الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 87/الملك الناصر صلاح الدين

مجلة المقتبس/العدد 87/الملك الناصر صلاح الدين

مجلة المقتبس - العدد 87
الملك الناصر صلاح الدين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 4 - 1914


أشار إلينا أحد الأصدقاء إن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة من كان يعلم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال امبراطور الألمان الحالي وإن نتوسع في وقائعه ما أمكن لأن سيرته الشريفة جديرة بأن بتدارسها الملوك والسوقة ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية فهي مثال الحكمة كلما كررت حلت ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية ورزق من الصبر والثبات وحب الموت حباً بأحياء الأمة وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يكتب لأحد فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين وربي تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والجمعيات وأسباب تهذيب النفس وتربية الملكات وإنارة العقول.

فلاحت على وجهه مخايل السعادة وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا فنشأ كنف أبيه في قلعة تكريت وكان أبوه وعمه بها عمالاً لحاكم تلك الديار وكان أهله من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وهم أكراد روادية وفي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد وانتقلوا من هناك إلى تكريت وفيها ولد صلاح الدين.

قال ابن خلكان أخبرني بعض أخل بيتهم وقد سألته هل نعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت من أهلنا يقولون أنهم خرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فنشأ موابه وتطيروا منه فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعملون فكان كما قال.

قلنا تشاءموا بولادة صلاح الدين وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين إن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن نقطع خطبة المصريين وتقام دعوة بني العباس وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول فبينا الناس كذلك إذ تقدم نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين ووالده نجم الدين والتفت إلى نجم الدين وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاء والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد يعني السلطان الملك الناصر أمني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه رحمه الله وقتله النصراني وكنت قد التفت القلعة وصارت لي كالوطن فثقل عليَّ الخروج منها والتحول عنها إلى غيرها واغتنمت لذلك وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته فتشاءمت به وتطيرت لما جرى على ولم أفرح به لم استبشر وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه وكان هذا النصراني معي كتاباً فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاءم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له فقال لي: يا مولاي قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي وأي شيء له من الذنب وبما استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئاً وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر ثم ما يدر بك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت جليل المقدار فعطفني كلامه عليه وها هو قد أوقفني على ما كان قاله فتعجب الجماعة من هذا الاتفاق وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.

ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين. ونور الدين هذا تركي الأصل وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة. فصلاح الدين يوسف ليس إذاً من أصل وضيع ولا من أصل رفيع جداً تعلم القدر الذي كان يتعلم أبناء الكبراء ونشأ نشأة دينية راقية وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي وكان عدلاً مرضياً كثير الصلاة والصلات عزير الصدقات والخيرات يجب العلماء ربي في الموصل ونشأ شجاعاً باسلاً وخدم السلطان محمد بن ملكشاه فرأى منه أمانة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام وضبطها أكرم ضبط وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث حتى عمرت أرضها وحسن حال أهلها وأمنت سبلها ثم أضيفت إليه ولايتها وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة وكان لا يسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله.

وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه وكان شجاعاً باسلاً مثل أخيه فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يوماً لبعض شأنه ثم عاد إليها وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص وكان رجلاً نصرانياً فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعداً إلى القلعة فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة وكان مهيباً فلم بتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني فبلغ بهروز صاحب قلعى تكريب ما جرى وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين وأنه ذو عشيرة كبيرة وإن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا وأنه ربما كان منهما أمر تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة وقعد هو وأخوه عماد الدين بالموصل فأكرمهما واقطعهما الاقطاعات الحسنة ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين. وبنور الدين تخرج صلاح الدين فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال وقد ضعفت جنيديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة.

والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها الضرغام وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال طمع في الاستيلاء عليها فبلغ شاوراً أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر وأن أسد الدين لا بد له من قصدها ثانية فكاتب الإفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكيناً كلياًَ ليعينوه على استئصال أعدائه فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه وكان توجههم من الشام في سنة 562.

