مجلة المقتبس/العدد 87/سويسرا
→ معجم البلدان | مجلة المقتبس - العدد 87 سويسرا [[مؤلف:|]] |
آداب العرب ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1914 |
في ديار الغرب
سويسرا
أصحيح أن القطار غداً يخترق العقاب والشعاب، ليخلص من إيطاليا مهد المدنيين الرومانية والنصرانية، إلى سويسرا جنة أوربا، بل جنة الدنيا، ومدرسة العمل العليا، وأبهج مصف ومشتى، لملتمس الراحة والسلوى.
أيكتب غداً للروح أن تطمئن قليلاً في أشرف ديار، عرفت في بال حرية الأديان والأفكار، ويشهد الطرف حسناء ضمت إلى صدرها شمل المدنيات العصرية ووضعت على مفرقها تاج البدائع الأرضية والسماوية، بلاد خص كل شبر منها بمزية عالية غالية، وتعاورتها الأيدي بالتحسين والمزينين والتطرية، فلم يتصور العقل الآن أرقى من نظامها. ولا أبدع من طرازها وهندامها.
أصحيح أن هذه المدينة الفاضلة، دهشة الأمصار والأقطار، وزبدة جهاتز القرون والأعصار، المغبوطة من جارتها بل من أهل الغرب أجمع، على قانونها لتتكامل، وأنها الشامل، سكول للنفس قسطمن الراحة في رباعها البهجة شهراً من العمر، بعد كالف شهر، فتستمتع الحواس بعجائب صنع الديان والإنسان. وآخر حسنات العمران في هذه الأزمان.
سلام عليك يا جمهورية السلام والوئام، عقمت الأيام أن تنشئ مثلك أنت الوحيدة في العمل بتعالم السيد المسيح بين الممالك الغربية فلم يعد عليك أن جوزت بعد تحضرك قتل النفوس، لامتلاك النفائس، ولا أن ظلمت شعباً آمناً لاستصفاء بيته وحقله، ولا أن هتكت أستاراً وأعراضاً، لتغتنمي عروضاً وأعراضاً، بلى كنت من خير من عطف على مدحور ومظلوم، وأكرم مثوى وأفد مقهور مغموم، وعلم طالب علم وصناعة تعلماً مجرداً من النزعات المذهبية والنزعات السياسية، ومسلاة كل متعب راغب في التفريغ لنفسه، لقنت الأمم معنى الحكومة الصالحة في الأمة الصالحة، وحققت بالعمل معنى تضامنك في شعارك الواحد للكل والكل للواحد فحكمت نفسك بنفسك حقاً وصدقاً ولا كذباً ورياءً.
هذه الوجوه النضرة التي تهش للغريب، كما تهش للقريب، هي صورة صحيحة من أخلاق هذا الشعب القليل بعدده، الكثير بفضائله وعدده، فإن كان هنا لا يتجاوز إحصاء المكين، أربعة ملايين، ولا مساحة المكان 41346 كليومتراً مربعاً، فلكم كان القليل العالم، خيراً من الكثير الجاهل وعظمة الأمم بعلمها وعملها. لا يوفر سكانها وطول سهلها وجبلها: سويسرا تفاخر وحق لها الفخر بأنها اليوم لا تعرف الأميين.
إلا بما تقرأه عنهم في صحف العالمين. فهل عهد مثل هذا النور لأمة في القدماء أو المحدثين.
يخيل للناظر أن هذه البلاد الواقعة بين أربع ممالك راقية. فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا. قد أخذت من هذه المدنيات الأربع أطايبها. ولعله لا يخطئ من قال أن هذه الممالك أخذت كثيراً من أطايب ما عند سويسرا. فجاءت هلفسيا أو سويسرا مجموعة الإبداع. في البقاع والأصقاع. وسلسلة مفرغة في المحاسن لا يعرف أين طرفاها. تقاسمت القرى مع المدن. والأودية مع الجبال. آثار الجمال والكمال فعز لها قسيم في استهواء القلوب بين هذه الديارات. بل بين الخمس من القارات وما ظرف عمران الألمانيين والفرنساويين والإيطاليين والنمساويين. إذا قيس بظرف بلاد السويسريين إلا كالنضارة في خدود فتاة العشرين. في جنب نضارة ابنة الأربعين.
لا جرم أن هذه الجمهورية الرشيدة هي التي وصفها للناس أفلاطون وروسو فكانت بما وفقت إله مما يضعف الفصحاء عن توفيتها حقها من الاستحسان وذكر المجردات لا يقنع بقدر الأدلاء بالحجة ولذا نقتصر على طرف مما عرفناه وعرفه عنها كوصف حياتها القومية والروحية والعملية والاقتصادية عسى أن يثمر ذلك فائدة لمستفيد. وعبرة لمعتبر. في شرقنا المتخدر الأعصاب منذ أحقاب. الذي كادت تدمع لحاله عيون الأعداء بعد أن أدمى مقل الأحباب.
سويسرا: الأفراد والأسرة
أول من يبده الداخل إلى أرض سويسرا: الخضرة والنظافة. فإنها كلها أشبه بحديقة في وسطها مصايف من أجمل ما بنى المهندسون ونقش النقاشون وصور المصورون. الدور على اختلاف هنستها سواء كانت بيضاء كما هي في سويسرا الفرنساوية أو منقوشة كما هي في الشمال الشرقي أو من الخشب على ما تراها في أوبرلاند تفيض بهجة ونضرة ونظافة وزينة وتبدو على الدوام جديدة حتى ولو كانت مبنية منذ قرنين أو ثلاثة. والغربيون مولعون بإبقاء القصور القديمة مهما لانت ويؤثرونها على الجديد من نوعها.
وداخل البيوت على مثال خارجها في الحسن حذو القذة بالقذة.
أدخل إلى الفنادق الكبرى أو الصغرى وإلى منازل الطبقة العليا أو الفلاحين وإلى قصور الأغنياء أو المقترين تجدها كلها متناسقة بنظافتها وتشهد المساكن والمخازن على هذا الطراز في الصباح والمساء على السواء. وما أنس لا أنس تلك النظافة التي شهدتها في المنزل الذي حللت فيه في مدينة لوزان المطل على بحيرة ليمان ومن ورائها جبال الألب وذلك منذ تدخل الدهليز فتصعد الدرج إلى أن تدخل المنزل وتجلس في غرفتك إلى المائدة إلى الطعام المنوع المستطاب إلى أحقر شيء في الدار.
ولقد كنت أعجب كل يوم من رؤية الخادمة تمسح البلاط والدف في الأرض والنوافذ والدرفات وتنفض الستور والأغشية والكراسي والمقاعد والخزائن والمناضد والزروع الموضوعة في الأصاصي دع التحف والصور والتماثيل الصغيرة ومصابيح الكهرباء وغير ذلك مما لا تخلو منه دار في الجملة. كل هذا مع خدمة المطبخ والمائدة وبعض من يلزم من السوق تقوم به خادمة واحدة وليس هذا الحال خاصاً بالبيوت والفنادق فقط بل إنك تراه في الشوارع والأزقة على صورة مكبرة فإن الأوساخ الخفيفة لا تلبث أن تطرح حتى تكتسح وكذلك الثلج لا يلبث أن يتساقط 20سنتمتراً وأكثر إلا ويرفع من الطرق. وكل شارع وجادة وساحة وسوق وينظف ويغسل بلا إمهال بحيث تصح هنا حكمة الغرب: النظافة أثر من آثار النظام والعمل. والشعوب النظيفة هي التي تحب أن ترى كل شيء في مكانه تقاسي ضيقاً حقيقياً بل ألماً مبرحاً إذا شاهدت الخلل.
ليست النظافة ابنة الكسل لأنها تستوجب من الأفراد والحكومة عملاً وجهاداً متواصلاً ويستدعي أن تحث عليه الحكومة المحكومين كما هو الحال في سويسرا فإن بلدياتها تنفق عن سعت لتجعل البلاد في هذه الحالة من النظافة التي تعجب لها أرقى أمم الحضارة دع شرقياً لا يكاد يقع نظره في بلاده إلا على أقذار الشوارع والساحات والحارات بل في البيوت والحوانيت وخللاً في كل شأن من شؤون الحياة الراقية.
