مجلة المقتبس/العدد 87/آداب العرب
→ سويسرا | مجلة المقتبس - العدد 87 آداب العرب [[مؤلف:|]] |
مخطوطات وطبوعات ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1914 |
من التطاول على مقام الشعر العربي أن أحاول الإحاطة به في محاضرات ثلاث.
ولكنكم قد رأيتم جميعاً هذه الكتب الصغيرة الموجزة التي يستدل بها المسافرون في سياحاتهم يفتح السائح دليلة فيجد المؤلف قد تكفل بأن يريه باريس وعجائبها وما حوت من كنوز في خمسة أيام. ومصر ونيلها وأهرامها وقبورها ومعابدها ومسلاتها وما أبقت الأدهار فيها في اسبوع من الزمان. فيجري وراء دليله الصامت الناطق ويعمل برأيه فيعييه الجري ويتولاه التعب ويقطر العرق من جبينه ولا يكون لديه مجال للتأمل والتفكير فيما يتجلى أمامه من العبر وما يقع عليه بصره من عظات القرون ولكنه مع ذلك يرى من المشاهد ما يترك في ذهنه أثراً قديماً وما يكفي لتكوين فكر عام لديه وتتولد عنده من الأثر ويطيل الوقوف أمامها يسائلها عما مر بها العصور الخوالي فكأنما سفرته الأولى تمهيد لسفرته الثانية. . . . . .
فغايتي الآن أن أطير معكم فوق ربوع الشعر العربي. نطير طيراناً مكتفين بالتحليق في ممائه دون أن تطأ أرجلنا أرضه فنمتع النظر معاً بمرآها البهيج ونستنشق هواءها العليل البليل حاملاً أريج بلاد العرب وشذاها العطري. فهل لكم بعد هذا التطواف أن تجوسوا تلك الربوع الفائنات التي تمر أمام عيوننا مسرعة تجري كالريح فلم تروا منها سوى شواهقها وأن تشعروا بالحنو عليها والرغبة في التجول فيها لتستريحوا في وديانها وتشربوا من عيونها وغدرانها وتقطفوا من يانع ثمارها وتترنحوا بشذا أزهارها العطرة وقد أسكرتكم محاسنها.
وأول سؤال يخطر على البال هو: ما هو الشعر العربي قال بعضهم في تعريفه إنه صورة ظاهرة وفي هذا التعريف من حلاوة التعبير وفي سمو المعاني ما فيه لأن الشعر يكون إذ ذاك مظهراً لصور حاسة وعواطف حقيقية لا تصنع فيها ومجموع حقائق لا أكاذيب
وعرفه غيرهم بصوت أحلى من ذلك وأليق بالشعر فقال:
إن الشعر أنقى كلام وأغلى نظام وأبعد مرقى في درجة البلاغة وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة وأعلقه بالحفظ مسموعاً وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقيانا، أو من النبات لكان ريحانا، ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل في أعين الزهر إذا تفتحت عيون الرياض غب المطر وأرق من أدمع المستهام ومن الراح رقرق بماء الغمام (من شرح ديوان المتنبي للواقدي)
فالشعر هو ريحانة النفوس ومزيل الهموم وديوان الحكمة ومصدر الخير والشعاع الساطع الذي يجذب الأنظار وتحوم حوله النفوس. بل هو عنوان المجد الخالد ورائد البلاغة وحجة اللغوي ومالك القلوب والدافع إلى جلائل الأعمال والمحرك للعزائم والرسول الذي يحمل أدق الرسائل وأرق العبارات.
وقد عرف ابن خلدون الشعر بأنه الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقبل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة
وهذا التعريف معول من قديم الأزمان ومن واجبات كل شاعر حريص على هذا الفن أن يتحراه في نظمه ويعمل به وإلا زالت عنه صفة الشاعرية. وعلى ذلك فالشاعر لا يكون جديراً بهذا الاسم إلا إذا صاغ عبارة في قالب خيالي وراعى أحكام الوزن واتبع فوق ذلك القواعد التي وصفها الأقدمون لتنسيق الشعر وأحكامه. فكأنما الحرية والتلاعب والخروج عن المألوف لا مجال لها في هذه المملكة مملكة الشعر التي كلها خيال في خيال والتي يهيج الفكر في أرجائها دون قيد ولا حرج. فإن صناعة الشعر خاضعة في شكلها بل وفي موضعها إلى حد ما لقواعد ثابتة لا بد من التقيد بها يظهر لنا إذن كأنه آلة موسيقية متناسقة الأنغام والتواقيع ولكنها خيالية من التنويع أما الشعراء فهم كالبلبل المغرد يحلو تغريده ويرق صوته ولكن نغماته هي هي في الصباح وفي المساء. . . . .
وما دام هذا العيب هو العيب الوحيد في شعرنا فلنشهد أن شعراءنا عنوا على الدوام بالألفاظ والعبارات أكثر مما عنوا بالمعاني وهمهم أن يؤدوا المعنى الواحد بعبارات مختلفة متعددة رنانة بديعة الأسلوب. وقد شبهوا المعنى بالماء - وهل كان لهم أن يشبهوه بالخمر وهي من المحرمات - والشعر بالإناء وقالوا أن الماء ماء على الدوام ولكن العبرة بالإناء فكلما أجاد الصانع إتقان صنع هذا الإناء وحلاه بالنقوش والزخاريف وأبدع في صناعته وأبرزه تحفه تلفت الأنظار كان أعظم شأواً في عالم النظم وأجود شعراً وأرفع مكانه ولهذا ترى الشعراء على الدوام يسعون وراء الألفاظ البديعة ويتنافسون في صوغ العبارات الساحرة النادرة ويتلاعبون بها كما تشاء أهواؤهم وكما توحي إليهم مخيلاتهم وليس في الأرض أمة بلغت مبلغ العرب في سبك الألفاظ وصياغتها فهم حقيقة صواغ الكلام والسحرة الصادقون الذين كانوا يسحرون الناس بحسن بيانهم وهم أيضاً كانت تسحرهم الحروف التي كانت ترقص أمام عيونهم وتتلاعب بهم. ما كانت العرب تقول ماذا يهمنا من الكأس إذا طاب الشرب ودب دبيب الخمرة إلى النفوس بل كانوا من المولعين بفنهم الشغوفين به يسكرهم جمال الشكل وبسحرهم حلو الحديث ويأخذ بمجامع قلوبهم الكلام الجزل والخيال الذي لا تلمسه الأيدي.