استولى أسد الدين على أزمة الوزارة وقتل شارواً الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جرياً على عادة أجداده في الوزارة وذلك في ربيع الأول سنة 564 كان صلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياستهومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من توليه الوزارة للعاضد الفاطمي فتولاها صلاح الدين بعده وتمهدن القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه فتال عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد ومن حين اسئب له الأمر مازال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد وغشي الناس من سحائب الأفضال والأنعام ما لم يؤرخ من غير تلك الأيام وهذا كله وهو وزير متابع القوم لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين وهو يكرم كل وافد ولا يخيب أحداً قصده.

بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان

ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر وأزال المخالفين كما قال ابن الأثير وضعف أمر العاضد ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين فلم يصغ نور الدين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه واتفق أن العاضد مرض وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها ومنهم من خاف ذلك إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين فلما كان أول جمعة من المحرم 567 خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.

وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه وقالوا إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما كان فيه وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في أيوان بالقصر وجعل عندهم من يحفظهم وأخرج من كان فيه من العبيد والأماء فاعتق البعض ووهب البعض وباع البعض وأخلى القصر من أهله وسكانه. وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وملك منهم أربعة عشر ملكاً آخرهم العاضد وأولهم المهدي.

أزال صلاح الدين دولة العبيدين على أهون سبب لأنها لم تعد صالحة للبقاء وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم كما فعل جماعة عمارة اليمني المقتبس م3 ص177 وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية ويعيدوا الدولة العبيدية فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس فأنشأوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد أن حكمها العرب قروناً. عن علي بن عيسى بن الجراح قال:

سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال أربع خصال أولها أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا والثانية أن جباة خراجنا ظلموا الناس فاحتلوا عن أوطانهم فخربت بيوت أموالنا والثالثة انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا والرابعة أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا وهو سبب ذهاب أكثر الدول وهذه الخصال كانت ولا شك موجودة في الفاطمية.

قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وباع منه كثيراً وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت وغيرهما ومن الكتب المنتجة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهراً طويلاً فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر.

ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتاباً يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستظمه وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال: لا فقال: والله لو رأيت أنا وخالك شهاب الدين نور الدين بم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك فما ههنا من يمتنع عليك وقال بجماعته كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على سرك وما في نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد وجعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحداً من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه وأما بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده والأيام تندرج والله كل وقت في شأن. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به والده فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وملك صلاح الدين البلاد قال ابن الأثير وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.

هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين دخل مصر كارهاً مع عمه فصار قائد جندها ثم تولى وزارتها فملكها وقلب دولة العبيديين وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره واستشارته العقلاء من أهله ورجاله وكان من طبعه أن لا يبيت أمراً بدون مشورة هكذا كان منذ ابتدأ شاباً إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة 569 على الشام إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام يعمل بقول بشار:

إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن ... برأي لبيت أو نصيحة حازم

ولا تستحب الشوري عليك عضاضة ... فإن الخوافي رافدات القوادم وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح اسمعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه فسار إلى حلب من دمشق فلما علم صلاح الدين أن الملك صالح صبي لا يستقل بالأمن ولا ينهض بأعباء الملك واختلت الأحوال بالشام تجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم سلخ سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها ففرح الناس به وانفق مالاً جزيلاً وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها ثم استولى على تلك البلاد إلى الفرات وما بعد الفرات وتوفي الملك الصالح بعد مدة قليلة فأخذ حلب ودانت له البلاد وفتح بيت المقدس بعد أن ملكه الإفرنج نحو مائتي سنة ولم يفشل في وقعة من وقائعه مع الصليبيين على كثرة عددهم وعديدهم أللهم إلى في عكا فاستعادوها منه بعد أن فتحها بواسطة ملك الإنكليز إذ ذاك ريشاردس قلب الأسد.

