→ فصل: زيادة الإيمان تعرف من وجوه | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل: أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان ابن تيمية |
فصل: الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها ← |
فصل: أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان
وقد أثبت الله في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [1]. وقد ثبت في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى النبي ﷺ رهطا وفي رواية قسم قسما وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله ﷺ: «أو مسلمًا». أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول الله ﷺ ثلاثا، ثم قال: «إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ الله على وجهه في النار»، وفي رواية: فضرب بين عنقي وكتفي، وقال: «أقتال أي سعد؟».
فهذا الإسلام الذي نفى الله عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف:
أحدهما: أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق. وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق.
قال أحمد بن حنبل: حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال: سمعت هشاما يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان: مؤمن، وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال: قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد: الإيمان: المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصا، والإسلام عاما.
والقول الثاني: أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا: وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر. وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك.
قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال: أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت: إن رجلا خاصمني يقال له: سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم: ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ. قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [2] فقال: هو الاستسلام، فقال إبراهيم: لا، هو الإسلام.
وقال: حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن مجاهد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}، قال: استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهدا، والذين قالوا: إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا: لأن الله نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء: الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [3]، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [4] وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمنا لم يدخل في ذلك.
وجواب هذا أن يقال: الذين قالوا من السلف: إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا: إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة. وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيمانا يخرجون به من النار. لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله، وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب؟ وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب ب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا}، غير قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [5] ونظائرها، فإن الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولا: يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقا في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقا، وإن لم يكن من المؤمنين حقا.
وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقا، يقال فيه: إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه. فقيل: يقال: مسلم، ولا يقال: مؤمن. وقيل: بل يقال: مؤمن.
والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف: يدخل فيه المؤمن حقا. ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر. ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه.
ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا: آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطنا وظاهرا. فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم النبي ﷺ إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي: هل يقال: إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء الله؟
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول: هم كفار، والمعتزلة تقول: لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [6]، فدل على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم الله على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة.
وأيضا، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضا} الآيات [7]، وقال: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [8]، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}. ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [9] ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [10]، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقا من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه.
وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من الله يهديه بها. والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار. وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل الله، فليس هو داخلا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [11]، وليس هو منافقا في الباطن مضمرا للكفر، فلا هو من المؤمنين حقا ولا هو من المنافقين، ولا هو أيضا من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقا، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقا، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}؛ولهذا قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [12] يعني: في قولكم: {آمنا}.
يقول: إن كنتم صادقين فالله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم: {آمنا}. ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون. وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه والله أعلم لأن النسوة الممتحنات قال فيهن: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [13]، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن الله إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} كما قال: «لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه»، وقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن»، و«لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ» وهؤلاء ليسوا منافقين.
وسياق الآية يدل على أن الله ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم الله به، فإن الله تعالى قال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [14]، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون الله بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله: {أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} لأنه ضُمِّن معنى: يخبرون ويحدثون، كأنه قال: أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض. وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به الله هو ما ذكره الله عنهم من قولهم: {آمنا} فإنهم أخبروا عما في قلوبهم.
وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله ﷺ، ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى: {أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} [15]، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولا في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [16]، ولفظ: {لما} ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالبا كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [17]، وقد قال السُّدِّيّ: نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وكانوا يقولون: آمنا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
وعن مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول الله ﷺ قالوا: آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلما سار رسول الله ﷺ إلى الحديبية استنفرهم، فلم ينفروا معه. وقال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال: قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول الله ﷺ يقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد قال قتادة في قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [18] قال: منوا على النبي ﷺ حين جاؤوا فقالوا: إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لنبيه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}.
وقال مُقاتِل بن حَيَّان: هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا: يا رسول الله، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل الله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [19]، ويقال: من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها.
وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفارا في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [20]، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [21] وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله ﷺ إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فقال: إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول الله ﷺ البعث إليهم، فنزلت هذه الآية. وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [22]، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} الآية [23]، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [24]، وقد قيل: معناه: لا تسميه فاسقا ولا كافرا بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد: بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فسماه فاسقا.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر»، يقول: فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقا، وقد قال في آية القَذْف: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [25]. يقول: فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا فساقا كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون: فاسق، كافر، فإن النبي ﷺ قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضا.
وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية: لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ. وقال عِكْرِمَة: هو قول الرجل: يا كافر، يا منافق. وقال عبد الرحمن بن زيد: هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله: يا زاني، يا سارق، يا فاسق. وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال: هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله: «سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر» ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [26]، فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ} [27]، ثم ذكر قول الأعراب: {آمنا}.
فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين. وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون: إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفارا منافقين.
قال ابن إسحاق: لما أراد رسول الله ﷺ العمرة عمرة الحديبية استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني الله بقوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [28] أي: ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي: ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [29]، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب. بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ الله أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [30]، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته.
وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولا، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا.
فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام.
وقول المفسرين: لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء. وقد يحتج على ذلك بقوله: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [31] كما قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمنا، فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين.
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي ﷺ، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول، ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه، وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقا مرتابا إذا قال له منكر ونكير: «ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ»
وقد تقدم قول من قال: إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاما من غيرهم، وأن الله إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [32] وإنهم من جنس أهل الكبائر.
وأيضا، قوله: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [33] و{لما} إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقبا، كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [34]، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [35]، فقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث: «كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس»؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [36] والمنافق لا تنفعه طاعة الله ورسوله حتى يؤمن أولا.
وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام. قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في: أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا أستثني، قال: قلت لأحمد: تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم، فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [37]، وذكر أشياء. وقال الشَّالَنْجِيّ: سألت أحمد عمن قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند الله؟ قال: ليس بمرجئ.
وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي: الاستثناء جائز، ومن قال: أنا مؤمن حقا، ولم يقل: عند الله، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي: يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله: «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [38]، فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصا من إيمانه.
قال الشالنجي: وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام. فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال: وبه قال أبو خيثمة. وقال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال: قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال: قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان. وقال محمد بن نصر المروزي: وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي ﷺ: «لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فقال: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمنا ناقص الإيمان.
قلت: أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في السنة: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الاستثناء في الإيمان: ما تقول فيه؟ فقال: أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه. قال أبو عبد الله: إذا كان يقول: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطا، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل. قال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله آمِنِينَ} [39] أي: أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي ﷺ في أهل القبور: «وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون» أي: لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي ﷺ: «وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله»: يعني: من القبر، وذكر قول النبي ﷺ: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان.
قلت لأبي عبد الله: وكأنك لا ترى بأسا ألا يستثنى. فقال: إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قوما تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد الله وقيل له: شَبَابَة أي شيء تقول فيه؟ فقال: شبابة كان يدعى الإرجاء، قال: وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد الله: قال شبابة: إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي: بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد الله: هذا قول خبيث، ما سمعت أحدا يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد الله: كنت كتبت عن شبابة شيئًا؟ فقال: نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيرا قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد الله: كتبت عنه بعد؟ قال: لا ولا حرف. قيل لأبي عبد الله: يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان. فقال: هذا مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد الله: من يرويه عن سفيان؟ فقال: كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال: وقال وَكِيع عن سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث؟ ولا ندري ما هم عند الله. قلت لأبي عبد الله: فأنت بأي شيء تقول؟ فقال: نحن نذهب إلى الاستثناء.
قلت لأبي عبد الله: فأما إذا قال أنا مسلم فلا يستثني؟ فقال: نعم، لا يستثني إذا قال أنا مسلم، قلت لأبي عبد الله: أقول: هذا مسلم، وقد قال النبي ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد الله: حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله: فنقول: الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: حديث النبي ﷺ يدل على ذلك، فذكر قوله: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا» فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد الله عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال: نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله: حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاما يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم. ويهابان: مؤمن.