ألقى رينان محاضرة شهيرة في سنة 1883 عن الإسلام والعلوم انتقد فيها بشدة ما قيل عن المدينة الإسلامية وقال إن ما تفق الناس على تسميته الحضارة الإسلامية لم يكن لم يكن في الحقيقة سوى المدينة اليونانية نشرت من رمسها وهذبت تبعاً لما أظهرته الأيام بل ولم يكن الفضل في نشرها للعرب وإنما كان الفضل في ذلك للسوريين والكدانيين وأهل الهند وفارس والأندلس الذين صاروا عرباً بحكم الفتح واتحاد اللغة.
قد يكون فول هذا العالم الكبير صحيحاً من بعض وجوهه وعلى كل حال فإن مجال الأخذ والردلية فسيح وباب المساجلة واسع ولكن الأمر الذي لا مجال فيه للجدل هو أن العرب لم يأخذوا شعرهم من اليونان أوالرومان أن من أية أمة من الأمم. فالشعر العربي زهرة نبتت في أرض العرب وتفتحت أكمامها في بلاد العرب وأينعت في بلاد العرب دون أن تتلقح بلقاح غريب بل هي عذارى عربية ولدت في الصحارى العربية وشبت وترعرعت في البلاد العربية دون أن يلامسها غريب فيشوه محاسنها ودون أن تضيف إلى حينها البدوي حسناً مستعاراً ما أغناه عنه.
ولاحظا يا سادتي أن العرب نفوا إلى لغتهم كل أوجل ما يهمهم من المؤلفات والكتب التي تركتها الأمم التي سبقتهم في ميدان المدينة وأخذوا عن كل أمة أحسن وأثمن ما أخرجت قرائح أبنائها فأخذا عن اليونان الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى وعن الفرس الفلك وآداب الاجتماع والموسيقى والروايات، وعن الكلدانيين الزراعة والتنجيم وعن المصريين الجراحة والكيمياء إلى غير ذلك مما أخذوه عن غيرهم. ولكنهم ما خطر في بالهم يوماً من الأيام أن يقبلوا من أمة أخرى بيتاً من الشعراء ومعنى من معاني الخيال أو أن يتحدوا غيرهم في فن النظم. كانوا يعتقدون أن شعرهم أرقى وأسمى من شعر جميع الأمم فكانوا كلما ألقوا أنظارهم على ما أثمرت قرائح أبناء العرب طربوا ورقصوا لو داخلتهم العزة وحق لهم أن يفخروا وأنفوا أن ينقلو من غيرهم شيئاً في هذه الباب.
وفي لاواقع فإنه لا توجد في العالم أمة وصلت آدابها إلى ما وصلت إليه آداب اللغة العربية لا في غناها وفي غزارة مادتها ولا في متانة أساليبها ولا في نوع شعرها الحماسي ولا غزلي وغيرهما من فنون الشعر الخيالي (فالشعر العربي يكاد يكون كله من الشعر الخيالي) ولم ينبغ في أمة من الأمم عدد من الشعراء يوازي أو يناهر عدد شعراء العرب وذلك راجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول - أن العربي حاد الإحساس إلى درجة غريبة سريع التأثير كثير التحمس كريم النفس قريب الغضب والرضا على السواء. ومن طبائعه أنه مندفع في أمره. مفيض بما في خاطره. فلا يمكنه كتمان ما في نفسه. ولذا تأبى طبيعته أن يظل ساكتاً عما حوله من المؤثرات فكان من الطبيعي أن تغنى بما يشعر به وأن يكون غناؤه صدى حقيقياً لعواطفه شبيهاً بها في شدتها وتناسبها وتناسقها فيخرج كلامه مصوراً تصويراً خيالياً موزوناً هو الشعر.
السبب الثاني - أن اللغة العربية هي في ذاتها أصلح اللغات للشعر وهيهات أن تقاربها لغة أخرى في غناها وفيها ما لا يحصى من المترادفات المتوافقة لفظاً وكثير منها متحد وزناً وهي وحدها تكفي لتصوير الخيال بدون الاحتياج إلى الاستعانة بغيرها فإن فيها العشرات بل المئات من الأسماء للدلالة على بعض المسميات سواء كانت من الحيوان كالأسد والثعبان والحمار ولناقة والثور والكلب ولقط. أو من المأكول كاللبن والعسل والتمر أو من المشروب كالماء والخمر أو من السلاح كالسيف والقوس والسهم والرمح ولمجن أن أو من الأوصاف كالطول والقصر والكبر والصغر والشجاعة والجبن والكرم والبخل فللأسد خمسمائة اسم وللثعبان مائتان وللناقة مائتان وخمسون وللماء مائة وسبعون أما المصائب والأرزاء فأربعمائة اسم ولعمري أنه عدد لا مبالغة فيه بل ربما كان أقل مما يلزم بالنسبة إليها. . . . . .