إن عدل الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أدهش الأوربيين في ذاك العهد فكانوا هم يعاهدون فينكثون أما هو فما عاهد ونكث قط وكثيراً ما كان بعض خاصته من متعصبة المشايخ الذين لا يعرفون سياسة الملك ولا حسن إدارة الفتوحات يريدونه على أن يعامل الصليبيين بعملهم في الانتقام من أسراهم عنده كما فعل أولئك وقتلوا مرة مئات من أسرى المسلمين فما كان جوابه إلا الإعراض عن مقترحاتهم والعمل بسنة اللين واللطف حتى استهوى القلوب الشاردة وأحبه أعداؤه قبل أوليائه وهذا من أندر النوادر في الملوك وناهيك بعصره الذي كان عصر التعصب الديني في الغرب والشرق أيضاً فالصليبيون جاؤوا هذه الديار مدفوعين بعوامل الدين واستقاذ بيت المقدس من المسلمين وهؤلاء قاموا باسترجاع البلاد بهذا العامل القوي أيضاً.

قال عبد المنعم الجلياني أحد شعراء الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة يعلل فيها السبب الذي من أجله أحب الفرنج صلاح الدين:

وفيت لهم حتى أحبوك ساطياً ... بهم ووفاء العهد قيد المخاصم

فحانوا فخافوا فانتدوا فتلاوموا ... فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم

وخص صلاح الدين بالنصر إذا أتى ... بقلب سليم راحماً وللمسالم

فحطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم

يدين لها نس ويرقى بوضعها ... ويكتبه يشفى به في التمائم ملك مصر والشام والعراق واليمن والملك لما يستتب له على ما يجب يستطيع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوربيين عن أرض الشام ومصر وبعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوربا العدد الكثير وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ. تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج فيبز الأولون الآخرون على قلة عددهم. ولكن الجيوش قد لا تؤتي من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى. وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات.

ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش المتوسطين وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف (المقتبس م8 ص21) فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلاً أن يؤدوا عن كل رجل عشرين ديناراً وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل ذكر صغيراً وأنثى ديناراً واحداً فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيراً فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبو بها الفقراء والعلماء والزهاد والوافدين عليه ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار. قال في البرق سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يوماً في أثناء حديثه في ناديه وهو يجري ذكر إفراط السلطان في إياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الأنفاق فما عندنا مما كان بالأمس بشيء فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال. قالوا: وكان يرضى من الأعمال لما تحمل عفواً وكله يخرج في الجود والجهاد.

وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف ومجلسه منزه عن الهزء ومحالفه حافلة بأهل الفضل قال العماد وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط يؤثر سماع الأحاديث ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان بل يعتقد أنه مجالس أخ من أخوانه وكان حليماً مقيلاً للعثرات متجاوزاً عن الهفوات تقياً نقياً صفياً يغضي لا يغضب مارد سائلاً ولا صد نائلاًَ ولا أخجل قائلاً ولا خيب آملاً.

أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء وكان شديداً على الفلاسفة والمعطلة والدهربة وكان مواظباً على صلواته وصيامه عادلاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس هام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراًَ على أنه كان في جميع أوقاته قابلاً لما يعرض عليه من القصص كاشفاً لما ينهي إليه من المظالم.

كان عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات لا يهوله أمر وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف سبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستوراً (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء ويبقي في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف مع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه قانماً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة. وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ويخرق العساكر من الميمنة والمسيرة يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.

انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكوش والعلم وهو ثابت القدم في نفر يسير فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم فإن الضعف والهلاك كان فيه أكثر ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة والمسلمون لا يتوقعونها وكانت المصلحة في الصلح.

ولقد كان يركب للحرب وهو على غاية المرض كما فعل يوم عكا اعترته دمامل ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل وكان يعجب من ذلك فيقول إذا ركبت يزول عني المها حتى أنزل.