وكان من أثر هذه المفاداة التي أفادت بها بلديات سويسرا في متصرفياتها أو مديرياتها الاثنين والعشرين تحسين الصحة العامة واستجلاب السياح وأحسن معلم لبث الأفكار النظام والوقاية والرفاهية.
تتبارى الحكومات والمديريات والإدارات الخاصة والعامة في مضمار النظافة فتجد اقفاصاً من أسلاك لطيفة موضوعة في المدن في كل شارع وحديقة لتوضع فيها القشور أو الأوراق وربما سار الواحد عدة أمتار حتى يرى تلك السلة المعلقة فيضع فيها ما بيده من الفضلات الخفيفة. ذلك لأن كل سويسري لا يحب أن يرى منتزهه وشارعه وحيه إلا كما يرى بيته طاهراً نقياً ليس فيه ما ينبو عنه النظر. وكيفما انقلبت في سويسرا في القطارات أو المراكب في المحطات والإدارات تشاهد النظافة المجسمة كأن هذه الخاصية صفة من صفات الأمة السويسرية. وربما نسي الغريب أن يضع ما استغنى عنه من الورق أو غيره فيشير إليه الآهلون إلى وضعها في محلها بل إن المفتش في القطار لا يستنكف أن يرفع أوراقاً تتساقط من ركاب قد يكونون في الأكثر غرباء لا يعرفون درجة غلو سويسرا في النظافة في كل شيء.
ما كانت النظافة في فطرة سويسريين أو جنسهم بل هي كسبية وثمرة تربية طويلة ومدينة طاهرة. ولا جدال في أنهم بنظافتهم أرقى من سكان الجنوب والغرب أي من الطليان والفرنسيس نعم ما كانوا أمس كما هم اليوم والدليل على ذلك أن من البلاد السويسرية ما لم يبلغ حتى الآن درجة كافية من النظافة كما يحب السويسريون ولا سيما البلاد التي لا يقصدها السياح وليس فيها فنادق مثل بعض محال من مقاطعة الفالي والكريزون والرينتال وهي إذا قيست بمقاطعات وزوريخ أحياء قليلة على شيء من الوساخة بالنسبة لمجموع البلاد. ولكن مثل هذه الأحياء تهدم الواحد بعد الآخر والقرى تطهر بأسرع ما يمكن وهي نموذج مما كانت عليه سويسرا قبل خمسين أو مئة سنة فاستطاع أهلها بالتربية أن يحرزا فضيلة النظافة التي أصبحوا فيها قدوة الأمم الراقية.
تساءل الباحثون في حال هذه الأمة فيما إذا كان للدين تأثير في نظافة السويسريين والراجح من آرائهم على ما ذكره البردزا في كتابه سويسرا الحديثة أن الدين أثر بالواسطة لا مباشرة وأن للتربية العملية المقام الأول. فالمقاطعات التي سبقت غيرها في مضمار العلم وأحب أهلها النظام وتفانوا في المحافظة عليه كالمقاطعات الألمانية في الشمال وأهلها برتستانت هي أكثر نظافة من مقاطعات الجنوب أي الفالي والتسين والكريزون وأهلها كاثوليك وذلك لأن سكان هذه إيطاليون جاؤوا متأخرين بالنظافة عن الألمان وكذلك في التعليم. ومع هذا ترى من مقاطعات الشمال مقاطعتي الفو ونوشاتل وهما من جنس فرنساوي لا تقلان في النظافة عن مقاطعتي زوريخ الألمانيتين.
ومهما يكن من أصول السويسريين ألماناً كانوا أو فرنسيساً أو إيطاليين فإن سويسرا أشبه بفسيفساء من الشعوب والعناصر وامتزجت وتعاشرت لا تفرق بينهم إلا اللغة وقد اختلطت دماؤهم اختلاط الماء بالراح كما ترى من سحناتهم الألمانية غالبة عليهم وكذلك ترى في بعض المقاطعات الألمانية التي تتكلم باللغة الجرمانية منذ عشرة قرون ملامح السلئيين والريتيين من قدماء الرومان.
نشأت من هذه العناصر الممزوجة روح سويسرية ووطنية سويسرية وذلك بامتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن والنظام والثبات والرغبة في الماديات والحقائق واقتبس من العنصر اللاتيني تقاليد البشاشة والأدب وجودة الحكم وحسن التقليد والظرف. والرأي الديني في ابن مقاطعة تسين لا يماثل الرأي الديني في ابن مقاطعة لوسرن بين الفرنسويين ويغالي الأولون بالأكثر في توطيد سلطة الحكومة وتوسيع اختصاصها وتراهم مولعين بتقاليدهم مرتبطين بعاداتهم القديمة وحرياتهم المحلية وخصائصهم على العكس في السويسريين الفربسويين فإن هذه الصفات تبدو فيهم بمظهر آخر.
والسويسريين على اختلاف أصوله ولغته أفرنسياً كان أو ألمانياً قليل الفضول لا يسألك في الفندق ولا في الشارع إذا تعرفت إليه عن مقاصدك ولا يتتبع عوراتك ولا يسألك أسئلة لا تحب أن تجيب عليها على العكس في السويسري الأيطالي وهو ساكن في الجنوب طبعاً فإنه يملل نزيله وصاحبة بأسئلته. ومن ترك الناس وشأنهم في هذه البلاد نشأ في أمم أوربا حسن الظن بالسويسريين فاختاروا سويسرا مصيفاً ومشتى لأن من تلك الأمم ولا سيما الشعوب الإنكلوسكسونية من لا يحب أن يسمعك صوته فضلاً عن أن يطلعك على عجره وبجره.
وهذا الخلق سرى للحكومة وهي وقانونها صورة من صور الشعب أكتب هذا عن لوزان وقد مضى عليَّ فيها خمسة عشر يوماً وأنا لم أر سوى ثلاثة أو أربعة من رجال الشرطة بالعرض أقامتهم المديرية بداعي الأعياد فقط ولم أر سوى جندي واحد هذا والمدينة لا تقل نفوسها عن سبعين ألفاً وفيها على الأقل عشرون ألف غريب.
هذه هي الجمهورية السعيدة التي أسسها ثلاثة فلاحين منذ عشرة قرون قد بلغت بالعلم والتربية هذا المبلغ من الرقي. وإن أكثر ما يقع في هذه الديار من الحوادث مثل السرقة والسكر والعربدة التي لا تخلو منها أرض لا يكون على ما رأيت من أنباء الصحف إلا من بعض الغرباء وأكثرهم من الطليان والأروام فبوركت بلاد هذا حالها.
سويسرا: النساء والرجال
السويسري كالإيطالي والألماني والإنكليزي كثير الولد والذرية وأولاده لا يعدون بالزوج بل بالعقد وبلغني أنه ولد لأحدهم من زوجة واحدة ثلاثون ولداً فقط لا غير أما الأزواج الذين رزقوا العشرة الخمسة عشر ولداً فهؤلاء أكثر من أن يحصوا فأولاد السويسريين كالبيض أو البرتقال يعدون بالخمسات والعشرات. وترى الأبوين لا يدهشان لكثرة نسلهما فإنهما في الأغلب يلبسانهم ولا سيما في القرى ألبسة بسيطة للغاية لا تختلق في الصيف عن الشتاء كثيراً ويطعمانهم ما حضر من الطعام وأكثره يدور على اللبن والحليب والبيض والجبن والخبز الأسمر وقد لا يطعمانهم اللحم إلا قليلاً أما الخمور فهذه لا تكاد تعرف لأنها محتكرة للحكومة وأثمانها فاحشة لا يصل الفقير إليها وليست كل المقاطعات مما تجود في الكرمة.