على أن هذه الكثرة في مادة اللغة لم تمنعها من أن تكون دقيقة في معانيها محكمة في مبانيها فقد خصت كل ليلة من ليالي القمر باسم كما خصت كل ساعة من ساعات الليل والنهار. وكذلك سميت الريح بأسماء مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا وقعت بين ريحين فهي النكباء وإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجربياء وإذا هبت من جهات مختلفة فهي المتناوحة وإذا كانت لينة فهي الريدانية. وإذا جاءت ينفس ضعيف فهي النسيم فإذا كان لها حنين كحنين الإبل فهي الحنون فإذا ابتدأت بشدة فهي النافجة وإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا كانت شديدة ولها زقزقة فهي الزقزاقة الخ. .
وربما كانت هذه الكثرة داعية إلى الاستغراب ولكن متى ظهر السبب بطل العجب. فقد كان العرب في جميع الأزمان من أكثر الأمم اشتغالاً بلغتهم ثم كانوا فوق ذلك مولعين بفطرتهم بتحليل كل ما تقع عليه أبصارهم ويدرس نزعات النفس وأحوالها. فدرسوا من كل شيء جسمه وشكله وروحه وأثبتوا أوصافه ومميزاته وأصله ومؤثراته وعيوبه وفضائله وخصوا كلاً من هذه الأوصاف والمميزات باسم يدل على الوصف وعلى الحالة التي يكون بها. فالخمر مثلاً سميت خمراً للدلالة على أن أصلها من الاختمار وراحاً للدلالة على ما تحدثه في نفس شاربها من الارتياح وحمياً للدلالة على ما تبعثه فيه من الانفعال الخ. . . .
ثم إن الأمة العربية كانت مؤلفة من عدة قبائل ولكل قبيلة منها لهجة خاصة ولغة تختلف بعض الاختلاف عن لغة غيرها فلما توحدت هذه القبائل اندمجت ألفاظ كل قبيلة وعباراتها في صلب اللغة. وبعد ذلك جاء الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من الأمم فرأوا من الأشياء والأدوات والحاصلات والعادات والصناعات ما لم يكن لهم له عهد من قبل، فاضطروا إلى إدخال الأسماء الأعجمية إلى اللغة العربية بعد أن نحتوها وهذبوها فأصبحت جزءاً منها.
ومن ذلك توجد لديكم فكرة عن مقدار غنى لغتنا العربية الذي لا يحيط به حصر ويقصر عن وصفه لسان. أضيفوا إلى ذلك تعدد الجناس وتفرقه وهي تفتح السبيل واسعاً للتورية والمجاز وغير ذلك من ضروب البيان التي تأسر اللب فيجد منها الشعراء الفحول والكتاب البلغاء ما يبغون لكي يهيموا على عالم الخيال ما شاؤوا وشاءت لهم مقدرتهم وبكون لهم منها ينبوع للفكاهات والتنكات ولما تسمونه أنتم معاشر الفرنسيس كلامبور وبهذه المناسبة أذكر أن العلامة اللغوي الشهير لتريه زعم أن تاريخها يرجع إلى القرن الثامن عشر للميلاد وأنها من وضع شريف أوجي. ولكني أميل إلى الاعتقاد بأنها أعرق من ذلك شرفاً ونسباً وأنها مؤلفة من كلمتين عربيتين هما كلام وبور أي كلام فارغ. . .
وللعرب قصائد بتمامها تنتهي كل أبياتها بكلمة واحدة يختلف معناها في كل بيت منها والآخر بسيط لا غرابة فيه فكلمة عين مثلاً لها 35معنى وكلمة عجوز ستون الخ.
السب الثالث - أن العربي فطر على رقة الشعور وسعة الخيال والقناعة والتفكير والتمتع اليسير من حاجيات المعاش فساعده ذلك على الانصراف إلى التأمل والتفكير والتمتع لهذه الحياة التي ينشط منها الفكر من عقاله ويسرح في مسارح الخيال. فإذا انصرف عن القتال وانتهى من الغزو أحاط به السكون من كل جانب وشمله الهدوء ونظر إلى السماء فإذا هي زرقاء لامعة في النهار مرصعة بالنجوم في الليل فدعاه السكون الذي حوله وجمال المناظر التي يرسل إليها بصره إلى فحص فؤاده وتعرف خبايا قلبه والإمعان في مصائب الناس وتصاريف الزمان وتقلبات الأيام فإذا انقطع هذا السكوت فجأة واقبلت القبائل كعادتها تتقاتل وتتطاحن وجد في ضربات السيوف وفي ملاحمة الأقران ما يثير حماسته ويدعوه إلى الفخر والتغني بالبأس وشدة المراس. فكان من كل ذلك محرك للنفس العربية ولكل أوتارها ونغماتها.
فليس بغريب إذن أن يكثر شعراء العرب وأن تكون ثمرات قرائحهم قد بلغت حد الإعجاز مع وفرتها.
على أني لا أرسل الكلام على عوهنه ولا أقتصر على إرسال القول مبهماً بل أقول لكم جميعاً افتحوا مؤلفاتنا القديمة والحديثة سواء كانت تبحث في الفلسفة أو الطب أو الفلك أو الكيمياء أو الفقه أو الرياضيات أو لاموسقى أو لتاريخ. ثم أجيلوا النظر فيها تجدوا فيها حتماً كثيراً من الأشعار. ذلك أن العشر امتلك لب العربي منذ بزغت شمس تاريخهم وصار له على نفسه السلطان المطلق. فلو تركنا الشعر جانباً وغضضنا الطرف عنه لما استطعنا معرفة تاريخ العرب ولا فهم أحوالهم وعاداتهم والأدوار التي مروا بها فالشعر هو من عناصر الحياة العربية فهو بالنسبة لها كالهواء بالنسبة للحياة الإنسانية بل هو الحياة العربية نفسها بكل قوتها وشدتها ورقتها.