قلت لأبي عبد الله: رواه غير سُوَيْد؟ قال: ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد الله يقول: الإيمان قول وعمل. قلت لأبي عبد الله: فالحديث الذي يروى: «أعتقها فإنها مؤمنة» قال: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة، يقولون: أعتقها. قال: ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول: «فإنها مؤمنة» وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه. قلت لأبي عبد الله: تفرق بين الإيمان والإسلام؟ فقال: قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد زعموا يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له: من المرجئة؟ قال: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل.
قلت: فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي ﷺ: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان »، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال: «لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، وقال: «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه» وقال: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه» وأقسم على ذلك مرات وقال: «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»
والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام أيضا ويقولون: ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون: ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون: إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم، وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول: الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون: إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول: الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا: مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر.
وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال: فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي ﷺ حيث قال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي ﷺ الإسلام. لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي ﷺ ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها.
وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى: لا يكون مسلما حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافرا. والثالثة: أنه كافر بترك الزكاة أيضا. والرابعة: أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال: أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبدا. ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس كما أمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها.
وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: قيل: هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد. وقيل: هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي ﷺ لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي ﷺ، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمنا بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلما ولا يقال له: مؤمن؟ قد تقدم الكلام فيه. وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان؟ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجردا فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه.
وبالإسلام بعث الله جميع النبيين، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [40]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} [41]، وقال نوح: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [42]، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [43]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [44] وقال نوح: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} [45]. وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [46]، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [47]، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [48]، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [49].
وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين لله، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر الله به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لم يقل: لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون الله، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [50].
وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب الله تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب الله تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ ِ} [51]، وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [52]. وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [53]، ووصفه بذلك فقال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [54]، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد ﷺ. والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [55]، وقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [56] {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [57] بعد قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ْ} [58]، وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [59]، وقد ذكرنا البشرى المطلقة للمسلمين في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [60].
وقد وصف الله السحرة بالإسلام والإيمان معا، فقالوا: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [61]، وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} [62]، وقالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [63] وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [64]، ووصف الله أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} [65]، والأنبياء كلهم مؤمنون، ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [66] و{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [67].
وحقيقة الفرق: أن الإسلام دين. والدين مصدر دان يدين دينا: إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده، وعبد معه إلها آخر، لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح.
وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له؛ فلهذا فسر النبي ﷺ الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسرالإسلام باستسلام مخصوص، هو المباني الخمس. وهكذا في سائر كلامه ﷺ يفسر الإيمان بذلك النوع ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب» فإن الأعمال الظاهرة يراها الناس، وأما ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن، لكن له لوازم قد تدل عليه، واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزومًا؛ فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل. . [68] ففي حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة جميعا أن النبي ﷺ قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم»، ففسر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه؛ وفسر المؤمن بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك، فإن من كان مأمونًا سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأمونًا. فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه، خوفًا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة؛ لا لإيمان في قلبه.
وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عَبَسَة عن النبي ﷺ؛ أن رجلا قال للنبي ﷺ: ما الإسلام؟ قال: «إطعام الطعام، ولينُ الكلام» قال: فما الإيمان؟ قال: «السَّمَاحَة والصبر» فإطعام الطعام عمل ظاهر يفعله الإنسان لمقاصد متعددة، وكذلك لين الكلام، وأما السماحة والصبر فخُلُقَانِ في النفس، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [69]، وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صبارا شكورا فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خُلِقَ هَلُوعا إذا مسه الشر جَزُوعا، وإذا مسه الخير منوعا، فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة.