يلعب الأولاد حول أمهم وفي الحقل حتى السابعة من عمرهم ثم يذهبون إلى المدرسة وعندئذ يقل لعبهم حتى أن ابنة العشرة أو الثانية عشرة تعمل أعمالا من الخدمة وتحصيل المال يعجز عنها ابن العشرين أو الثلاثين في شرقنا. فتراها من المدرسة إلى النزل تخدم في الأوقات المتيسرة لها إلى تربية أخيها أو أختها وتعهده إلى بيت فلان تغسل لهم الأواني أو غير ذلك.
والحكومة تحول دون الأولاد وما يشتهون أحياناً فإن أكثر الحدائق العامة لا يستطيع الأولاد أن يدخلوها إذا كانوا دون الخامسة عشر إلا إذا كانوا مع كبير من أهلهم يسأل عن حركاتهم وسكناتهم وفي بعض المقاطعات يحرم على الفتى أو الفتاة دون الخامسة عشرة أن يخرجا إلى الشارع بعد الساعة السابعة ليلاً وفي أخرى لا يحضر الولد بعض المسارح والصورة المتحركة بل إن له مسارح ومشاهد غير للبالغين.
انتشر فكر الأسرة كثيراً في سويسرا وذلك بتداخل الحكومة أيضاً التي جعلت في جملة المرغبات في الزواج إعفاء المواريث من كل رسم إذا انتقلت إلى وارث حقيقي مباشر كالابن ونحوه وأما إذا كانت تنتقل إلى الأباعد فإنه يدفع عنها رسم فاحش للحكومة وبينا ترى الحياة الصناعية في أوربا بأسرها قد عاقت كثيراً عن تأليف الأسرات وتأسيس البيوت ترى سويسرا كلما زادت حركتها الصناعية تتكاثر في ربوعها البيوت وذلك بأن العامل أو العاملة يعمل في داره ما يعرفه من أنواع الصنائع كعمل الساعات والتطريز والنقش على الخشب وغير ذلك فأبن القرى يعمل وهو في بيته ولا ينقطع عن عمله الزراعي طول السنة وقد خال ذلك دون كثير من أبناء القرى عن غشيان المدن والسكنى بها واقفار الأرياف فإن خلو الدساكر من سكنها هو من أول أسباب الخراب كما هو حاصل في الشام من الهجوة إلى أميركا مباشرة وكما هو كذلك في فرنسا في الهجرة من قراها إلى مدنها والخطب أسهل.
نعم تعمل هنا المرأة والفتاة في قريتها ما تحسننه من الصناعات في المعمل أو في بيتها بدن أن تنقطع عن محيطها وأسرتها وأن تتجلى عن تدبير منزلها. والمرأة السويسرية مشتهرة بأنها لا تحب الظهور كل ساعة للناس وهي مخلصة صالحة على الجملة تؤثر تعهد عملها وبيتها على كل شيء وتفكر كثيراً بحيث أن السفاسف والزينة لا تشغل من قلنها مكناً فهي امرأة منزل وعمل تهتم لبيتها اهتماماً غريباً واظهر حبها للنظام حتى في عواطفها.
ما من بلد في الأرض ساوت فيه المرأة الرجل كما هي في سويسرا فهي قرينته في عمله وشريكته حقيقة وهذا ناشئ ولا شك من تربية المرأة على العمل وحبه وقد بلغ سنة 1900 عدد السويسريات اللائي يعملن في الصناعات المختلفة من زراعية وتجارية وصناعية وصناعات حرة 1. 575. 000 امرأة.
هذا في شعب هواقل من أربعة ملايين فإذا فرضنا أن النساء 1900000في سويسرا وأخرجنا منهن العاجزات وصغار البنات لا يبقى إلا عدد أقل من القليل غير عامل من النساء السويسريات فالمرأة العطلة عن العمل ليست بضاعة سويسرية والعاملات من النساء على نسبة العاملين من الرجال. وقد أحرزن منذ زمن طويل الحق بان يكون منهن الطبيبات والمحاميات أما حقوق الانتخاب ومشاركة الرجال فيها فإنها قلما تهمهن ولذلك كان النساء في التجارة والصناعات الحرة أكثر من الرجال. قال لنا رئيس تحرير جريدة غازت دي لوزان أن الناس هنا يعملون مهما كانوا أغنياء ولا تكاد ترى عشرة في مدينة لوزان لا عمل لهم على كثرة أغنيائها وأرباب الأملاك فيها الأخلاق هنا في الجملة قاسية والحياة بالغة حد النظام والناس كلهم يعلمون ولذلك تقل البواعث على التبذل والخلاعة وحب الشهوات لأن ذلك يستدعي أوقات فراغ والفراغ لا يعرفه السويسريون والسويسريات. ثم إن المناح لا يساعد على الخروج كل ساعة بل بالعكس مما يحمل على الرغبة في الحياة اليتية. وسويسرا مثل هولاندة أقل البلاد الأوربية التي يولد فيها أولا غير شرعيين قهي من هذه الوجهة أقل من ألمانيا ثلاث مرات. وسبب قلة العهر العمل بلا شلك لأن رأس البطال معمل الشيطان.
متى توزجت المرأة السويسرية تصبح عشيرة الرجل حقاً فهي يوم الأحد تذهب وإياه إلى الكنيسة وفي المساء إلى القهوة. السويسري يجد في علطة الأحد أحسن فرصة له لأنه يتخلى عن عمله فلا يطلب من أسباب السرور إلا أن يكون مع أخل بيته.
ويقل اختلاط الشبان والشواب في أوقات الفراع حتى يوم الأحد اللهم في الأعياد السنوية النادرة التي تقام فيها مراقص. ويذهبون الشبان أيام الآحاد إلى الكنائس ولا سيما البرتستانت منهم وبعد الظهر يذهبون عصابات يتمرنون على الرماية ولعب الكرة ويغنون ويعربدون قليلاً ولكنهم يوم الاثنين في الساعة المعينة تقرأ الرزانة في وجوهمهم ويعود كل رجل يستعيد مركزه في الحياة الاجتماعية.
تذهب الأسرات مساء الأحد ولا سيما في سويسرا الألمانية إلى أحد الفنادق أو القهوات فترى الأمهات والنساء والأخوات جالسات إلى منضدة بالقرب من أبنائهم وأخواتهن أو أزواجهن يشربون جعة وقهوة وقليلاً جداً من المشروبات الروحية والرجال يدخنون وربما غنى الحضور ولكن أغاني هزلية أدبية ولكن لا غرام فيها ولا عشق.
المرأة السويسرية قد يعالجها الهرم في الغالب أكثر من غيرها من النساء المرفهات في أوربا الغربية والوسطى ولكن هرمها يزيد في عقلها ويبقى قلبها على نضارته وأخلاقها على سذاجتها. والسذاجة خلق من أخلاق السويسريين والسويسريات والسويسري وسط بين حرية الغالي الفرنساوي ورصانة الإنكليز. ولئن كانت كتب الرقاعة والخلاعة لا محل لها من الإعراب في جملة حال السويسري فهو مع ذلك لا يخامره ريب في صحة أخلاق بناته وزوجته ويعرف أن اختلاطهن إذا اقتضى الحال بالرجال والخلوة بهم أو رؤية التماثيل المعراة في المتاحف وعلى قارعات الطريق مما لا يلقي أدنى اضطراب في عفتهن. ومن لم يكن له من نفسه وازع لا تحول الحواجز والأستار بينه وبين ارتكاز الرزائل.
سويسرا الصفات الاجتماعية
أول ما يبده المسافر في سويسرا ضبط المواعيد فإن السكك الحديدة كما هي في أكثر بلاد العالم المتمدن لا تتأخر ولا تتقدم دقيقة عن ميعادها والقطارات تسير الهوينا في أصقاع كأنها هي أيضاً تحب أن تمتع نواظرها بمناظر سويسرا البديعة فالسكك الحديدة هنا كسائر الأعمال تسير عجلة في بطء ولا حاجة لأن يعجل المرء هنا في المبادرة إلى المحطة لأن العالم كلهم مدققون في أوقاتهم ومتى كانوا كذلك بورك لهم فيها.