وقد كان الشعر فطرة عند العرب يرسلونه على البداهة بلا أدنى صعوبة ولم يكن فقط مظهراً لسانحة تمر أو فكر يخطر على البال ثم ينمحي. بل كان مظهراً لكل معنى من المعاني العادية ووسيلة للتعبير عن كل المعارف الإنسانية حتى منها بل للتعبير عن أدق النظريات وأبعدها غوراً فتجد بعض المؤلفات النحوية شعراً بل تجد من المؤلفات الخاصة بالتقوى والعبادة أو بالطب أو الكيمياء أو المنطق ما وضع شعراً. بل إني أستطيع أن أقول دون أن أتعرض تعرضاً كبيراً للتكذيب، إن العرب لا بد أن يكونوا ضمنوا المعادلات الجبرية والهندسية بعض أبيات من أبياتهم حتى تعلق بالأذهان كما جرت عادتهم. بل إنه لا يكون من الإغراق في القول أن أقول بأن العرب كانوا يعبرون عن أفكارهم في غالب الأحيان وفي جميع الأزمان بطريق النظم فيكون الوزن قاعدة تعبيرهم كما كان قاعدة أفكارهم وحركاتهم وسكناتهم. ولا غرابة أن يكون ذلك من أقدم الأزمان فقد زعم بعضهم أن أول من نطق بالشعر العربي أبونا آدم عليه السلام وقد حفظ لنا التوراة الأشعار التي نظق بها. وما زال بعض المولعين بالمناقشات يتباحثون إلى اليوم إذا كان الأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه إذا كان آدم شاعراص فإن العرب أحق الناس بالانتساب إليه وأجدرهم به لأنهم أمراء الشعر وسادة البيان. فإذا كان للملوك أسر فإن للشعراء أيضاً أسراً آل إليها المجد ووالله لهؤلاء أكبر شرفاً وأحق بالفخر الصحيح والمجد الرفيع من أولئك. وأذكر هنا النعمان ين بشير الأنصاري فهو شاعر اين شاعر وحفيد شاعر وابن شاعر ووالداً للشاعر الكبير زهير زجداً للشاعرين بن كعب بن زهير وبحير.
وهل أنسى سلالة حسان بن ثابت التي نبغ فيها عدد عظيم من الشعراء مدة قرون متوالية.
وقد كان الحال كذلك بعد الإسلام أيضاً فإن الشاعر الكبير فارس كان أبوه وجده من الشعراء ومثلها أبناؤه وأحفاده.
وما الفائدة من هذا المقدار وأي إنسان تبلغ به الدعوى مبلغاً يزعم معه أن في وسعه أن يخصي شعراء العرب وقد كان عددهم يتجاوز على قول أحدهم النجوم التي ترصع الزرقاء والأزهار التي يفوح عنبرها في الحدائق والمروج.
على أن كثيراً من الشعراء نعرف أسماؤهم ولكن لم يصلنا شيء من منظماتهم وبعضهم لم يصلنا منهم إلا أبيات قليلة مع أنهم كانوا على ما أثبت التاريخ من كبار الشعراء. ولا غرابة في ذلك إذا علمنا كيف وصلت إلينا أشعار الجاهلية.
وكان يلتف حول الشعراء في العادة جماعة من مريديه وتلاميذه فيحفظون ما يلقيه من الأشعار ويتناقلونها عنه وينشدونها أمام الأمراء أو المجاهدين السائرين إلى البلاد أو بين الجماعات مراعاة لمقتضى الحال متبعاً لما إذا كان الغرض من القصيدة المديح أو الفخر أو الغزل أو الحكمة ثم تلا ذلك العصر كان الحفاظ أو الرواة يستظهرون عدة قصائد من فحول الشعراء مدفوعين إلى ذلك بعامل الإعجاب والتغني بها والمقارنة بينهما. وقد كان هؤلاء الحفاظ هم الوسيلة الوحيدة لبقاء هذه الأشعار وتناقلها بالتواتر من جيل إلى جيل. ولكن عدداً عظيماً منهم لقي حتفه في الحروب التي قامت في صدر الإسلام فنزل معهم إلى القبر جزء عظيم من الأبيات البديعة التي كانت تحويها صدورهم والتي كانت مفخرة العرب فلم يعد أحد يتناقلها بعدهم.
ولم ينبته أحد إلى تدوين قصائد كبار شعراء الجاهلية في بطون الكتب لحفظها من الضياع إلا في آخر القرن الأول من الهجرة وعمدوا في هذا السبيل إلى جمعها من صدور كبار الرواة الذين كانوا يستظهرون الكثير منها كحماد الذي كان يحفظ سبعة وعشرين ألف بيت من أشعار الجاهلية كل ألف منها تبدأ بحرف من الحروف الهجائية وكالمفضل الضبي وخلف الأحمر وأبو ضمضم الذي كان ينشد أشعاراً لمائة شعر باسم عمرو وكأبي تمام واضع كتاب الحماسة الذي كان يحفظ على ظهر قلبه أربعة عشر ألف بيت من الشعر كلها لفحول شعراء الجاهلية.
أما الأشعار التي قيلت لعد الإسلام فقد ضاع منها عدد عظيم بسبب الفتن والحروب التي قامت بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من الأمم في جميع لأزمان وفي جميع البلاد التي خضعت للإسلام ويكفي لمعرفة ما ضاع منها أن نلقي نظرة على مؤلفات بعض أكابر الكتاب التي هي أسبه بالفهارس لالتزامها جانب الإيجاز لنتبين منها أسماء الذين عاصورهم من الشعراء وما ألف في فنون النظم ثم نتساءل ما الذي بقي من كل ذلك لم يبق إلا النزر اليسير الذي لا ينكر ولكن هذا النزر اليسير يكفي لرفع شأن أمة واحدة وهو يدل على مقدار نبوغ العرب في حلبة النظم وعلى ما كان لكبار الشعراء لديهم من المنزلة السامية والمقام الرفيع.
ويجرنا هذا الحديث إلى البحث في منزلة الشعراء في العالم العربي ثم إلى ذكر كلمة في بيان مميزات الشعر العربي في أهم العصور في تاريخ العرب.
كان الشاعر في الجاهلية مهيباً موقراً يحيط به الإجلال وحف به الإكرام. فإنه كان عميد القبيلة وحامي ذمارها وراوي تاريخها والحافظ لأنسابها والمتغني بذكر مجدها فهو بهذا الاعتبار كان قريب الشبه بالكهنة في التاريخ القديم.
فهو الذي كان يفتخر بأجداده وبالوقائع والغزوات التي امتاز فيها قبيلة بالبسالة والأقدام وشدة البطش فيحفظ بذلك ذكرها في أبيات من الشعر لأن الأشعار هي الأثر الوحيد الباقي في تاريخ العرب والوسيلة الوحيدة لمعرفة أحوالهم وتاريخهم. وهو الذي كان يهجو أعداء عشيرته ويدفع السباب بمثله. وكثيراً ما كانت كلمة عذبة حلوة من شاعر مجيد تسكن ثائر العداوات وتطفئ نار الخصومات كما أنه ما كانت كلمة منه تستفز بغضاء القبائل وتشعل نار الحرب بينها.
ومن البديهي أن أمة هذه حالها وهذه طبائعها كانت تقابل ظهور شاعر بين ظهرانيها بالفرح والابتهاج وتعتبر شهرته من الحوادث ذات البال. فكانت القبائل الموالية للقبيلة التي نبغ فيها شاعر تقدم إليها زرافات لمشاركتها في إعلان أفراحها فتقام الولائم وتنحر الذبائح وتوزع الأرزاق وتعلو أصوات النساء ويتسارع الأطفال إلى تقبيل طرف ثوب بطل الاحتفال عسى ربة الشعر توحي إليهم في مستقبل الأيام ما أوحته إليه.
وكان العرب في كل يوم ينصرون عن القتال وتبطل بينهم الحروب ويتهادنون لأيام معدودة ويغدون من كل فج سحيق من امرأة وعلماء وتجار وشعراء إلى حيث يجتمعون في عكاظ يتفاخرون بالشعر ويتبارون في الإبداع فيه. وكان يضرب لذلك فسطاط فخم ويتولى الحكم بين المتسابقين أبعد الشعراء شهرة وأعلاهم كعباً فكان يسمع ما يتلى بين يديه من القصائد ثم يبدي حكمه. وتكتب أجمل القصائد على نسيج من الكتان أو ورقة من أوراق البدي وتعلق ف يالكعبة ومن هذا أطلق عليها اسم المعلقات وعددها سبع وهي من أمتن الشعر وأحسنه بل إن المعلقات - وشعر الجاهلية عامة - هي المثال الذي مازال الشعراء ينسجون على منواله وينسجون نحوه إلى اليوم إلا في ما ندر من الأحوال تناقلها الناطقون بالضاد جيلاً بعد جيل وتغنوا بها وحفظوها وحاول شعراؤهم على ممر الأزمان يتحدوها في معانيها ومبانيها وتصوارت واصفيها وخيالاتهم. وما زال الشعراء إلى زماننا يتبعون في وضع أشعارهم القواعد والروابط التي وصفها شعراء الجاهلية فترى الشاعر يبدأ على الدوام ينصب المضارب والخيام ومنازل الأحباب كما كان يفعل شعراء العصر الجاهلي. ويطلب من صديقه أو من صديقته أن يقف معه ليبكيا معاً على الطلل والمنزل الذي كان مرتعاً للبهجة والأنس ثم هجره الصفاء وأصبحت ذكراه مصدراً للألم ومثاراً للأشجان. ثم ينتقل إلى التغزل بمحاسن المحبوبة والتفاخر بقومه وبشاعتهم وثباتهم في حومة الوغى ومكارمهم ثم يتخلص من ذلك ببيت يجب أن يكون غاية في الحسن والإبداع منتقلاً في تذكارات حبه وغرامه أن يرجعوا إلى المعاني القديمة والتخيلات البديعة التي سبقهم إليها سلفاؤهم مقتصرين على تغيير المبنى والتلاعب بالألفاظ وحسن السبك.
ثم جاء الإسلام فانصرف الناس عن الشعر زمناً فإن العرب وجدوا في القرآن ما تصبوا إليه نفوسهم من جيد القول. وجاءهم الكتاب المنزل بصورة جديدة من صور الكتابة لم يألفوها من قبل فلاهي بنثر ولا هي بنظم بل هي شيء أعلى من ذلك جاءهم بصورة إلهية سامية لا يعرف الواصف يصفها جلبت ألبابهم ولعبت بعقولهم وهم الذين رضعوا الفصاحة من ثدي امهاتهم وتربوا على البلاغة من مهادهم وعغرفوا غث الكلام من سمينه فاسركتهم هذه البلاغة العالية الخالدة وهذه الكلم الجوامع. وذهب المفسرون بعد ذلك إلى أن القرآن هو غاية الإعجاز في باب البلاغة والبيان وإلى أن الملائكة والناس يعجزون عن الاتيان بآية من آياته.
وقد نشأ من ذلك أن الشاعر سقط من شاهق مجده ولم تعد له نتلك المكانة الرفيعة التي كانت له في سالف الأزمان لم يعد ذلك الكاهن القديم والمدافع عن قبيلته وحامي حمى قومه بل تغير رأي الناس فيه وصاروا ينظرون إليه شزراً. وزاد الطين بلة أن بعضهم ذهبوا - أن صواباً وأن خطأ - إلى أن الرسول يكره الشعر، والشعراء واستدلوا على ذلك ببعض كلمات وردت في موضعين أو ثلاثة من القرآن يمكن تفسيرها بأنها لوم لبعض الشعراء أضف إلى ذلك أن الحماسة الدينية بلغت أشدها عند ظهور الإسلام فانصرفت الأذهان عن الأشعار والفنون واشتغلت بطبيعة الحال وبحكم الانقلاب الجديد بالبحث في أصول دينهم وأحكامه وتفاسيره وبالغزو والجهاد لنضر الدعوة إلى الإسلام. على أن الشعر رغماً من ذلك لم يمت تماماً فإن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين أشار على المسلمين بأن يعلموا أولادهم الأمثال والشعر وكان الإمام علي ابن أبي طالب رابع الخلفاء من فطاحل الشعراء وأعلاهم كعباً في ميدان النظم.
ولما أمر الخليفة عثمان بن عفان بجمع القرآن من صدور الرجال ولم يكن قد جمع إلى عهده وتبين أنه يصعب تفسير بعض آياته وكلماته وإدخالها في أذهان الأمم الأجنبية كأهل مصر والشام وفارس الذين كانوا قد انتحلوا الإسلام وتألفت منهم غالبية أهله منذ القرن الأول للهجرة - رجع شارحوه ومفسروه إلى الأشعار القديمة للاستئناس بها والاستعانة بها على فهم ما أغلق عليهم من معاني بعض الألفاظ القرآنية متبعين في ذلك قول ابن عباس إذا قرأتم شيئاً في كتاب الله فلم تعرفوه - فاطلبوه - في أشعار العرب فكان ذلك مشاهداً على نهضة الشعر والعناية بأمره بعد إهماله زمناً فبدأت تعدون إليه بهجة الأزمان الخوالي رويداً إلى أن بلغ أعظم شأو في أيام الأمويين وارتفعت منزلة ارتفاعاً كبيراًَ.
وهناك أسباب سياسية دعت إلى هذا التغيير فإن موت الإمام على أوقع الفتنة في بلاد العرب فانقسموا إلى قسمين متناظرين حزب على وحزب معاوية. وعادت القبائل إلى التطاحن والقتال بعد أن كان الإسلام قد جمع بينها ووحد كلمتها ومحا الضغائن التي تأصلت في نفوسها قروناً فبعثت العادة القديمة من الرمس وسار كل شاعر في طليعة قومه يحرضهم على القتال ويبعث الحمية في نفوسهم متوسلاً إلى ذلك بتذكيرهم بوقائعهم الباهر وأفعالهم المجيدة. وكان معاوية داهية حصيف الرأي فعسى بجمع الوسائل إلى زيادة عدد أنصاره فأفلح في ضم معظم القبائل إلى جانبه بفضل دهائه وحكمته وسخائه وكان من بين الوسائل التي عمد إليها أنه أغدق هباته على الشعراء فقابلوا الجميل بمثله وألفوا القصائد في مدحه والتحدث بكرمه ومروءته فكان ذلك من أكبر الأسباب في ميل القلوب إليه وتمهيد أسباب النصر له. وسار خلفاء معاوية على نهجه ففتحوا أبوابهم للشعراء لاكتساب مودتهم من جهة ولأن بعض الأمراء كانوا مولعين بالشعر من جهة أخرى. فأزهر عصر الشعر وبلغ درجة لم يبلغها من قبل. ولكن الشعراء نسوا مقامهم القديم ومكانتهم الأولى ولم يدركوا قدر اللآليء التي كانوا يجودون بها فانحط مقامهم ونزل قدرهم. وبعد أن كان الشاعر في الجاهلية أمير قبيلة وسيد قومه أصبح في عهد الأمويين رجلاً من أولئك الذين تتألف منهم بطانات الأمراء. كل همه أن يستدر هباتهم وأن يتزلف إليهم وينال الحظوة لديهم.
وفي عام 132 للهجرة حدث انقلاب جديد في العالم الإسلامي فإن أبا العباس ثار على الأمويين ونصره في ذلك أهل خراسان وفارس فتغلب عليهم ونزع الملك من بين أيديهم بعد أن نكل بهم تنكيلا وقد علا شأن الشعراء في عهد العباسيين من أول عهدهم إلى يوم زوال ملكهم حين استولى التتار على بغداد في عام 656 للهجرة. فكان الشاعر نديم الأمير وسميره جليسه فإن الخلفاء العباسيين قربوهم إليهم واستصفوهم وبالغوافي أكرامهم مراعاة لأسباب سياسية لا طعماً في استعمالهم وسيلة لكسب قلوب المسلمين بل لأن جلهم كانوا من أهل العلم والأدب وكانوا لا يأنفون من قول الشعر.
وقد بلغ العرب في أيام العباسيين من العزة والسؤدد إلى غاية ما وراءها غاية وأدركوا أكبر نصيب في ميدان التقدم والنجاح. بل إن عهد الدولة العباسية كان العصر الذهبي للشعر وللشعراء أيضاً مدة خمسة قرون متوالية. ولم يعد الشاعر ذلك الكاهن القديم ذلك العهد قبائل وشيعاً بل كانوا أمة واحدة جمعت كلمتها وتمازجت عشائرها - من الوجهتين الدينية والاجتماعية - بل كان الشاعر صديق الأمير ومؤانسه ومسيره ورفيقه في ساعات لهوه وأوقات أنسه. فعلا شأنه وارتفع قدره ونبه ذكره وانهالت عليه النعم وكان الناس يجلونه ويخشون بأسه وسطوته ويحسدونه على ما هو فيه من نعيم.
وكان الشاعر عالماً أن الفضل فيما ناله من الحظوة والخير يرجع إلى إبداعه في فنه فكان يطلب المزيد كل يوم في الإجادة ويضرب في الإبداع بسهم أوفر حتى رق الشعر وسما وبلغ منزلة رفيعة لم يعرفها من قبل بل صار هيكلاً مقدساً لا تصل إليه النفوس العالية والقلوب الرقيقة الحساسة. تدخله خاشعة متهيبة تحاذر الزلل فيا له من عصر سعيد تحكم فيه الشعر في النفوس وملك الأفئدة ومهد السبيل لصاحبه ليصل إلى أرفع درجات الجد وأعلى ذرى السؤدد. كان الشعر يغنى عن الحسب والنسب ويغنى الشعر عن التفاخر بغيره من الفضائل الحربية أو المزايا السياسية. حتى أن شاعراً مدح أبا العباس مؤسس دولة العباسيين فولاه ولاية. بل إن المأمون فعل ذلك مع ابن الجهم جزاءً له على قوله بيتاً من الشعر أعجبه وأطربه.
بل هل جاءكم نبأ الخلفية هارون الرشيد الذي بلغ من إكرامه للعلم والآداب أنه صب الماء لأبي معاوية الضرير ليغسل يديه. أو ابنيه الأمين والمأمون اللذين تنازعا في أيهما يقدم لأستاذه حذائيه ثم اتفقا على أن يقدم له كل منهما واحداً.
وأذكر على سبيل الاستطراد أن مسلم بن الوليد عين لوظيفة سامية هي وظيفة صاحب البريد بتقاضي رواتبها دون أن يشتغل فيها وكفى أنه كان يغتني بابنة الكرم ومكارمها. وأن الطغرائي كان وزيراً لسلطان الموصل مسعود ين محمد السلجوقي وأن المتنبي كان يعامل الأمراء وتؤدى له التحية التي تؤدى لهم. في تلك الأيام السعيدة كانت القصيدة تكتب على قطعة من رخام فيجازى قائلها بثقلها ذهباً. وكان البيت الواحد يساوي من ألف درهم إلى ألف دينار. فيالك من زمن مضى وانقضى كان الشعراء فيه ملوكاً والملوك شعراء. نعم لقد كان الملوك شعراء لا مبالغة في ذلك ولا مجاز وفي طليعتهم الخليفة هارون الرشيد ومعظم الخلفاء العباسيين وأحسنهم وأبلغهم عبد الله بن المعتز الذي قضى في الخلافة يوماً وكأنما فيكتور هيجو شاعر الفرنسيس كان قد أخذ عنه حين قال في رواية روت ما معناه
وفتحت روت عينها بين اليقظة ولمنام وتساءلت أي أله في هذا الصيف الخالد ألقى وهو سائر هذا المنجل الذي صيغ من ذهب في الحقل الذي رصعته النجوم
فإن عبد الله بن المعتز قال قبل ذلك بعشرة قرون
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
ولقد أطلت القول عن هذا العصر. لأنه أحسن العصور بالنسبة للشعر العربي حيث تجلى فيه جمال الشعر وإبداعه أكثر من كل عصر سواه. وثانياً لأن ذلك العصر الزاهر الأنوار أعقبه ليل بهيم كشف الظلمات مازلنا نتخبط في دياجيره إلى اليوم فلا تغيره إلا بعض نجوم قليلة تتألق فيه حيناً بعد آخر وبعض بروق تومض أحياناً ثم تختفي. أذكر ذلك العهد السعيد لأنه منذ زال رحل الشعر معه وانحط شأن الشعراء فالناس تجهل أقدارهم وتغمط أفضالهم وهم يتخبطون بين الحياة والموت.
وقبل أن أختم كلامي أقول كلمة عن مميزات الشعر العربي في كل عصر من العصور التي أشر إليها.
كان الشعر في العصر الجاهلي مرآة حقيقية تنعكس فيها أخلاق العرب وعاداتهم وأحوال معيشتهم. فكان الأعراب في ذلك الحين يضربون في الصحراء لا يستقرون على حال وهم يعيشون من السطو والغزو وقطع الطرقات وشن الغارة على القوافل أما محاصيل الأرض فكانت ضعيفة لا تكفي لسد حاجاتهم. فكان شعرهم - وهو مرآة أخلاقهم - بسطاً سلسلاً سهلاً عليه أدلة الصدق مع مسحة من الخشونة وهل كان لشعرهم سبيل إلى أن يكون غير ذلك؟ وكانوا يقرون بالخاطر يجول في مخيلتهم ويتجلى لهم المنظر أمام عيونهم يدعو إلى السرور أو الأسى فيرسلونه شعراً للتعبير عما في نفوسهم دون إغراق ولا موارية. فتجد فيه العبارات العنيفة الوحشية للتغني بالقتل والقتال وسفك دماء الأعداء وتجد فيه العبارات اللينة التي تسيل رقة للتعبير عن غرام خالج الفؤاد ولعب بالقلب وأذل تلك النفس العاتية. ليس في عباراتهم تكلف بل هي تسيل كالماء الذي يجري من عين صافية دون جهد ولا عناء بل كأن الشعر جاء عفواً دون أن تستكد الشاعر ذهنه. لا يقيد شاعرهم بموضوع ولا يشعر ولا بقافية ولا يحاول أن يأتي ف أبياته بأنواع التشبيه والمجاز ولا بالغريب في الألفاظ ولا يسعى في تزيين القول ليكون صورة ما في نفسه وما تكنه جوارحه. فإذا لا قى ما يدخل السرور إلى قلبه هتف هتاف الفرح وإذا عرض له ما يدعو إلى الأسى أنَّ وناح. أو إذا أراد الفخر عبر عن أعماله وأعمال قومه بغاية البساطة والسهولة لا فرق في ذلك بينه وهو في هذه الحالة الفطرية وبين الطير الذي من الرياء والتصنع فهو كالطبيعة بل هو كالجمال.
