الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 87/سماع الألحان

مجلة المقتبس/العدد 87/سماع الألحان

بتاريخ: 1 - 4 - 1914


فن الغناء نشأ مع البشر منذ طفوليتهم وتدرج في درجات العلو ودركات الهبوط بحسب ارتقاء الأمم. ولقد كان له شأن وأي شأن عند الأمم الراقية في القديم على ما دلت عليه روايات التوراة والصور التي وجدت في النواويس المصرية والنقوش البارزة في قصور نمرود وخراساباد حيث الموسيقيين والمغنين وأدوات الطرب كالشبابة والبوق والصنج والعدو وعيرها. ومزامير داود مشهور مذكورة.

أجمعت الأمم من جميع الطبقات (الموسيقي الشرقي) على حب الألحان حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم ولكل أمة أحان ونغمات يستلذونها ويفرحون بها لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم إلا تعود سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب في أي لحن كان ومن الدليل البين أن لها تأثيراً في النفوس كون لناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم وطوراً في بيوت العبادات والأعياد وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.

قال ابن ساعدة ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويمها وقبضها أيضاً لأنه يحركها أما عن مبدئها فيحدث السرور واللذة يظهر الكرم والشجاعة ونحوها وأما إلى مبدأها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها ولذلك يستعمل في الأفراح ولا حروب وعلاج المرضى تارة ويستعمل في الآتم وبيوت العبادات أخرى.

قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطبية فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية وبسط النفس وترويق الدم أما من ليس له دراية في ذلك فيعتقد أنه ما وشع إلا للهو والترغيب في لذة شهوات الدنيا وغرور بأمانيها.

قال الغزالي في الأحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها نا يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قي يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيرها مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً تستخف معه الأحمال الثقيلة لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الأعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آدانها في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.

فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي رضي الله عنه قال كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا فعساه يحل القيد عني قال: فلما احضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد فقال: إن هذا العبج قد أفقرني وأهلك جميع مالي فقلت: ماذا فعل فقال: إن له صوتاً طيباً وأني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هماك فما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أن على وجهي فما أطن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه.

قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهوة ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلط الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجزان يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب.

قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب فالوصف الأهم أنه صوت طيب ثم الطيب ينقسم إلى المفهوم كالأشعار وغلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات أما سماع الصوت الطيب من حيث أنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة اسمع بإدراك ما هو مخصوص به وللإنسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة إدراك وفي مدركات الحاسة ما يستلذ فلذة النظر في المبصرات الجميلة.

كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة وللشم الروائح الطيبة وهي مقابلة الإنتان المستكرهة وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وفي في مقابلة المرارة المستبشعة وللمس لذة اللين والنعومة والملامسة وهي في مقابلة الخشونة والضراسة وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلادة فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها.

ونقل الغزالي أيضاً عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاصي وله جوار بسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون فقال: وكيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هر خير مني فقد كان عبد الله ين جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.

هذا ما قاله الغزالي ونقله في السماع وفوائده والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعاً عن العمل والعبادة محركاً للشهوات البهيمية كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط والتوسط محمود في كل حال فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة.

نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه وتراعى به حالة المستمعين وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في النوم ولا يطيب في آخر وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغني والمغنى له دخلاً في الطرب فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة وإن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان وكثيراً ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى كأن النفس لا تميل إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي.

قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج فأما النصب فغناء الركبان والقينات وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فأشياء وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب وكانت العرب تسمى القينة الكرنية والعود الكران والزهر أيضاً هو العود وهو البريط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم اين سريج والدلال ونؤمة الضحى. وقالوا غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعاً وكانوا يقولون الغناء على ثلاثة أضرب فضرب منه مطرب محرك ويستخف وضرب ثان له شجى ورقة وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعه.

الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان هو يؤثر في الطيور والهوام ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغن مطرب وآلة موسيقية شجية وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور وترتج رفوفها وحيطانها ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع ما يؤيده.