الصلابة والثبات صفتان لازمتان للسويسري وقد كان المشهور أن الفرنسويين أكثر الأمم اقتصاداً ولكن ظهر أن السويسريين يفوقونهم فإنهم أول أمة أوروبية تحسن استخدام أموالها ويليها الأمم السكاند نافية وقد تجازوا ما وضعه 1. 300. 000من السكان في صناديق التوفير مليار فرنك فيصيب الفرد ثمانمائة فرنك وهذا مما لا يكاد يكون له نظير: ثلث الأمة تقتصد وتجمع المال الذي لا نحتاج إليه!
لا تردد في أخلاق السويسري يقبل الجديد ولا يخون القديم فهو إما أن يقول نعم أو لا ليتمثل لك ذلك في المشاريع واللوائح التي توضع وتسن مما يقتضي تنفيذه عند غيرهم سنين. أما هنا فإذا أريد القيام بعمل تبدأ الصحف بإعداد الأفكار له وتلقي المحاضرات فيضع أحد النواب أو الحكومة مشروع القانون الجديد وإذا اقتضى الحال تصدق عليه الأمة ويخضع له كل الناس وإذا وضع قانون ولم ينفذ فالسويسري يصر على العمل به بدون ملل مثال ذلك بعض السكك الحديدية الجديدية فإن من الخطوط ما يمد في عشرين سنة ولا يكون طوله أكثر من عشرين كيلومتراً ومع هذا فقد تفتح كل سنة محطة جديدة منه ولكن الخط ينتهي في الآخر.
إذا كان السويسريون عنودين فذلك لأنهم عمليون لا نظريون في أعمالهم قلما يطيرون وراء الخيالات. وقديماً نبغ في السويسريين فلاسفة أمثال جان جاك روسو الذي في ولد في جنيف أما اليوم فلم تنشأ لهم مثل تلك الطبقة بل ينشأ لهم أهل عمل أقرب إلى الحقائق متشبعين بالحق عارفين المداخل والمخارج فخلف رجال الأعمال رجال الخيال.
امتاز السويسريون بالصناعات فاستفادوا من ذلك فوائد جمة في بلاد شحيحة بخيراتها صبعة المراس بطبيعتها الاقتصار على الزراعة فيها لا تسير به الحركة الاقتصادية على محورها. فليس فيها فحم حجري ولا معادن للصناعة ولا شواطئ بحرية ولا أنهار عظمى للتجارة فيها عقاب من جبال صعبة المرتقى أقيمت على التخوم في الجنوب والشرق والشمال وربعها غير صالح للزراعة لأنه مألف الثلوج والجليد طول السنة أو صخور لا ترتقي وتربة قاحلة وثلثيها صالح للغابات والشتاء يطول ويشتد في بعض مقاطعاتها ويغمرها بالثلوج برمتها وبحيرات هي كالخال في عنق ذات الجمال والدلال ولكن الإنسان العاقل يغلب الطبيعة أو يعرف كيف يستخدمها. فإن تلك الحواجز الجبلية قد خرقتها السك الحديدية بحيث أن سويسرا بعد أن كانت تحول دون الاتصال بين فرنسا والنمسا وبين إيطاليا وألمانيا أصبحت الصلة اللازمة بينها فشق القطار جميع الأصقاع وتسلل بخطوطه المنوعة حتى الأصقاع البعيدة عن التركيب الاجتماعي يحمل إليها مائية الحياة الاقتصادية ورشاشة من بحر المدينة واستعاضت سويسرا عن الفحم الحجري الأسود بما عندها من الفحم الأبيض وأحسنت ضبط المياه فدورت بها المعامل والمواد الأولية تجلب من الخارج ولكنها تعود بأرباح فائقة فإن ثلاثة أرباع صادراتها هي من حاصلات بدلت فيها اليد السويسرية وغيرت مثل القطن والحرير والشكولاتا وأنوع المطرزات والساعات.
أحسنوا هنا استخدام جميع أنواع التربة الصالحة للزراعة على أحدث الطرق الزراعية المنوعة فوفرت كرومها ومراعيها وكثرت فيها تربية البقر بما يلحقه من اللبن الزبدة والجبن حتى أن بعض مقاطعاتها الشرقية تبلغ حاصلاتها 80في المئة من البقر وما يشتق منه والثلوج والجمد والصخور والشقيف وكانت من المعونات على الاستكثار من إقامة الفنادق والإنزال ليأوي إليها السياح الذين ملوا من رؤية الحضارة ويريدون أن يرجعوا شهراً أو شهرين إلى الطبيعة فليس في سويسرا حيوانها وجمادها وإنسانها شيء لم يحسن استخدامه ويجر في سبيله.
السويسريون عمليون في حياتهم الخاصة وهم كذلك في حياتهم العامة فلا تجد في الممالك مكاتب أشغال تنظر إلى الجواهر لا إلى العرض مثل مكاتبهم ولا إدارات أقل تشبثاً بالأعمال القرطاسية من إداراتهم. فهم في هذا الباب يصلحون أساتذة للفرنسيس والطليان والألمان. دخلت كثيراً من المصارف والبيوت المالية في مصر والشام وباريز ورومية فلم أشهد لمصارف سويسرا تلك الدهشة في مصارف الشرق والغرب على الغالب.
وهكذا هم في كل أعمالهم الاشتراكية الاجتماعية. ومن أغرب ما يسمع أن مدينة بال ارتأت أن تستوفي الضرائب من الآهلين في بطاقات بريدية قتم هذا العمل في أسرع من يمكن ولم ينتظر المكلف في شباك البريد أكثر من عشر دقائث فاحتذى هذا المثال كثير من المدن السويسرية تخفيفاً من أجور الجباة وتيسيراً على الناس.
اختار السويسريون السهولة حتى في أصول التعليم في مدارسهم فلا يخرجون اليوم من ست كليات راقية لهم سوى رجال أعمال لا رجال آمال وخيال. يخرجون رجل الغد على ما ينبغي له في جهاد الحياة فيتخرج من مدارسهم قليل من العلماء والأدباء وكثير من الزراع ولاتجار والعاملين. يعملون أموراً تنفع الطالب في الحال ويلقنونه العمليات وحب الأعمال المنتجة. يرى السويسيون الآن في الأمة كثيراً من المخترعين المتوسطين والمتفنين الجائعين والكتاب الذين لا قرائح لهم وكلهم لا فائدة منهم ولكن البقال والصانع وموظف السكة الحديدية وإن كان متوسطاً أفيد للحياة الاجتماعية من شاعر شقي لا ينتفع به في شيء.
ولذلك ترى الكليات تطبق علومها على حسب أقطارها فكلية بال مثلاً يتفنن أساتذتها في تعليم الطلاب حسن استخدام الألوان في كل أبحاثهم الكيماوية لأن البلاد صناعية ولكليتي زوريخ وفريبورغ فرعان تجاريان. ولكل فروع التعليم مقام محمود التعليم الصناعي في سويسرا يوافق ضروريات الحياة والمصالح في كل مقاطعة. فالمدارس الزراعية منوعة وهي مرتبطة بالمديريات مثل المعارف العمومية ولكن حكومة الاتحاد السويسري تمنحها إعانات كثيرة تقوم بحاجتها وفي سويسرا مدارس نظرية وعملية زراعية ومدارس زراعية للشتاء ومدارس لتربية الكرمة ومدارس لاستدرار الألبان وغير ذلك وفيها كثير من المدارس التجارية للمديريات أو البلديات وتقيم شركة التجارة السويسرية كثيراً من الدروس التجارية ولكثير من المدارس الوسطى فروع تجارية هذا عدا المدارس الخاصة مثل مدارس الساعات ومدارس التطريز ومدارس الفنادق ومدارس تدبير المنزل.
بين تلك الجبال الصعبة الخطرة رسولة الشتاء الطويل التي لا يستطيع فيها المرء بمفرده أن يعمل ما يقاوم الطبيعة التي لا تشفق أحس السويسري بضرورة التضامن وشعر بالحاجة إلى التساند والعمل يداً واحدة ترتيب الجهاد على ما يجب. الجبلي قاس وفطري وهو كريم المثوى وأقراء الضعيف سنة قديمة عند السويسريين كما هي عند الأيكوميين في إنكلترا أو العرب في بلادهم ولا تزال هذه السنة إلى اليوم كما كانت أمس ولكن الأجيال الجديدة مالت إلى الحقائق أكثر من أجدادها فاخترعوا من الضيافة صناعة وهي صناعة الفنادق والإنزال.
وربما يبلغ التضامن عند أمة ما بلغه عند السويسريين فإن حركة جمعيات التعاون والشركات والنقابات أكبر دليل على رسوخ عادة الاجتماع في عقول السويسريين منذ أحقاب. فالنقابات الصناعية استعادت تقاليد الأخويات القديمة حتى أصبح المستخدمون والتجار والصناع والزراع في سويسرا مربوطين بنقابات لا ليكون من أثرها ضرر على المجموع من مثل الاعتصابات والإضراب عن العمل بل ليكون منها عموم النفع. والشركات المحلية متحدة كل مديرية بمديريتها ثم ترتبط مديرات البلاد كلها وهذا في جماعات العملة والمعلمين. وأصحاب الفنادق بل القهاوي متحدة بعضها مع بعض. وما الحكومة السويسرية إذا نظرنا إليها من حيث المجموع إلا اتحاد واسع من النقابات السياسية لا تزال يقابل الملك المشترك الذي كان معروفاً في القرون الوسطى في الغرب ولم يبرح معروفاًُ بعضه في الشرق قائمة على أتمها ولا سيما في الأصقاع التي بقيت على فطرتها فإن السكان إلى الآن في وادي أنيفرس يحلبون الأبقار بالاشتراك ولك الحق على نسبة ملكه في حصته من اللبن والزبدة والجبن ولم ترتفع من ذلك خلال عشرين سنة سوى شكويين. وكثيراً ما تكون بقرة أو بغل أو بيت مشاعاً بين عدة مالكين وكثير من المراعي الجبلية هي أملاك بعض رؤساء الأسر وفي كل قرية تملك الأسرة بيتاً خاصاً أو مشاعاً بين أهلها.
وصناعة الجبن في أكثر بلاد سويسرا على أيدي شركات مرتبطة بجماعات المستخرجين للجبن وفي مقاطعة الفالي حيث تقل المياه تروي البلاد بأقنية جلبت مياهها من بعيد على مسافة 48كيلو متراً وكل قناة عملت وأديرت على يد جماعة من أرباب الأملاك ينتخب رئيس شركتها أصحاب الأراضي التي هي آخذة بالتقسيم والتجزئة.
وبعد فإذا كان الشعور بالتضامن العملي والنظري هو على أتمه في سويسرا فإن الفكر الوطني والنظام الاختياري والضمير الإفرادي المشاهد في أخلاق الوطني السويسري جدير بالإعجاب من كل وجه. فالسويسري يعرف واجبه نحو المجتمع والحكومة ويخالف في ذلك الشعوب اللاتينية التي تحب الخلاف بفطرتها والشعب الألماني الذي يخنع للسلطة إدارية وعسكرية على صورة غريبة وذلك بإطاعته الرؤساء طاعة عمياء والخضوع لأوامر الإمبراطور ولكن الوطني السويسري يخضع لنفسه ويرضى بنظام ارتضاه بحريته. والفكر الوطني في سويسرا الألمانية أشد منه في سويسرا الفرنساوية هي مديريات نوشاتل وفريبورغ وجنيف ولوزان وسويسرا الإيطالية مقاطعتها التسين والغريزون وما عدا هذه الست مديريات أي الأربع عشرة مديرية فهي ألمانية.
السويسري الألماني خصوصاً لا يستنكف من أن يشكو كل من يخالف الأمر والنظام لأن لكل شاك الحق بنصف الغرامة وقليل جداً من يشتكي منهم ولذا فليس من العبث ما تقرأه على المنعطفات وفي مداخل الحدائق والمنتزهات من الكتابات بحروف غليظة لجعلها تحت ملاحظة الجمهور ومعانة الوطنيين فإن هؤلاء قد عرفوا منزلتهم من بلادهم وما ينالهم من شرفها وما وضعته فيهم حكومتهم من الثقة فلا يريدون بحال أن يشوهوا وجوه مرافقهم ومتنزهاتهم وجناتهم بل يعملون بما فيه حفظها على ما يستلزمه حبهم لبلادهم وإعجابهم بها. ورجال الإدارة يجتهدون أن يعلموا الشعب وإن يؤهلوه ليخدم نفسه بنفسه بدلاً من أن يعتبروه ولداً يجب على الدوام الأخذ بيده وقيادته ولهذه أمثال كثيرة تعد بالعشرات مما لا مثيل له عند الأمم الأخرى.
وندر جداً في السويسريين من يستحلون أكل مال خزينة الأمة أي أن يخفوا عن الحكومة ما يحق لها أخذ رسوم وضرائب منه ولا سيما في سويسرا الألمانية وإن كان بعض أرباب الغايات وهم لا تخلو منهم أمة مهما طهرت نفسها قد يقفون عثرة أحياناً في سبيل بعض الأعمال كما وقف بعضهم سنة 1886 لما أرادت الحكومة احتكار اللالكحول ووقفوا ستة 1907لما أرادت منع شراب الابسنت المضر وحسنت صحة البلاد.
لا جرم أن هذا الشعب الذي صورنا هنا صفاته الاجتماعية هو شعب عظيم فإن من يضرب صفحاً عن شهواته المادية لنفع المصلحة العامة ومن يفادي براحته وحب ذاته وهو راض ساكن باسم لأجل مصلحة وطنه بعد من الشعوب التي تحيا حياة طيبة.
أللهم إني أحسد الشعب السويسري حسد غبطة على هذه الأخلاق الفاضلة واطلب إليك أن ترزق شرقنا المسكين مثلها حتى لا يموت بفساد أخلاقة وقلة علمه ميتة جاهلية وقد خسر الدنيا والآخرة.
سويسرا: قيودها في الحرية
منذ قام الهلفسيون وكانوا يسكنون في شمالي سويسرا الألمانية الحالية أي في أرض ألمانيا وانضموا نحو القرن الأول قبل المسيح إلى التوتونيين والسميريين وهم مثلهم يحبون الغزو والغارة وأخلاق الحرية تبدو على هذا الشعب الهلفسي الذي سميت سويسرا باسمه هلفسيا وضع هذا الخلق مع لبن أجداده وتسلسل فيه على اختلاف القرون. وما كان أشراف القرون الخالية ولا حكومة الرومان التي استولت على سويسرا نحو خمسة قرون ولا النمسا بعد ولا الأساقفة ورجال الدين وكانوا هم الحاكمين في كثير من بلاد أوروبا ولا دوجات ميلانو وسافوا وبورعونيا ممن حكموا سويسرا يستطيعون أن يشددوا الوطأة على السويسريين لأنهم أشداء من وراء النشأة الجبلية متضامنون بينهم أخوان في السراء والضراء.
من قرأ تاريخ سويسرا يعجب من صبر السويسري ويرى أن حروبه حتى زمن القسوة كانت لطيفة وكثيراً ما كان السويسريون يردون غارات جيرانهم بفزيعهم وتشتيتهم فقط أو بأمطارهم الأحجار من الأعالي أو إلقائهم في البحيرات إرهاباً وما أظن أنه سبق في التاريخ أن محارباً يجيء معتدياً على بلد ويحاصرها ثلاثة أشهر ويضيق خناقها ثم تخدم المحصروين الأقدار ويفيض نهر فيحمل جسراً عليه كمية من عسكر عدوهم فيتركون الحصار ويأخذون بإنقاذ الغقرى كما رقع لمدينة سولور السويسرية فإن صاحب النمسا حاصرها لتخضع له وهي مستقلة ثلاثة أشهر فطاف نهر الآر وحمل طائفة من جنده فبدلاً من أن يغتنم المحصورون هذه الفرصة تنادوا لمساعدة الغرقى فأنقذوا منهم عدداً كثيراً فلما رأي الملك ليولولد من السلوريين هذه الشهامة تأثر جداً وعقد معهم الصلح ورفع عنهم الحصار وكان ذلك في القرن الرابع عشر.
تعلم الهفلسيون الاحتفاظ بحقوقهم والاعتياد على الشورى وحكم أنفسهم بأنفسهم وكره الملوك منذ قال زعيمهم ديفكوليوليوس قيصر عامل الرومان تلك الجملة البديعة وقد أراد أن يعقد معه صلحاً فطلب قيصر إلى الهلفسيين رهائن فقال ديفييكو. تريد رهائن وقد علمنا آباؤنا أن نأخذها لا أن نعطيها وكان على الرومان أن يذكروا ذلك. ولكنك ترى اليوم هذه الأمة مع ما بلغته من الحرية التي لم تعهد لغيرها تتساهل بحقوقها مع حكومتها فيما تراه نافعاً لبلادها علماً منها بأن الحرية المطلقة لا يمكن حصولها في مكان من لمجتمع وهي بالضرورة محدودة بحقوق الغير وبالمصلحة العامة.
السويسريون يرون في كل مكان المصلحة العامة ويتركون لها برضاهم صغار مطالبهم النفسية ويطالبون خاصة بتطبيق حقوق الفرد الأولية فلا يسيئون استعمال حريتهم الوجدانية وحريتهم القولية ليتخلصوا من عبءٍ فيه مصلحة عامة.
السويسري لا يستطيع مع ما نال من الحرية أن يقطع شجرة من غابته إلا بإذن حكومته ولا أن يضمن داره من الحريق إلا عند حكومته لأنها هي ضامنه من الحريق ولا أن يلقي ورقاً ولا قصناً في إحدى البحيرات فضلاً عن الأقذار والأوخام فسويسرا التي احتفظت بحقوقها في عصور الظلمة قد زادت منذ خمسين سنة تدخل الحكومة في مصالحها على ما هي الطريقة المتبعة في إدارة البلاد الجرمانية وذلك بأن يكون للحكومة إشراف قليل على بعض شؤون لا تضر بحرية الأفراد والمجتمع.
حرية الضمير والرأي والعبادة مضمونة في ارض سويسرا بموجب قانون الاتحاد السويسري الأساسي ولكن لا بصورة مبهمة بل إن لكل مديرية قانونها الخاص للاجتماع والدين والصحافة ينظر فيه الحين بعد الآخر ويطبق بحسن ارتقاء الشعب وأخلاقه. وحرية الصحافة لم تنقلب قط إلى عداء ومماحكات ومع شدة الانتقاد والجدال في المنازع السياسية فإن لها حداً تقف عنده لا تتعداه أعظم الصحف السويسرية ولذلك كانت صحافتهم على صورة لا تشبه صحافة الأمم الأخرى وربما كانت هي والصحف الإنكليزية صحف الحرية الحقيقية مع الاعتدال الغريب. أما نشر السفاهات والغراميات والخلاعيات فهذا لو جسر على نشره صحافي لا يجد من الأمة من يقرأه فيسقط بطبيعته. ومن الغريب أنك تجد في سويسرا كنيسة يصلى فيها أهل مذهبين من مذاهب النصرانية وجريدة هي لسان حال حزبين مختلفين الحزب المحافظ والحزب المتطرف الاشتراكي فالقارئ يحكم على آراء الفريقين المتخاصمين من العدد الواحد.
لا جرم أن القرون الخالية وحوادث الأيام قد دربت السويسريين طويلاً على الحرية وقلبتهم بين الشدة والتسامح أزماناً فصاروا يقدمون نعمة السلام والوئام وما تعقلهم الحال إلا ثمرة نضجت على مهل بعد أن ذاق أصحابها في انتظارها وتكييفها على هذه الحالة نصباً. حرية العمل وحرية الاشتراك في سويسرا متعادلتان فمن هذه نشأ الاعتراف بنقابات العمال وبحقوق اعتصابهم ومن تلك نشأ احترام المعتصبين لحق المخالفين لهم في الإضراب عن العمل ومع هذا تجد الاعتصابات أقل مما هي عند الأمم الصناعية الأخرى والأجور تزيد بزيادة غلاء الحاجيات وارتفاع أسعار الكماليات لأن العملة يتفاهمون ويجتمعون على الدوام مع زعمائهم. وكذلك حق حماية سويسرا للمظلومين ولا سيما السياسيين فإنه أرقى مما عند الأمم الأخرى ولكن سويسرا لا تحمي القاتل وكثيراً ما تعمد بعض مقاطعاتها إلى إخراج السفاكين وأرباب الدعارة من غير أبنائها إلى خارج الحدود.
يبدأ تلقين الحرية وتطبيق حقوق الوطني عند السويسريين منذ عهد المدرسة الابتدائية. وليس في سويسرا على الجملة مدارس داخلية بل إن الطلبة الذين يرحلون من قراهم وبلادهم للتعليم يدخلون بيوت الأسر حتى لا يعيش التلميذ منذ صغره عيشاً متكلفاً كعيش المدارس الداخلية لا مثيل له في الحياة ولا يخضع لقوانين جائرة وهو الذي يحتاج في بدء نموه إلى الهواء والشمس والانطلاق. ومن علماء التربية هنا من بالغوافي منح إعطاء الطلبة حريتهم وأنشأوا لهم مدارس التربية الذاتية أو الحكم الذاتي فيتألفون أولاداً من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة جمهوريات حرة ينظمون بينهم أمرهم والمعلمون لا يعملون إلا أن يلقوا عليهم الدروس وذلك لتلقين الأولاد الاستقلال والحياة العمومية. فالأولاد يختارون رئيسهم وهيأتهم الإدارية وأمين صندوقهم ويكون اختيارهم حسناً جداً في الأغلب ويجيدون في مناقشة القانون الذي يضعه مديرهم وتصح أحكامهم في عقوبة المخالفين لنظامهم فلا يسرق شيء من مال الصندوق ولو كان الأمين عليه في الثانية عشرة من عمره تحدثه نفسه أن يبتاع ببعض الدريهمات حلواء أو شكولاتا أن ملبساً يأكلها أو كرة يلعب بها. فكأن سويسرا خلقت بدون أولاد أو أن التربية جعلت أولادها رجالاً ونساءها كذلك.
حرية الصيد البري والصيد النهري والبحيري محدودة مقيدة في بعض الأوقات وعلى بعض المحال. ورجال الصحة يمنعون كل شيء إذا اقتضت الصحة العامة ذلك ولو كان فيه خراب عدة مقاطعات كأن يقيمون الحجر الصحي على الإنسان والحيوان فيمتنع أحد من الدخول إلى تلك المحال الموبوءة أو الخروج منها ولا ينبس أحد ببنت شفة اعتراضاً على ما حصل. وقانون العمل وتحديد أوقاته يشغل المستخدمين والعمال والعملة على صورة معقولة فيتمتعون به بشيء من الراحة والحكومة تتدخل في حياة الوطنيين الخاصة لتقدير الضريبة على دخل الأفراد الذين يقدرونها بأنفسهم أولاً وللحكومة الحق أن تراقبهم وكذلك كتابة كشف بعد وفاة الميت بملفاته.