وتمام الحديث: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده» قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أكمل إيمانا؟ قال: «أحسنهم خُلُقا» قال: يا رسول الله، أي القتل أشرف؟ قال: «من أرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ» قال: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: «الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله». قال: يا رسول الله، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «جُهْدِ المُقِلِّ». قال: يا رسول الله، فأي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القُنُوت». قال: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: «من هَجَرَ السُّوءَ». وهذا محفوظ عن عبيد بن عمير، تارة يروى مرسلا، وتارة يروى مسندا، وفي رواية: أي الساعات أفضل؟ قال: «جَوْفَ الليل الغَابِر» وقوله: «أفضل الإيمان السماحة والصبر» يروى من وجه آخر عن جابر عن النبي ﷺ.
وهكذا في سائر الأحاديث، إنما يفسر الإسلام بالاستسلام لله بالقلب مع الأعمال الظاهرة، كما في الحديث المعروف الذي رواه أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ أنه قال: والله يا رسول الله، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: «الإسلام». قال: وما الإسلام؟ قال: «أن تسلم قلبك لله وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل الله من عبد أشرك بعد إسلامه». وفي رواية قال: «أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم» وفي لفظ تقول: «أسلمت نفسي لله، وخليت وجهي إليه». وروى محمد بن نصر من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن للإسلام صُوًى ومنارا كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسلم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك، ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم إن سَكَتَّ عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم في الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نَبَذَ الإسلام وراء ظهره».
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [70] قال مجاهد وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم؛لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك، والجمهور يقولون: {فٌي بسٌَلًم} أي: في الإسلام. وقالت طائفة: هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال. وأما قوله: {كَآفَّةً} فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه، وقوله: {ادْخُلُوا} خطاب لهم كلهم فقوله: {كَآفَّةً} إن أريد به مجتمعين لزم أن يترك الإنسان الإسلام حتى يسلم غيره فلا يكون الإسلام مأمورا به إلا بشرط موافقة الغير له كالجمعة، وهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد بكافة: أي: ادخلوا جميعكم، فكل أوامر القرآن كقوله: {آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ} [71]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [72] كلها من هذا الباب، وما قيل فيها كافة، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً}[73] أي: قاتلوهم كلهم لا تدعوا مشركا حتى تقاتلوه، فإنها أنزلت بعد نبذ العهود، ليس المراد: قاتلوهم مجتمعين أو جميعكم، فإن هذا لا يجب، بل يقاتلون بحسب المصلحة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا كانت فرائض الأعيان لم يؤكد المأمورين فيها بكافة، فكيف يؤكد بذلك في فروض الكفاية؟ وإنما المقصود تعميم المقاتلين. وقوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [74] فيه احتمالان.
والمقصود أن الله أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجبا على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجبا على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحبا اعتقد حسنه وأحب فعله، وفي حديث جرير: أن رجلا قال: يا رسول الله، صِفْ لي الإسلام. قال: «تشهد أن لا إله إلا الله، وتُقِرُّ بما جاء من عند الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» قال: أقررت، في قصة طويلة فيها: أنه وقع في أخَاقِيقَ جُرْذَان، وأنه قتل وكان جائعا، وملكان يَدُسَّان في شِدْقِه من ثمار الجنة، فقوله: «وتقر بما جاء من عند الله». هو الإقرار بأن محمدا رسول الله فإنه هو الذي جاء بذلك.
وفي الحديث الذي يرويه أبو سليمان الداراني: حديث الوفد الذين قالوا: نحن المؤمنون، قال: «فما علامة إيمانكم؟ » قالوا: خمس عشرة خَصْلة: خمس أمرتنا رسلك أن نعمل بهن، وخمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بهن، وخمس تَخَلَّقْنَا بها في الجاهلية، ونحن عليها في الإسلام إلا أن تكره منها شيئًا. قال: «فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟» قالوا: أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت. قال: «وما الخمس التي أمرتكم أن تؤمنوا بها؟» قالوا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال: «وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية، وثَبَتُّمْ عليها في الإسلام؟ » قالوا: الصبر عند البَلاء، والشكر عند الرَّخَاء والرِّضَي بِمُرِّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال النبي ﷺ: «علماء حكماء، كادوا من صِدْقِهم أن يكونوا أنبياء». فقال ﷺ: «وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون وعنه منتقلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون».