الألحان تصفي الأرواح وتبعث النشاط في النفوس فيها قد يجسر الجبان في ساحة الوغى ويكرم الشحيح ويرق الكثيف ويلين القاسي ويقوى الضعيف ويعدل الظالم ويعطف اللئيم. وخير الأغاني والأناشيد ما كانت ملحنة بألحان تناسبها معن الألفاظ جيدة المعاني وما قيل من أنه ليس على المطرب أن يعرب ليس صحيحاً من أكثر وجوهه فإن لجودة اللفظ والمعنى تأثيراً لا ينكره إلا مريض الذوق بعيد عن مناحي الآداب سقيم الفهم.

كان الناس في القديم لا يعرفون غير العود والقانون والمزامير والشبابات والصلاصل والطارات والكوبة من آلات الطرب واليوم أتي الإفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما من أدوات الطرب ولكن جل الاعتماد اليوم على البيانو لا يكاد يخلو منه بيت ذي نغمة في الغرب يضرب به أولاده وزوجه وضيوفه ويوقعون عليه أنواع الأغاني والاناشيد وتعلمه فيما نحسب لسهل من تعلم العود المألوف في هذا الشرق الأقرب.

والتغيير هو الغناء بالطقطقة بالقضيب وإنما سمي تغييراً لأن محدثيه يسمون المغيرة والكوبة طبل طويل ضيق الوسط ذو رأسين وهو المعروف بالدربكة في بلاد الشام.

قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال بيت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنا أخبرك ما هو هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه.

وقد ورد في الكتاب والسنة وسيرة أعاظم سلف الأمة إشارة إلى الغناء وإلى تجوزهم في سماعه وهم ولا شك أحسن قدوة في هذا الباب. قال القرطبي من مخطوطات المكتبة الظاهرية ومن الاستدلال بالكتاب من ذلك أي على الغناء قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة هو الغناء وقوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال مجاهد أنه الغناء والمزامير وأنتم سامدون قال ابن عباس: هو الغناء. ومن السنة ما خرجه الترمذي أن النبي ﷺ رجع من بعض مغازيه فجاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها فقال النبي ﷺ: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وفي حديث عائشة أن امرأة زفت إلى رجل من الأنصار فقال رسول الله ﷺ يا عائشة أما كان معهم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو. واللهو هو الغناء.

وحكي أن رسول الله ﷺ قدم من سفر فصعد النساء على السطوح يضربن بالدفوف ويقلن:

طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

روى ابن عبد ربه في العقد الفريد قال بعض أهل التفسير في قول الله يزيد في الخلق ما يشاء هو الصوت الحسن. وقال النبي ﷺ لأبي موسى الأشعري لما أعجبه صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود.

كان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءٍ كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي دؤاد إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء حتى أن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.

وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وإن أفراخها لتستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال في العقد واردف النبي ﷺ الشريد فاستشهد من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها فلماً أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا الشعر حسن ولا نرى إن يؤخذ بلحن حسن وأجازوا ذلك في القرآن وفي الآذان فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والآذان أحق بالتنزيه عنها وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر وما الفرق بين أن ينشد الرجل أتعرف رسماً كاطراد المذنب مرسلاً أو ليرفع بها صوته مرتجلاً وإنما جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدندنة ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.

واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي ﷺ لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها قالت نعم قال فبعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أوما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم

ولولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم

واحتجوا بحديث عبد الله بن اويس بن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال مر النبي ﷺ بجارية بظل قارع وهي تغني

هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج

فقال النبي ﷺ لا حرج إن شاء الله

حدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية حجرها عود فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود فقال له الشعبي: لا للأمير أن يستحي من عبده قال: صدفتم ثم فال للجارية هات ما عندك فأخذت العود وغنت

ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر

فلما أعادت من بعيد بنظره ... إلىَّ التفاتاً أسلمته المحاجر

فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك فقال له بشر: وما عملك قال: أظن العمل فيهما قال: صدقت ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.