ومع كل هذه الصفات التي نعدد منها ولا نعدها لكثرتها وإجماع المؤرخين من العرب والإفرنج عليها كان السلطان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم عارفاً بسيرهم وأحوالهم حافظاً لأنساب خيلهم عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان أصحابه يستفيدون محاضرة منه مالا يسمعون من غيره وكان يستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه وكثيراً ما ينشد قولهم:

وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا

فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفاً

ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نبل المني فاستحالت غبظتي أسفاً

وكان يعجبه قول ابن المنجم في خضاب الشيب

وما خضب الناس البياض لقبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله

ولكنه مات الشباب فسودت ... على السم من حزن عليه منازله

وكان يسأل الواحد منهم عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير وطاهر السمع فلا يحب أن يسع عن أحد إلا بالخير وطاهر اللسان فما شوهد مولعاً بشتم قط حسن العهد والوفاء عما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه جبر قلبه وأعطاه خبز مخلفه وسلمه إلى من يكفله ويعني بتربيته وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه.

قال ابن شداد: ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه إمارات الخوف والجزع فقال للترجمان: من أي شيء يخاف فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير فرق له ومن عليه وأطقه ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء متواترة الدق على صدرها فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها فقالت اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا بنتي وبت البارحة استغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك فرق لها ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثنمها ويحضرها وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه فما كان إلا أن وقع نظرها عليها فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقوله فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.

ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول دلالة على حرية نفسه وسعة صدره وقد كان يوماً بعض خدمه يلعبون بس موزة (بانتوفل) في ناحية فوقعت على رأسه فأدار وجهه كأنه لم يحدث شيء وتظاهر بأنه لم ير شيئاً وكان الحافظ ابن عساكر يدخل يوماً: ما هذا؟ كنا في عهد نور الدين ندخل هذا المكان والناس كأن على رؤوسهم الطير إشارة إلى أن صلاح الدين يتساهل مع خدمه ملق حبلهم على غاربهم.

لما فتح صلاح الدين القدس وغيرها من السواحل ولم يبق في أيدي الصليبين إلا عكا وصور وغيرها من البلاد التي لا شأن لها ورأى أن المشيب أنذره بقرب الأجل عقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام فلما بلغ القاضي الفاضل كتب إليه مشيراً بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام ولا سلوا عن القدس ولا وثق بعهدهم في الصلح فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفراً مقدراً معلوماً مدة الغيبة فيه ان يسيروا ليلة فيصبحوا القدس على غفلة فيدخلوا إليه والعياذ بالله ويفرط مديد الإسلام ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر ومن العثارت التي لا تقال إلى أن يقول: يا مولانا مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يتقرب به إلى الله وما هي بواحدة في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر ومن تسلط المقطعين على المنقطعين ما لا ينادى وليده وفي وادي بردى والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دماً ما لا زاجر له وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة ومن المهمات إقامة وجوع الدخل وتقدير الخرج بحسبها.

ملأت أوقاف صلاح الدين مصر والشام وهي غير منسوبة إليه قال اين خلكان ولقد أفكرت في نفسي من أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة فإنه فعل في هذه الدنيا الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر لما مات صلاح الدين لم يخلق مالاً عن 57عاماً وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً وابنة ولم يخلف سوى دينار واحد بعد أن دخلت في يديه ثروة الفاطميين وجبي إليه خراج البلاد المفتتحة وحاز مغانم الصليبيين مران تغيب السلطان صلاح الدين أربع سنين في فتح القدس وغيرها من بلاد الساحل وفلسطين لم يدخل خلالها دمشق مع أنه كان يحب البلد ويؤثر فيه الإقامة على سائر البلاد فرأى أولاده الأفضل والظاهر والظافر وأولاده الصغار وأقام في دمشق أياماً يتصيد هو وأخوه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد به راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه وبينما هو على ذلك ونفسه تحدثه بزيارة مصر بعد طول الغيبة عنها ناداه مولاه فلباه فأبكى المقل وأدمى الحناجر.

مات رحمه الله والألسن تذكره بالمحمدة حتى قيام الساعة فكان رجلاً بعد بعشرات الملايين وكم من ألوف لا يساوون واحداً يساوي ألوفاً. مات وقد زلزل المسلمون لفقده كما كتب القاضي الفاضل في ساعة موته إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب من بطاقة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أن زلزلة الساعى شيء عظيم كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الخناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله عزَّ وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وأنا عليك يا يوسف لمحزون وأما الوصايا مما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائج الأمر فإنه أن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام.