا وجد بخلاف مخبره فقد حنث، وقال الآخرون: بل هذا مقصوده الحض والمنع، كالأمر والنهي، ومتى نهي الإنسان عن شيء ففعله ناسيًا أو مخطئًا لم يكن مخالفًا، فكذلك هذا. قال الأولون: فقد يكون في معنى التصديق والتكذيب، كقوله: والله ليقعن المطر، أو لا يقع، وهذا خبر محض، ليس فيه حض ولا منع، ولو حلف على اعتقاده فكان الأمر بخلاف ما حلف عليه، حنث، وبهذا يظهر الفرق بين الحلف على الماضي والحلف على المستقبل، فإن اليمين على الماضي غير منعقدة، فإذا أخطأ فيها لم يلزمه كفارة، كالغَمُوس، بخلاف المستقبل. وليس عليه أن يستثنى في المستقبل إذا كان فعله، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} [30]، فأمره أن يقسم على ما سيكون، وكذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [31]، كما أمره أن يقسم على الحاضر في قوله: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [32]، وقد قال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده، لينزلن فيكم ابن مريم حَكَمًا عَدْلا وإمامًا مقْسِطًا، وقال: «والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتي يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل» وقال: «إذا هلك كسرى أو ليهلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» وكلاهما في الصحيح.
فأقسم صلوات الله وسلامه عليه على المستقبل في مواضع كثيرة بلا استثناء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [التوبة: 72]
- ↑ [الممتحنة: 1: 7]
- ↑ [محمد: 28]
- ↑ [الزخرف: 55]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [غافر: 60]
- ↑ [الأحقاف: 31]
- ↑ [الأحزاب: 70، 71]
- ↑ [التوبة: 4]
- ↑ [الصف: 2: 4]
- ↑ [غافر: 10]
- ↑ [الفتح: 18]
- ↑ [الأعراف: 196]
- ↑ [الجاثية: 19]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [التوبة: 105]
- ↑ [التوبة: 106]
- ↑ [المؤمنون: 60]
- ↑ [ مأخذ ثان]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [المؤمنون: 60]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [الكهف: 23، 24]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [التغابن: 7]
- ↑ [سبأ: 3]
- ↑ [يونس: 53]