أرق معاوية ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله (بن جعفر وكان ضيفه أنزله في دار عياله بالشام) وأخبره بخرجي إليه فذهب فأخبره فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان قال معاوية: مرة يرجع إلى مجلسه ثم قال من هذا قال: مجلس فلان قال مره يرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل فقال من هذا قال مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين قال له معاوية فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغنى فأمره ابن جعفر إلى موضعه فقال له معاوية داو أذني من علتها فتناول العود ثم غنى

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بجومانة الدراج فالمتثلم

فحرك عبد الله بن جعفر رأسه فقال معاوية: لم حركت رأسك يا ابن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لاقيت عندها لأبليت ولئن سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خصب فقال ابن جعفر لبديح هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه فعناه بديح

وليس عندك شكر للتي جعلت ... ما أبيض من قادمات الشعر كالحمم

وجددت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم

فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله فقال ابن جعفر يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك فقال معاوية كل كريم طروب ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.

روى المبرد في الكامل قال: حدثت أن معاوية استمع على يزيد ليلة فسمع من عنده غناءً أعجبه فلما قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر قال: إذاً فاخثر له من العطاء. وحدثت أن معاوية قال لعمرو: أمض ينا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته حتى ننعي عليه أي نعيب عليه فعله يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية وثبت سائب مكانه وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية فرفع معاوية عمراً فأجلسه إلى جانبه ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه فأمر بالكراسي فألقيت وأخرج الجواري فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم

ديار التي كادت ونحن على مشى ... تحل بنا لولا نجاءُ الركائب

ومثلك قد أصيبت ليست بكنة ... ولا جارة ولا حليلة صاحب

وردده الجواري عليه فحرك معاوية يديه وتحرك في مجلسه ثم مد رجليه يضرب بهما وجه السرير فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة فقال معاوية: اسكت لا أبالك فإن كل كريم طروب.

وذكر ابن عميرة الضبي في ترجمة محمد ابن إسحاق بن سليم قاضي الجماعة بقرطبة أنه كان من العدول المرضيين والفقهاء المشهورين وله عند أهل بلاده حالة مذكورة منزلة في العلم والفضل معروفة وكان مع هيبته ورياسته حسن العشرة والأنس كريم النفس مات سنة 367 حدث القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث عرف بابن الصفاران رجلاً من أهل المشرق يعرف بالشيباني دخل الأندلس فكن بقرطبة على شاطئ الوادي بالعيون فخرج قاضي الجماعة ابن سليم يوماً لحاجة فأصابه مطر اضطره إلى أن دخل بدابته في دهليز الشيباني فوافقه فيه فرحب بالقاضي وسأله النزول فنزل وأدخله منزله وتفاوضا في الحديث فقال له: أصلح الله القاضي عندي جارية مدنية لم يسمع بأطيب من صوتها فإن أذنت أسمعتك عشراً من كتاب الله عزًّ وجل وأبياتاً فقال له: افعل فأمر الجارية فقرأت ثم أنشدت فاستحسن ذلك القاضي وعجب منه وكان على كمه دنانير فأخرجها وجعلها تحت الفرش الذي جلس عليه ولم يعلم بذلك صاحب المنزل فلما ارتفع المطر ركب القاضي وودعه الشيباني فدعا القاضي له ولجاريته ولا بأس هنا أن نختم هذا الفصل بأبيات في صنعه الغناء نقلها الشريف المرتضي في أمالية قال: أخبرنا المرزباني قال: حدثنا على بن هارون قال: حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله بصف جارية مغنية قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة العناء واستحسانه مثل هذه الأبيات

ورائحة للعين فيها مخيلة ... إذا برقت لم تسق بطن صعيد

من المستهلات الهموم على الفتى ... خفا يرقها في عصفر وعقود

حسدت عليها كل شيء يمسها ... وما كنت لولا حبها بحسود

وأصفر مثل الزعفران شربته ... على صوت صفراء الترائب رود

كأن أميراً جالساً في ثيابها ... تؤمل رؤياه عيون وفود

من البيض لم تسرح على أهل ثلة ... سواماً ولم ترفع حداج قعود

تميت به البلبنا وقلوبنا ... مراراً وتحيهن بعد همود إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود

ظللنا بذاك الذيدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود

ولا بأس أننا عند أهلنا ... شهود وما البابنا بشهود