→ فصل في كلمات الله تعالى | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في العلم بالكائنات ابن تيمية |
فصل في تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء ← |
فصل في العلم بالكائنات
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية، ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومنامًا كما كتبته في الجهاد.
أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية وأمور طلبية عملية.
فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.
والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.
قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع، أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستوٍ على العرش.
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقًا؛ بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.
ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين.
يزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني، وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها.
فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعًا كثيرًا.
وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها.
فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيًا وإثباتًا، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضًا واختلافًا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيًا.
طائفة ممن تدعى السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب، وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوى، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة. وأوهام غير صادقة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [1] فنقول:
أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي بإجماع المسلمين الكتاب لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.
والثاني: السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القرآن، بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة.
وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال: تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجم الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضا إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي ﷺ في وجهه: «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله». ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه ﷺ إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقال النبي ﷺ لأولهم: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي ﷺ: «أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟» أو كما قال. يقول ﷺ: إن أداء الأمانة في الوحي أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه.
وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك.
الطريق الثالث: السنن المتواترة عن رسول الله ﷺ؛ إما متلقاة بالقبول بين أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام. وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم، فلم يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضًا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه، أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه.
الطريق الرابع: الإجماع، وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك.
الطريق الخامس: القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضا عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرًا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأسًا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقص.
الطريق السادس: الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجبًا لنصب الشرع عليه دليلا شرعيًا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب.
فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له، وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وما توجب الشريعة نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة، وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي ﷺ وخلفائه انتفاء أمور من هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم ولعلمهم بما ينفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها، فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
الطريق السابع: المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه؛ فهذه الطريق فيها خلاف مشهور. فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة. ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلامًا بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًا ولا قياسًا.
والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبًا. وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك. فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنًا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحًا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق.
والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي ﷺ وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [2].
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًا وصوابًا ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [3] وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، فإذا كان الإنسان يرى حسنًا ما هو سيّئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب.
وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا. فإن باب جحود الحق ومعاندته غير باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون مايعلمون أنه ظلم وقد يعتقدون أنه ليس بظلم هو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [4] فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه وهذا في قوة عمله.
واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول: هذا جائز أو حسن بناء على ما رآه وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعًا في مثل السماع المحدث: سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها: الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن.
وهذا يقول: هذا جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة، وهو نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول: هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول: يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذا كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاة وغير ذلك.
واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال.
وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن ومنه قوله تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [5]، وقوله: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [6] كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب فهذا أيضا قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة. وأنه هل باب التحسين واحد في الخالق والمخلوق.
فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل: الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود. الأول متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي. والثاني متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والحق والباطل يتناول النوعين، فإن الحق يكون بمعنى الموجود الثابت، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع.
والباطل بإزاء مالا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله، وهو غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب. حصول النعيم وزوال العذاب. وحصول الخير وزوال الشر. ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتًا دائمًا، وقد يكون منقطعًا لا سيما إذا كان زمنًا يسيرًا فيستعمل الباطل كثيرًا بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود. كما يقال: الموت حق والحياة باطل، وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصًا أو راجحًا، كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أوالراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررًا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار، والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال. فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل؛ ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملًا على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } [7]. وأخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له.
وكذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [8] وكذلك الإحباط في مثل قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [9] ولهذا تسميه الفقهاء العقود.
والعبادات بعضها صحيح، وبعضها باطل، وهوما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه. ومن هذا قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } الآية [10]. وقوله: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا
صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [11]، وقوله: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [12] ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقًا، كما أن الأعمال ليست نافعة.
وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة، كقوله ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلي ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ } [13]، وقال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } إلى قوله: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } [14].
وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة. فالأول ظاهر، وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله.
وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا. لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضا، فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة مَّا.
وأما الكائنات فقد كانت معدومة منتفية، فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكما قال ﷺ: «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» وأنها تجمع الحق الموجود والحق المقصود، وكل موجود بدون الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [15]: إلا ما أريد به وجهه، وكل شيء معدوم إلا من جهته.
هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الجهمية والزنادقة قال أحمد: وأما قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [16]، وذلك أن الله أنزل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [17] فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك يعني ميتًا إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت، ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان.
وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ.
وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد، وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [18]، وقال تعالى: { صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [19]، وقال تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [20].
وقال النبي ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال» وهو حكم عدل، قال الله تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [21]، وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [22]، وقال تعالى: { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [23]. وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملًا غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه.
وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلو عن أن يكون عملًا من الأعمال، أو أن يكون ألمًا من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العمل والتألم: المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وإن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه.
ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلمًا ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلًا وحسنًا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين.
والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر بمعصيتهم، لكن الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة.
والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لابد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارًا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون: أمره لا يتوقف على المصلحة.
وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات.
إحداها: أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعًا، ولو كان الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ:
ويقبح من سواك الفعل عندي ** وتفعله فيحسن منك ذاكا
المقدمة الثانية: إن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا، وقد يدرك بعض ذلك بالعقل، وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهى عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعًا. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.
المقدمة الثالثة: أن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير. ومن جعل شيئًا من الأعمال خارجًا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية.
المقدمة الرابعة: أن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه إرادة شرعية دينية، وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية، فإثبات إرادته في الأمر مطلقًا خطأ، ونفيها عن الأمر مطلقًا خطأ، وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [24]، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [25]، { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [26] وقال: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [27]، وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [28]، وقال: { وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [29] وأمثال ذلك كثير.
المقدمة الخامسة: أن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة.
ومن قال: إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين: إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول: إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات. وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا. فكذلك أحبها ورضيها كونا. وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع.
فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حقنا، بل إن الأمر منه بالشيء إما يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا فيقال: وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [30]، وقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [31].
والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [32]، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [33]، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [34] فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [35]، وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقى لما بدل نعمة الله كفرًا كما قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [36] والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبًا لله، وإلا لم يكن محبوبًا له وإن كان مرادًا له، وإرادته له تكوينًا لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع.
فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحًا ولذة وسرورًا، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبغض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضًا ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى أي في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال الجواب من وجهين:
أحدهما: الإلزام، وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملائمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لايحتاج إليه الحي لاينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفى الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور.
الجواب الثاني: إن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهوغني بنفسه.
وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه، وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليمًا يحب العلم، عفوًا يحب العفو، جميلًا يحب الجمال، نظيفًا يحب النظافة، طيبًا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثنى بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي ﷺ للأسود بن سريع لما قال: إنني حمدت ربي بمحامد فقال: «إن ربك يحب الحمد» وقال ﷺ: «لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلون له ولدا وشريكًا وهو يعافيهم ويرزقهم».
فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه، ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضى بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته فلم يفتقر إلى غيره، ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة.
وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع.
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا؛ بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وأنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملًا بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } [37]، وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه، { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [38].
فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة، والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه.
وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق.
فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة.
وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار، ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وفطرت عليه الخلائق، ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية، والله أعلم.
هامش
- ↑ [ النجم: 28]
- ↑ [البقرة: 219]
- ↑ [الكهف: 104]
- ↑ [الأحزاب: 72]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [الآية البقرة: 264]
- ↑ [ محمد: 33]
- ↑ [المائدة: 5]
- ↑ [النور: 39]
- ↑ [آل عمران: 117]
- ↑ [الفرقان: 23]
- ↑ [الرعد: 17]
- ↑ [محمد 1-3]
- ↑ [القصص: 88]
- ↑ [ القصص: 88 ]
- ↑ [الرحمن: 26]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [النمل: 88]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [آل عمران: 18]
- ↑ [النساء: 40]
- ↑ [الأنعام: 73]
- ↑ [البقرة: 185]
- ↑ [النساء: 28]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [المائدة: 41]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الإسراء: 7]
- ↑ [فصلت: 46]
- ↑ [الأنبياء: 107]
- ↑ [آل عمران: 164]
- ↑ [ يونس: 57، 58]
- ↑ [المائدة: 3]
- ↑ [إبراهيم: 28]
- ↑ [آل عمران: 181]
- ↑ [مريم: 93: 95]