لكل عمل في سويسرا موانع ومحظورات فالماهر من يقرأ ما يقع نظره عليه من المكتوبات في الطرق والمحطات لئلا يغرم شيئاً بتعديه حمى لا ينبغي السير فيه أو إتيانه عملاً يعد منكراً في عرف القوم وهو عند غيرهم مباح وأي مباح. مثل منع دوس العشب في المروج عندما تنبت وقطع عدة زهور من جبال الألب وسير المرء في بعض المقاطعات على بعض طرق الكروم يتناول المنع في ذلك الأولاد والرجال مخالفة أن تحدث أحد الشرهين نفسه بأن يقطف خصلة من الكرم. واقتطاف العشب يجري بمعرفة الحكومة كل جهة بمفردها. ويمنع على بعض الجسور الخشب في بعض المقاطعات أن يدخن المرء أو يحمل قداحة ويوقف حيوانات اجتماعات. وهكذا تراهم يفرضون فروضاً ربما لا تقع مرة في العمر ويكتبون لها اللوحات ويضعون على من تعدى عليها الغرامات.
هذه قيود الحرية وضمانات لها في آن واحد لأن الشعب مهما بلغ من رقيه هو كقطيع الغنم لا يخلو من جرباء وفي الأكثر يكون المقصود من هذه القيود الأجانب ليسوا على مستوى واحد في عقولهم وعاداتهم. عادة البصق ممنوعة قطعاً في كل مكان ولا سيما في القطارات حتى أن بعض الكنائس ككنيسة فريبورغ كتبت العبارة الآتية بحرف غليظ: احتراما لبيت الله المرجو الامتناع عن البصاق ويمنع التدخين من بعض المركبات في القطارات وللمدخنين مركبات خاصة كما أن للسكارى كذلك. وإذا حدث اختلاف بين راكبين في قطار أحدهما يريد فتح النافذة والآخر يأباه فالحكم في ذلك لرئيس القطار فهو الذي يحكم بني المختلفين وهذه أيضاً من جملة ما قدروه من الاحتمالات في أنواع الحريات.
سويسرا أرض الحرية منذ القديم ولكنها كما رأيت حرية من نوع آخر خاص لا تخلو من قيد في كل حال خلافاً لما يتصوره بعض الخياليين.
سويسرا: حياتها السياسة
ليست سويسرا جمهورية بل فسيفساء مؤلفة من عدة جمهورات صغرى ملونة براقة غربية في حجمها ونظامها وأفكارها وأخلاقها السياسية. فمن مقاطعاتها ما هو صغير ومنها ما هو كبير ومنها ما تدار المدينة فيه بإدارة غير إدارة القرى المجاورة لها ومنها ما هو عبارة عن مدينة وبضع قرى حولها أو أرباض. ومنها من يدين أهلها بالكثلكة وأخرى بالبرتستانتية وغيرها مزيج من المذهبين ومنها ما ينتمي إلى الحزب الإكليركي وأخرى محافظة متنطعة في مذهبها وغيرها متطرفة في اشتراكيتها ومنها التي تقدم نوافذ للعذراء مثل فريبورغ في حين جارتها جنيف فصلت بين الكنيسة والحكومة.
وفي الجبال الوسطى وجبال الشمال لا تزال الحكومة المعروفة بحكومة البطارقة على الحالة التي كانت على عهد الألمان والفرنك والقوة التشريعية بيد مجلس الوطنيين ومن الجمهوريات جمهوريات صناعية مثل زوريخ وبال احاطتا علماً بكل دقائق المجالس النيبابية فتضعان ضرائب على الدخل وضرائب على رأس المال وتحكران بعض الأصناف للحكومة وتختاران طريقة الانتخاب على نسبة العدد. عادات نروفدية قديمة إلى جنب الاختراعات السياسية في القرن العشرين!
قطعة من الجبال والأودية والبحيرات لا تبلغ مساحتها ثلث مساحة ولاية سورية ونفوسها لا يزيدون عن نفوس بر الشام كله وحكومتها في مديرياتها والأصح أن يقال في مملكها لأن لكل مقاطعة حكومة كأنها مملكة مستقلة أنواع منوعة وهذا لتكون عندهم اللامركزية على أسدها ويستمتع أخل كل ناحية مهما صغرت بفصل ما يرونه الأنسب لمصلحتهم والتغيير يتناول حتى النواحي التي تختلف إدارتها بحسب الإقليم.
في غرب البلاد يسيرون على الطرق الفرنساوية وفي سويسرا الألمانية لكل بلد نظامه والمرجع واحد. خنا تجيء الناحية الضرائب وهناك تسمح لها وإرداتها أن لا تطالب المكلفين بقرش. الاستقلال الإداري إلى جانب السلطة المحلية تختلق كل الاختلاف. المركزية في سويسرا الفرنساوية أكثر من غيرها في حين ترى نواحي أبينزل الألمانية جمهويات صغرى أنو جمهوريات تنوب عن جمهورية مستقلة إلا قليلاً وبهذا التغيير الكثير ساغ للأنظمة والأوضاع أن توافق أخلاق كل صقع وضرورياته وحاجات سكانة ورغائبهم التي تختلف باختلاف نوع الحياة. فالتعليم مثلاً إجباري في البلاد كلها يقضي على كل ولد أن يصرف في المدرسة من سن السادسة إلى الرابعة عشرة يتعلم فيها أموراً مشتركة بين المقاطعات كلها وما عدا ذلك فكل مديرية حرة بأن تنظم مدارسها على طريقتها وهي تطلق للنواحي حريتها أيضاً في بعض الأمور مدة التعليم في السنة تسعة أشهر ولكن بعض النواحي تقسم العطلة قسمين قسم وقت اشتداد الحر والآخر من آخر أيلول إلى أول كانون الأول وهو الزمن الذي تنزل فيه الماشية من الجبال وترعى في المروج إلى أوائل نزول الثلج تحت ملاحظة أولاد تلك القرى للتخصيص على هذه الصورة فوائد لا ينكرها إلا كل مكابر. يمنع التعديل الجائر ويحفظ للنواحي تنوعها وغرابتها ويبث روح الحياة المحلية والهمم الإفرادية ويزيد في ارتباط المرء بوطنه الصغير وهذه أحسن طريقة لتعريفه قدر الوطن الكبير وتحبيبه إليه. لكل مديرية وطنيتها فلها أعلام خاصة بها وألوان لا تشاركها فيها جارتها ولها أسلحة ولها شارات. وفي جميع الأعياد وعلى جميع المعاهد العامة توضع شارات لمديرية إلى جنب أعلام الاتحاد السويسري مثل دل برن وثور أوري ومفاتيح أونتروالد وكواكب فالي ومطرقة سان غال. لأن كل مديرية هي مملكة ووطن ولها تقاليدها وتاريخها وأمجادها فهي ليست مديرية بالمعنى الذي نتصوره في مصر والشام قطعة من بلاد اقتطعت منها كيفما اتفق بدون مراعاة الطبائع والتقسيم الطبيعي بل هي عضو حي نام واحد متماسك الأجزاء في الجسم الاجتماعي.
وربما قيل أن تخصيص كل بقعة بحقوق خاصة مما يفرق أجزاء الحياة السياسية فتختلف الأحزاب وتكثر فلا يستطيع مجلس النواب العام أن يقوم بعمل ولكن سويسرا ليست على مثل ذلك فإن إرادة الأمة تسري حتى على المخالف ويسكت المناقش بظهور الحجة وربما قيل أن هذه للامركزية المفرطة تشغل أهل كل ناحية بخصوصياتهم فلا يعودون يلتفتون لأرقى مما يتجاوز حدود دائرتهم الضيقة كما هو المشاهد من جرائدهم الحلية فإنها كلها جرائد خاصة بدائرة لا تتعداها ولا سيما في سويسرا الألمانية ولولا الجرائد الكبرى مثل جورنال دي جنيف والبوند وهي الصحف الجوالة الراقية لكان من يعيش في سويسرا أشبه بمن يعيش في قطر منعزل لأن السويسريين لا يهتمون إلا لزراعتهم وتجارتهم ومجالسهم وحوادثهم وما عداها فمعرفة وعدمها سواء ولكثرة هذا التغالي في اللامركزية خيف في القرن الماضي من تشتت الكلمة بتعدد النظامات فاتحدت أكثر القوانين العامة والمدنية اتحدت الخطوط الحديدية واتحد نظام العمل والجمرك وسير التوموبيلات فلم يعد يخشى التباس وصارت البلاد مستقلة كل واحدة بذاتها ولكنها في الشؤون العامة متحدة. وحدثت من هذا الاتحاد فوائد جمة من مثل اتحاد المديريات على أن تحتكر الحكومة كلها الخمور فنشأت من ذلك فوائد قللت من مقطوعية الخمر وحسنت نوعه وقل السكيرون والمعربدون وحسنت على بث الدعوة للامتناع عن المشروبات الروحية!. وابتاعت الحكومة الخطوط الحديدية الكبرى ما عدا الخطوط الصغرى المحلية على صورة كأنها لم تدفع عنه ثمناً وذلك بدون أن تضرب ضرائب ولا أن تعقد قرضاً أو تحتال حيلة فإن باجتماع الخطوط تحت إدارة واحدة قلت النفقات وكثر الإقبال فأخذت تلك الخطوط تربح ومن ريعها السنوي مدة 56سنة يغطى المليار فرنك الذي يدفع ثمناً للخطوط على نجوم وتقاسيط.
ومن عجيب احتكارات الحكومة السويسرية احتكارها لضمان الحريق بل للضمان من الحوادث والأمراض لا لطبقة مخصوصة من العمال كعمال السكك الحديدية مثلاً بل للجنود الذين هم تحت السلاح ومن السلام وزمن الحرب. ومن الغريب المدهش أن تضمن حكومة أرواح مكوميها من رصاص العدو وقنابله وهذا لا مثيل له في المدينة الحديثة. ولا تضمن الحكومة من الشيخوخة كطبقة العملة مثلا لتنفق عليهم واحد أن يفكر فيه وضمانة مبلغ معين لمن بغلوا سناً معينة هو مكافأة على عدم الحساب للعواقب وللكسل. ولذلك لا ترى في سويسرا من لا يعم أم الشحاذة فلا أثر لها ولا اسم. والحكومة العامة هنا احتكرت خطوط التلفون وضمتها منذ البدء لإدارة البريد والبرق ولكن للأفراد أن يضعوا في محالها أو منازلها كحذائقهم أو منازلهم أو فنادقهم ما أحبوا من مثلها.
السويسريون عريقون في الديمقراطية بكل ما فيها من المعاني تأصلت في نفوسهم وتشربتها دواؤهم منذ قرون طويلة. قلا لي أحد مديري الصحف الكبرى في لوزان أنني لا أستطيع أن أعامل عمالي والمستخدمين في إدارتي إلا معاملة الأكفاء نعم أمرهم ولكنني أحاسبهم في معاملتي كما أحاسن رصفائي في التحرير وأصدقائي.
وما ذلك إلا لأن الديمقراطية تأصلت فيهم وما ديمقراطية أميركا الشمالية التي يرد تاريخها إلى زهاءٍ مئة وثلاثين سنة وما ديمقراطية فرنس التي بلغت 43سنة من العمر بالنسبة لجمهوريات الاتحاد السويسري إلا بنات وأطفال فجمهوريات سويسرا عمرها خمسة وستة قرون ولذلك ترى في السويسري شعوراً طبيعياً في المساواة وليس في جمهوريته أوسمة ولا ألقاب تشريف فالعامل يشرفه عمله والمفضل على أمته ترفعه على رأسها في حياته ومماته. ورئيس الجمهورية السويسرية هو من أهل الطبقة الوسطى لا يميزه عن سائر أنباء السبيل في شوارع مدينة برن شيء من الأبهة والعظمة التي يبدون بها بلادنا القائم مقام الصغير دع لمتصرف والوالي والقائد والوزير ولا تجد تشرفات في سراي الاتحاد السويسري التي تضم إليها مجلس الأمة ومجلس الأقاليم وينتخب مجلس الاتحاد السويسري كل سنة رئيساً يتولى رئاسة المجلس ورئاسة جمهورية هلفسيا السعيدة وليس هو في الحقيقة إلا عميد مستشاريه الستة.
ولا تشهد في بلاط حكومة سويسرا دسائس يراد بها بقاء الحكومة في أيدي المتولين عليها على نحو ما يقع في الأمم النيابية فإن المجلسين السويسريين لا يقبلان الوزارة قط فلا تعهد عندهم الأزمات الوزارية التي تسمع بها في الممالك الدستورية وإذا حدث خلاف بين المجلس والحكومة يتفاهمان بحرية إذا لم يتيسر لهما الاتفاق ويخضع المجلس الاتحادي أي الوزارة لإرادة مجلس النواب والأقاليم كما أن هذين المجلسين لا يماحكان ولا يراوغان. فمجلس الأمة لا يقلب الحكومة التي تنتخب مستشاروها السبعة أو وزراؤها السبعة كل ثلاثة سنين بل يجدد انتخابهم الفصل بعد الفصل لأنهم يكونون قد نشأت لهم تجارب مهمة في العمل. ورئيس مجلس الاتحاد السوري أو رئيس الجمهورية ينتخبه رصفاؤه الستة كل سنة ويعمل وإياهم بإخلاص وخلو غرض ويجددون انتخابه على رأس السنة وربما مضت الأعوام والرئيس لم يتغير لأنه إذا عمل العمل الصلاح وهو لا يعمل غيره بالطبيعة لا يرى من رصفائه من يحدسه على مركز الرئاسة.
رواتب النواب هنا مقسمة بحسب الجلسات فأعضاء المجلس الاتحادي ينتاول أحدهم عن كل جلسة عشرين فرنكاً ويمكن أن يبلغ مجموع ما يتناوله أحدهم في السنة ثلاثة آلاف فرنك فقط أم نواب الأقاليم فيتناولون عضو البلد عن كل جلسة ستة فرنكات وعضو القرية سبعة للواحد منهم على طول السنة من الرواتب من 240إلى 280فرنكاً في السنة ورواتب مستشاري المملكة ووزراؤها 15ألف فرنك لكل واحد مسانهة وراتب رئيسهم أي رئيس الجمهورية السويسرية 18ألف فرنك مسانهة ولذلك قد يضطر المسكين إذا كانت له أسرى كبيرة أن يشتغل أحياناً أعمالاً أخرى من تجارة وزراعة ونحوها ولكن لا على أنه رئيس جمهورية له سلطة بل بصفته فرد حكمه حكم الأهالي.
الإخلاص هو الخلق الجوهري في الديمقراطية السويسرية فالشعب هو السيد ويجب أن يبقى كذلك. وقد اتخذت جميع الاحتياطات لتظهر إرادته بمظهرها ولتكون محترمة على الدوام. حتى أن بعض الأقاليم لا تزال بحسب قاعدة الفليسوف جان جاك روسو تحافظ على الحكومة التي تحكمها مباشرة بمعنى أن مجلس الوطنيين فيها يلتئم كل سنة فيتجنب حكام الأقاليم ويصدق على الحسابات ويقرر القوانين التي أعدها المستشارون الذين انتخبوا في السنة الفائتة.
في سويسرا حزبان مهمان حزب المحافظين وحزب الأحرار يتناقشان في مصلحة البلاد ولكن إذا تولت الأكثرية زمام المجالس لا تنحني على الأقلية بل ترى من مصلحتها أن تقبل أعضاءها في جلسات وهناك حزب اشتراكي ولكن لا تأثير له لأن الأمة اشتراكية بطبيعتها. قال لي المسيو جان سبير وأستاذ العربية في كلية لوزان عندنا حزبان وأنا من حزب الأحرار ولكنني لا أجد فرقاً بين الحزبيين يصح أن يعد فرقاً ولذلك فكلنا حزب واحد في الحقيقة. فبارك الله بأمة مهما تعددت مناحيها وأصولها وأهويتها ودرجة غناها وأعمالها لا تختلف في المصلحة الوطنية ولا تختلف عن الحق قيد شبر.