فقد فرقوا بين الخمس التي يعمل بها فجعلوها الإسلام، والخمس التي يؤمن بها فجعلوها الإيمان، وجميع الأحاديث المأثورة عن النبي ﷺ تدل على مثل هذا.
وفي الحديث الذي رواه أحمد، من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن النبي ﷺ قال له: «أسْلِمْ تَسْلَمْ» قال: وما الإسلام؟ قال: «أن تُسْلِم قلبك لله، ويَسْلَم المسلمون من لسانك ويدك» قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان» قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت» قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: «الهجرة» قال: وما الهجرة؟ قال: «أن تهجر السوء» قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: «الجهاد» قال: وما الجهاد؟ قال: «أن تجاهد الكفار إذا لقيتهم ولا تُغَلُّ ولا تَجْبنُ» ثم قال رسول الله ﷺ: «ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما» قالها ثلاثا «حجة مبرورة؛ أو عمرة» وقوله: «هما أفضل الأعمال» أي بعد الجهاد؛ لقوله: «ثم عملان»، ففي هذا الحديث جعل الإيمان خصوصا في الإسلام، والإسلام أعم منه، كما جعل الهجرة خصوصًا في الإيمان والإيمان أعم منه، وجعل الجهاد خصوصًا من الهجرة والهجرة أعم منه. فالإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصًا له الدين.
وهذا دين الله الذي لا يقبل من أحد دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع إرسال الرسل إلينا إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاد ذلك؛ فإن ضد ذلك معصية، وقد ختم الله الرسل بمحمد ﷺ فلا يكون مسلما إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام. فمن قال: الإسلام الكلمة وأراد هذا، فقد صدق، ثم لابد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة، كالمباني الخمس، ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه بقدر ما نقص من ذلك، كما في الحديث: «من انتقص منهن شيئًا فهو سَهْمٌ من الإسلام تَرَكَهُ».
وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصا لله تعالى فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الرَّيْب، ولا أن يكون مجاهدا ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن، وخلق كثير من المسلمين باطنا وظاهرا معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان، ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملا، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصل به، لكن لابد من الإقرار بأنه رسول الله، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن الله.
ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل، وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء.
وأيضا، ففي قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع هؤلاء، وأولئك هم المؤمنون حقا، وكل مؤمن لابد أن يكون مسلما، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمنا هذا الإيمان المطلق؛ لأن الاستسلام لله والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الرَّيْبَ، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق.
وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا، كانوا من أهل الوعيد؛ ولهذا لما قدم النبي ﷺ المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق. فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [75]، وقال تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[76]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [77] ؛ ولهَذا ذم الله المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى: {وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [78]، وقال في الآية الأخرى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} إلى قوله: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [79]، فقد أمره أن يقول لهم: قد كفرتم بعد إيمانكم.
وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [80] فهنا قال: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}.
فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله: {بعد إيمانكم} و{بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة؛ ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} بعد التوبة عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر، فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة؛ ولهذا ذكر هذا في سياق قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}؛ ولهذا قال في تمامها: {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [81].
وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهَمُّوا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك، فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل: هموا بما لم يفعلوا، لكن {بٌمّا لّمً يّنّالٍوا} فصدر منهم قول وفعل، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [82] فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [83] فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين، الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة: أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [84] إلى ما كانوا عليه.
وأما قول من قال: المراد بالنور: ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم، فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} الآية [85]، وقد قال غير واحد من السلف: إن المنافق يعطي يوم القيامة نورا ثم يطفأ؛ ولهذا قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [86]. قال المفسرون: إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة.
قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطي نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}، وهو كما قال: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو ثابت من وجوه أخر عن النبي ﷺ. ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود وهو أطولها ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه ينادى يوم القيامة: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه». وفي رواية: «فيكشف عن ساقه». وفي رواية فيقول: «هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه. فتبقى ظهورهم مثل صَيَاصِي البقر فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون: ذرونا نقتبس من نوركم».
فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة، هؤلاء يسجدون لربهم، وأولئك لا يتمكنون من السجود، فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أعطوا نورا ثم طفئ؛ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه؛ ولهذا ضرب الله لهم المثل بذلك، وهذا المثل، هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نورا ثم يطفأ.
ولهذا قال: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [87] إلى الإسلام في الباطن. وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم. وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، يعني في الباطن، وإلا فهم يظهرونه، وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا. وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [88]، وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا: هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم؟ على قولين. والثاني هو الصواب؛ لأنه قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ} وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر "أو" بل يذكر الواو العاطفة.
وقول من قال: "أو" هاهنا للتخيير كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين ليس بشيء، لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر، وكذلك قول من قال: {أّوً} بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين، أو الإبهام عليهم ليس بشيء، فإن الله يريد بالأمثال البيان والتفهيم، لا يريد التشكيك والإبهام.
والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم، ويدل على ذلك أنه قال في المثل الأول: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وقال في الثاني: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ والله مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [89] فبين في المثل الثاني أنهم يسمعون ويبصرون ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي الأول كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي. وفي الثاني إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فلهم حالان: حال ضياء، وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة. فالأول حال من كان في ضوء فصار في ظلمة، والثاني حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة، بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته.
يبين هذا أنه سبحانه ضرب للكفار أيضا مثلين بحرف "أو" فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [90]. فالأول مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فلهذا مثل بسراب بقيعة، والثاني مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئا، بل هو في ظلمات بعضها فوق بعض، من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلا ضالا في ظلمات متراكمة.
وأيضا، فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفا بهذا الوصف وتارة متصفًا بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضرب له هذا المثل هو مماثل لما ضرب له هذا المثل؛ لاختلاف المثلين صورة ومعنى؛ ولهذا لم يضرب للإيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة أو بالظلمات المتراكمة، وكذلك المنافق يضرب له المثل بمن أبصر ثم عمى، أو هو مضطرب يسمع ويبصر ما لا ينتفع به. فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطنا، وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير، أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب:
منها: أمر القبلة، لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله} [91] قال: أي: إذا حولت، والمعنى: أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق، وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء، ولم يأمر الله قط أحدا أن يصلي إلى بيت المقدس، لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة، ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس، فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة.
وكذلك أيضا لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجَّ وجه النبي ﷺ وكسرت رَبََِاعِيَتُهُ، ارتد طائفة نافقوا، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [92]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [93] فقوله: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} ظاهر فيمن أحدث نفاقا وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانيا، وقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان، فإن ابن أبيّ لما انخزل عن النبي ﷺ يوم أحد، انخزل معه ثلث الناس، قيل: كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
فإن ابن أبي كان مظهرا لطاعة النبي ﷺ والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبا في المسجد يأمر باتباع النبي ﷺ ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر، وكان معظما في قومه، كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود، فلما جاء النبي ﷺ بدينه وقد أظهر الله حسنه ونوره، مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره الله يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع، صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائما، وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيما كثيرا ويواليه، ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال انخزل معه خلق كثير، منهم من لم ينافق قبل ذلك.
وفي الجملة، ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيرا وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطنا وظاهرا لكن إيمانا لا يثبت على المحنة. ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم. وهؤلاء من الذين قالوا: {آمنا} فقيل لهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [94] أي: الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [95]، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم؛ ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علما وعملا، وإلا فإذا كان عالما بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيما، لم يكن صاحب يقين قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [96].
وكثيرا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه الله عنه. والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: «ذاك صريح الإيمان»، وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» أي: حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص، كاللبن الصريح. وإنما صار صريحا، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحا.
ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فصير كافرا أو منافقا، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منافقا؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛ فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [97] ؛ ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينا وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [98]، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}[99]، وقال تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [100]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [101].
وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، فأمر الله القارئ، إذا قرأ القرآن، أن يستعيذ منه، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [102]، فإن المستعيذ بالله مستجير به، لاجئ إليه، مستغيث به من الشيطان، فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيرا به متوكلا عليه فيعيذه الله من الشيطان ويجيره منه، ولذلك قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [103].
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فأمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته»، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير، كما يفعل العدو مع عدوه.
وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له إن سلمه الله من الشيطان أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكن منه الشيطان أعظم؛ ولهذا قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم.
وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي ﷺ بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة؛ وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم وهم يظنونها هدي، فيطيعونها ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الحكمة، سُرُج الليل، جُدَد القلوب، أحْلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض.
هامش
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [الجمعة: 9]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [البقرة: 8: 10]
- ↑ [المنافقون: 1]
- ↑ [الأنفال: 1]
- ↑ [الأنفال: 2: 4]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [الحجرات: 17]
- ↑ [الممتحنة: 10]
- ↑ [الحجرات: 16]
- ↑ [الحجرات: 16]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [آل عمران: 142]
- ↑ [الحجرات: 17]
- ↑ [محمد: 33]
- ↑ [الحجرات: 4]
- ↑ [الحجرات: 6]
- ↑ [الحجرات: 7]
- ↑ [الحجرات: 9]
- ↑ [الحجرات: 11]
- ↑ [النور: 4]
- ↑ [الحجرات: 11]
- ↑ [الحجرات: 13]
- ↑ [الفتح: 11]
- ↑ [المنافقون: 5، 6]
- ↑ [الفتح: 16]
- ↑ [الحجرات: 11]
- ↑ [محمد: 33]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [آل عمران: 142]
- ↑ [البقرة: 214]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [آل عمران: 85]
- ↑ [آل عمران: 19]
- ↑ [يونس: 71، 72]
- ↑ [هود: 40]
- ↑ [هود: 36]
- ↑ [هود: 29]
- ↑ [البقرة: 130: 132]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [البقرة: 112]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [يونس: 62، 63]
- ↑ [الحديد: 12]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [العنكبوت: 26]
- ↑ [الأنعام: 81: 83]
- ↑ [البقرة: 126]
- ↑ [البقرة: 128]
- ↑ [يونس: 84]
- ↑ [يونس: 83 ]
- ↑ [يونس: 87]
- ↑ [النحل: 89]
- ↑ [الأعراف: 121، 122]
- ↑ [الأعراف: 126]
- ↑ [الشعراء: 51]
- ↑ [الأعراف: 126]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [المائدة: 111]
- ↑ [آل عمران: 52]
- ↑ [بياض بالأصل]
- ↑ [البلد: 17]
- ↑ [البقرة: 208]
- ↑ [الحديد: 7]
- ↑ [النور: 56]
- ↑ [التوبة: 36]
- ↑ [التوبة: 36]
- ↑ [العنكبوت: 1: 3]
- ↑ [آل عمران: 179]
- ↑ [الحج: 11]
- ↑ [المنافقون: 1، 3]
- ↑ [التوبة: 64: 66]
- ↑ [التوبة: 73، 74]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [التوبة: 65]
- ↑ [التوبة: 66]
- ↑ [البقرة: 17، 18]
- ↑ [الحديد: 13، 14]
- ↑ [التحريم: 8]
- ↑ [البقرة: 18]
- ↑ [البقرة: 19]
- ↑ [البقرة: 19، 20]
- ↑ [النور: 39، 40]
- ↑ [البقرة: 143]
- ↑ [آل عمران: 139: 141]
- ↑ [آل عمران: 166، 167]
- ↑ [الحجرات: 14]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [الأحزاب: 11]
- ↑ [فاطر: 6]
- ↑ [الإسراء: 82]
- ↑ [آل عمران: 138]
- ↑ [البقرة: 2]
- ↑ [التوبة: 124]
- ↑ [النحل: 98: 100]
- ↑ [فصلت: 34: 36]