أما في أيام الأمويين فإن اللغة بعثت كما كانت ولكن الشعر لم يعد هذه العذراء الطاهرة التي لم يقربها رياء بل إن الشعراء الذين نزلوا إلى مصاف المملقين والمتزلفين شوهوا محاسنها ومزقوا ثوب عفافها. فبينما كان الأقدمون يقولون مع حسان:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أصبح المتأخرون يزعمون أن أحسن الشعرا كذبه. أضف إلى ذلك أن فتوحات الإسلام امتدت فدخل تحت حكم العرب كثير من الأمم الغريبة عنهم التي تخلفت مشاربها عن مشاربهم وإن هذه الأمم المغلوبة دانت بدين الفاتحين وتعلمت لغتهم فيم يعد الشعراء من العرب دون سواهم بل كان بينهم المصري والسوري والفارس والأندلسي ولكل منهم نزعة خاصة قسم عليها شعره ويظهر أثرها في قوله. والصفة الغالبة في شعر ذلك العصر أن معظمه كان شعراً غرامياً الغرض منه الغزل والتشبه مع خلاعة ومجون يرجع السبب الأصلي فيهما إلى كثر النساء اللواتي وقعن في أسر المسلمين في حروبهم وهناك أشعار اشتملت على أمور سياسية وعلى مطاعن يعزى السبب فيها طبعاً إلى انشقاق المسلمين إلى أحزاب وإلى ما قام من الخلاف بين أسرة معاوية وأسرة الأمام علي. على أنه يمكن القول بوجه الإيجاز أن هذا العصر كان زاهراً بالشعر وقد نبع فيه جماعة من فطاحل الشعراء وأعظمهم كالأخطل وجرير والفرزدق.
وبلغ الشعر أعلى ذروة في عهد العباسيين فإن النجاح الذي صادفه العرب والتقدم الذي بلغوه والمدينة التي أصابوها كل ذلك كان له أثر كبير في الروح الشعرية. ثم إن معيشة الخلفاء وترفهم والخمور والحب الخ. حول الشعر من حال إلى حال فرق حتى صار نسمة من نسمات الروح وتهذيب ألفاظه وحلت مبانيه وخفت روحه. هذا فضلاً عن تقدم العلوم وانتشار المدينة والفلسفة وبلوغ حرية الفكر والقول إلى درجة كبرى وسعت دائرة العقل وشحذت القرائح ورفعها إلى الابتكار فوصلت تخيلات الشعراء إلى درجة من السمو لم تصل إليها في من الأزمان.
ويمتاز الشعر في العصر العباسي من جهة شكله بمتانة الوزن والقافية مع السهولة والمرونة بحيث أصبح أسهل تناولاً وأطوع للشاعر وبروح جديدة كشرت قيود القوالب القديمة التي تقدي بها الفكر العربي في سالف الأزمان. وامتاز من جهة موضوعية بقوة التصور والمناقشات العلمية والخيالية والتأملات الفلسفية التي تضمنها. وبعد أن كانت الأشعار في الماضي كفة القلوب فقط أصبحت تتضمن الحكمة والآراء العلمية والأبحاث المنطقية. فكان الأطباء يضعون كتباً في الطب شعراً. والفلاسفة يقيدون شوارد أفكارهم وخواطرهم شعراً فيما يتعلق بمنشأ الكون والقضاء والقدر وحرية الاختيار وخلود النفس إلى غير ذلك من الأبحاث العويصة. ولا يزعمن زاعم أن ذلك كان عمل ناظم يرص الكلمات رصاً دون أن يكون في كلامه أثر من آثار الشاعرية الصحيحة بل إن ذلك ما فعله جماعة من فحول الشعراء أمثال المتنبي وأبي العلاء المعري وابن هاني وغيرهم وأسعارهم في هذا الباب تنفذ إلى القلوب فهي من أحسن الشعر وأرقه وأكثره تأثيراً في النفوس.
أما ما آلت إليه حالة الشعر العربي بعد سقوط بغداد فإني أضرب صفحاً عنها مكتفياً بالكلمة التي قلتها فيما مر.
وإنما أقول أنه منذ القرن الثامن للهجرة (القرن الخامس عشر للميلاد) أصبح الشعر صورة كيكية فاسدة. وتقليداً سقيماً للأشعار القديمة لا أثر فيها للابتكار على الإطلاق وأصبح الشعراء - استغفر الله بل الناظمين - أضحوكة يقلدون من سلفهم تقليداً أعمى مع جهل مطبق بروح الشعر القديم وبأحوال الزمان الحديث على السواء فتراهم كما كان الحال أيام امرئ القيس وأصحاب المعلقات يبدأون بذكر المضارب والخيام في الصحارى والقفار ويشكون من الظمأ ويخاطبون الناقة التي أخناها السير وأنهكها التعب ويغزلون بمحاسن المحبوبة بنفس لاألفاظ التي كان تغنى بها الشعراء أيم البداوة مع أنهم يقيمون في مدائن آهلة بالسكان ومنازل عامرة توفرت لهم فيها أسباب الراحة والزفاه وبجانبهم أنهر جارية تروي مياهها ما هم فيه من الظمأ وهم يتطون صهوات الجياد أفنات عليها السروج من الخز وقد تحجرت قلوبهم فلا تنبض لهوى ولا تشعر بعاطفة من عواطف الغرام!
ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول كما قال الأستاذ جول لومتر إن الشعر في مجموعة بما حوى من العواطف الرقيقة أنقى شعر عرفه العالم وقد أضاف الأستاذ إلى ذلك وهو الناقاد البصير الذي لا يلقي الكلام على عواهنه أنه أقرب الأشعار إلى المعاني الرجولية والشرف والحياء الصحيح والشهادة أه.